فصل: فصل في البيع

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر الرائق شرح كنز الدقائق ***


فصل في البيع

قدم فصل البيع عن فصل الأكل والشرب واللمس والوطء لأن أثر تلك الأفعال متصل ببدن الإنسان وما كان أكثر اتصال كان أحق بالتقديم قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏كره بيع العذرة لا السرقين‏)‏ لأن المسلمين يتمولون السرقين وانتفعوا به في سائر البلاد والأمصار من غير نكير فإنهم يلقونه في الأراضي لاستكثار الريع بخلاف العذرة؛ لأن العادة لم تجر بالانتفاع بها إلا مخلوطة برماد أو تراب غالب عليها فحينئذ يجوز بيعها والصحيح عن الإمام أن الانتفاع بالعذرة الخالصة جائز بغلبة يجوز بيع الخالصة وفي المحيط‏:‏ رجل يبيع ويشتري على الطريق فأراد إنسان أن يشتري منه شيئا فإن لم يكن في قعوده ضرر بالناس وسعه أن يقعد في الطريق ويشتري منه وإن كان فيه ضرر يكره له أن يشتري منه وهو المختار لأنه يكون معينا له على الإثم والعدوان‏.‏ صبي جاء إلى سوق بخبز أو بلبس أو بعدس فلا بأس بأن يبيع منه البصل والثوم وغير ذلك لأنه مأذون فيه عادة ويكره أن يبيع منه الجوز والفستق حتى نسأله‏:‏ هل أذن له بذلك أبوه أم لا‏؟‏ لأنه غير مأذون في ذلك عادة وفيه، وأما المغني والنائحة والقوال إذا أخذ المال هل يباح له إن كان من غير شرط يباح لأنه أعطاه المال عن طوع من غير عقد وإن كان من عقد لا يباح له لأنه أجر على المعصية‏.‏ ا هـ‏.‏ وفي السراجية يكره بيع الغلام الأمرد ممن عرف باللواطة‏.‏ رجل اشترى عبدا مجوسيا فأبى أن يسلم وقال إن بعتني من مسلم قتلت نفسي جاز له أن يبيعه من المجوسي ولا بأس بأن يبيع الزنار من النصارى والقلنسوة من اليهود، وفي جامع الجوامع عن الثاني باع ثورا من المجوسي لينحروه في عيدهم يقتلوه بالعصا لا بأس به وفي التتمة سئل علي بن أحمد‏:‏ أهل بلده زادوا في موازينهم فيما يوزن بزيادة فوق الزيادة في سائر البلدان وبعضهم يوافق وبعضهم لا يوافق أتحل لهم تلك الزيادة فقال‏:‏ لا، قالوا‏:‏ ولو اتفق الكل على ذلك قال لا، وفي السراجية رجل اشترى لحما أو سمكا أو شيئا من الثمار فذهب المشتري ليأتي بالثمن وأبطأ فخشي البائع أن يفسد فإنه يبيعه من غيره ويحل شراء ذلك منه وإذا مرض الرجل فاشترى له ابنه أو ولده جاز ا هـ‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وله شراء أمة زيد، قال بكر‏:‏ وكلني زيد ببيعها‏)‏ يعني أن جارية لإنسان فرآها في يد آخر يبيعها فقال له‏:‏ وكلني مولاها بالبيع حل له أن يشتريها منه ويطأ؛ لأنه أخبره بخبر صحيح لا منازع له فيه وقول الواحد في المعاملات مقبول كما تقدم وكذا إذا قال اشتريتها منه أو وهبني أو تصدق علي فله الشراء ولا فرق بين أن يعلم أنها له أو لم يعلم؛ لأن خبره هو المعتمد عليه إذا كان ثقة فإن كان المخبر غير ثقة فيما إذا ادعى الملك أو غيره فإن كان أكبر رأيه أنه صادق وسعه الشراء على ما تقدم وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لا يتعرض لشيء من ذلك؛ لأن أكبر رأيه يقوم مقام اليقين وإن لم يخبره صاحب اليد عن الوكالة وانتقال الملك إليه فإن كان يعرف أنها لغيره لا يشتري حتى يعرف أن الملك انتقل إليه؛ لأن يد الأول دليل الملك فإن كان لا يعرف أنها لغيره وسعه أن يشتريها، وإن كان ذو اليد فاسقا إلا أن مثله لا يملك مثلها كدرة في يد كناس فحينئذ يستحب له أن يتنزه عنها ولو اشتراها مع ذلك صح لاعتماده على الشرعي وهو اليد‏.‏ وإن كان الذي أتاه بها عبدا فإنه لا يقبلها ولا يشتريها حتى يسأل؛ لأن المملوك لا ملك له فيعلم أن الملك فيها لغيره فلو قال له‏:‏ أذنني مولاي في بيعها وهو ثقة قبل قوله قال صاحب العناية فإن قبل قوله وهو ثقة يناقض قوله يقبل على أي صفة، وأجيب بأن معنى قوله ‏"‏ ثقة ‏"‏ أن يكون ممن يعتمد على كلامه وإن كان فاسقا لجواز أن لا يكذب لمروءته ولوجاهته بقي أن يقال مما ذكر هنا إن عدالة المخبر في المعاملات غير لازمة ولا بد في قبول قوله إذا كان غير عدل أن يكون أكبر رأي السامع أنه صادق وقد مر في أول هذا الكتاب أن يقبل في المعاملات خبر الفاسق مطلقا ولا يقبل في الديانات قول الفاسق ولا المستور إلا إذا كان أكبر رأي السامع أنه صادق، فما ذكر هنا مخالف لما تقدم؛ لأن الذي اعتبر في الديانات دون المعاملات اعتبر هنا في المعاملات أيضا‏.‏ والجواب أن خبر الفاسق إنما يقبل في الديانات إذا حصل بعد التحري وفي المعاملات ذكر فخر الإسلام‏:‏ خبر العدل يقبل فيها من غير تحر وهو المذكور في الجامع الصغير وفي موضع آخر يشترط فيها التحري وهو المذكور في كتاب الاستحسان فيشترط التحري في المعاملات استحسانا ولا يشترط التحري فيها رخصة فما ذكر في أوله لبيان الرخصة وهو عدم التحري وما ذكر هنا بيان الاستحسان كما في التلويح‏.‏ قال في الخانية‏:‏ فلو لم يقل صاحب اليد وكلني ولكن قال قد كان ظلمني وغصبني الجارية فأخذتها منه لا ينبغي له أن يشتريها منه وإن كان عدلا وفي الخزانة وإن قال كان غصبها مني فلان فارتجعتها منه بلا رضاء ولا قضاء لا يصدق وكذا إذا قال قضى القاضي لي بالجارية فأخذها منه ودفعها لي فلا بأس أن يشتريها منه إن كان عدلا وإن قال قضى بها القاضي فجحدني قضاءه فأخذتها فلا ينبغي له أن يشتريها منه ولو كان عدلا وفي الخانية قال اشتريت هذه الجارية من فلان ونقدته الثمن ثم جحد البائع البيع فأخذتها منه لا ينبغي له أن يقبل قوله‏:‏ وفي فتاوى العتابية ولو لم يذكر الجحود على الشراء منه ينبغي له أن يقبل قوله إذا كان عدلا وإن كان المخبر على الجحود فاسقا يعتبر فيه أكبر رأيه كما تقدم وفي الفتاوى الغياثية ولو ورثه أو أبيح له فأخبره عدل بأنه غصبه وكذبه ذو اليد فهو متهم فيجوز له أن يشتريها قال محمد‏:‏ هذا إذا لم يجئ التشاجر والتجاحد من الذي كان يملك فإن جاءت المشاجرة والإنكار من المالك لا يقبل خبر المخبر سواء كان فاسقا أو عدلا ولو شهد شاهدان عدلان عند البيع أن مولاها قد أمر البائع ببيعها فاشتراها بقولهما ونقد الثمن وقبضها وحضر مولاها فأنكر الوكالة كان المشتري في سعة من إمساكها وفي الخانية وكان له أن يتصدق بها حتى يخاصمه المولى إلى القاضي بخلاف ما لو كان المخبر واحدا قال‏:‏ إلا أن يكون خاصم عند القاضي وقضى القاضي بالملك فإن استحلف المالك على الوكالة فإنه لا يسعه إمساكها ما لم يجدد الشاهدان الشهادة على الوكالة بين يدي القاضي حتى يقضي القاضي بالوكالة وفي الخزانة خمسة أشياء لا يقبل قول الواحد فيها‏:‏ إذا اشترى شيئا فأخبره رجل أنه لغير البائع وباعه بغير أمره لا يصدقه وجاز تصرفه فيه‏.‏ وإذا تزوج فأخبره رجل أنها أخته من الرضاع، ويتنزه عنها‏.‏ وإذا اشترى طعاما شراء فأخبره ثقة أنه حرام أو غصبه البائع لا يصدق في الغصب ويصدق في الحرام‏.‏ رأى رجلا قتل ولدا له بالسيف وجحد قتله لا يصدق ووسع من عاين ذلك أن يعينه على قتله قال محمد ولو أن رجلا تزوج امرأة فلم يدخل بها حتى غاب عنها فأخبره مخبر أنها قد ارتدت عن الإسلام والعياذ بالله تعالى فإن كان المخبر بذلك عدلا وفي الفتاوى الغياثية وهو حر أو مملوك أو محدود في قذف وسعه أن يصدقه، وأن يتزوج بأختها أو أربع سواها وإن كان فاسقا تحرى في ذلك وفي الخانية وإن لم يكن المخبر ثقة وفي البزازية فإن كان أكبر رأيه أنه صادق فكذلك وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يتزوج أكثر من ثلاث هكذا ذكر المسألة في كتاب الاستحسان، وتلك المسألة في السير الكبير أنه لا يسعه أن يتزوج بأختها وأربع سواها ما لم يشهد عنده رجلان أو رجل وامرأتان وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الاستحسان اختلاف الروايتين في رواية ولم يذكر ردة المرأة وذكر شمس الأئمة السرخسي اختلاف الروايتين؛ ردة الرجل لا تثبت عند المرأة إلا بشهادة رجلين أو شهادة رجل وامرأتين على رواية السير الكبير، ردة المرأة تثبت عند الزوج بخبر الواحد باتفاق الروايات‏.‏ قال شمس الأئمة الحلواني‏:‏ والصحيح أن في المسألة روايتين على رواية السير لا يثبت ردة المرأة عند الزوج ولا ردة الزوج عند المرأة إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين وفي الذخيرة ثم فرق على رواية كتاب الاستحسان بينما إذا أخبر عن ردتهما قبل النكاح فقال إذا قال للزوج‏:‏ تزوجتها وهي مرتدة لا يسعه أن يأخذ بقوله وإن كان عدلا وإذا أخبر عن ردتها بعد النكاح وسعه أن يصدقه فيما قال ويتزوج بأختها، وأربع سواها وكذلك لو أن رجلا تزوج جارية رضيعة ثم غاب عنها فأتاه رجل وأخبره أنها أمه أو بنته أو أخته أو رضيعة امرأته الصغيرة فإن كان المخبر عدلا وسعه أن يصدقه ويتزوج بأختها وأربع سواها وإن كان فاسقا يتحرى في ذلك قال في الهداية‏:‏ لأن القاطع طارئ والإقدام الأول لا يدل على إقدامه فلم يثبت المنازع‏.‏ اعترض عليه بأنه إن قبل خبر الواحد في إفساد النكاح بعد الصحة من هذا الوجه فوجه آخر فيه يوجب عدم القبول وأجيب بأن ذلك إذا كان ثابتا بدليل موجب، ودليل ملك الزوج فيها في الحال ليس بدليل موجب بل باستصحاب الحال، وخبر الواحد أقوى من استصحاب الحال‏.‏ وأجيب بأنه إذا تضمن إبطال الملك الثابت قال شيخ الإسلام‏:‏ رواية السير تحتاج إلى الفرق بين الرضاع وبين الردة وإن لم يقل هكذا ولكنه قال‏:‏ كنت تزوجتها يوم تزوجتها وهي أختك من الرضاعة فإنه لا يسعه أن يتزوج أختها ولا أربعا سواها إن كان المخبر عدلا وإذا غاب الرجل عن امرأته فأتاها مسلم عدل، وأخبرها أن زوجها طلقها ثلاثا أو مات عنها فلها أن تعتد وتتزوج بزوج آخر وإن كان المخبر فاسقا يتحرى وفي الفتاوى الغياثية وكذلك إذا جاءها كتاب بطلاق أو موت وغلب في ظنها ذلك وفي فتاوى أبي الليث إذا شهد شاهدان عند المرأة بالطلاق فإن كان الزوج غائبا وسعها أن تعتد وتتزوج بزوج آخر وإن كان حاضرا ليس لها أن تمكن نفسها من زوجها وكذلك إن سمعته طلقها وجحد الزوج ذلك وحلف فردها القاضي عليه لم يسعها المقام معه وينبغي لها أن تفتدي بمالها وتهرب منه وإن لم تقدر على ذلك قتلته وإذا هربت منه لم يسعها أن تعتد وتتزوج بزوج آخر قال شمس الأئمة السرخسي‏:‏ ليس لها أن تعتد وتتزوج بزوج آخر، جواب القاضي أما فيما بينها وبين الله تعالى فلها أن تتزوج بعدما اعتدت ا هـ‏.