فصل: فصل في ماهية التطبيق وهَلِّيَته

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أبجد العلوم **


 خاتمة القسم الأول في بيان تطبيق الآراء

أقول‏:‏ تدوين المذاهب المختلفة بأدلتها واعتراضاتها، أورث داء عضالا من الحيرة والشك في القديم، ورفع الأمان عن الجديد، فالعامة بين متعصب للتقليد، لا يميز القريب عن البعيد، ومذبذب حائر في الحق السديد، فدونت بتوفيق الله سبحانه في الدراري والدرر، لدفعه كليات موازين التحقيق، وأسباب الاختلاف، وضوابط التطبيق، وأردت إيرادها هنا، راجيا من الله - سبحانه - أن ينفع بها عباده في فصول‏.‏

 فصل في ماهية التطبيق وهَلِّيَته

نكتة‏:‏

ليس المراد بالتطبيق نفي دعوى مخالفة أحد الخصمين للآخر، ولا حمل كلام أحدهما على مراد الآخر، ولا دعوى مطابقة أصول كل مذهب وفروعه على الواقع، بل هو عبارة عن معرفة قدر انطباق كل مذهب مع الواقع، وقدر انحرافه عنه، ومعرفة سبب الانحراف، بحيث يتفطن له من كلامه، وأصوله، وفروعه، حتى يطمئن القلب ويزول الريب‏.‏

نكتة‏:‏

الإدراكات والاعتقادات الحاصلة في النفوس موجودات حادثة، فلها بالضرورة أسباب فاعلة، وقابلة، وشروط، ومعدات، وجميعها أمور واقعية، أو منتهية إليها، والأمر الواقعي يمتنع أن يستلزم باطلا محضا أو ما يستلزمه؛ فبالجملة‏:‏ حالها كحال سائر الشرور الواقعة في العالم، إنما شريتها بحسب جهة دون جهة، ومنشؤها إعدام جزئية لازمة لطائفة من الموجودات، فكذلك بطلان بعض العقائد، بحسب جهة دون جهة، ومنشؤها إعدام لاحقة لبعض الصور الموجودة، كحصول شيء بعنوان غيره عقيب طلبه، وتمثل شيء بصورة شيء آخر، وإجراء القاعدة مع الغفلة عن وجود المانع والقياس مع الفارق، وأخذ العلم عن غير أهله، لحسن الظن به، وحمل الكلام على غير محمله، لارتكاز مرجح ‏(‏1/ 395‏)‏ في القلب ونحو ذلك، فإذا أمعن فيها من قبل مباديها الموجبة لها غيبية، وشهادية، وعلوية، وسفلية، واضطرارية، واختيارية وداخلة في المدركة، وخارجة عنها، لاح مستقر كل قول وارتباطه بالواقع، كما وكيفا، فتوافقت المذاهب كلها، ولا ينبغي أن يرتاب في هذا الإجمال، وإن كان تفصيل زوال الاختلاف من رحمة الله الخاصة، - ‏{‏والله يختص برحمته من يشاء‏}‏‏.‏-

نكتة‏:‏

كل من يحكم على شيء فإنما يحكم عليه بما يناسب الصورة الحاصلة منه في ذهنه، فمسقط إشارته في الحقيقة صاحب تلك الصورة، والفرق بين صاحب الصورة وبين مأخذها، والمقصود بها واضح، والصورة لا تخالف صاحبها أبدا، فليس من هذه الجهة كذب أصلا، وكلٌ إنما يحكي الحقيقة الحاضرة عنده، المتجلية عليه، ولكن يجب أن لا يقتصر على هذا، حتى يفرق بين الحق والباطل، ليظهر الهدى والضلال‏.‏

نكتة‏:‏

لا ريب أن الأشياء في مناسبة بعضها لبعض ليست على السواء، وأن الإحاطة منا بجميع الأشياء، بل بالشيء الواحد من جميع الجهات ممتنع، فالإنسان إذا أراد تحصيل أمر، فقد يتصوره على غير ما هو عليه، وإذا عرفه فقد يطلبه من غير مبادئه، أو يأخذه من غير مأخذه، إما من المحاورات العرفية التي ملأت سمعه، أو المواصفات العادية التي اطمأن بها قلبه، فينتهي إلى أمر، ويبدو له باد حسب مسيره ومسلكه، فيعتقده مطلوبا، فيمسكه، فيضل، وليتذكر هاهنا ما سلف في المنطق من وجوه الغلط، تأييدا لهذا المقام‏.‏ ‏(‏1/ 396‏)‏

نكتة‏:‏

وإذا صح طلبه انتهى إلى الأمر الواقع، بالوجه الذي يناسب مسلكه، واقعا في نظام من النظامات، وموطن من المواطن، ومرتبة من المراتب، فيذعن له، وينكر على من سلك غير مسلكه، فانتهى إلى وجه آخر من ذلك النظام، أو نظام آخر من ذلك الموطن، أو موطن آخر من تلك المرتبة، أو مرتبة أخرى من مراتب الواقع، فيتسع بينهما حريم النزاع؛ والحق أنه لا تدافع بين النظامات، والمواطن، والمراتب، عند نفاذ البصيرة أصلا‏.‏

