فصل: احتضاره ووفاته عليه السلام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 احتضاره ووفاته عليه السلام

قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد، عن عبد الله هو‏:‏ ابن مسعود قال‏:‏ دخلت على النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يوعك، فمسسته فقلت‏:‏ يا رسول الله إنك لتوعك وعكاً شديداً‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أجل‏!‏إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ إن لك أجرين‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏!‏والذي نفسي بيده ما على الأرض مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حطَّ الله عنه خطاياه كما تحطُّ الشجرة ورقها‏)‏‏)‏‏.‏

وقد أخرجه البخاري ومسلم من طرق متعددة عن سليمان بن مهران الأعمش به‏.‏

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده‏:‏ حدثنا إسحاق ابن أبي إسرائيل، ثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن زيد بن أسلم، عن رجل، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ وضع يده على النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ والله ما أطيق أن أضع يدي عليك من شدة حماك‏.‏

فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر، إن كان النَّبيّ من الأنبياء ليبتلى بالقمل حتَّى يقتله، وإن كان الرجل ليبتلى بالعري حتَّى يأخذ العباءة فيجوبها، وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما يفرحون بالرخاء‏)‏‏)‏ فيه رجل مبهم لا يعرف بالكلية، فالله أعلم‏.‏

وقد روى البخاري ومسلم من حديث سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، زاد مسلم - وجرير - ثلاثتهم عن الأعمش، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن مسروق، عن عائشة قالت‏:‏ ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وفي صحيح البخاري من حديث يزيد بن الهاد عن عبد الرحيم بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بين حاقنتي وذاقنتي، فلا أكره شدة الموت لأحد بعد النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/258‏)‏

وفي الحديث الآخر الذي رواه البخاري في صحيحه قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏أشدُّ النَّاس بلاء الأنبياء ثمَّ الصالحون، ثمَّ الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة شدِّد عليه في البلاء‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يعقوب، ثنا أبي، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني سعيد بن عبيد بن السباق عن محمد بن أسامة بن زيد قال‏:‏ لما ثقل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم هبطت وهبط النَّاس معي إلى المدينة، فدخلت على رسول الله وقد أصمت فلا يتكلم، فجعل يرفع يديه إلى السماء، ثمَّ يصيبها على وجهه، أعرف أنَّه يدعو لي‏.‏

ورواه التِّرمذي عن أبي كريب، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق وقال‏:‏ حسن غريب‏.‏

وقال الإمام مالك في موطئه عن إسماعيل ابن أبي حكيم، أنَّه سمع عمر بن عبد العزيز يقول‏:‏ كان من آخر ما تكلَّم به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قاتل الله اليهود والنَّصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لا يبقين دينان بأرض العرب‏)‏‏)‏‏.‏

هكذا رواه مرسلاً عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله‏.‏

وقد روى البخاري ومسلم من حديث الزُّهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عائشة وابن عبَّاس قالا‏:‏ لما نزل برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتمَّ كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك‏:‏ ‏(‏‏(‏لعنة الله على اليهود والنَّصارى اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو بكر ابن أبي رجاء الأديب، أنبأنا أبو العبَّاس الأصم، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا أبو بكر ابن عياش عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول قبل موته بثلاث‏:‏ ‏(‏‏(‏أحسنوا الظن بالله‏)‏‏)‏

وفي بعض الأحاديث كما رواه مسلم من حديث الأعمش عن أبي سفيان طلحة بن نافع، عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يموتنَّ أحدكم إلا وهو يحسن الظنّ بالله تعالى‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الحديث الآخر يقول الله تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا عند ظنِّ عبدي بي، فليظنَّ بي خيراً‏)‏‏)‏‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبأنا الحاكم، حدثنا الأصم، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني، ثنا أبو خيثمة زهير بن حرب، ثنا جرير عن سليمان التيمي، عن قتادة، عن أنس قال‏:‏ كانت عامة وصية رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين حضره الوفاة‏:‏ الصلاة، وما ملكت أيمانكم، حتَّى جعل يغرغر بها في صدره، وما يفصح بها لسانه‏.‏

وقد رواه النسائي عن إسحاق بن راهويه، عن جرير بن عبد الحميد به‏.‏

وابن ماجه عن أبي الأشعث، عن معتمر بن سليمان، عن أبيه به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/259‏)‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أسباط بن محمد، ثنا التيمي عن قتادة، عن أنس بن مالك قال‏:‏ كانت عامة وصية رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين حضر الموت‏:‏ الصلاة، وما ملكت أيمانكم، حتَّى جعل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يغرغر بها صدره، وما يكاد يفيض بها لسانه‏.‏

وقد رواه النسائي وابن ماجه من حديث سليمان بن طرخان - وهو التيمي - عن قتادة، عن أنس به‏.‏

وفي رواية النسائي عن قتادة، عن صاحب له، عن أنس به‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا بكر بن عيسى الراسبي، ثنا عمر بن الفضيل عن نعيم بن يزيد، عن علي ابن أبي طالب قال‏:‏ أمرني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن آتيه بطبق يكتب فيه ما لا تضلُّ أمته من بعده‏.‏