‏ ثم إذا أخبرها عدل مسلم أنه مات زوجها كذا إنما تعتمد خبره إذا قال عاينته ميتا وقال‏:‏ شهدت جنازته أما إذا قال ‏"‏ أخبرني مخبر ‏"‏ لا يعتمد على خبره، وإن أخبر واحد بموته ورجلان آخران أخبرا بحياته فإن كان الذي أخبرها بموته قال عاينته ميتا وشاهدت جنازته يحل لها أن تتزوج وإن كان اللذان أخبرا بحياته ذكرا أنهما رأياه حيا فقولهما أولى وفي السراجية إن كان عدلا وفيه لو شهد اثنان بموته وقتله وشهد آخران أنه حي فشهادة الموت أولى ولو أن امرأة قالت لرجل‏:‏ إن زوجي طلقني ثلاثا وانقضت عدتي فإن كانت عدلة وسعه أن يتزوجها وإن كانت فاسقة تحرى وعمل بما وقعت تحريته عليه ولو أخبرها أن أصل نكاحها فاسد، وأن زوجها أخوها من الرضاعة أو كان مرتدا فإنه لا يسعها أن تقبل وتتزوج بزوج آخر وإن كان المخبر عدلا قال محمد‏:‏ إنما هو بمنزلة رجل في يده جارية يدعي إنها رقيقته وهي تقر بالملك فوجدها في يد رجل وقد علم بحالها فأراد شراءها فسأله عنها فقال‏:‏ الجارية جاريتي وقد كان الذي يدعي الجارية كانت في يده كاذبا فيما ادعى من ملكها لا ينبغي لهذا الرجل أن يشتريها منه وإن كان عدلا ولو قال كنت اشتريتها منه وسعه أن يشتريها منه وكذلك جارية في يد رجل يدعي أنها جاريته وهي صغيرة لا تعبر عن نفسها بجحود ولا إقرار فكبرت فلقاها رجل وقد علم بذلك في بلد آخر فأراد أن يتزوجها فقالت له أنا حرة الأصل ولم أكن أمة للذي كنت في يده فلهذا لا يسعه أن يتزوجها ولو قالت‏:‏ كنت أمة للذي كنت في يده فأعتقني وسعه أن يتزوجها إن كانت خالية وفي الخانية إن كانت ثقة أو وقع في قلبه أنها صادقة لا بأس أن يتزوجها ولو أن حرة تزوجت رجلا ثم أتت غيره وقالت‏:‏ إن نكاحي الأول كان فاسدا أو الزوج على غير الإسلام لا ينبغي لهذا الرجل أن يصدقها ولا أن يتزوجها ولو قالت‏:‏ إن زوجي طلقني بعد ذلك أو قالت ارتد عن الإسلام فبنت منه وسعه أن يصدقها، وأن يتزوجها إذا كانت عدلة ا هـ‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏وكره لرب الدين أخذ ثمن خمر باعها مسلم لا كافر‏)‏ يعني إذا كان لشخص مسلم دين على مسلم فباع الذي عليه الدين خمرا، وأخذ ثمنها وقضى الدين لا يحل للمدين أن يأخذ ذلك بدينه وإن كان البائع كافرا جاز له أن يأخذ والفرق أن البيع في الوجه الأول باطل فلم يملك البائع الثمن وهو باق على ملك المشتري فلا يحل له أن يأخذ مال الغير بغير رضاه، والبيع في الوجه الثاني صحيح فملك البائع الثمن؛ لأن الخمر مال متقوم في حق الكافر فجاز له الأخذ بخلاف المسلم وفي النهاية عن محمد‏:‏ هذا إذا كان القضاء والاقتضاء بالرضا فإن كان بقضاء القاضي فقضى عليه بهذا الثمن ولم يعلم القاضي بكونه ثمن خمر يطيب له ذلك بقضائه واستشكل الإمام الزيلعي حيث قال‏:‏ إنه مال الغير فكيف يطيب له بقضاء القاضي ومحمد لا يرى نفوذ قضاء القاضي باطنا وإنما ينفذ عنده ظاهرا، ولو مات مسلم وترك ثمن خمر باعها لا يحل لورثته أن يأخذوا ذلك؛ لأنه كالمغصوب قال في النهاية قال بعض مشايخنا كسب المغنية كالمغصوب لم يحل لأحد أخذه قالوا وعلى هذا لو مات رجل وكسبه من ثمن الباذق والظلم أو أخذ الرشوة تعود الورثة ولا يأخذون منه شيئا وهو الأولى لهم ويردونه على أربابه إن عرفوهم، وإلا يتصدقوا به؛ لأن سبيل الكسب الخبيث التصدق إذا تعذر الرد وظاهر هذا أن المعتبر اعتقاد البائع سواء باعه من مسلم أو كافر فإن كان البائع مسلما لا يملك ذلك الثمن اشتراه منه مسلم أو كافر وإن كان كافرا ملك الثمن سواء اشتراه منه مسلم أو كافر ا هـ‏.‏ فإن قيل‏:‏ هذا ظاهر إذا باع الخمر المسلم للمسلم أو الكافر للكافر، وأما إذا باع المسلم للكافر أو الكافر للمسلم فلم لم يقبل اعتقاد الكافر فنقول بالجواز أو باعتقاد المسلم فنقول بعدم الجواز‏.‏ قلنا الأصح ترجيح المحرم‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله‏.‏ ‏(‏واحتكار قوت الآدميين والبهائم في بلد لم يضر بأهلها‏)‏ يعني يكره الاحتكار في بلد يضر بأهلها لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون» ولأنه تعلق به حق العامة وفي الامتناع عن البيع إبطال حقهم وتضييق الأمر عليهم فيكره هذا إذا كانت البلدة صغيرة يضر ذلك بأهلها أما إذا كانت كبيرة فلا يكره؛ لأنه حابس ملكه، وتخصيص الاحتكار بالأقوات قول الإمام والثالث، وقال أبو يوسف‏:‏ كل ما يضر العامة فهو احتكار، بالأقوات كان أو ثيابا أو دراهم أو دنانير اعتبارا لحقيقة الضرر؛ لأنه هو المؤثر في الكراهة، وهما اعتبرا الحبس المتعارف وهو الحاصل في الأقوات في المدة فإذا قصرت لا يكون احتكارا لعدم الضرر، إذا طالت يكون مكروها ثم قيل هو مقدر بأربعين ليلة لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من احتكر طعاما أربعين ليلة فهو بريء من الله والله بريء منه» وقيل بالشهر لأن ما دونه قليل عاجل وهو وما فوقه كثير آجل ويقع التفاوت في المأثم بين أن يتربص العسرة وبين أن يتربص القحط - والعياذ بالله - وقيل‏:‏ المدة المذكورة للمعاقبة في الدنيا، وأما الإثم فيحصل وإن قلت المدة فحاصله أن التجارة في الطعام غير محمودة‏.‏ وفي المحيط الاحتكار على وجوه‏:‏ أحدها حرام وهو أن يشتري في المصر طعاما ويمتنع عن بيعه عند الحاجة إليه ولو اشترى طعاما في غير المصر ونقله إلى المصر وحبسه قال الإمام لا بأس به؛ لأن حق العامة إنما يتعلق بما جمع من المصر أو جلب من فنائه، وقال الثاني‏:‏ يكره، وقال محمد‏:‏ كل بقعة يمتد منها إلى المصر في العادة فهي بمنزلة فناء المصر يحرم الاحتكار منه وهذا في غاية الاحتياط ا هـ‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏لا غلة ضيعته وما جلبه من بلد آخر‏)‏ يعني لا يكره احتكار غلة أرضه وما جلبه من بلد آخر لأنه خالص حقه فلم يتعلق به حق العامة فلا يكون احتكارا ألا ترى أن له أن لا يزرع ولا يجلب فكذا له أن لا يبيع وهذا في المجلوب قول الإمام خاصة فإن حق العامة لا يتعلق بما جلب فصار كغلة ضيعته والجامع تعلق حق العامة به وقدمنا قول محمد وقول أبي يوسف عن المحيط ا هـ‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولا يسعر السلطان إلا أن يتعدى أرباب الطعام عن القيمة تعديا فاحشا‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا تسعروا فإن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق» ولأن الثمن حق البائع وكان إليه تقديره فلا ينبغي للإمام أن يتعرض لحقه إلا إذا كان أرباب الطعام يحتكرون على المسلمين ويتعدون في القيمة تعديا فاحشا وعجز السلطان عن منعه إلا بالتسعير بمشاورة أهل الرأي والنظر فإذا فعل ذلك على رجل فتعدى وباع بثمن فوقه أجازه القاضي وهذا لا يشكل على قول الإمام؛ لأنه لا يرى الحجر على الحر وكذا عندهما إلا أن يكون الحجر على قوم بأعيانهم، وينبغي للقاضي وللسلطان أن لا يعجل بعقوبة من باع فوق ما سعر بل يعظه ويزجره وإن رفع إليه ثانيا فعل به كذلك وهدده وإن رفع إليه ثالثا حبسه وعزره حتى يمتنع عنه ويمتنع الضرر عن الناس وفي العتابي‏:‏ ولو باع شيئا بثمن زائد على ما قدره الإمام فليس على الإمام أن ينقضه، والغبن الفاحش هو أن يبيعه بضعف قيمته وإذا امتنع أرباب الطعام عن بيعه لا يبيعه القاضي أو السلطان عند الإمام وعندهما يبيع بناء على أنه لا يرى الحجر على الحر البالغ العاقل وهما يريانه‏.‏ امتنع المحتكر من بيع الطعام للإمام أن يبيعه عليه عندهم جميعا على مسألة الحجر وقيل يبيع بالإجماع؛ لأنه اجتمع ضرر عام وضرر خاص فيقدم دفع الضرر العام كما بينا في كتاب الحجر قال في المحيط قال بعض مشايخنا إذا امتنع المحتكر عن بيع الطعام يبيعه الإمام عليه عندهم جميعا‏.‏ ا هـ‏.‏ ومن باع منهم بما قدره الإمام صح لأنه غير مكره على البيع كذا في الهداية وفي المحيط إن كان البائع يخاف إذا زاد في الثمن على ما قدره أو نقص في البيع يضر به الإمام أو من يقوم مقامه لا يحل للمشتري ذلك؛ لأنه في معنى المكره، والحيلة في ذلك أن يقول تبيعني بما تحب ولو اصطلح أهل بلدة على سعر الخبز واللحم وشاع ذلك عندهم فاشترى منهم رجل خبزا بدرهم أو لحما بدرهم، وأعطاه البائع ناقصا والمشتري لا يعرف ذلك كان له أن يرجع بالنقصان إذا عرفه؛ لأن المعروف كالمشروط وإن كان من غير أهل تلك البلد كان له أن يرجع بالنقصان في الخبز دون اللحم؛ لأن سعر الخبز يظهر عادة في البلدان وسعر اللحم لا يظهر إلا نادرا فيكون شارطا في الخبز مقدارا معينا دون اللحم ولو خاف الإمام على أهل مصر الهلاك أخذ الطعام من المحتكرين وفرقه فإذا وجدوه ردوا مثله وليس هذا من باب الحجر وإنما هو من باب دفع الضرر عنهم كما في حال المخمصة ذكره في شرح المختار‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏وجاز بيع العصير من خمار‏)‏ لأن المعصية لا تقوم بعينه بل بعد تغيره بخلاف بيع السلاح من أهل الفتنة؛ لأن المعصية تقوم بعينه فيكون إعانة لهم وتسببا وقد نهينا عن التعاون على العدوان والمعصية ولأن العصير يصلح للأشياء كلها جائزة شرعا فيكون الفساد إلى اختياره، وبيع المكعب المفضض للرجال إذا علم أنه يشتريه ليلبسه يكره؛ لأنه إعانة له على لبس الحرام ولو أن إسكافيا أمره إنسان أن يتخذ له خفا على زي المجوس أو الفسقة، أو خياطا أمره إنسان أن يخيط له قميصا على زي الفساق يكره له أن يفعل ذلك كذا في المحيط‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏وإجارة بيت ليتخذ بيت نار أو بيعة أو كنيسة أو يباع فيه خمر بالسواد‏)‏ يعني جاز إجارة البيت لكافر ليتخذ معبدا أو بيت نار للمجوس أو يباع فيه خمر في السواد وهذا قول الإمام وقالا‏:‏ يكره كل ذلك لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان‏}‏ وله أن الإجارة على منفعة البيت ولهذا تجب الأجرة بمجرد التسليم ولا معصية فيه وإنما المعصية بفعل المستأجر وهو مختار فيه فقطع نسبة ذلك إلى المؤجر وصار كبيع الجارية لمن لا يستبرئها أو يأتيها في دبرها أو بيع الغلام ممن يلوط به والدليل عليه أنه لو أجره للسكنى جاز ولا بد فيه من عبادته وإنما قيده بالسواد؛ لأنهم لا يمكنون من ذلك في الأمصار ولا يمكنون من إظهار بيع الخمر والخنزير في الأمصار لظهور شعائر الإسلام فلا يعارض بظهور شعائر الكفر قالوا في هذا سواد الكوفة؛ لأن غالب أهلها أهل ذمة، وأما في غيرها فيها شعائر الإسلام ظاهرة فلا يمكنون فيها في الأصح وفي التتارخانية مسلم له امرأة من أهل الذمة ليس له أن يمنعها من شرب الخمر وله أن يمنعها من إدخال الخمر بيته ولا يجبرها على الغسل من الجنابة وفي كتاب الخراج لأبي يوسف المسلم يأمر جاريته الكتابية بالغسل من الجنابة ويجبرها على ذلك قالوا‏:‏ يجب أن تكون المرأة الكتابية على هذا القياس أيضا قال القدوري في النصرانية تحت المسلم لا تنصب في بيته صليبا وتصلي في بيته حيث شاءت ومن سأل من أهل الذمة المسلم طريق البيعة لا ينبغي له أن يدله عليها ا هـ‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله تعالى ‏(‏وحمل خمر الذمي بأجر‏)‏ يعني جاز ذلك وهذا عند الإمام وقالا يكره لأنه عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لعن في الخمر عشرة وعد منها حاملها» وله أن الإجارة على الحمل وهو ليس بمعصية وإنما المعصية بفعل فاعل مختار فصار كمن استأجره لعصر خمر العنب وقطفه، والحديث يحمل على الحمل المقرون بقصد المعصية وعلى هذا الخلاف إذا أجر دابة ليحمل عليها الخمر أو نفسه ليرعى له الخنازير فإنه يطيب له الأجر عنده وعندهما يكره وفي التتارخانية‏:‏ ولو أجر المسلم نفسه لذمي ليعمل في الكنيسة فلا بأس به وفي الذخيرة إذا دخل يهودي الحمام هل يباح للخادم المسلم أن يخدمه قال‏:‏ إن خدمه طمعا في فلوسه فلا بأس به وإن خدمه تعظيما له ينظر إن فعل ذلك ليميل قلبه إلى الإسلام فلا بأس به وإن فعله تعظيما له كره ذلك وعلى هذا إذا دخل ذمي على مسلم فقام له طمعا في إسلامه فلا بأس به وإن قام له تعظيما له كره له ذلك‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏وبيع بناء بيوت مكة أو أراضيها‏)‏ يعني يجوز ذلك أما البناء فظاهر؛ لأنه ملك لبنائه ألا ترى أنه لو بنى في المستأجر أو الوقف جاز البناء وكان له ملكا له، وأما بيع أراضيها فالمذكور هنا قول أبي يوسف ومحمد وهو إحدى الروايتين عن الإمام؛ لأن أراضيها مملوكة لأهلها لظهور التصرف والاختصاص ولقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «هل ترك لنا عقيل من رباع» الحديث فيه دليل على أن أراضيها تملك وتقبل الانتقال من ملك إلى ملك وقد تعارف الناس ذلك من أول الإسلام إلى الآن من غير نكير وهو من أقوى الحجج، وقال الإمام‏:‏ لا يجوز بيع أراضيها لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إن الله حرم مكة وحرم بيع أراضيها وإجارتها» ولأنه وقف الخليل عليه الصلاة والسلام ولأن الأراضي بمكة كانت تدعى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده بالسوائب من احتاج إليها سكنها ومن استغنى عنها تركها قال الشارح ومن وضع عند بقال درهما يأخذ منه ما شاء كره له ذلك؛ لأنه إذا ملكه الدرهم فقد أقرضه إياه وقد شرط أن يأخذ منه من القبول وغيرها ما شاء وله في ذلك نفع بقاء الدرهم وكفايته للحاجات ولو كان في يده لخرج من ساعته ولم يبق فصار في معنى قرض جر نفعا وهو منهي عنه وينبغي أن يودعه عنده ثم يأخذ منه شيئا فشيئا وإن ضاع فلا شيء عليه؛ لأن الوديعة أمانة ا هـ‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وتعشير المصحف ونقطه‏)‏ يعني يجوز؛ لأن القراءة والآية توقيفية ليس للرأي فيها مدخل فالتعشير حفظ الآيات، والنقط الإعراب فكانا حسنين ولأن العجمي الذي لا يحفظ القرآن لا يقدر على القراءة إلا بالنقط فكان حسنا وما روي عن ابن مسعود من قوله جردوا القرآن فذلك في زمانهم لأنهم كانوا ينقلونه عن النبي صلى الله عليه وسلم كما أنزل وعلى هذا لا بأس بكتابة أسامي السور وعد الآي وإن كان محزبا فهو حسن وكم من شيء يختلف باختلاف الزمان والمكان وفي العتابية‏:‏ ويكره التعاشير وهو كتابة لعلامة عشر منتهى عشر آيات ا هـ‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وتحليته‏)‏ يعني ويجوز تحلية المصحف لما فيه من تعظيمه كما في نقش المسجد وزينته وقد تقدم في بابه‏.