نكتة‏:‏

هذه الكثرة الموجودة تنظمها جهات وحدة ذاتية وعرضية، مختلفة بالعموم والخصوص، فترتب أفرادها حسا أو عقلا، نسميه‏:‏ نظاما، والنظامات المتوافقة في المدرك موطن واحد، والمواطن التي يتعدد بها وجودات الأشياء، ولا يقع أحدها عن الآخر في جهة، فبينهما نسبة الغيب، والشهادة، نسميه‏:‏ مراتب الواقع، فالشجرة ينظر فيها النجار من جهة كم يحصل فيها من الجذوع والألواح وغيرها من الآلات الخشبية‏؟‏ ولماذا يصلح خشبها من الأغراض‏؟‏ وابن السبيل من جهة مالها من الظل‏؟‏ والفلاح من حيث كم يسقي من الماء‏؟‏ ومن أين مخضر‏؟‏ ومن أين مصفر‏؟‏ والصيدلاني من جهة أجزائها من ليف، وخشب، وورق، وزهر، وثمر، ونواة؛ والطبيب من حيث أفعالها في بدن الإنسان؛ والطبيعي من حيث قواها من‏:‏ جاذبة، وماسكة، وهاضمة، ودافعة، ومن حيث تشريحها، فتلك جهاتها، ثم إنه قد يتعرض لها من حيث صنفها، وبذرها، وقد يتعرض لها من حيث هي في دوحتها ما كان هناك فيها، وما كان يكون بعدها، وقد يتعرض لها من حيث ملكها مالكها من أي مال، وما يحصل له منها، فتلك ‏(‏1/ 397‏)‏ نظامات تشملها، ومالها من الروائح، والأذواق، والألوان، والكيفيات الملموسة مواطن، فإذا غفل صاحب قصد عن صفات أخر وأنكرها، انعقد النزاع‏.‏

نكتة‏:‏

ليس في التطبيق تجهيل الطرفين، إلا من جهة قصور كل عن غاية التوجيه لكلام خصمه، ومن المعلوم أن الأسباب المؤدية إلى الخصومة، لا تفرغ القلب لهذا الأمر، وإنما على طالب الحق استفراغ الجهد في درك الواقع، لا في خدمة كلام الناس، ثم من يضمن لأحد نفي القصور في العلم، وقد قال الله - تعالى -‏:‏ ‏{‏وما أوتيتم من العلم إلا قليلا‏}‏‏.‏

وقد سبقنا إلى تطبيق الآيات مفسر الأمة‏:‏ عبد الله بن عباس - رحمه الله -، وإلى تطبيق الأحاديث صاحب‏:‏ ‏(‏المغيث، من مختلف الحديث‏)‏، وفي آراء المسلمين الشيخ‏:‏ علاء الدولة السمناني؛ وفي الشريعة والفلسفة‏:‏ إخوان الصفا، وبين رأي الحكيمين‏:‏ أبو نصر الفارابي، وفي الإسلام والهندية دار أشكوه، ومهّد حجة الإسلام لتأويل مذاهب المبتدعة الوجودات الخمسة في ‏(‏فيصل التفرقة، بين أهل البدع والزندقة‏)‏‏.‏

وقال الشيخ ابن عربي‏:‏

عقد الخلائق في الإله عقائدا ** وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه ‏(‏1/ 398‏)‏

وسعى في التطبيق بين الشهودية والوجودية، العارفان، الجليلان، الشيخ‏:‏ أحمد السرهندي، والشيخ‏:‏ ولي الله الدهلوي - قدس الله أسرارهما -، وإن لم يمهدوا له ضوابط، وقد عرفناك فضل منفعته، فذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون‏.‏ ‏(‏1/ 399‏)‏

 فصل في موازين التحقيق

نكتة‏:‏

طرق اقتناص العلم‏:‏ عقل، ونقل، وكشف؛ والحس شرط للكل، ووسيلة إليه، وكل منها إذا استجمع شروط صحته، كان مطابق الواقع، فامتنع أن تكون متناقضة بالحقيقة، لئلا يلزم اجتماع النقيضين؛ نعم قد تكون مخالفة بحسب الظاهر، للانحراف عن الجادة القويمة بنوع من الغلط، ولا كلام فيه، أو لاختلاف في مسالك الدلائل، أو مواطن المدلول، فكلتا الحكايتين عن أمر من الأمور الواقعة، وإن اختفى موقع نظر واحد عن الآخر، فهذا يقيني، وبعض من تفطن لوجوب التطابق وغفل عن اختلاف المدلولات يحمل كلام أحد الجانبين على غير مراده، ويصلح بين الخصمين من دون تراضيهما، ويأتي في ذلك بما يمجه الطبع السليم، ويطيب الإنكار عليه‏.‏

ومن العلوم العادية‏:‏ أن المذاهب المختلفة المتقاربة في الدلائل وثاقة وركاكة، والتي يبتنى عليها النظام المحسوس ابتناء صحيحا، ويدفع عنها النقوض الموردة دفعا غير سمج، ليست بعيدة عن الواقع كل البعد، ولا كاذبة على الإطلاق، ولاحقة بكل نقير وقطمير من فروعها وأصولها، وإن كان بعضها أكثر موافقة من بعض؛ فإذا تصفحنا عنها بالتعمق في مأخذها، والتأمل في كيفيات أخذها، ودرك أغراض مدونيها، ودرجات فهومهم، عرفنا منشأ الاختلاف، وموضع الالتباس، وموطن الحكاية، والتمييز بين المتيقن والمظنون، بتوفيق الله سبحانه وعنايته‏.‏ ‏(‏1/ 400‏)‏

نكتة‏:‏

العقل‏:‏ أصل طرق الاكتساب، لا غنية للنقل والكشف والحسن عنه، بل هو الحاكم بها، والعامل فيها، والمميز بين أقسامها، ومراتبها، وحكمه عام من حيث الإدراك والقبول، وإن كان قد يقصر عن بعضها من حيث التحصيل والوصول، وقولهم‏:‏ طور وراء طور العقل، يعنون به‏:‏ القواعد التي مهدها الملقبون‏:‏ بأصحاب العقل، أو انفراده، بلا انضمام ومعاونة من غيره، وأصحابه متفاوتون فيما بينهم بالحدس والتجربة‏.‏

فمنهم‏:‏ من يكون استحضاره للمبادئ أكثر، وانتقاله إلى اللوازم أبعد، وتعمقه في روابط الانتقال أحدّ، ويكون وقائعه أوفر، وشغله أمد، وحسه أجود، وتفطنه للأمور المشتركة من العلل والأحكام، واختلاف مأخذه أشد، ونظره إلى الواقع أوصل، ومخالفة المألوف عليه أسهل، ومنهم دون ذلك‏.‏

والنقل إذا ثبت عن الأنبياء - عليهم السلام - فهو أقوى، وأصحابه متفاوتون فيما بينهم رواية ودراية‏.‏

فمنهم‏:‏ أصح سندا، وألقى أساتذة، وأحذق تعليما، وأصدق مخبرا، وأنقى بدعا، وأكثر متنا، وأوضح لفظا، وأضبط سماعا، وأكمل حفظا، وأزيد شيوخا، وأمد رحلة، وأفقه فهما؛ ولترجيح الأسانيد وأسباب الجرح عندهم وجوه مختلفة، ومنهم دون ذلك‏.‏

والكشف‏:‏ إذا تم فهو أوسعها، وأصحابه يتفاوتون بينه جدا في التطلع على العوالم الحاضرة لديهم، والغناء في الرقوم المستجنة فيهم‏.‏

فمنهم‏:‏ من يتمثل له لطائف الجسمانيات كالملائكة السفلية، ‏(‏1/ 401‏)‏ والشياطين، والجن، أو الحقائق المثالية على طبقاتها تارة للهداية، وتارة للإضلال، أو الحقائق الروحانية على درجاتها من البشرية، والفلكية، والعلوية، أو يتجلى له الأسماء والصفات الإلهية، أو يتجلى له الذات مرة في مرايا إدراكية بالتأثير في قواه، أو في قوالب مثالية بالتشبح بها، ومرة انكشافا صراحا‏.‏

ومنهم‏:‏ من يفنى في خلاصة أهواء وعادات راسخة فيه، أو في لطائفه الكامنة في جوهره، فيظهر بعض الحقائق بنحو غير ما يظهر في لطيفة أخرى، أو يفنى في وجوداته المختلفة التي قضى بها في التنزلات الماضية، أو الترقيات الآتية، أو يفنى في الحقائق السارية فيه، بعضها خلقية‏:‏ كحقائق الصور الجسمانية العنصرية، أو الفلكية، أو هيولى الجسم المطلق، أو العماء، وبعضها حقبة من‏:‏ الأسماء الجزئية والكلية، على منازلها، والشؤون الذاتية بأصنافها، وفي كل ذلك يتوفر عليهم علوم تلك المقامات، وأحوالها، ويتمثل لهم مقتضياتها‏.‏

نكتة‏:‏

المعتبر من العقليات ما ينتهي إلى اليقينيات بالطرق الميزانية، انتهاء قريبا أو جليا، ومن النقليات ما صححه الحفاظ أو حسنوه، وما توارث من معناه القرون المشهودة لها بالخير، وتعاضدت عليه الآثار، من غير صرف عن الظاهر المتعارف في مثله‏:‏ حقيقة، ومجازا، وصريحا، وكناية، ومن الكشفيات ما كان عن ذي فناء تام، أو بعد الفراغ الكلي، ‏(‏1/ 402‏)‏ والتوجه إلى الله - سبحانه - متواترا مستمرا، محفوظ الصورة بعينها، وأورث حالا من الأحوال الإلهية، أو الملكية، وعرف مقام صاحبه وسيرته‏.‏

نكتة‏:‏

فصلوا في المنطق‏:‏ شروط الحدس، والتجربة، والأوليات، والمشاهدات؛ وفي أصول الفقه والحديث‏:‏ شروط الصحة، ووجوه الجرح والترجيح؛ وفي مالا يعول عليه للشيخ‏:‏ ابن عربي شروط الكشف، فليرجع إليها طالب التفصيل، واكتفينا على الإجمال لقصد الإيجاز‏.‏

نكتة‏:‏

المشاؤون‏:‏ متجردون للفعل، والسلف من المحدثين‏:‏ للنقل، ومتأخرو الصوفية‏:‏ للكشف، وأما المتكلمون‏:‏ فكلامهم خلط بين نقل وعقل، والإشراقية‏:‏ بين عقل وكشف، والجامعون بينهما‏:‏ على اعتدال ندر‏.‏

نكتة‏:‏

من العلوم‏:‏ علوم محسوسة، ومنها‏:‏ معقولة منتظمة، تطابق المحسوس، ومنها‏:‏ معقولة صرفة، لا نظير لها في الحس، وللعقل في الجزم بها سبيل، ومنها‏:‏ علوم استقرائية، لا سبيل إلى الجزم فيها، قصوى أمرها الظن أو الوهم، ومنها‏:‏ مالا سبيل فيها للعقل، إنما تنال سماعا من حس، أو وحي، أو كشف، فمنها‏:‏ ما للجزم بها سبيل، ومنها‏:‏ مالا؛ وجميعها‏:‏ يختلف في الجلاء، والخفاء، وفي الملائمة لبعض النفوس، والمنافرة لها، وفي الحضرة والمنفعة لسعادات النفوس، وفي المآخذ، والمسالك، وفي الحاجة إلى ممارسة العمل وعدمها، وفي كثرة الرغبة فيها، والتنفر عنها، وقلتها، وفي انقلابها بمرور الزمان، وثباتها، وفي تقدم بعضها على بعض، والتأخر عنه، وفي كونها مقصودة، أو وسيلة، وفي تكميل القوى المختلفة، وفي دخلها في قضاء الحوائج الهامشية، أو الاقترائية، ومعروف تمايزها بالموضوعات، والغايات المترتبة عليها في الدنيا والآخرة، ويختلف بذلك شرحها، ودرجات العالمين بها‏.‏ ‏(‏1/ 403‏)‏