‏ قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏ودخول ذمي مسجدا‏)‏ يعني جاز إدخال الذمي جميع المساجد عندنا وقال مالك‏:‏ يكره في كل المساجد وقال الشافعي‏:‏ يكره في المسجد الحرام لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام‏}‏ ولأن الكافر لا يخلو عن النجاسة والجنابة فوجب تنزيه المسجد عنه ولنا أنه عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أنزل وفد ثقيف في المسجد وضرب لهم خيمة في المسجد فقال الصحابة المشركون نجس فقال عليه الصلاة والسلام ليس على الأرض من نجاستهم شيء وإنما نجاستهم على أنفسهم» والنجاسة المذكورة في الآية الخبث في اعتقادهم؛ لأن كل خبيث رجس وهو النجس والمراد بالمنع في الآية منعهم عن الطواف ولما أعلا الله كلمة الإسلام منعهم صلى الله عليه وسلم من الدخول للطواف، والتعميم المذكور ههنا هو المذكور في الجامع الصغير وذكره الكرخي في مختصره وذكر محمد في السير الكبير أنهم يمنعون من دخول المسجد الحرام فإن قلت الدليل ليس بنص في المسألة؛ لأن المذكور دخول الذمي، والدليل يفيد جواز دخول الذمي بالأولى فأفاد المطلوب وزيادة بالنص وظهر أن قول المؤلف ‏"‏ ذمي ‏"‏ مثال وليس بقيد ولهذا عبر محمد في كتبه بلفظ الكافر ليفيد العموم وفي الذخيرة إذا قال الكافر من أهل الحرب أو من أهل الذمة‏:‏ علمني القرآن فلا بأس بأن يعلمه ويفقهه في الدين قال القاضي علي السغدي إلا أنه لا يمس المصحف فإن اغتسل ثم مسه فلا بأس به وعلم من هذه المسألة أن المسلم الطاهر من الجنابة إذا اعتاد المرور في المسجد لينظر ما فيه من العبادة أو قرآن أو ذكر أو ليذكره بالصلاة لا يأثم ولا يفسق وقولهم ‏"‏ معتاد المرور يأثم ويفسق ‏"‏ محمول على ما إذا اعتاد ذلك من غير استحلال الدخول، أو جعله طريقا من غير ضرورة والدليل على هذا التفصيل وصفه بالإثم والفسق ا هـ‏.‏ قال محمد رحمه الله تعالى‏:‏ يكره الأكل والشرب في أواني المشركين قبل الغسل ومع هذا لو أكل أو شرب فيها جاز إذا لم يعلم بنجاسة الأواني وإذا علم حرم ذلك عليه قبل الغسل، والصلاة في ثيابهم على هذا التفصيل ولا بأس بطعام اليهود والنصارى من أهل الحرب ولا فرق بين أن يكونوا من بني إسرائيل أو من نصارى العرب ولا بأس بطعام المجوس كلها إلا الذبيحة وفي التتمة يكره للمسلم دخول البيعة والكنيسة؛ لأنها مجمع الشياطين‏.‏ ا هـ‏.‏

قال رحمه الله‏:‏‏.‏ ‏(‏وعيادته‏)‏ يعني تجوز عيادة الذمي المريض لما روي أن «يهوديا مرض بجوار النبي صلى الله عليه وسلم فقال قوموا بنا نعود جارنا اليهودي فقاموا ودخل النبي صلى الله عليه وسلم وقعد عند رأسه، وقال له‏:‏ قل أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله فنظر المريض إلى أبيه فقال أجبه فنطق بالشهادة فقال صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي أنقذ بي نسمة من النار» الحديث ولأن العيادة نوع من البر وهي من محاسن الإسلام فلا بأس بها ويرد السلام على الذمي ولا يزده على قوله وعليك؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يزده على ذلك ولا يبدؤه بالسلام؛ لأن فيه تعظيما له فإن كان له إليه حاجة فلا بأس ببداءته، ولا يدعو له بالمغفرة ويدعو له بالهدى ولو دعا له بطول العمر قيل‏:‏ يجوز؛ لأن فيه نفعا للمسلمين بالجزية وقيل‏:‏ لا يجوز وعلى هذا الدعاء بالعافية، وهذا إذا كان من أهل الكتاب ولو كان مجوسيا لا يعوده؛ لأنه أبعد عن الإسلام وقيل‏:‏ يعوده لأن فيه إظهار محاسن الإسلام وترغيبه فيه واختلفوا في عيادة الفاسق والأصح أنه لا بأس به؛ لأنه مسلم والعيادة في حق المسلمين وإذا مات الكافر قيل لوالده أو لقريبه في تعزيته ‏"‏ أخلف الله عليك خيرا منه، وأصلحك ورزقك ولدا مسلما ‏"‏؛ لأن الجزية تطهر، ويقول في تعزية المسلم‏:‏ أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك ورحم ميتك، وأكثر عددك وفي النوازل‏:‏ ولا بأس بأن يصل الرجل المسلم المشرك قريبا كان أو بعيدا محاربا كان أو ذميا، وأراد بالمحارب المستأمن فأما إذا كان غير مستأمن فلا ينبغي له أن يصله بشيء وفي الذخيرة إذا كان حربيا في دار الحرب وكان الحال حال صلح فلا بأس بأن يصله واختلفوا هل يكره لنا أن نقبل هدية المشرك أو لا نقبل، ذكر فيه قولان وفي فتاوى أهل سمرقند‏:‏ مسلم دعاه نصراني إلى داره ضيفا حل له أن يذهب معه وفي النوازل المجوسي أو النصراني إذا دعا رجلا إلى طعام تكره الإجابة وإن قال اشتريت اللحم من السوق فإن كان الداعي يهوديا فلا بأس‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وخصي البهائم‏)‏ يعني يجوز لأنه عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ضحى بكبشين أملحين موجوءين» والموجوء هو الخصي ولأن لحمه يطيب به، ويترك النكاح فكان حسنا ولك أن تقول الدليل لا يفيد جواز الفعل وإنما يفيد جواز التضحية به ولا يلزم من جواز التضحية جواز الفعل‏.‏ والجواب أن البهائم كانت تكثر في زمنه صلى الله عليه وسلم فتكوى بالنار لأجل المنفعة للمالك فكذا يجوز هذا الفعل لتعود المنفعة للمالك وفي الصحاح جمع خصي هو خصا بكسر الخاء والرجل خصي وخصية ا هـ‏.‏ قال العيني والخصيان بضم الخاء جمع خصي وفي المحيط أن الأصل إيصال الألم إلى الحيوان لمصلحة تعود إلى الحيوان يجوز ولا بأس بكي البهائم للعلامة ويكره كسب الخصي من بني آدم، وقتل النملة قيل لا بأس به مطلقا وقيل إن بدأت بالأذى فلا بأس به وإن لم تبتدئ يكره وهو المختار ويكره إلقاؤها في الماء وقتل القملة يجوز بكل حال‏.‏ قرية فيها كلاب كثيرة ولأهل القرية منها ضرر يؤمر أرباب الكلاب بأن يقتلوا كلابهم؛ لأن دفع الضرر واجب وإن أبوا ألزمهم القاضي ولا ينبغي أن يتخذ في بيته كلبا إلا كلب الحراسة‏.‏ الهرة إذا كانت مؤذية يذبحها بالسكين ويكره ضربها وفرك أذنها‏.‏ ا هـ‏.‏ وأطلق المؤلف في البهائم فشمل الخيل وفي الخانية ويكره خصي الفرس وذكر شمس الأئمة في شرحه أن خصي الفرس حرام ا هـ‏.‏ وفي الخانية لا بأس بثقب أذن الطفل ا هـ‏.‏ وفي النوازل يقلم الظفر يوم الجمعة لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من قلم أظافيره يوم الجمعة أعاذه الله من البلاء إلى الجمعة الأخرى» وزيادة ثلاثة أيام ولو قلم أظافيره أو جز شعره يجب أن يدفن وإن رماه فلا بأس به وإن رماه في الكنيف أو المغتسل فهو مكروه وفي الفتاوى العتابية يدفن أربعة الظفر والشعر وخرقة الحيض والدم وينبغي للرجل أن يأخذ من شاربه حتى يوازي الطرف العليا من الشفة ويصير مثل الحاجب وهذا كله إذا لم يكن في دار الحرب فإن كان في دار الحرب يندب تطويل الأظفار ويندب تطويل الشعر ليكون أهيب في عين العدو وفي التتمة حلق شعر صدره وظهره فيه ترك الأدب وفي الملتقط يقبض على لحيته فإن زاد على قبضة جزه ولا بأس إذا طالت لحيته أن يأخذ من أطرافها وفي المضمرات‏:‏ ولا بأس بأن يأخذ الحاجبين وشعر وجهه ما لم يشبه المخنث وفي الذخيرة ولا بأس للرجل أن يحلق وسط رأسه ويرسل شعره من غير أن يفتله فإن فتله فهو مكروه لأنه يشبه بعض الكفرة وإذا حلقت المرأة شعر رأسها فإن كان لوجع أصابها فلا بأس به وإن حلقت تشبه الرجال فهو مكروه وإذا وصلت شعرها بشعر غيرها فهو مكروه واختلفوا في جواز الصلاة منها في هذه، والمختار أنه يجوز وإن لم يكن للعبد شعر في لحيته فلا بأس للتجار أن يشعروا على جبهته؛ لأنه يوجب زيادة في القيمة وفي جامع الجوامع حلق العانة بيده وإن حلق الحجام جاز إذا غض بصره ويجوز للمرأة أن تلقي الأذى عن وجهها ا هـ‏.‏ وفي النوادر‏:‏ امرأة حامل اعترض الولد في بطنها ولا يمكن إلا بقطعه أرباعا ولو لم يفعل ذلك يخاف على أمه من الموت فإن كان الولد ميتا في البطن فلا بأس به وإن كان حيا لا يجوز؛ لأن إحياء نفس بقتل نفس أخرى لم يرد في الشرع‏.‏ امرأة حامل ماتت فاضطرب الولد في بطنها فإن كان أكبر رأيه أنه حي يشق بطنها؛ لأن ذلك تسبب في إحياء نفس محترمة بترك تعظيم الميت فالإحياء أولى ويشق بطنها من الجانب الأيسر ولو لم يشق بطنها حتى دفنت ورئيت في المنام أنها قالت‏:‏ ولدت لا ينبش القبر؛ لأن الظاهر أنها ولدت ولدا ميتا‏.‏ امرأة عالجت في إسقاط ولدها لا تأثم ما لم يستبن شيء من خلقه‏.‏ وعن محمد رجل ابتلع درة أو دنانير لآخر فمات المبتلع ولم يترك مالا فعليه القيمة ولا يشق بطنه؛ لأنه لا يجوز إبطال حرمة الميت لأجل الأموال ولا كذلك المسألة المتقدمة ونقل الجرجاني شق بطنه للحال؛ لأن حق الآدمي مقدم على حق الله تعالى إن كان حرمة الميت حقا لله تعالى وإن كان حق الميت فحق الآدمي الحي مقدم على حق الميت لاحتياج الحي إلى حقه‏.‏ نعامة ابتلعت لؤلؤة للغير أو دخل قرن شاة في قدر الباقلاني وتعذر إخراجه ينظر إلى أيهما أكثر قيمة فيقدم على غيره ولذا لو دخلت دابة في دار ولا يمكن إخراجها إلا بهدم الدار ينظر إلى أيهما أكثر قيمة فيقدم على غيره فيهدم الآخر أو تذبح ولا بأس بإلقاء النيلق في الشمس لتموت الديدان التي فيه؛ لأن فيه منفعة الناس قال محمد في السير الكبير لا بأس بالتداوي بالعظم إذا كان عظم شاة أو بقر أو بعير أو فرس أو غيره من الدواب إلا عظم الخنزير والآدمي فإنه لا يمكن التداوي بهما ولا فرق فيما يجوز بين أن تكون ذكيا أو ميتا رطبا أو يابسا‏.‏ وفي الذخيرة رجل سقط سنه فأخذ سن الكلب فوضعه في موضع سنه فثبتت لا يجوز ولا يقطع ولو أعاد سنه ثانيا وثبت قال‏:‏ ينظر إن كان يمكن قلع سن الكلب بغير ضرر يقلع وإن كان لا يمكن إلا بضرر لا يقلع وفي التتمة يتخذ الدواء من الضفدع ولو أكلت المرأة شيئا لسمن نفسها لزوجها لا بأس به وفي النوازل مرض الرجل فقال له الطبيب‏:‏ أخرج الدم فلم يخرجه حتى مات لا يكون مأجورا ولو ترك الدواء حتى مات لا يأثم وفي الخلاصة صام وهو غير قادر على الصيام حتى مات أثم وفي الخانية جامع ولم يأكل وهو قادر على الأكل كان آثما فرض عليه أن يأكل مقدار قوته‏.‏ التداوي بالخمر إذا أخبره طبيب حاذق أن الشفاء فيه جاز فصار حلالا وخرج عن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لم يجعل الله شفاء أمتي فيما حرم عليهم» لأنه صار كالمضطر وفي النوازل رجل أدخل المرارة في أصابعه للتداوي قال أبو حنيفة يكره وقال أبو يوسف يجوز والفقيه أبو الليث اختار قول أبي يوسف، وفي الخانية وعلى هذا الخلاف شرب بول ما يؤكل لحمه للتداوي وفي النوازل العجين إذا وضع على الجرح للتداوي وعرف أن التداوي به لا بأس به وفي السراجية وتعليق الحجاب لا بأس به وينزعه عند الخلاء والقربان وأفتى بعضهم بأن هذا فعل العوام والجهال‏.