نكتة‏:‏

الباحثون عن الحقائق على درجات‏:‏

صنف‏:‏

هم المستخرجون للمسائل، والواضعون للعلوم، والنقادون لها، ونظرهم إلى الواقع مطلق، فبعض آرائهم تعتمد على أصول صحيحة، ولكن في تفريعها حق وباطل، وبعضها على أصول فاسدة، يؤصلونها حفظا لمذهبهم في الفروع المعلومة حقيتها، حيث لم يستطيعوا تفريعها على غير تلك الأصول، أو خاضوا لزوم فروع مسلمة البطلان على أضدادها، وإذعانا بها، لإلف، أو ملاءمة طبع، أو تحصيل غرض، أو اطلاعا على دليل، عجزوا عن دفعه، والمحقق إنما يعتني بكلامهم‏.‏

وصنف‏:‏

هم‏:‏ الشارحون لكلام أولئك، المفرعون على قواعدهم، والذابون عنهم، ونظرهم إلى الواقع مقيد، والخطأ منهم متضاعف، ومع ذلك يوجد في كلامهم فوائد مغتنمة‏.‏

وصنف‏:‏

يضربون بعض الكلام ببعض، سؤالا، وجوابا، وتوجيها، على قدر ما أحاطوا به من الكتب، وكلامهم أقل جدوى، والماهر في كلام الأئمة وعادتهم ناج عن فتنة شغبهم، إلا أنهم قد يمرون مقاربين للحق في هيمانهم، وتسقط من أفواههم ضالة الحكيم‏.‏

وصنف‏:‏

قصوى هممهم‏:‏ توجيه العبارات والمناقشات اللفظية، وترجيح المحتملات، بكل وجه قريب، أو بعيد، لا يرفعون إلى الواقع رأسا، ينقطع أساسهم بعناية وملاحظة قيد، وإبداء احتمال، وليس للمحقق اعتناء بهم أصلا، وهذا جار في أكثر الفنون، فعليك بتمييزهم‏.‏ ‏(‏1/ 404‏)‏

 فصل في أسباب الاختلاف

نكتة‏:‏

كما أن الموت أمر طبيعي لحياة البشر، باعتبار الطبيعة الخاصة والعامة معا، فالخاصة‏:‏ تقتضيه لقيامها بالحرارة، والرطوبة؛ والعامة‏:‏ لإيفاء العناية الأزلية مقتضى الطبائع الكلية من‏:‏ العناصر، والأفلاك، والبسائط تقتضي انحلال المركبات، والأوضاع السماوية تنتهي إلى القواطع، فكذلك الاختلاف طبيعي لعقول البشر، باعتبار الطبيعة الخاصة والعامة معا، وإليه الإشارة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم‏}‏‏.‏

أما الخاصة‏:‏ فلوجود القوة الحاكمة منهم، ومخالفة ما أحاط مدركة أحدهم لمدركة الآخر، لأسباب سنبينها‏.‏

وأما العامة‏:‏ فلأن صانع العالم - جل مجده - لما أراد انتظام النشأتين، وتعمير الدارين، بإبداء آثار الجمال والجلال فيهما، وناط بحسب تلك العناية المساعي والدرجات بالاعتقادات، وجب اختلافها، فما التطبيق إلا بحسب العلم والفهم، لا بإزالة الخصومات من بين الناس‏.‏

نكتة‏:‏

لاختلاف الاعتقادات أسباب عامة شاملة، لها ولغيرها‏.‏

منها‏:‏ اختلاف الأوضاع السماوية، بحسب الأدوار، والقرانات الكلية، والجزئية، وطوالع المواليد، والميائل؛ وجرب في الهنود‏:‏ أن من كانت ‏(‏1/ 405‏)‏ الشمس والمشتري في سابعه، انكشف له حقيقة الإسلام، وخرج من دينه إليه، ويذكر أن وقوع الدراري على الطالع في العاشر، ينور العقل؛ واتصال سهم الغيب بالسعود، يصوب الآراء في أبوابها‏.‏

ومنها‏:‏ اختلاف الطبائع الأرضية من الأقاليم، والبلاد، وسهلها، وحزنها، وبدوها، وحضرها؛ ومن الكيفيات المزاجية، وعادات القوم؛ والهنود يقع في مداركه طول الأزمان، والعرب بالعكس‏.‏

ومنها‏:‏ اختلاف الاستعدادات بحسب الصور الشخصية، والصنفية الفائضة على المواد القابلة لها، بمتقضى العناية الأزلية‏.‏

ومنها‏:‏ اختلاف ألوان حظيرة القدس، بحسب عنايات الملأ الأعلى، وصعود الهيئات المثالية من بني آدم، المعدة لظهور فيض متجدد من هناك‏.‏

ومنها‏:‏ تبدل دولة الأسماء الإلهية المدبرة للقرون المقتضية، لظهور أنواع الكمالات والصناعات، شيئا فشيئا، وتفصيل هذه المبادئ مذكورة في فنونها، والغرض‏:‏ تنبيه عليها وتذكيرها‏.‏

نكتة‏:‏

لانعقاد الأديان والمذاهب تقريبات، هي من جملة أسباب الاختلاف‏.‏

منها‏:‏ توجه العناية الإلهية بإرسال رسل مبشرين ومنذرين، ولما انحصر فيه صلاحهم شارحين في أقطار أو قرون متباعدة بشرائع متنوعة؛ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏.‏ ‏(‏1/ 406‏)‏

ومنها‏:‏ تجارب الأذكياء، ورصد الحكماء، والمأثور من الأولياء، والمتبرك من سنة الصلحاء، ومروج الملوك والأمراء، في كل طائفة طائفة، على حسب ما بلغته عقولهم، في انتظام مصالحهم، حسب طبائعهم وعاداتهم‏.‏