‏ الاكتحال في يوم عاشوراء لا بأس به، ضرب الدفاف على الأبواب أيام النيروز لا يحل بل هو مكروه وفي الغياثية الحجامة بعد نصف الشهر حسن نافع جدا ويكره قبل نصف الشهر وفي فتاوى أهل سمرقند إذا عزل الرجل عن امرأته بغير رضاها في هذا الزمن لخوف سوء الولد لا بأس به‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وإنزاء الحمير على الخيل‏)‏ لأنه عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ركب البغل واقتناه» ولو حرم لما فعل ولأن فيه فتح بابه وما ورد فيه من النهي كان لأجل تكثير الخيل ولا يخفى أن الدليل لا يفيد المدعى لأن غايته أن يفيد جواز الركوب ولا يلزم منه جواز الإنزاء والجواب لما كان هذا الفعل في زمنه ظاهرا والظاهر أنه بلغه ولم ينه عنه دل على الجواز‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏وقبول هدية العبد التاجر وإجابة دعوته واستعارة دابته و كره كسوته الثوب وهديته النقدين‏)‏ يعني يجوز قبول هديته إلى آخر ما ذكر ويكره كسوته الثوب وهديته النقدين وهذا هو الاستحسان والقياس أن لا يجوز الكل؛ لأنه تبرع والعبد ليس من أهله لكن جوز ما ذكر لتعامل الناس به «وقبوله صلى الله عليه وسلم هدية سلمان الفارسي قبل عتقه» «وقبل هدية بريرة وقال هو لها صدقة ولنا هدية» لا يقال هذا الحكم قد علم مما ذكر في كتاب المأذون لأنا نقول‏:‏ هو كذلك لكن ذكر هنا بطريق الاستطراد لأن هذا محل بيان ما يجوز وما يكره، ويكره للمقرض أن يقبل هدية من أقرضه إذا كانت مشروطة في القرض أو يعلم إنما أهداها لأجل القرض ولو لم يكن مشروطا ولم يعلم أنه لأجل الدين لم يكره، وأما هدايا الأمراء في زماننا قال الشيخ محمد بن الفضل‏:‏ ترد على أربابها وقال الإمام أبو بكر محمد بن حامد توضع في بيت المال، وذكر محمد بن الفضل أن المذهب وضعها في بيت المال لكن تركت ذلك خوفا أن يصرفها الأمراء إلى شهوات ولهوات وكان الشيخ أبو القاسم الحكيم يقبل هدية السلطان ويأخذها فقيل له أيحل أن نقبل هديته قال‏:‏ إن خلطتها بدراهم أخر فلا بأس به وإن كان غير المغصوب من غير خلط لم يجز وفي النوازل إذا ناول لقمة من الطعام لغيره يعتبر في ذلك تعامل الناس فإن علم أن رب الطعام يرضى بذلك حل وإن علم أنه لا يرضى بذلك حرم وفي الخلاصة لو ناول الخادم الذي على رأس المائدة جاز، وأما رفع الطعام من بيته لمكان آخر فلا يحل إلا أن يأذن له صاحب الطعام في ذلك ويستحب للضيف أن يجلس حيث يجلس ويرضى بما قدم له، وأن لا يقوم إلا بإذن صاحب البيت، وأن يدعو له إذا خرج من بيته، ولا يكثر صاحب المنزل السكوت عن الأضياف، ويستحب أن يخدم الضيف بنفسه لما روي عن قصة إبراهيم عليه السلام وفي الخانية لأب الصغير أن يهدي لمعلمه شيئا في الأعياد، ويستحب أن يأكل ما سقط من المائدة‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏واستخدام الخصي‏)‏ أي يكره استخدامه؛ لأن فيه تحريض الناس على الخصي وهو مثلة وحرام وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقدمنا شيئا من أحكامه في الكلام على خصي البهائم‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏والدعاء بمعقد العز من عرشك‏)‏ وفيها عبارتان بمعقد وبمقعد فالأولى من العقد والثانية من العقود تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فإنه يوهم أن عزه متعلق بالعرش والعرش حادث وما تعلق به يكون حادثا ضرورة والله سبحانه وتعالى عال عن صفات الحدوث بل عزه قديم، وأورد عليه بعض المتأخرين أن حدوث تعلق صفته تعالى بشيء حادث لا يوجب حدوث تلك الصفة لعدم توقفها على ذلك التعلق فإن صفة العز ثابتة لها أزلا وأبدا، وعدم تعلقه بالعرش الحادث قبل خلعه لا يستلزم انتفاء عزه ولا نقصانا فيه كما أن تعلق كمال قدرته في هذا العالم العجيب الصنع قبل خلقه لا يوجب عدم قدرته أو نقصا فيه وبالجملة التعلقات الحادثة بظاهر الصفات لا مبادي لها ولك أن تجيب عن ذلك بأن مشايخنا إنما هربوا عنه ليس إلا لإيهام مطلق تعلق عزه بالمحدث، إذ قد تقرر في أصول الدين أن ظهور المحدثات كلها وبروزها من العدم إلى دائرة الوجود بحسب تعلق إرادة الله وقدرته بذلك والحدوث إنما هو في التعلقات دون أصل الصفات وإنما مرادهم بما هربوا عنه إيهام تعلق عز الله تعالى بالمحدث تعلقا خاصا وهو أن يكون ذلك المحدث مبتدأ أو منشأ لعزة الله تعالى كما يوهم كلمة ‏"‏ من ‏"‏ في عرشه ولا شك أن التعلق بالمحدث على الوجه الخاص المذكور غير متصور في عزة الله تعالى ولا في صفة من صفات الله تعالى أصلا قال أبو يوسف لا بأس أن يقول ذلك في دعائه وبه أخذ الفقيه أبو الليث؛ لأنه ورد أنه عليه الصلاة والسلام‏:‏ «كان يقول أسألك بمقعد العز من عرشك» والاحتياط الامتناع عن ذلك لكونه خبر واحد مخالف للقطعي‏.‏ رجل ذكر الله في مجلس الفسق، وأراد بذلك أن يشتغل بالتسبيح عما هم فيه فهو أحسن، وأفضل‏.‏

وفي الخلاصة ويثاب كمن سبح الله تعالى في السوق، وأراد بذلك أن الناس يشتغلون بأمر الدنيا وهو يشتغل بالتسبيح ولو فتح التاجر السلعة فصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وأراد بذلك إعلام المشتري جودة ثوبه فذلك مكروه بخلاف العالم إذا قال في علمه صلوا على النبي صلى الله عليه وسلم أو قال قارئ القوم كبروا حيث يثاب وفي الخلاصة الفقيه هل يصلي صلاة التسبيح‏؟‏ قال‏:‏ ذلك طاعة العامة، قيل له‏:‏ فلان الفقيه يصليها قال هو عندي من العامة وفي الغياثية وردت الأخبار بتفضيل بعض السور والآيات على بعض كآية الكرسي ونحوها واختلفوا في معنى الأفضل قال بعض‏:‏ إن ثواب قراءتها أفضل وقيل بأنها للقلب أيقظ وهذا أقرب إلى الصواب والأفضل أن لا يفضل بعض القرآن على بعض، كره بعض المشايخ التصدق على الذي يقرأ القرآن في الأسواق زجرا له، والتسبيح والتهليل من الذي يسأل في الأسواق نظير القرآن ويكره التصدق على الذي يسأل الناس في المساجد زجرا له ويكره أن يقرأ القرآن في المخرج والمغتسل والحمام وموضع النجاسات وفي المسلخ والمذبح إلا حرفا‏.‏ وفي النوازل‏:‏ قراءة القرآن عند المقابر إذا أخفاها لا يكره وإن جهر بها يكره والشيخ محمد بن إبراهيم قال لا بأس أن يقرأ سورة الملك على المقابر سواء أخفاها أو جهر بها أما غيرها فلا يقرؤها لورود الآثار بسورة الملك وعن أبي بكر بن أبي سعيد يستحب زيارة القبر وقراءة سورة الإخلاص سبع مرات فإن كان الميت غير مغفور له غفر له وإن كان مغفورا له غفر لهذا القارئ ووهبت ذنوبه للميت وفي التتارخانية‏:‏ رجل مات فأجلس وارثه رجلا على قبره يقرأ القرآن قال بعضهم يكره والمختار أنه لا يكره والأشبه أنه ينتفع الميت وفي الخانية أن قراءة القرآن عند القبور إن نوى أن يؤانسهم بصوته يقرأ وإن لم يقصد ذلك فالله سبحانه وتعالى يسمع القرآن حيث كان قوم يقرءون القرآن في المصاحف، أو رجل دخل عليه واحد فقام له فإن كان عالما أو أباه أو أستاذه الذي علمه القرآن جاز أن يقوم له وغير ذلك لا يجوز وفي فتاوى أهواز لا بأس بأن يقرأ القرآن إذا وضع جنبه على الأرض وينبغي أن يضم رجليه عند القراءة، وأن يخرج رأسه إذا غطى رأسه باللحاف وإذا قرأ آية أو سورة فعليه أن يستعيذ بالله، وأن يتبع ذلك بالبسملة قبل القراءة‏.‏ وفي فتاوى أهل سمرقند إذا كان يقرأ القرآن فسمع المؤذن أنه يرد عليه بقلبه وعن محمد أنه يمضي إلى قراءته ولا يلتفت إليه وفي التتمة سأل الخجندي عن إمام يقرأ مع جماعة كل غداة بعد فراغ صلاته جاهرا آية الكرسي وشهد الله وآخر سورة البقرة هل يجوز ذلك قال‏:‏ يجوز والأفضل الإخفاء قال السغناقي ابن الحنفية قال الدعاء أربعة دعاء رغبة، ودعاء رهبة، ودعاء تضرع، ودعاء خفية ففي دعاء الرغبة يجعل بطون كفيه إلى السماء وفي دعاء الرهبة يجعل ظهورها إلى وجهه كالمستغيث من الشيء وفي دعاء التضرع يعقد الخنصر والبنصر ويحلق الإبهام والوسطى ويشير بالسبابة وفي دعاء الخفية يفعل ما يفعل المرء في نفسه وفي التتمة لا يقول الرجل‏:‏ أستغفر الله، وأتوب إليه ولكن يقول‏:‏ أستغفر الله وأسأله التوبة قال أبو جعفر الطحاوي لا بأس به وفي الفتاوى الغياثية وما جاء في الحديث‏:‏ «اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرا» والمراد والله أعلم كافر النعمة لا كافر الديانة قال الصدر الشهيد وهو الصحيح وفيها قال أبو نصر الدبوسي‏:‏ وعليه الفتوى ولو أراد أن يصلي ويقرأ القرآن وخاف أن يدخل عليه الرياء لا يترك الصلاة والقراءة لأجل ذلك وكذا في جميع الفرائض وفي التتارخانية وإذا سال الدم من الأنف فكتب الفاتحة بالدم على الفم والوجه جاز للاستشفاء والمعالجة ولو أراد أن يكتب ذلك بالبول لم ينقل ذلك عن المتقدمين وقيل لا بأس به إذا علم به الشفاء‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏وبحق فلان‏)‏ يعني لا يجوز أن يقول بحق فلان عليك وكذا بحق أنبيائك، وأوليائك ورسلك والبيت والمشعر الحرام لأنه لا حق للمخلوق على الخالق وإنما يخص برحمته من يشاء من غير وجوب عليه ولو قال رجل لغيره‏:‏ بحق الله أو بالله افعل كذا لا يجب عليه أن يأتي بذلك شرعا ويستحب أن يأتي بذلك وفي التتارخانية وجاء في الآثار ما يدل على جواز ذلك‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏واللعب بالشطرنج والنرد وكل لهو‏)‏ يعني لا يجوز ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «كل لعب ابن آدم حرام إلا ثلاثا ملاعبة الرجل أهله وتأديبه لفرسه ومناضلته لقوسه» وأباح الشافعي الشطرنج من غير قمار ولا إخلال بالواجبات؛ لأنه يذكي الأفهام، والحجة عليه ما روينا، والأحاديث الواردة في ذلك هي كثيرة شهيرة فتركنا ذكرها لشهرتها وفي المحيط ويكره اللعب بالشطرنج‏.‏ والنرد والأربعة عشر؛ لأنها لعب اليهود ويكره استماع صوت اللهو والضرب به والواجب على الإنسان أن يجتهد ما أمكن حتى لا يسمع ولا بأس بضرب الدف في العرس وسئل أبو يوسف عن الدف في غير العرس بأن تضرب المرأة في غير فسق للصبي قال لا بأس بذلك وفي الذخيرة لا بأس بالغناء في الأعياد وفي السراجية وقراءة الأشعار إذا لم يكن فيه ذكر الفسق والغلام لا يكره‏.‏ وفي الكافي مستأجر الدار إذا ظهر منه الفسق بأن يجمع الناس على شرب الخمر يمنع فإذا لم يمتنع يخرج ولم ير الإمام رحمه الله بالسلام عليه بأسا ليشغله عما هو فيه وكره أبو يوسف السلام تحقيرا له ا هـ‏.‏ رجل يدعوه الأمير فيسأله عن أشياء فيتكلم بما يوافق الحق يناله منه المكروه لا ينبغي له أن يتكلم إلا بالحق إلا أن يخاف القتل أو إتلاف عضو، وأن يأخذ ماله ولو مر على قوم وفيهم أهل الذمة أو كافر قال بعضهم‏:‏ يقول‏:‏ السلام على من اتبع الهدى والصحيح أنه يقول السلام عليكم وينوي المسلمين في قلبه وفي التتارخانية إذا استقبل المسلم أخاه فسلم عليه يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وفي النوازل إذا أتى بيت غيره لا يدخل حتى يؤذن له فإن أذن له يدخل ويسلم عليه ورد السلام واجب واختلفوا في أيهما أفضل البادئ أو الراد الراد أكثر أجرا والأفضل أن يأتي بالواو بأن يقول‏:‏ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وفي فتاوى أهواز السلام سنة على الراكب للراجل في طريق عام أو مفازة فإذا التقيا فأفضلهما الأسبق بالسلام فإذا التقى الرجل بالمرأة يبدأ الرجل بالسلام وإن بدأت فيرد عليها السلام إن كانت عجوزا فبلسانه وإن كانت شابة فبالإشارة قال الفقيه أبو الليث‏:‏ إذا دخل الفقيه على غيره ولم يسلم أثموا وفي الغياثية يكره السلام بالسبابة والسنة أن يسلم عليهم بلفظ الجمع ولو كان المسلم عليه واحدا واختلفوا في السلام على الصبيان قال بعضهم‏:‏ لا يسلم - وهو قول الحسن، وقال بعضهم‏:‏ يسلم وهو الأفضل وبه أخذ الفقيه أبو الليث وإذا رد واحد من القوم السلام سقط عن الباقين وفي الصيرفية دخل على زوجته لا يسلم عليها بل هي تسلم عليه فإن لم يكن في البيت أحد فيقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ولو مر على المقابر يقول‏:‏ السلام عليكم أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع ا هـ‏.‏ وفي الخانية ويكره أن يسلم على من هو في الخلاء ولا يرد عليه السلام وكذا الآكل والقارئ والمشتغل بالعلم وكذا في الحمام إن كان مكشوف العورة وقال البقالي‏:‏ إذا قال لآخر‏:‏ أقرئ فلانا عني السلام يجب عليه أن يفعل‏.‏ تشميت العاطس إذا كان خارج الصلاة السنة في حق العاطس أن يقول الحمد لله رب العالمين أو على كل حال، ولمن حضر أن يقول‏:‏ يرحمك الله فيرد عليه العاطس فيقول يغفر الله لك أو يهديك وإذا عطست المرأة فلا بأس بتشميتها إلا أن تكون شابة وإذا عطس الرجل فشمتته المرأة فإن كانت عجوزا يرد عليها وإن كانت شابة يرد في قلبه والجواب في هذا كالجواب في السلام‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏وجعل الراية في عنق العبد‏)‏ أي لا يجوز لك قال الشارح وصورته أن يجعل في عنقه طوقا مسمرا بمسمار عظيم يمنعه أن يحول رأسه وهو معتاد بين الظلمة وهو حرام؛ لأن عقوبة الكافر تحرم كالإحراق بالنار وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «‏:‏ كل محدث بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» ا هـ‏.‏

قال في العيون رجل اغتاب أهل قرية لم تكن غيبة حتى يسمي قوما بأعيانهم وفي فتاوى أهل سمرقند ذكر مساوئ أخيه المسلم على وجه الاهتمام به ليس بغيبة وعلى وجه النقص يكون غيبة وإذا كان الرجل يصلي ويؤذي الناس بيده ولسانه لا غيبة في ذكر ما فيه وإذا أعلم السلطان ليزجره فلا إثم عليه واختلف أصحابنا في معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله تعالى مالا فهو ينفقه في طاعة الله ورجل آتاه الله علما فهو يعلم الناس ويقضي به» قال شيخ الإسلام ظاهر الحديث إباحة الحسد في هذين الأمرين لأنه استثناء من المحرم فيكون مباحا وقال غيره‏:‏ الحسد حرام في هذين كما هو حرام في غيرهما وإنما معنى الحديث لو كان الحسد جائزا لجاز في هذين الأمرين ومعنى الحسد المذموم أن يرى على غيره نعمة فيتمنى زوال تلك النعمة عن ذلك الغير وتمنى ذلك لنفسه أما لو تمنى لنفسه مثلها لا يكون حسدا بل يسمى غبطة ا هـ‏.‏ وفي النهاية الراية علامة أنه آبق ولا بأس به في زماننا لغلبة الإباق خصوصا في الهنود وكان في زمانهم مكروها لقلة الإباق‏.‏ ا هـ‏.‏ وفي السراجية ويكره أن يغل يديه ولو كان الرجل يقوم ويوزع المظالم من الإمام بالعدل والإنصاف كان مأجورا وإن خاف الرجل على نفسه لا بأس به قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وحل قيده‏)‏ يعني جاز قيد العبد احترازا من الإباق والتمرد وهو سنة المسلمين في الفساق‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏والحقنة‏)‏ يعني تجوز للتداوي وجاز أن يظهر إلى ذلك الموضع للضرورة لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لكل داء دواء وإذا أصبت دواء لداء برئ بإذن الله تعالى» رواه مسلم، وأحمد وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لكل داء دواء إلا الهرم فإنه لا دواء له» رواه الترمذي وصححه ومن الناس من كره التداوي لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يدخل من أمتي سبعون ألفا الجنة بغير حساب وهم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون» رواه البخاري ولنا ما قدمنا من الأحاديث ولا جناح على من يتداوى إذا كان يعتقد أن الشافي هو الله تعالى وما ورد من النهي عن الدواء إذا كان يعتقد أن الشفاء من الدواء وهو محل الكراهة قال الشارح ونحن نقول لا يجوز لمثل هذا التداوي ولا فرق بين الرجل والمرأة وإنما يجوز التداوي بالأشياء الطاهرة ولا يجوز بالنجس كالخمر وغيره كما قدمنا والتداوي لا يمنع التوكل ولا بأس بالرقى؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يفعله وما روي من النهي كان محمولا على رقى الجاهلية؛ لأنهم كانوا يرقون بألفاظ كفر وما رواه ابن مسعود أنه عليه الصلاة والسلام قال الرقى والتمائم والتولة شرك محمول على ما ذكرنا قال الأصمعي التولة ضرب من السحر يحبب المرأة إلى زوجها وعن عائشة رضي الله تعالى عنها‏:‏ «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذتين فلما مرض صلى الله عليه وسلم المرض الذي مات فيه جعلت أنفث عليه، وأمس جسده بيده؛ لأنه أبرك من يدي»‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏ورزق القاضي‏)‏ يعني وحل رزق القاضي من بيت المال لأن بيت المال أعد لمصالح المسلمين ورزق القاضي منهم؛ لأنه حبس نفسه لنفع المسلمين «وفرض النبي صلى الله عليه وسلم لعلي لما بعثه إلى اليمن» وكذا الخلفاء من بعده هذا إذا كان بيت المال جمع من حل فإن جمع من حرام وباطل لم يحل؛ لأنه مال الغير يجب رده على أربابه ثم إذا كان القاضي محتاجا فله أن يأخذ ليتوصل إلى إقامة حقوق المسلمين؛ لأنه لو اشتغل بالكسب لما تفرغ لذلك وإن كان غنيا فله أن يأخذ أيضا وهو الأصح لما ذكرنا من العلة ونظرا لمن يأتي بعده من المحتاجين ولأن رزق القاضي إذا قطع في زمان يقطع الولادة بعد ذلك لمن يتولى بعده هذا إذا أعطوه من غير شرط فلو أعطاه بالشرط كان معاقدة وإجارة لا يحل أخذه لأن القضاء طاعة فلا يجوز أخذ الأجر عليه كسائر الطاعات ا هـ‏.‏ ولك أن تقول‏:‏ يجوز أخذ الأجرة عليه كما قالوا الفتوى على جواز أخذ أجرة على تعليم القرآن وغيره كما تقدم في كتاب الإجارة ولا يقال هذا مكرر مع قول المؤلف‏:‏ وكفاية القضاة في باب الجزية؛ لأنا نقول ذلك باعتبار ما يجوز للإمام دفعه وهذا باعتبار ما يجوز للقاضي تناوله فلا تكرار قال الشارح‏:‏ وتسميته رزقا يدل على أنه يأخذ منه مقدار كفايته وعيلته وليس له أن يأخذ أزيد من ذلك وقد جرى الرسم بالإعطاء في أول السنة؛ لأن الخراج كان يؤخذ في أول السنة وهو يعطى منه وفي زماننا يؤخذ الخراج في آخر السنة والمأخوذ عن السنة الماضية في الصحيح وعليه الفتوى ولو أخذ الرزق في أول السنة ثم عزل قبل مضي السنة، رد ما بقي من السنة وقيل هو على الخلاف في الزوجة على ما بينا‏.‏ ا هـ‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏وسفر الأمة وأم الولد بلا محرم‏)‏ يعني يجوز لهما السفر بغير محرم لأن الأمة بمنزلة المحرم لسائر الرجال فيما يرجع إلى النظر والمس على ما بينا وأم الولد والمكاتبة والمدبرة كالأمة لقيام الرق فيهن وكذا معتقة البعض عند الإمام؛ لأنها كالمكاتبة عنده وفي الكافي قالوا هذا في زمانهم لغلبة أهل الصلاح أما في زماننا فلا يجوز لغلبة أهل الفساد ومثله في النهاية معزيا إلى شيخ الإسلام‏.‏ ا هـ‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏وشراء ما لا بد للصغير منه وبيعه للعم والأم والملتقط لو في حجرهم‏)‏ يعني يجوز لهؤلاء الثلاثة أن يشتروا للصغير ويبيعوا ما لا بد منه وذلك مثل النفقة والكسوة ولأنه لو لم يكن لهم ذلك لتضرر الصغير وهو ممنوع، وأصله أن التصرفات على الصغير على ثلاثة أقسام نفع محض فيملكه كل واحد هو في عياله وليا كان أو أجنبيا كالهبة والصدقة ويملكه الصبي بنفسه إذا كان مميزا ونوع هو ضرر محض كالعتاق والطلاق فلا يملكه عليه أحد ونوع متردد بين النفع والضرر مثل البيع والإجارة للاسترباح فلا يملكه إلا الأب والجد ووصيهما سواء كان الصغير في أيديهم أو لم يكن؛ لأنهم يتصرفون عليه بحكم الولاية هكذا في الكافي، واستئجار الظئر من النوع الأول وفيه نوع رابع وهو الإنكاح فيجوز لكل عصبة، ولذوي الأرحام عند عدم العصبات، وقد تقدم بيان ذلك في كتاب النكاح قال في الهداية وإنما يجوز للملتقط أن يقبض الهبة للصغير إذا كان لا أب له قال في النهاية قوله‏:‏ لا أب له ليس بشرط لازم في حق هذا الحكم لأنه ذكر في كتاب الهبة في صغيرة لها زوج هي عنده يعولها ولها أب فوهب لها جاز لزوجها أن يقبض الهبة لقيام ولايته عليها بالعول فثبت أن الأب ليس بلازم كذا ذكره فخر الإسلام وإنما هو قيد اتفاقي ولك أن تقول‏:‏ إن قول الكل ليس بصحيح، إذ الثابت في كتاب الهبة إنما هو ليس بلازم في جواز قبض زوج الصغيرة الهبة لها إذا كانت عنده يعولها لتفويض الأب ذلك له لا أن عدم الأب ليس بلازم مطلقا فيما نحن فيه، وهو جواز قبض الملتقط الهبة والصدقة لتحقق الفرق بين زوج الصغيرة الذي فوض له الأب أمرها وبين غيره فلا يملكون ذلك إلا بعد موت الأب وقال بعض المتأخرين‏:‏ المراد بقول صاحب الهداية لا أب له يعني أبا معروفا وإن كان له أب في قيد الحياة فالحق عندي أن قوله لا أب له قيد احترازي عن اللقيط إذا كان له أب حاضر لا يجوز للملتقط أن يقبض الهبة للصغير ا هـ‏.‏ قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وتؤجره أمه فقط‏)‏ معناه أن الصغير لا يؤجره أحد من هؤلاء الثلاثة إلا الأم فإنها تؤجره إذا كان في حجرها ولا يملكه هؤلاء وهي رواية الجامع الصغير وفي رواية القدوري يجوز أن يؤجره الملتقط ويسلمه في صناعة فجعله من النوع الأول وهذا أقرب فلو أجر الصبي نفسه لا يجوز؛ لأنه مشوب بالضرر إلا إذا فرغ من العمل؛ لأنه نفع محض بعد الفراغ فيجب المسمى وهو نظير العبد المحجور إذا أجر نفسه وقد ذكرناه من قبل فإن كان الصغير في يد العم فأجرته أمه يجوز؛ لأنه من الحفظ وهو قول أبي يوسف، وقال محمد‏:‏ لا يجوز ا هـ‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

‏(‏كتاب إحياء الموات‏)‏

مناسبة هذا الكتاب بكتاب الكراهية يجوز أن يكون من حيث إن هذا الكتاب مشتمل على ما يكره وما لا يكره ويكفي فيها أدنى المناسبة والكلام هنا في وجوه‏:‏ الأول في معناه لغة، والثاني في معناه شرعا، والثالث في شرطه، والرابع في سببه، والخامس في دليله، والسادس في حكمه أما دليله فقوله‏:‏ عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من أحيا أرضا ميتة فهي له»، وأما معناه لغة قال في الصحاح والموات بالفتح ما لا روح فيه والموات أيضا الأرض التي لا مالك لها من الآدميين وفي القاموس الموات كغراب وسحاب ما لا روح فيه والأرض لا مالك لها من الآدميين‏.‏ ا هـ‏.‏ وشرعا ما سيأتي في عبارة المؤلف‏.‏ وسبب المشروعية تعلق البناء المقرر على الوجه الأكمل، وشرطه سيأتي في حكم تملك المحيي ما أحياه قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏وهي أرض تعذر زراعتها لانقطاع الماء عنها أو لغلبته عليها غير مملوكة بعيدة من العامر‏)‏ فقوله ‏"‏ هي أرض ‏"‏ بمنزلة الجنس يشمل ما تعذر وغيره، وقوله ‏"‏ تعذر ‏"‏ أخرج غيره فلا يكون مواتا وقوله ‏"‏ لانقطاع الماء عنها أو لغلبته عليها ‏"‏ بيان لسبب التعذر وقوله ‏"‏ غير مملوكة ‏"‏ أخرج ما كان كذلك وهو مملوك فلا يكون مواتا وقوله ‏"‏ بعيدة عن العامر ‏"‏ أخرج القريبة فلا تكون مواتا قال الشارح وهذا تفسير لموات الأرض وإنما سميت مواتا إذا كانت بهذه الصفة لبطلان الانتفاع بها تشبيها بالميت قال الشارح‏:‏ وأما تفسير الحياة فظاهر قال في العناية والإحياء شرعا أن يكرب الأرض ويسقيها فإن كربها ولم يسقها أو سقاها ولم يكربها فليس بإحياء وفي الكافي لو فعل أحدهما يكون إحياء وعن أبي يوسف الإحياء البناء والغراس أو الكرب أو السقي وعن محمد‏:‏ الكرب الإحياء وفي الغياثية عن محمد الكرب ليس بإحياء إلا أن يبذرها وعن شمس الأئمة الإحياء أن يجعلها صالحة للزراعة وفي الخانية لو بنى في بعض أرض الموات أو زرع فيها كان ذلك إحياء لذلك البعض دون غيره إلا أن يكون ما عمر أكثر من النصف في قول أبي يوسف وقال محمد إذا كان الموات في وسط الإحياء يكون إحياء للكل ا هـ‏.‏ والإحياء لغة الإنبات سواء كان بفعل فاعل من شراء وغير ذلك لا يقال لماذا عرف المؤلف الموات دون الإحياء، والمناسب أن يعرفهما معا؛ لأنا نقول‏:‏ أراد بيان الأكمل وإنما ترك تعريف الإحياء قال الشارح‏:‏ لأنه ظاهر وقوله ‏"‏ غير مملوكة ‏"‏ يعني في دار الإسلام؛ لأن الميت على الإطلاق ينصرف إلى الكامل وكماله بأن لا يكون مملوكا لأحد لأنها إذا كانت مملوكة لمسلم أو ذمي كان ملكه باقيا لعدم ما يزيله فلا يكون مواتا فإذا عرف المالك فهي له وإن لم يعرف كانت لقطة يتصرف فيها الإمام كما يتصرف في اللقطة ولو ظهر لها مالك بعد ذلك أخذها وضمن من زرعها إن نقصت بالزراعة وإلا فلا شيء عليه وقول القدوري فما كان منها عاديا مراده بالعادي ما قدم خرابه كأنه منسوب إلى عاد لخراب عهدهم وجعل المملوك في دار الإسلام إذا لم يعرف له مالك من الموات؛ لأن حكمه كالموات؛ لأنه لا يعرف له مالك بعينه وليس هو مواتا حقيقة على ما بينا وقوله ‏"‏ بعيدة عن العامر ‏"‏ هو قول أبي يوسف‏.