ومنها‏:‏ انتشار الكذابين المتنبئين، والدجاجلة المضلين، والمحرفين من المختلسين، والمخترعين من أصحاب‏:‏ البخت، والقوة، ويتصل بذلك دواعي القبول من الناس، لمناسبات جبلية، أو تصديق هواتف، ومنامات، أو مصاحبة كرامات، أو استدراجات، أو انتظام مصلحة دولة، وجاه، وتوقع دواعي حرص، وشبهها، أو غضب وحمية، أو مخافة سيف، وذل، أو تجربة ناقصة، لمجازاة دنيوية، أو وضوح حجة، أو تسويل شبهة، أو موافقة جمهور، أو تسخير سحر، أو قلة تدبر من الطبقة الأولى‏.‏‏.‏‏.‏ إلى غير ذلك؛ ولا يزال ذلك مستديما بتأييد الله - سبحانه - ببعث المجددين، والناصرين لها، ونصب الآيات الباهرة على حقيتها من الخوارق، والشواهد السابقة واللاحقة، ومن لحوق المصائب والشؤم في تركها، أو خشية طعن الأسنة والألسنة في عصيان الرسم، أو الإلفة بسنة الآباء، وتقليد ذوي العقول الناقصة، أو حب الرئاسة والجاه في دين، أو مذهب، أو محاسدة العلماء، أو تعنتهم، أو تقاعد العقلاء عن درك الحق، ورفع الخلاف لقصور الفهم، ومثل هذا من التقريبات، وحدوث الخلف على طبائع السلف، يحرك رغبتهم إلى عقائدهم والنصر لها، ‏(‏1/ 407‏)‏ ثم يشعب ذلك‏:‏ اختلاف أمزجة المتدينين، والمتمذهبين، فينجر الخلاف إلى ما شاء الله تعالى‏.‏

نكتة‏:‏

يخلق الناس على غرائز، وهمم، وعادات شتى، ثم يتيسر لهم مصاحبات، وأغراض، واتفاقات فوضى، ولاختلافها مدخل جليل في إحداث الآراء، وترجيح المختلفات فمنهم الحديد يستطيع تخليص الأطراف عن شوب المألوفات والعبارات، والبليد يعجز عنه، والمنحصر في المحسوس لا يرى المعقول إلا من مكان بعيد، والمتجرد عنه، والمفرط في قياس الغائب على الشاهد، والمبالغ في الفرار عنه، والعجول في القبول والإنكار، من غير أن يحيط خبرة، والمتأني فيه والمسامح يكتفي بالظن، وبصورة من الصور المحتملة التي تفي بظاهر المقصود، والفحاص عنه، والمتيقظ بالمشاركات والمبائنات واللوازم، والمغفل عنه، والمغلوب في أيدي الوهم، يبني الأمر على الاعتبارات المحضة، والغالب عليه، والناظر في الشيء، ببذل الجهد، وصرف القصد، والمتكاسل عنه، يمر سردا، وتطفلا، ونير العقل يتنبه لأشياء بلا تعليم، وبأدنى إشارة ومظلمه يعجز عنه، والمتقيد بالشرائع والواهن فيها والمألوف بالرسم وغير المبالي به وواسع الفهم يحيط بالشقوق والقيود، والسابق واللاحق والمبسوطات وضيّقه، والمشتهي للتفرد، والمتنفر عنه يحب التقليد، والمتفطن لفروع الشيء وعواقبه، والراكد عليه، والمحب لشخص ومذهب، والمبغض له فيرتكبون في الإخراج والإدراج فيه كل صعب وذلول، والمحقق، والمقلد، والمنصف، والمتعصب، والإمّعة، والقادر على أداء ما في الضمير، والقاصر عنه، ومستقيم الفهم ومعوّجه، ونقي الباطن يورثه الباطل قلقا كأكل الذباب وكدرة ‏(‏1/ 408‏)‏ المطمئن بالأكاذيب، والمنقح للمقصود عن الوسائل واللواحق، والخابط فيه، والجازم يقع في قلبه الحكم بعد النظر فيه، والحائر لا يحكم، إلى غير ذلك مما لا يعسر على الفطن عند الاستقراء معرفة أصنافه وتعيين أشخاصه‏.‏

فهذه وأشباهها أمثال الزجاجات على البصائر، تحجبها عن نيل الواقع على ما هو عليه، من غير خلط أو تعينها عليه، ولا ينبغي لطالب الحق أن يغفل عنها، أو يحتبس في الردي منها، بشرط أن يتجنب الإفراط والتفريط، ويوفي كل ذي حق حقه‏.‏

نكتة‏:‏

من أسباب الاختلاف‏:‏ اختلاف أحوال الشيء في نفسه، وقد مر حديث اختلاف الجهات، والنظامات، والمواطن، إجمالا فيوضح هاهنا بأمثلة‏.‏

قد يكون الشيء علة تامة لشيء ناقصة لشيء، مستقلة أو لا، وقريبة أو لا، وكافية أو لا، أو يكون له علل كذلك؛ وقد يكون الشيء واجب الاجتماع مع شيء على تقدير وممتنع الاجتماع معه على تقدير آخر، وممكن الاجتماع راجحا أو غيره على تقدير آخر، وربما يكون بين شيئين علاقة الغيرية من وجه والعينية من وجه أو وجوه أخر، ويكون الشيء بسيطا تركيبا مركبا تحليلا أو بالعكس، أو يكون له جزء في الحقيقة لا في الحس، أو يكون فيهما داخلا عرفا خارجا حقيقة، بسيطا عينيا لا ذهنيا أو بالعكس؛ وقد يكون الشيء واحدا باعتبار كثيرا باعتبار، متناهيا بالفعل غير متناه بالقوة، ضروريا مطلقا أو بالنظر إلى شرط، اختياريا معينا أو بلا شرط، موجودا في الزمان أو بالعموم أو بالعرض، ‏(‏1/ 409‏)‏ معدوما في الآن أو بالتشخص أو بالذات، مستمرا نوعا متجددا شخصا، بديهيا بعنوان نظريا بعنوان آخر، معرض المتنافيات في ضمن الأفراد أو في حدود الامتدادات، متحد الحكم بالقياس إلى الطبيعة أو في حدٍّ واحد من الحدود، ثابتا على صفة في وقت منتفيا أو على غير تلك الصفة في وقت آخر‏.‏

فتلك أمثلة الجهات؛ وكذلك اختلافات النظامات حقا وباطلا، ضارا ونافعا، كمالا وفسادا، بحسب نظامين كنظام الحس والشرع كنسب ولد الزنا، والربا في الآخرة والدنيا، والسم للاسع والملسوع‏.‏

ومن النظامات نظام الطبيعة الكلية، والطبائع الجزئية المترتبة من البسائط والمركبات المختلفة، ونظام الحكمة الواجب التعليل، ونظام القدرة المانع منه، ونظام الاختيارات، ونظام المجازات، ونظام الأوضاع السماوية، ونظام العادات البشرية،‏.‏‏.‏‏.‏ إلى غير ذلك؛ وعلى سنن ذلك اختلاف المواطن يكون الشيء جوهرا في موطن عرضا في موطن آخر، حيوانا في المثال جمادا في الشهادة، سعيدا في وجود شقيا في وجود، قديما في ظرف حادثا في ظرف في حين واحد أو أحيان شتى، واحدا بحسب ظرف وله أعيان وصور كثيرة في ظرف آخر، ولا شك أن أحكام أحد الوجهين تباين أحكام الوجه الآخر، فمتى اعتنى أحد الناظرين بوجه والآخر بآخر لأجل مسلك سلكه أو لالتباس وقع له اختلفت الأخبار باختلاف الإحاطة والاقتصار، وقام تنازع الحكومات على ساقه، فعلى المستبصر أن ينتبه لها، ويفتش عنها‏.‏

نكتة‏:‏

من أسباب نسبة الاختلاف إلى المحققين اختلاف التعبيرات، ‏(‏1/ 410‏)‏ فقد يحصل في الذهن هيئة واحدة إجمالية فيختلفون في تسميتها بحسب اللغات والاصطلاحات المتعارفة عندهم، وفي شرحها بحسب المعاني المهمة لهم والخوض والاقتصار منهم، وفي تصورها بعبارات مختلفة قربا وبعدا على قدر بلاغتهم، وقد يعبرون عن الشيء الواحد مرة بصورة انطباعه في المدركة أو نيل المدركة لأمثاله، فيقال مثلا‏:‏ صارت الشمس تحت السحاب، وهي فوقه؛ ومرة بما ناله من غير انحراف وتفتيش عن الحقيقة كما يعبر عن الرؤيا قبل تأويلها؛ ومرة بعد التجريد للحقيقة عن ملابسها وغواشيها؛ ومرة من حيث تعيينه في مرتبة أو كونه أثر الفاعل أو صورة في مادة أو مبدأ لغاية على اختلاف في الفاعل والمادة والغاية؛ فيظن الاختلاف فيه وليس كذلك‏.‏

وقد ينظر إلى الشيء بالإجمال أو سطحيا لعدم الاعتناء به، أو على التفصيل والغَوْرِ بطنا بعد بطن على مراتب الاعتناء به، وقد يقع في الكلام تخصيص عام للتصوير أو الاهتمام أو تعميم خاص للإبهام أو التخمين أو المبالغة، أو يقع ادعاء حصر للتأكيد فقط، أو إيراد مجاز متعارف عند القائل، أو كناية والمقصود غيرها أو تلميح، وتقع تمثيلات مختلفة وفيها تقريب من وجه وتبعيد من وجه وإبهام في القدر الجامع وذلك لكونها أبلغ في سليقة القائل أو لتفنن في العبارة، ويقع صرف عن الظاهر لضيق العبارة كوضع الترتيب الزماني موضع الرتبي والمصاحبة الزمانية موضع المصاحبة الواقعية، ويكون الواقع عند الكل شيئا واحدا وبعد ذلك مقام لتفتيش المستعملات والاصطلاحات، وبيان اشتراك معنيين في لفظ أو ترادف لفظين على تمام المعنى أو مع تفارق بملاحظة قيد جزءا أو شرطا، وهذا وإن كان يسيرا بعدا الإحاطة بالمواطن والنظامات ولكن الحق انه لا يستقيم ‏(‏1/ 411‏)‏ أيضا إلا من ألمعي محقق منصف، يجمع الوصفين كثرة التبحر والعبور على كلمات الأئمة المحققين وقوة التدقيق والبحث في فني الجدل والتوجيه مع تأييد وهداية من الله ولي التوفيق‏.‏

نكتة‏:‏

من أعظم أسباب الاختلاف تنوع فهم اللاحقين لكلام السابقين، وهذا هو الذي أثار فتنة الشغب بين الشراح والمحشين، وأورث افتراء المذاهب على أهلها، ويكون منشأ سوء الفهم تارة لكمال الحماية والعداوة لأحد، وتارة للغفلة عن مرمى قصده ومطرح نظره‏.‏

طربنا لتعريض العَذُول بذكركم ** فنحن بواد والعذول بوادي

وتارة للقصور عن استيفاء المقدرات في الموجز، وحفظ القيود الضمنية في المطنب؛ وتارة الخطأ في المحمل للاشتراك والتجوز أو إرجاع الضمير؛ وتارة المبادرة ثم الإصرار على ما استقر في النفس قبل من غير إيفاء النظر حقه؛ وتارة الجحود على المسموع لحسن ظن كاذب في قائله؛ وتارة للبلادة عن نيل المعنى الدقيق والاغترار برأيه؛ فالمرء لا يزال عدوا لما جهل؛ وأمثال ذلك مما يفهمه المحقق من الكلام وسياقه فهم الطبيب داء السقيم من عوارضه ومن التدبير المقدم‏.‏ ‏(‏1/ 412‏)‏