‏ والبعيدة أن تكون بحيث لو وقف إنسان في أقصى العامر وصاح بأعلى صوته لم يسمع منه فهو موات وإن كان يسمع فليس بموات؛ لأن أهل العامر يحتاجون إليه لرعي مواشيهم وطرح حصائدهم فلم يكن انتفاعهم به منقطعا وعند محمد يعتبر حقيقة الانتفاع حتى لا يجوز إحياء ما ينتفع به أهل القرية وإن كان بعيدا ويجوز إحياء ما لا ينتفعون به وإن كان قريبا وشمس الأئمة اعتمد قول أبي يوسف وفي التتارخانية إذا عرف أنها كانت مملوكة في الأول ولم يعرف مالكها الآن قال القاضي أبو علي السغدي عن أستاذه الحكم‏:‏ إنه يجوز للإمام أن يدفعها إلى رجل ويأذن له في الإحياء فتصير لمن أحياها وفي نوادر هشام إذا كان بها آثار عمارة من بناء وبئر ولا يعرف مالكها الآن لا يسع لأحد أن يحييها أو يتملكها أو يأخذ منها ترابا وفي رسالة أبي يوسف لهارون الرشيد هي لمن أحياها وليس للإمام أن يخرجها من يده وعليه فيها الخراج، وروى هشام عن محمد في الكفور الخربة والأماكن الخربة إذا رفع الرجل منها التراب، وألقاه في أرضه قال إذا كان القصور والخراب تعرف أنه من بناء قبل الإسلام فهي بمنزلة الموات لا بأس بذلك وإن خربت بعد الإسلام وكان لها أرباب لكن لا يعرفون لا يسع لأحد أن يأخذ منها شيئا؛ لأنها بمنزلة دورهم ا هـ‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏ومن أحياها بإذن الإمام ملكها‏)‏ وهذا قول الإمام وقالا‏:‏ يملك من أحيا ولا يشترط فيه، إذن الإمام لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أحيا أرضا ليست لأحد فهو أحق بها» رواه البخاري ومسلم ولأنه مباح سبقت إليه يده كالاحتطاب والاصطياد وللإمام قوله‏:‏ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه» فإن قلت إن اعتبر عموم هذا الحديث يلزم أن لا يملك أحد شيئا من الأملاك بغير إذن الإمام مع أن الظاهر خلافه كالبيع وغيره قلت عمومه غير معتبر بل هو مختص بما يحتاج فيه إلى رأي الإمام وما نحن فيه من ذلك فإن قلت كون ما نحن فيه يحتاج إلى إذن الإمام هو أول المسألة فيلزم المصادرة ولأن هذه الأراضي كانت في أيدي الكفار فصارت في أيدي المسلمين فكانت فيئا ولا يختص أحد بالفيء بدون إذن الإمام كالغنائم بخلاف المستشهد به فلم يكن فيئا وإذا أحياها فهي له خراجية أو عشرية فهي على ما بينا في السير وبينا الخلاف فيه قال في الهداية ملكها خراجية أو عشرية قال والواجب فيها العشر لأن ابتداء وظيفة المسلم بالخراج إلا إذا استقاها بماء الخراجي لأنه حينئذ يكون فيها الخراج على اختلاف الماء ولو تركها بعد الإحياء وزرعها غيره قيل الثاني أحق بها؛ لأن الأول ملك استغلالها دون رقبتها والأصح أن الأول أحق بها؛ لأنه ملك رقبتها بالإحياء فلا تخرج عن ملكه بالترك ولو أحيا أرضا مواتا ثم أحاط الإحياء بجوانبها الأربعة أربعة نفذ على التعاقب تعين طريق الأول في الأرض الرابعة في المروي عن محمد؛ لأنه لما أحيا الجوانب الثلاثة تعين الجانب الرابع للاستطراق وفي الظهيرية فإن جاء أربعة معا ولم يتقدم أحدهم، وأحيا كل واحد منهم جانبا منها، وأحاطوا بالأربعة جوانب معا فله أن يستطرق من أي أرض شاء إذا كانوا أحيوا جوانبها الأربعة معا هكذا قال والدي‏.‏ ا هـ‏.‏ ويملك الذمي بالإحياء كالمسلم؛ لأنهما لا يختلفان في سبب الملك قال تاج الشريعة فإن قلت ما رواه عام خص منه الحطب والحشيش وما روياه لم يخص فيكون العمل به أولى قلت ما ذكر لبيان أنه لا يجوز الافتيات على رأي الإمام والحشيش والحطب لا يحتاج فيهما إلى رأي الإمام فلم يتناولهما عموم الحديث فلم يصر مخصوصا والأرض مما يحتاج فيها إلى رأي الإمام؛ لأنها صارت من الغنائم بإيجاف الخيل وإرضاع الكلاب كسائر الأموال فكان ما قلنا أولى وفي الخانية في كتاب الزكاة ذكر الناطفي‏:‏ القاضي في ولايته بمنزلة الإمام في ذلك ا هـ‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏وإن حجر لا‏)‏ يعني وإن حجر الأرض لا يملكها به واختلف في كون التحجير يفيد التمليك فمنهم من قال يفيد ملكا مؤقتا إلى ثلاث سنين ومنهم من قال لا يفيد ملكا وهو مختار المصنف وهو الصحيح وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا جاء إنسان آخر قبل مضي ثلاث سنين وأحياها فإنه يملكها على الثاني ولا يملكه على الأول وجه الأول قول عمر رضي الله تعالى عنه ليس للمحتجر حق بعد ثلاث سنين نفى الحق بعد ثلاث سنين فيكون له الحق في ثلاث سنين وجه الثاني أن الإحياء جعلها صالحة للزراعة، والتحجر للإعلام، مشتق من الحجر وهو المنع بوضع حجر أو بحصاد ما فيها من الحشيش والشوك أو بإحراق ما فيها من الشوك وكل ذلك لا يفيد الملك فبقيت مباحة على حالها لكنه هو أولى بها ولا تؤخذ إلا بعد مضي ثلاث سنين فإذا لم يعمرها أخذها منه ودفعها إلى غيره لأنه إنما كان دفعها إليه ليعمرها فتحصل المنفعة للمسلمين بالعشر أو الخراج فإذا لم يحصل المقصود فلا فائدة في تركها في يده نظير الاستباحة وهو بناء السبيل وحفر المعدن في هذا الحكم فإن قلت إذا كان الدفع لأجل العشر أو الخراج فيقتضي هذا الدليل أن للإمام أن يأخذها ويدفعها إلى غيره بعد الإحياء أيضا إذا كان لم يزرعها تحصيلا لمنفعة المسلمين بالعشر أو الخراج قلنا قد ملكها بالإحياء دون التحجر والإمام لا يملك أن يدفع مملوك أحد إلى غيره لانتفاع المسلمين، ويقدر أن يدفع غير المملوك إليه لذلك فافترقا وفي المحيط إذا حفر فيها بئرا أو ساق إليها ماء فقد أحياها زرع أو لم يزرع ولو حفر فيها أنهارا لم يكن إحياء إلا أن يجري فيها ولو حفر فيها ولم يبلغ الماء لم يكن إحياء ويكون تحجيرا‏.‏ ا هـ‏.‏ قناة بين رجلين أحيا أحدهما أرضا ميتة ليس له أن يسقيها من القناة أو يجعل شربه منها لأن هذه الأرض ليس فيها حق في هذا الشرب فليس له ذلك بغير إذن شريكه فإذا حفر رجلان بنفقتهما بئرا في أرض موات على أن يكون البئر لأحدهما والحريم للآخر لم يجز للاصطلاح على غير موجب الشرع فإن الشرع جعل الحريم تبعا للبئر ليتمكن صاحب البئر من الانتفاع وكان الحريم لمالك البئر فإن كان البئر لواحد فالحريم له وإن كان البئر بينهما فالحريم بينهما ولو شرطا على أن يكون البئر لواحد والحريم له وإن كان البئر بينهما على أن ينفق أحدهما أكثر ولا يرجع به فالشرط باطل ويرجع بالزائد؛ لأن الشركة تقتضي المساواة في الأصل والنفقة وفي الغياثية لو أقطع الإمام رجلا أرضا فتركها ثلاث سنين لا يعمر فيها بطل الانتفاع ا هـ‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏ولا يجوز إحياء ما قرب من العامر‏)‏ لتحقق حاجتهم إليه تحقيقا عند محمد أو تقديرا عند أبي يوسف على ما تقدم فصار كالنهر والطريق ولهذا قالوا لا يملك الإمام أن يقطع ما لا غنى للمسلمين عنه كالملح والآبار يستسقي منها الناس ا هـ‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ومن حفر بئرا في موات فله حريمها أربعون ذراعا من كل جانب‏)‏ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من حفر بئرا فله ما حولها أربعون ذراعا عطنا لماشيته» ولأن حافر البئر لا يتمكن من الانتفاع بالبئر إلا بما حولها ولو غرس شجرا في أرض الموات هل يستحق لها حريم لم يذكره محمد في الأصل وقال مشايخنا لها حريم بقدر خمسة أذرع حتى لم يكن لغيره أن يغرس فيها شجرة وللأول منعه وقدر الشارع حريم البئر بأربعين ذراعا ثم قيل الأربعون من الجوانب الأربعة من كل جانب عشرة أذرع؛ لأن ظاهر اللفظ بجميع الجوانب الأربعة والصحيح أن المراد أربعون ذراعا من كل جانب لأن المقصود دفع الضرر عنه كي لا يحفر آخر بئرا بجنبها فيتحول ماء الأولى إلى الثانية ولا يندفع هذا الضرر بعشرة أذرع من كل جانب فيتقدر بأربعين كي لا يتعطل عليه المصالح ولا فرق في ذلك بين أن تكون البئر للعطن أو للناضح عند أبي حنيفة وعندهما إن كان للعطن فأربعون ذراعا وإن كان للناضح فحريمها ستون ذراعا لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «حريم العين خمسمائة ذراع وحريم بئر العطن أربعون ذراعا وحريم بئر الناضح ستون ذراعا» ولأن استحقاق الحريم باعتبار الحاجة، وحاجة بئر الناضح أكثر؛ لأنه يحتاج إلى موضع يسير فيه الناضح وهو البعير وقد يطول الرشا وفي بئر العطن يستقي بيده ولا بد من التفاوت بينهما وله ما روينا من غير فصل ومن أصله العام المتفق على قبوله والعمل به يرجح على الخالص المختلف في قبوله والعمل به وبهذا رجح قوله‏:‏ عليه الصلاة والسلام ما أخرجته الأرض ففيه العشر على قوله وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة لا يقال المراد بذكر العطن ساقية عطنا للمناسبة لأنا نقول‏:‏ ذكر العطن فيه للتغليب لا للتقييد ولأنه يستسقي من بئر العطن بالناضح باليد فاستوت الحاجة فيهما ولأنه يمكن أن يدير البعير حول البعير فلا يحتاج إلى الزيادة والتقدير بالأربعين قول الإمام وعندهما بقدر ستين ذراعا وبه يفتى وفي الينابيع ومن احتاج إلى أكثر من ذلك يزاد عليه ا هـ‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وحريم العين خمسمائة ذراع‏)‏ لما روينا ولأن العين تستخرج للزراعة فلا بد من وطن يستقر فيه الماء ومن موضع يجري فيه إلى الزراعة وقدر الشارع بخمسمائة ولا مدخل للرأي في المقادير ثم قيل الخمسمائة من الجوانب الأربعة من كل جانب مائة وخمسون ذراعا والأصح أن الخمسمائة ذراع من كل جانب والذراع هو المكسر وهو ست قبضات وكان ذراع الملك سبع قبضات فكسر منه قبضة وفي الكافي قيل إن التقدير في البئر والعين بما ذكرنا لصلابتهما وفي أراضينا يزاد على ذلك لرخاوة الأرض كي لا يتحول الماء إلى الثانية فتعطل الأولى قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ومن حفر في حريمها يمنع منه‏)‏ لأنه صار ملكا لصاحب البئر ضرورة لتمكنه من الانتفاع فكان الحافر متعديا بالحفر في ملك غيره فإذا حفر كان للأول أن يمنعه لما ذكرنا والحفر ليس بقيد قال في الخانية ولو بنى الثاني في حريم الأول كان له أن يمنعه ولو أراد الأول أن يأخذ الثاني بحفره كان له ذلك؛ لأنه أتلف ملكه بالحفر ثم اختلفوا فيما يؤاخذ به قيل بكسبه؛ لأنه إزالة بتعديه كما لو وضع شيئا في ملك غيره وقيل يضمنه النقصان ويكنس الأول ما حفره بنفسه كما إذا هدم جدار غيره كان لصاحبه أن يؤاخذه بقيمته لا ببناء الجدار وهو الصحيح وفي العناية طريق معرفة النقصان أن يقوم الأول قبل حفر الثاني وبعده فيضمن نقصان ما بينهما وما عطب في البئر الأول فلا ضمان عليه لأنه غير متعد في حفره أما إذا كان بإذن الإمام فظاهر وكذا إذا كان بغير إذنه عندهما، وأما عنده فيجعل الحفر تحجيرا وله ذلك بغير إذن الإمام وإن لم يثبت له الملك إلا بإذنه وما عطب في الثانية فهو مضمون على الثاني؛ لأنه متعد في حفره في ملك غيره ولو حفر الثاني بئرا في منتهى حريم الأول بإذن الإمام فذهب ماء البئر الأولى وتحول إلى الثانية فلا شيء عليه لأنه غير متعد في ذلك والماء الذي تحت الأرض غير مملوك لأحد فلا يكون له المحاصة بسببه كمن بنى حانوتا في جنب حانوت غيره فكسد الأول بسببه وللثاني في الحريم من الجوانب الثلاثة دون الأول بسبق ملك الأول فيه‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏وللقناة حريم بقدر ما يصلحه‏)‏ والقناة مجرى الماء تحت الأرض ولم يقدر حريمه بشيء يمكن ضبطه وعن محمد هو بمنزلة البئر في استحقاق الحريم وقيل هذا قولهما وعند الإمام لا حريم له ما لم يظهر على وجه الأرض؛ لأنه نهر في الحقيقة فتعتبر بالنهر قالوا عند ظهور الماء بمنزلة عين فوارة فيقدر حريمها بخمسمائة ذراع ا هـ‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏وما عدل عنه الفرات ولم يحتمل عوده إليه فهو موات‏)‏؛ لأنه ليس في ملك أحد وجاز إحياؤه إذا لم يكن حريما لعامر قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وإن احتمل عوده إليه لا‏)‏ يعني لا يكون مواتا لتعلق حق العامة فيه على تقدير رجوع الماء إليه؛ لأن الماء حقهم لحاجتهم إليه ا هـ‏.