 فصل في ضوابط التطبيق

نكتة‏:‏

مُحَاوِلُ التوفيق ينبغي أن يأخذ الواقع إقليما وسيعا، ويقطع لصاحب كل مذهب منها قطرا من أقطار العلويات والسفليات، من آفاق الغيوب والشهادة، وناحية من نواحي العلم والعين، بل يأخذ كل شخص بلدا عامرا، فيه من الأوصاف اللازمة والمفارقة، والنعوت الظاهرة والباطنة، والذاتية والغريبة، والانضمامية، والاعتبارية، والحقيقية، والإضافية، والثبوتية، والسلبية مالا يحصى؛ إنما مجال الباحثين منها ميدان دون ميدان، ويقيد عموم إثبات كل ونفيه في مقامه ومشهده، فإن لكل مقام علوما ومعارف لا تكون في غيره، كما ورد لكل حد مطلع، وصاحبه كثيرا ما يغفل عما عداه، فلا يروي عنه إلا ما أحاط به، وأن لا يذعن لنفي واحد قول الآخر، ولا لتأويله إياه، إلا ما كان من صاحب الوحي الإلهي نصا محكما، وأن لا يسرع في إنكار مستغرب، وأن يبالغ في تصحيح عقد الوضع، بتشخيص ذاته من إقليم الوجود أين هو‏؟‏ وكيف هو‏؟‏ باستقراء أوصافه التي وقعت عنوان بحثه، وموقع نظره، فربما يعنون عن ذوات متغايرة بعنوان واحد، يصدق على جميعها معا، أو تعاقبا، أو بدلا، وبالعكس‏.‏

وينقح عقد الحمل بتميز إطلاق مفهومه عن خصوص نحو ثبوته للموضوع وتحققه فيه، ولا يعتمد في فن إلا على كلام دستوره ومخرجيه، ولا يغفل عن فهم أصحابه كلامه، ونقدهم رأيه، ويزن ‏(‏1/ 413‏)‏ أصولهم بموازين الدلائل، والقرائن، وتصفح المواد، حتى يتبين سقوط أدلتهم ونهوضها، وقوتها وضعفها، وخصوصها عن الدعاوى وعمومها، ثم يعود فينظر في الفروع من طرق الأمارات الخصيصة بها نظرة ابتدائية؛ فقد وقع في التفريعات ذهولات وغفلات، وأن يفحص عن بدء أمر المخرجين والناصرين للمذاهب، وتقلبات أحوالهم، إلى ما انتهى إليه شأنهم، إذ به يعرف أغراضهم ورجوعهم في الأقوال وأسبابه، وانتقالهم من درجة إلى درجة أعلى وأدنى، ومطمح نظرهم في مساعيهم من نيل الحق، أو طلب السعادة، أو المال، والجاه، وإفساد دين، أو طريقة، وأن يتنبه لتواردهم واختلافهم في ذكر وترك، وإجمال وتفصيل، ويعلم أن من الآراء ما يكون منتهى السعي إبانة عذر صاحبه في جهله بعمدة الباب‏.‏

وبالجملة‏:‏ فإذا حافظ على هذا وأمثاله بسليقة موهوبة، أو فطانة مكتسبة، هان عليه التوفيق - بإذن الله - والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم‏.‏

نكتة‏:‏

الواقع‏:‏ هو ما عليه الشيء بنفسه في ظرفه، مع قطع النظر عن إدراك المدركين، وتعبير المعبرين، والوصول إليه يكون بالعيان أو البرهان، ففسره قوم بما هو مقتضى الضرورة والبرهان، ولما اختلفت الظنون في اعتقاد المقدمات برهانا أو شبهة، وفي أخذ الظروف متسعة أو متضيقة، اختلف مُعَنْوَنُ الواقع، فاختلفت الحكايات عنه، ومن لم يتنبه لهذا الاختلاف لم يتنبه للتطابق‏.‏

فمنهم‏:‏ من يزعم الواقع ظرف الثبوت فوق الوجود‏.‏

ومنهم‏:‏ من يحصره في الوجود ولوازمه، ويجعل الوجود أصيلا فقط، أو أصيلا وظليا، أو إياهما ولحاظيا‏.‏ ‏(‏1/ 414‏)‏

ومنهم‏:‏ من يحصر الدائرة الإمكانية فيما له حيز وجهة‏.‏

ومنهم‏:‏ من يحصرها في المبصرات، والمعاني التي فيها‏.‏

ومنهم‏:‏ من يحصرها على الأشخاص دون كلياتها‏.‏

ومنهم‏:‏ من يحصرها على مجتمعة الأجزاء‏.‏ومنهم‏:‏ من يحصرها على ماله مادة سابقة دون مستأنف الوجود، فيجب التقاط مرامهم عن فحاوي فروعهم وأصولهم‏.‏

نكتة‏:‏

إثبات عالم المثال أصل عظيم من أصول التطبيق، من جهة أن فيها صور الحقائق المجردة والمادية، فيقع على ما فيه سير الناظرين، فيخبرون عما وجدوا، وإن لم يعرفوا أنه من عالم المثال، وذلك في النقليات والكشفيات أكثر منه في العقليات‏.‏

ومن جهة‏:‏ أن فيه روحانيات، تسمى‏:‏ داعية اليهودية والنصرانية، وغير ذلك من الأديان والمذاهب، وأنها تلقي صور المعتقدات لهم في المدارك، وتروج تلك العقائد بالمنامات، والهواتف، فتطمئن النفوس إليها، وتنفر عن أضدادها‏.‏

ومن جهة‏:‏ أن فيه خزانة الكواذب، كما فصلته في تفصيل ‏(‏رسالة المحبة‏)‏، وينقدح بالاتصال بها آراء شتى، وتستمر الآراء برسوخ ملكته‏.‏

ومن جهة‏:‏ أن تلك الصور المثالية تقع عنوانات ومرايا للأمور ‏(‏1/ 415‏)‏ الغائبة والموهومة، فيظن التخالف فيها، وهذا كثير في العقليات، وفي هذا العالم ألوان وأبعاد وأشكال، ولا يزاحم الأجسام المادية، ويختلف المثاليات لطافة وكثافة ورسوخا واختفاء، والعوامّ لا تظنها غير الأجسام، وتسميتها‏:‏ أجساما غيبية وشهادية، فيجري على ذلك من يخاطبهم ويفهمهم، وإنما‏:‏ إنكارها، وحصر الأجسام في الشهادية، وضبط أحكامها من تدقيقات الفلاسفة والمتكلمين‏.‏