‏ قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏ولا حريم للنهر‏)‏ وهذا قول الإمام وقالا له حريم من الجانبين؛ لأن استحقاق الحريم للحاجة وصاحب النهر يحتاج إليه كصاحب البئر والعين؛ لأنه يحتاج إلى الشيء على حافتي النهر ليجري الماء إذا حبس بشيء وقع فيه، إذ لا يمكنه المشي في وسط الماء وكذا يحتاج إلى موضع يلقي عليه الطين عند الكرب وفي الكبرى والفتوى على قول أبي يوسف وهذا إذا حفر النهر في أرض الموات وفي الكافي ومن كان له نهر في أرض غيره فليس له حريم عند الإمام إلا أن يقيم البينة على ذلك وقالا له ممشاة النهر ويمشي عليها ويلقي عليها طينه وفي السراجية قال حسام الدين والصحيح أنه يستحق الحريم وفي الفتاوى نهران بين قريتين وقع الاختلاف في حريمهما فما كان مشغولا بتراب أحد النهرين فهو في أيدي أهل ذلك النهر والقول في ذلك القدر لهم فلا يصدق الآخرون إلا ببينة وما كان بين النهرين ولم يكن مشغولا بتراب أحدهما فهو بين أهل القريتين إلا أن يقيم أحدهما البينة أنه له خاصة قال الشارح دليل الإمام أن استحقاق الحريم في البئر والعين ثبت نصا بخلاف القياس فلا يلحق بهما ما ليس في معناهما ألا ترى أن من بنى قصرا في الصحراء لا يستحق حريما وإن كان يحتاج إليه لإلقاء الكناسة؛ لأنه يمكن الانتفاع بالقصر دون الحريم وفي الجامع الصغير نهر لرجل إلى جنبه مسناة، وأرض لآخر والمسناة في يد أحدهما فإن لم يكن لأحدهما غرس ولا طين ملقى فادعى صاحب الأرض المسناة وادعاه صاحب النهر أيضا فهي لصاحب الأرض عند الإمام وقالا هي لصاحب النهر جرى الملقى عليه طينه وغير ذلك فينكشف بهذا اللفظ موضع الخلاف وهو أن يكون الحريم موازيا للأرض لا فصل بينهما، وأن لا يكون الحريم مشغولا بحق أحدهما معينا معلوما وإن كان فيه أشجار ولا يدري من غرسها فهو على الخلاف أيضا وكذا قبل إلقاء الطين على الخلاف‏.‏ والصحيح أنه لصاحب النهر ما لم يفحش ثم إذا كان الحريم لأحدهما أيهما كان لا يمنع الآخر من الانتفاع على وجه لا يبطل حق مالكه كالمرور فيه وإلقاء الطين ونحو ذلك مما جرت به العادة ولا يغرس فيه إلا المالك؛ لأنه لا يبطل حقه قال الفقيه أبو جعفر أخذ بقوله في الغرس وبقولهما في إلقاء الطين ثم عند أبي يوسف حريمه قدر نصف بطن النهر من كل جانب وهو اختيار الحاوي وعند محمد مقدار بطن النهر من كل جانب وهو اختيار الكرخي وذكر في كشف الغوامض أن الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه في نهر كبير لا يحتاج فيه إلى الكري في كل حين أما الأنهار الصغار يحتاج فيه إلى كريها في كل وقت فلها حريم بالاتفاق ا هـ‏.‏

‏(‏مسائل الشرب‏)‏‏.‏ لما فرغ من ذكر إحياء الموات ذكر ما يتعلق به من مسائل الشرب؛ لأن إحياء الموات يحتاج إليه وقدم فصل المياه على غيره؛ لأن المقصود هو الماء لا يقال إذا كان الشرب مما يحتاج إليه إحياء الموات كان اللائق تقديم مسائل الشرب على مسائل إحياء الموات قلنا لأصالته وكثرة فروعه يستحق التقديم على الشرب قال في المحيط‏:‏ يحتاج إلى معرفة مشروعية حق الشرب وتفسيره لغة وشرعا وركنه وشرطه وحكمه‏:‏ أما مشروعيته فلقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا بلغ الوادي الكعبين لم يكن لأهل الأعلى أن يحبسوه عن أهل الأسفل»، وأما تفسيره لغة فهو عبارة عن النصيب من الماء لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كل شرب محتضر‏}‏ أراد بالشرب النصيب من الماء ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لها شرب‏}‏ أي نصيب وفي الشرع النصيب من الماء للأراضي لا لغيرها‏.‏ وأما ركنه فهو الماء؛ لأن الشرب يقوم به‏.‏ وأما شرط حله أن يكون ذا حظ من الشرب وأما حكمه فالإرواء؛ لأن حكم الشيء ما يفعل لأجله وإنما شرب الأرض لتروى ا هـ‏.‏ قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏هو نصيب الماء‏)‏ قال الشارح‏:‏ أي الشرب بالكسر هو النصيب والماء والصواب هو النصيب من الماء ولك أن تقول ما ذكره المؤلف المعنى اللغوي وهو لا يليق ذكره في المتون قال رحمه الله‏:‏‏.‏ ‏(‏الأنهار العظام كدجلة و الفرات غير مملوكة ولكل أن يستقي أرضه ويتوضأ به ويشرب وينصب الرحا عليه ويكري نهرا منها إلى أرضه إن لم يضر بالعامة‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الناس شركاء في ثلاث في الماء والنار والكلأ» ولأن هذه الأنهار ليس لأحد فيها يد على الخصوص؛ لأن قهر الماء يمنع قهر غيره فلا يكون محرزا في الملك بالإحراز فإذا لم يكن مملوكا كان مشتركا والمراد بالماء في الحديث ما ليس بمحرز فإن المحرز قد ملكه فخرج عن كونه مباحا كالصيد إذا أحرزه لا يجوز لأحد أن ينتفع به إلا بإذنه وشرط لجواز الانتفاع أن لا يضر بالعامة فإن كان يضر بالعامة ليس له الكري ونصب الرحا؛ لأن الانتفاع بالمباح لا يجوز إلا إذا كان لا يضر بالعامة كالشمس والقمر والهواء، والمراد بالكلأ الحشيش الذي ينبت بنفسه من غير أن ينبته أحد ومن غير أن يزرعه ويسقيه فيملكه من قطعه، وأحرزه وإن كان في أرض غيره والمراد بالنار الاستضاءة بنورها والاصطلاء بها وإلا يقاد من لهبها فليس لأحد أن يمنع من ذلك إذا كان في الصحراء بخلاف ما لو أراد أن يأخذ جمرة؛ لأنه ملكه ويتضرر بذلك فكان له منعه كسائر أملاكه ا هـ‏.‏ قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وفي الأنهار المملوكة والآبار والحياض لكل شربه وسقي دوابه لا أرضه، وإن خيف تخريب النهر لكثرة البقور يمنع‏)‏ وإنما كان له حق الشرب وسقي الدواب لما روينا ولأن الأنهار والآبار والحياض لم توضع للإحراز والمباح لا يملك إلا بالإحراز ولكن المسافر لا يمكنه أن يأخذ ما يوصله إلى مقصده فيحتاج أن يأخذ مما يمر عليه مما ذكر ما يحتاج إليه لنفسه ودوابه وصاحبه فلو منع من ذلك لحقه ضرر عظيم وهو مدفوع شرعا بخلاف سقي الأراضي حيث يمنع وإن لم يكن فيه ضرر لأن في إباحة ذلك إبطال حق صاحب الأنهار إذ لا نهاية لذلك فتذهب منفعة صاحب الأنهار فيلحقه بذلك ضرر بخلاف سقي الدواب؛ لأن مثله لا يلحقه به ضرر حتى لو تحقق فيه الضرر يمنع وهو المراد بقوله، وإن خيف تخريب النهر لكثرة البقور؛ لأن الحق لصاحبه على الخصوص وإنما أثبتنا ما ذكرنا لغيره للضرورة فلا معنى لإبقائه على وجه يضر بصاحبه قال في الهداية ولهم الشرب وإن شربوا الماء كله‏.‏ ا هـ‏.‏ وفي المحيط ولو أراد صاحب الأرض أن يغرف بالجرة فلصاحب الملك أن يمنعه من الدخول وإن لم يجد يقال لصاحب الملك‏:‏ إما أن تعطيه الماء وإما أن تمكنه من الدخول بشرط أن لا يكسرها في النهر قالوا هذا إذا كان في أرض مملوكة فأما إذا حفر في أرض موات لم يكن لصاحب النهر منعه من الدخول إذا كان لا يكسر مسناة النهر؛ لأن الأرض كانت مشتركة بين الناس كافة فأما إذا أحياها إنسان لم تنقطع الشركة في الدخول لأهل الشفعة ويجوز أن تكون رقبة الشيء لإنسان وللآخر فيه حق الدخول ا هـ‏.‏ وفيه أيضا رجل له ماء يجري إلى مزرعته فيجيء رجل ويسقي دوابه حتى ينفذ الماء كله هل لصاحب النهر أن يمنعه قال ليس له ذلك ا هـ‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏والمحرز في الكوز والجب لا ينتفع فيه إلا بإذن صاحبه‏)‏؛ لأنه ملكه بالإحراز فكان أحق به كالصيد إذا أخذه لكنه فيه شبهة الشركة لظاهر ما روينا فيعمل فيما يسقط بالشبهة ولو سرق الماء في موضع يعز فيه الماء وهو يساوي نصابا لا يقطع واعترض عليه بأنه على هذا ينبغي أن لا يقطع في شيء من الأشياء كلها؛ لأن قوله تعالى قوله‏:‏ ‏{‏هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا‏}‏ يورث الشبهة بهذا الطريق وأجيب بأن العمل بالحديث يوافق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا‏}‏ ولا يلزم من العمل به إبطال الكتاب بخلاف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا‏}‏ فإن العمل به على الإطلاق يبطل العمل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الزانية والزاني‏}‏ ‏{‏والسارق والسارقة‏}‏ وغير ذلك فدل على أن المراد به غير ما دل عليه الخصوصيات كذا في العناية واعترض بأنه وإن لم يلزم من العمل بالحديث إبطال الكتاب لكن يلزم به إبطال دليل شرعي آخر فإنكم حكمتم بأن الماء المحرز في الأواني يصير مملوكا بالإحراز وينقطع حق الغير عنه وهو حكم شرعي لا بد له من دليل شرعي لا محالة‏.‏ فلو عملنا بالحديث المذكور على الإطلاق لزم إبطال ذلك الدليل الشرعي فدل على أن المراد بالحديث المذكور غير ما دل عليه بخصوص الدليل الشرعي الدال على أن الماء المحرز في الأواني ملك مخصوص لمحرزه ولو كانت البئر أو الحوض أو النهر في ملك رجل فله أن يمنع من يريد الشفعة من الدخول وقد قدمنا عن المحيط بتفاصيله‏:‏ وحكم الكلأ حكم الماء على التفاصيل المتقدمة ولو منع رب النهر من يريد الماء وهو يخاف على نفسه أو على دابته العطش فإن له أن يقاتله بالسلاح لأثر عمر ولأنه قصد إتلافه وإن كان الماء محرزا في الأواني فليس للذي يخاف العطش أن يقاتل بالسلاح وله أن يقاتله بغير السلاح إذا كان فيه فضل عن صاحبه فصار نظير الطعام حالة المخمصة وفي الكافي قيل في البئر ونحوه‏:‏ والأولى أن يقاتله بغير السلاح؛ لأنه ارتكب معصية فصار بمنزلة التعزير هذا يشير إلى أن له أن يقاتله بالسلاح حيث جعل الأولى أن لا يقاتله به، وأهل الشفعة بأن كانوا يشربون الماء كله بأن كان نهرا صغيرا وفيما يرد عليه من المواشي كثرة ينقطع الماء اختلفوا فيه قال بعضهم‏:‏ ليس لربه أن يمنع، وأكثرهم على أن له أن يمنع؛ لأنه يلحقه الضرر بذلك فصار كسقي الأرض وله أن يأخذ منه الماء للوضوء وغسل الثياب في الأصح وقيل ينقلهما في النهر ولو أراد أن يسقي شجرا أو خضرا في داره فحمل الماء إليه بالجرة كان له ذلك وقال بعض أئمة بخارى‏:‏ ليس له ذلك إلا بإذن صاحب النهر والأول أصح لأن الناس يتوسعون في ذلك وليس له أن يسقي نخله وشجره، وأرضه من نهر غيره إلا بإذن صاحبه وله أن يمنع من ذلك‏.‏ فالحاصل‏:‏ المياه ثلاثة؛ الأنهار العظام التي لا تدخل في ملك أحد والأنهار التي هي مملوكة وما صار في الأواني وقد ذكرنا حكم كل واحد بتوفيق الله تعالى‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏وكري نهر غير مملوك من بيت المال‏)‏ لأن ذلك لمصلحة العامة وبيت المال معد لها قال في الهداية‏:‏ ويصرف ذلك من الجزية والخراج دون العشر والصدقات لأن الثاني للفقراء والأول للنوائب قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏فإن لم يكن فيه شيء يجبر الناس على كريه‏)‏ يعني إذا لم يكن في بيت المال شيء أجبر الإمام الناس على كريه؛ لأن الإمام نصب ناظرا وفي تركه ضرر عظيم على الناس وقلما يتفق العوام على المصالح باختيارهم فيجبرهم عليه لما روي أن عمر أجبر في مثل هذا فكلموه فقال‏:‏ لو تركتم لبعتم أولادكم إلا أنه يخرج للكري من كان يطيق الكري منهم ويجعل مؤنته على الأغنياء الذين لا يطيقون الكري بأنفسهم قال في الهداية‏:‏ فإن أراد أن يحصص النهر خوف الانتشاف وفيه ضرر عظيم يجبرهم على ذلك ا هـ‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏وكري ما هو مملوك على أهله ويجبر الآبي على كريه‏)‏ لأنه منفعة لهم على الخصوص فتكون مؤنته عليهم ولأن الغرم بالغنم ومن أبى منهم يجبر وقيل إن كان خاصا لا يجبر والفاصل بين الخاص والعام أن ما يستحق به الشفعة خاص وما لا يستحق به الشفعة عام وبيان الفرق أنه إذا كان عاما فيه دفع ضرر عام فيجبر الآبي بخلاف الخاص وفي الضرر الخاص يمكن الدفع بأن يرفع الأمر إلى القاضي فينفق ويرجع على الممتنع بحصته وبه أخذ الفقيه أبو جعفر وصار كزرع بين شريكين امتنع أحدهما من الإنفاق فلصاحبه أن ينفق عليه بأمر القاضي ويرجع عليه بما أنفق فكذا هذا كذا في المحيط بخلاف ما إذا كان عاما لا يمكن الرجوع لكبرهم فيجبر الممتنع ولا يقال‏:‏ في كراء النهر الخاص إحياء له حقوق أهل الشفعة فيكون في تركه ضرر عام؛ لأنا نقول لا جبر لأجل أهل الشفعة ألا ترى أن أهل النهر لو امتنعوا عن كريه لا يجبرهم في ظاهر الرواية؛ لأنهم امتنعوا عن عمارة أراضيهم ولو كان حق أهل الشفعة معتبرا لأجبر وفي التتارخانية‏:‏ معناه أن ينقلوا نصيب الآبي من الشرب مقدار ما يبلغ قيمة ما أنفق‏.‏

قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏ومؤنة كري النهر المشترك عليهم من أعلاه فإذا جاوز أرض رجل برئ‏)‏ وهذا عند الإمام وقالا‏:‏ المؤنة عليهم جميعا من أول النهر إلى آخره بالحصص؛ لأن كل واحد منهم ينتفع بالأسفل كما ينتفع بالأعلى؛ لأنه يحتاج إلى مسيل الفاضل من الماء فإنه إذا سد عليه فاض الماء إلى أرضه فيفسد زرعه ولأن كل واحد منهم ينتفع بالنهر من أوله إلى أسفله وفي الخانية الفتوى على قول الإمام واختلف أئمتنا في الطريق الخاص إذا احتاج الإصلاح قيل‏:‏ هو على هذا الاختلاف عند الإمام عليه المؤنة إلى أن يجاوز أرضه وعندهما من أوله إلى آخره قال الهندواني‏:‏ ورأيت في بعض الكتب إذا انتهى إلى دار رجل يدفع عنه مؤنة الإصلاح بالإجماع فيحتاج إلى الفرق بين الطريق والنهر والفرق أن صاحب الدار لا يحتاج إلى النظر فيما جاوز داره بوجه من الوجوه بخلاف صاحب الأرض وللإمام أن مؤنة الكرب على من ينتفع به ويسقي منه أرضه فإذا جاوز أرضه برئ فلا يلزم شيء في مؤنة ما بقي ألا ترى أن من له الحق يسيل الماء على سطح جاره لا يلزمه شيء من عمارته باعتبار مسيل الماء فيه ولأنه يتمكن من دفع الضرر عنه بسد فوهة النهر من أعلاه إذا استغنى عنه وزعم بعضهم أن الكرب إذا انتهى إلى فوهة أرضه من النهر فليس عليه شيء من المؤنة والأصح أنه يمكنه مؤنة الكرب إلى أن يجاوز حد أرضه لأن له أن يأخذ شربه من أي موضع شاء من أرضه من أعلاها أو أسفلها‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولا كراء على أهل الشفعة‏)‏ لأنهم لا يحصون قوله‏:‏ لا يحصون لأن أهل الدنيا كلهم لهم حق الشفعة ومؤنة الكري لا تجب على قوم لا يحصون ولأن المراد من حفر الأنهار ونحوها سقي الأراضي، وأهل الشفعة أتباع والمؤنة تجب على الأصول دون الأتباع ولهذا لا يستحقون به الشفعة‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏وتصح دعوى الشرب بغير أرض‏)‏ وهذا استحسان والقياس أن لا يصح؛ لأن شرط صحة الدعوى إعلام المدعى به في الدعوى والشهادة، والشرب مجهول جهالة لا تقبل الإعلام ولأنه يطلب من القاضي أن يقضي له بالمدعى به إذا ثبت دعواه بالبينة والشرب لا يحتمل التمليك بدون الأرض فلا يستمع القاضي فيه الدعوى والخصومة كالخمر في حق المسلمين وجه الاستحسان أن الشرب مرغوب فيه ويمكن أن يملكه بغير الأرض بالإرث والوصية وقد تباع الأرض ويبقى الشرب وحده فإذا استولى عليه رجل ظلما كان له أن يرفع يده عنه بإثبات حقه بالبينة رجل له أرض وللآخر نهر يجري فيها فأراد رب الأرض أن يمنع النهر أن يجري في أرضه لم يكن له ذلك ويترك على حاله؛ لأن موضع النهر في يد رب النهر وعند الاختلاف القول قوله في أنه ملكه فإذا لم يكن في يده ولم يكن جاريا فيها فعليه البينة أن هذا النهر له، وأن مجراه في هذه الأرض يسوقه إلى أرض له ليسقيها فيقضي له لإثباته بالحجة ملك الرقبة إذا كانت الدعوى فيه أو حق الآخر في إثبات المجرى من غير دعوى الملك، وعلى هذا نصيب الماء في كل نهر أو مجرى على سطح أو الميزاب أو المشي في دار غيره فالحكم فيه كالشرب كما قدمنا ا هـ‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏نهر بين قوم اختصموا في الشرب فهو بينهم على قدر أراضيهم‏)‏ لأن المقصود بالشرب سقي الأرض والحاجة إلى ذلك تختلف بقلة الأراضي وكثرتها والظاهر أن حق كل واحد مقدار أرضه بخلاف الطريق إذا اختلف فيه الشركاء حيث يستوون في ملك رقبة الطريق ولا يعتبر في ذلك سعة الدار وضيقها؛ لأن المقصود الاستطراق وذاك لا يختلف باختلاف الدار لا يقال استويا في إثبات اليد على النهر فوجب أن يستويا في الاستحقاق؛ لأنا نقول‏:‏ الماء لا يمكن إثبات اليد عليه حقيقة ولا يمكن إحرازه وإنما ذلك بالانتفاع به والظاهر أن الانتفاع متفاوت بتفاوت الأرض فتتفاوت الأجزاء في ضمن الانتفاع فيكون كل واحد منهما بحسب ذلك وليس لأحدهم أن يسكر النهر على الأسفل ولكن يشرب حصته؛ لأن في السكر إحداث شيء لم يكن في وسط النهر ورقبة النهر مشترك بينهم فلا يجوز لأحدهم أن يفعل ذلك بغير إذن الشركاء فإن تراضوا على أن الأعلى يسكر النهر حتى يشرب بحصته واصطلحوا أن يسكر كل واحد في نوبته جاز لأن المانع حقهم وقد زال ذلك بتراضيهم ولكن إن أمكنهم أن يسكر بلوح أو باب فليس له أن يسكر ذلك بالطين والتراب؛ لأن به ضررا بالشركاء ولو كان الماء في النهر بحيث لا يجري إلى أرض كل واحد منهم إلا بالسكر فإنه يبدأ بالأعلى حتى يروي ثم بالذي بعده كذلك وليس لأهل الأعلى أن يمنعوه من أهل الأسفل ا هـ‏.‏ قال‏:‏ رحمه الله ‏(‏وليس لأحدهم أن يشق نهرا أو ينصب عليه رحى أو دالية أو جسرا أو يوسع فم النهر أو يقسم بالأيام وقد وقعت القسمة بالكوى أو يسوق نصيبه إلى أرض له أخرى ليس لها فيه شرب بلا رضاهم‏)‏؛ لأن في شق النهر ونصب الرحا كسر صفة النهر المشترك، وشغل المشترك بالبناء بغير إذن الشركاء لا يجوز إلا أن يكون الرحا لا تضر بالنهر ولا بالماء ويكون موضعها في أرض صاحبها فيجوز؛ لأن ما يحدثه من البناء في خالص ملكه وبسبب الرحا لا ينقص الماء والمانع من فعل ذلك الإضرار بالشركاء ولم يوجد وبالقنطرة والجسر إشغال الموضع المشترك بغير إذن الشركاء فلا يجوز‏.‏ والدالية جذع طويل يركب تركيب مداق الأرز في رأسه مغرفة كبيرة ليسقي بها وقيل هو الدولاب والسانية للبعير يسقى عليها من البئر والجسر اسم لما يوضع ويرفع مما يكون بين الألواح وغيره والقنطرة ما يتخذ من الآجر والحجر والكوة ثقب البيت والجمع كوى وإذا كان نهر خاص لرجل يأخذ من نهر بين القوم فإذا أراد أن يقنطر عليه أو يسده من جانبيه كان له ذلك لأنه يتصرف في خالص ملكه برفع بنائه وإن كان يزيد في أخذ الماء كان للشركاء منعه وإنما لا يكون له أن يوسع فم النهر؛ لأن فيه كسر صفته ويزيد على مقدار حقه في أخذ الماء وهذا ظاهر فيما إذا لم تكن القسمة بالكري وكذا إن كانت بالكري؛ لأنه إذا وسع فم النهر يخس الماء في ذلك الموضع فيدخل في ملكه أكثر مما كان له أولا وكذا إذا أراد أن يؤخر فم النهر فيجعلها في أربعة أذرع من فم النهر؛ لأنه يحبس الماء فيه فيزداد دخول الماء فيه وليس له ذلك إلا بإذن الشركاء بخلاف ما إذا أراد أن يسفل كواه أو يرفعه من حيث العمق في مكانه حيث يكون له ذلك في الصحيح؛ لأن قسمة الماء في الأصل وقع باعتبار سعة الكوى وضيقها من غير اعتبار السفل، والرفع في العمق هو العادة فلا يؤدي إلى تغير موضع القسمة فلا يمنع وإنما لم يكن له أن يقسم بالأيام بعدما وقعت القسمة بالكوى؛ لأن القديم يترك على حاله لظهور أن الحق فيه ولو كان لكل واحد منهم كوى مسماة في نهر خاص لم يكن لواحد منهم أن يزيد كوة وإن كان لا يضر بأهله؛ لأن الشركة خاصة بخلاف ما إذا كان الكوى في النهر الأعظم لأن لكل واحد منهم أن يشق نهرا منه ابتداء فالكوى بطريق الأولى‏.‏ وإنما لم يكن له أن يسوق شربه إلى أرض أخرى ليس لها فيه شرب؛ لأنه إذا فعل ذلك يخشى أن يدعي حق الشرب لها من هذا النهر مع الأولى إذا تقادم العهد ويستدل على ذلك بالحفر وإجراء الماء فيه إليها وكذا لو أراد أن يسوق شربه إلى أرض الأولى حتى ينتهي إلى الأخرى؛ لأنه يسوق زيادة على حقه، إذ الأرض الأولى تشرب الماء قبل أن يسقي الأخرى وهو نظير طريق مشترك أراد أحدهم أن يفتح فيه بابا إلى دار أخرى - ساكنها غير ساكن هذه الدار - ففتحها في هذا الطريق بخلاف ما إذا كان ساكن الدارين واحدا حيث لا يمنع؛ لأن المارة لا تزداد وله حق المرور ويتصرف في خالص ملكه وهو الجدار بالرفع ولو أراد الأعلى من الشريكين في النهر الخاص وفيه كوة بينهما أن يسد بعضها دفعا لفيض الماء عن أرضه لكي لا ينز ليس له ذلك لما فيه من الإضرار بالأخرى وكذا إذا أراد أن يقسم النهر مناصفة؛ لأن القسمة في الكوة تقدمت إلا أن يتراضيا؛ لأن الحق لهما وبعد الرضا لصاحب السفل أن ينقض ذلك وكذا لورثته من بعده لأنه إعارة للشرب لا مبادلة؛ لأن مبادلة الشرب بالشرب باطلة وكذا إجارة الشرب لا تجوز فتعينت الإعارة فيرجع فيها وكذا ورثته في أي وقت شاءوا؛ لأن الإعارة غير لازمة ا هـ‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ويورث الشرب ويوصى بالانتفاع بعينه ولا يباع ولا يوهب‏)‏ لأن الورثة خلف الميت يقومون مقامه وجاز أن يقوموا مقامه فيما لا يجوز تمليكه كالمعاوضات والتبرعات كالدين والقصاص والخمر وكذا الشرب، والوصية أخت الميراث فكانت مثله بخلاف البيع والهبة والصدقة والوصية بذلك حيث لا تجور للغرور والجهالة ولعدم الملك فيه للحال؛ لأنه ليس بمال متقوم حتى لو أتلف شرب إنسان بأن سقى أرضه من شرب غيره لا يضمن على رواية الأصل وكذا لا يصلح مسمى في النكاح ولا في الخلع ولا في الصلح عن دم العمد وهذه العقود صحيحة ولا تبطل بهذا الشرط فيها ويجب على الزوج مهر المثل، وعلى المرأة رد ما أخذت من المهر وعلى القاتل الدية وكذا لا يصلح بدلا في دعوى حق وللمدعي أن يرجع في دعواه وذكر صاحب الهداية في البيع الفاسد أن الشرب يجوز بيعه تبعا للأرض باتفاق الروايات ومفردا في رواية وهو اختيار مشايخ بلخ؛ لأنه حظ في الماء ولهذا يضمن بالإتلاف وله قسط من الثمن قال صاحب الخلاصة رجل له نوبة ماء في يوم معين في الأسبوع فجاء رجل فسقى أرضه في نوبته ذكر الإمام علي البزدوي أن غاصب الماء يكون ضامنا وذكر في الأصل أنه لا يكون ضامنا وفي الفتاوى الصغرى رجل أتلف شرب رجل بأن سقى أرضه بشرب غيره‏.‏ قال الإمام علي البزدوي‏:‏ يضمن، وقال الإمام خواهر زاده لا يضمن وعليه الفتوى فتوهم بعضهم أن صاحب الهداية تناقض حيث قال هنا لا يضمن إن سقى من شرب غيره وقال هناك ولهذا يضمن بالإتلاف وليس كذلك بل ما ذكر في كتاب البيوع على رواية مشايخ بلخ وما ذكر ههنا على رواية الأصل قال الشارح ولو مات وعليه ديون لا يباع الشرب بدون الأرض على رواية الأصل فإن لم يكن للشرب أرض قيل يجمع الماء في نوبة في حوض فيباع إلى أن يقضى الدين من ذلك وقيل‏:‏ ينظر الإمام إلى أرض لا شرب لها فيضم هذا الشرب إليها فيبيعها برضا صاحبها ثم ينظر إلى قيمة الأرض بدون الشرب وإلى قيمتها معه فيصرف تفاوت ما بينهما من الثمن إلى قضاء دين الميت والسبيل في معرفة قيمة الشرب إذا أراد قسمة الثمن على قيمتهما أن يقوم الشرب على تقدير أن لو كان يجوز بيعه وهو نظير ما قال بعضهم في العقر الواجب بشبهة‏:‏ ينظر إلى هذه المرأة بكم كانت تستأجر للزنا فذلك القدر هو عقدها في الوطء بالشبهة‏.‏ وإن لم يجد اشترى على تركة الميت أرضا بغير شرب ثم يضم إلى هذا الشرب فيبيعها فيؤدي من الثمن قيمة الأرض المشتراة، والفاضل للغرماء‏.‏

قال رحمه الله‏:‏ ‏(‏ولو ملأ أرضه ماء فنزت أرض جاره أو غرقت لم يضمن‏)‏ لأنه متسبب وليس بمتعد فلا يضمن؛ لأن شرط وجوب الضمان في السبب أن يكون متعديا ألا ترى أن من حفر بئرا في أرض لا يضمن ما عطب فيه وإن حفر في الطريق يضمن وإنما قلنا‏:‏ إنه ليس بمتعد؛ لأن له أن يملأ أرضه ويسقيه قالوا هذا إذا سقى أرضه سقيا معتادا بأن سقاها قدر ما تحتمله عادة أما إذا سقاها سقيا لا تحتمله أرضه فيضمن وهو نظير ما لو أوقد نارا في داره فاحترق دار جاره فإن كان أوقدها مثل العادة لم يضمن وإن كان بخلاف العادة يضمن وكان الشيخ إسماعيل الزاهد يقول‏:‏ إنما لم يضمن بالسقي المعتاد إذا كان محقا فيه بأن سقى أرضه في نوبته مقدار حقه وأما إذا سقاها في غير نوبته أو في نوبته زيادة على حقه فيضمن لوجود التعدي في السبب ا هـ‏.‏ والله أعلم‏.‏