نكتة‏:‏

من أصول التطبيق التجلي، وهو ثابت عقلا، ونقلا، وكشفا، وهو من أحكام جهة الكثرة لا ينكره منكر وحدة الوجود، ولا يستغني عنه قائلها، تمييزا بين الأحكام الحقية والخلقية، وبينت مادته وصورته في ‏(‏رسالة المحبة‏)‏، وغيرها، وله جنسان بإثبات الواسطة وبرفعها‏:‏

فالذي بإثبات الواسطة مادته ماله اختصاص بالاضمحلال والحكاية معا، وصورته إرادة التعرف، وينقسم إلى‏:‏ وجودي، ينتظم به أمر العالم، وكمالي‏:‏ هو في نفسه أمر خارجي وشهودي، حاصل في المرايا الإدراكية، ومن هذا القسم‏:‏ صوري، ومعنوي، وذوقي‏.‏

والذي برفع الواسطة، إما أن يكون الحجاب من جهة المتجلى له من وصف، أو ملابس، أو بين المتجلي والمتجلى له، أو من جهة المتجلي، وهذا إنما يتصور بالانتقال من شأن إلى شأن، ومن موطن إلى موطن، ورفع ما في البيت، إما بإفنائه، أو برفع حيلولته بترق للمتجلي له، أو تدل للمتجلي؛ والمحقق القونوي عممه في كل مالا تحويه الجهات، ‏(‏1/ 416‏)‏ وهو حق، والفرق بين‏:‏ تعلق النفس بالبدن، والتمثل بالتمثل، والمتجلي بالتجلي، حصول الانحصار والانفعال معا في الأول، والثاني فقط في الثاني، وانتفاؤهما معا في الثالث؛ ولا بد في التجلي من ممازجة عالم المثال، لتضمن جهة الحكاية، فإن الشهاديات لا تحتمل الحكاية طبعا، وإن احتملتها وضعا، وكثير من اختلافات العقليات والسمعيات والكشفيات ينحل به‏.‏

نكتة‏:‏

قد يستغرق المتفكر والمكاشف في السانح، فيختفي عليه ما عداه فينطق بالكلية، وما مصداقها إلا الجزئية؛ وقد يعتني بمعنى دقيق فيتبعه النظر فيحكم به على ما فيه شائبة منه وأدنى مناسبة معه، ولا يلتفت إليه غيره؛ وقد يشتبه الظل بالأصل، والمقيد بالمطلق، فيذعن لأصالة الظل وإطلاق المقيد؛ ولا يتبنه له إلا بعد الترقي عنه، والعارف بالأصل والمطلق يفضح قوله؛ ثم إذا ترقى عنه فقد يعبر عنه بالرجوع وتخطئة الأول، وقد يعترف بالخوض فيه، وانكشاف سره وبطنه، فيصحب الحكم السابق، فيظن الاختلاف باقيا، وقد انمحى فاحفظ عليه‏.‏

نكتة‏:‏

الإصابة والأخطاء يطلق في العمليات تارة‏:‏ على ترتب الغاية على الصنعة وعدمه، وتارة‏:‏ على الجريان على وفق القاعدة، ‏(‏1/ 417‏)‏ وفي الشرعيات‏:‏ مرةً‏:‏ على الوصول إلى مراد الشارع، ومرة‏:‏ على الحكم بمقتضى الدليل، فيختلف بحسب الاختلاف بالمأخذ، فيكون معنى الحكم بشيء أن مقتضى هذا القدر من المبادئ كذا، وبهذا المعنى يرتفع التنازع في الشرعيات؛ وبعد ذلك فالنسخ أيضا من أقسام التطبيق، إذ فيه أعمال كل دليل في وقته، وكذا التخصيص، إذ فيه أعمالها في محل ما، وبعد ذلك فمن باب التطبيق فيما صح سنده ودلالته ولو في الجملة الحمل على العزيمة والرخصة، أو على الإباحة والكراهة، أو على التشديد والتسهيل، أو التنزيه والتحريم بناء على ضابطة إسقاط الإنكار‏.‏

وعامة الرواة ممن لا يخوض في دقائق الأحكام إذا روى بالمعنى، أمكن أن يزيد وينقص في الطلب والكف؛ وأما الذكر والترك أو التعيين والإيهام فلا يعده من باب التعارض، إلا من قل خوضه في المعاني، وقريب منهما تقديم وتأخير في الكلام‏.‏

نكتة‏:‏

ذكر حجة الإسلام في ‏(‏فيصل التفرقة بين أهل البدع والزندقة‏)‏ أن الشيء يكون له وجود في نفسه خارج الحس والعقل، وهو الوجود الذاتي؛ ووجود في الحس كالشمس رغيفا والقطرة خطا وقوس من محيط الدائرة الكبير مستقيما، ووجود في الخيال إما على صورة المشاهدة كطيف النائم والمبرسم، وإما على صورة للذكر ووجود في العقل بتجريد الذات أو الوصف المختص ولو عرفا عن غواشيهما كالصنعة من اليد والحفظ من العين، ووجود تشبيهي وهو استعارة ‏(‏1/ 418‏)‏ اسم المبائن لشيء لاشتراكهما في معنى معروف، ويجب الحمل في النصوص على ما هو الأقوى في الترتيب المذكور، إلا أن يلوح للناظر ما يدل على نفي شيء من السوابق، فيحمل على اللاحق، مذعنا بأنه مراد الشارع؛ فهذا وجه من التطبيق في الأخبار، وإصابة للحق كاملا أو ناقصا‏.‏ ‏(‏1/ 419‏)‏