قال‏:‏ فخشيت أن تفوتني نفسه‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ إني أحفظ وأعي قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أوصي بالصَّلاة، والزَّكاة، وما ملكت أيمانكم‏)‏‏)‏ تفرَّد به أحمد من هذا الوجه‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ ثنا أبو النعمان محمد بن الفضل، ثنا أبو عوانة عن قتادة، عن سفينة، عن أم سلمة قالت‏:‏ كان عامة وصية رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عند موته‏:‏ الصلاة، وما ملكت إيمانكم، حتَّى جعل يلجلجها في صدره وما يفيض بها لسانه‏.‏

وهكذا رواه النسائي عن حميد بن مسعدة، عن يزيد بن زريع، عن سعد ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن سفينة، عن أم سلمة به‏.‏

قال البيهقي‏:‏ والصَّحيح ما رواه عفَّان عن همام، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن سفينة، عن أم سلمة به‏.‏

وهكذا رواه النسائي أيضاً وابن ماجه من حديث يزيد بن هارون عن همام، عن قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن سفينة، عن أم سلمة به‏.‏

وقد رواه النسائي أيضاً عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن قتادة، عن سفينة، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فذكره‏.‏

ثم رواه عن محمد بن عبد الله بن المبارك عن يونس بن محمد قال‏:‏ حدثنا عن سفينة، فذكر نحوه‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا يونس، ثنا اللَّيث عن يزيد بن الهاد، عن موسى بن سرجس، عن القاسم، عن عائشة قالت‏:‏ رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يموت، وعنده قدح فيه ماء، فيدخل يده في القدح ثمَّ يمسح وجهه بالماء ثمَّ يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم أعني على سكرات الموت‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه التِّرمذي، والنسائي، وابن ماجه من حديث اللَّيث به‏.‏

وقال التِّرمذي‏:‏ غريب‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وكيع عن إسماعيل، عن مصعب بن إسحاق بن طلحة، عن عائشة عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ليهون علي أني رأيت بياض كفّ عائشة في الجنَّة‏)‏‏)‏ تفرد به أحمد، وإسناده لا بأس به‏.‏

وهذا دليل على شدَّة محبته عليه السلام لعائشة رضي الله عنها وقد ذكر النَّاس معاني كثيرة في كثرة المحبة، ولم يبلغ أحدهم هذا المبلغ، وما ذاك إلا لأنهم يبالغون كلاماً لا حقيقة له، وهذا كلام حق لا محالة ولا شك فيه‏.‏

وقال حماد بن زيد عن أيوب، عن ابن أبي مليكة قال‏:‏ قالت عائشة‏:‏ توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في بيتي ويومي، وتوفي بين سحري ونحري، وكان جبريل يعوذه بدعاء إذا مرض، فذهبت أعوذه، فرفع بصره إلى السماء وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى‏)‏‏)‏ ودخل عبد الرحمن ابن أبي بكر وبيده جريدة رطبة فنظر إليه، فظننت أن له بها حاجة قالت‏:‏ فأخذتها فنفضتها، فدفعتها إليه فاستن بها أحسن ما كان مستناً، ثم ذهب يناولنيها فسقطت من يده قالت‏:‏ فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة‏.‏

ورواه البخاري عن سليمان بن جرير، عن حماد بن زيد به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/260‏)‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبانا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو نصر أحمد بن سهل الفقيه ببخارى، ثنا صالح بن محمد الحافظ البغدادي، ثنا داود بن عمرو بن زهير الضبي، ثنا عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد ابن أبي حسين، أنبأنا ابن أبي مليكة أن أبا عمرو ذكوان مولى عائشة أخبره أنَّ عائشة كانت تقول‏:‏ إنَّ من نعمة الله عليَّ أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم توفي في يومي، وفي بيتي، وبين سحري ونحري، وإن الله جمع بين ريقي وريقه عند الموت‏.‏

قالت‏:‏ دخل عليَّ أخي بسواك معه، وأنا مسندة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى صدري، فرأيته ينظر إليه وقد عرفت أنه يحبُّ السواك ويألفه، فقلت‏:‏ آخذه لك، فأراد برأسه أي نعم‏!‏فلينته له، فأمرَّه على فِيه قالت‏:‏ وبين يديه ركوة، أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ثمَّ يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لا إله إلا الله، إنَّ للموت لسكرات‏)‏‏)‏ ثم نصب إصبعه اليسرى وجعل يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى‏)‏‏)‏ حتَّى قبض ومالت يده على الماء‏.‏

ورواه البخاري عن محمد، عن عيسى بن يونس‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ ثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم سمعت عروة يحدِّث عن عائشة قالت‏:‏ كنَّا نحدث أن النَّبيّ لا يموت حتَّى يخيَّر بين الدنيا والآخرة، قالت‏:‏ فلما كان مرض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الذي مات فيه عرضت له بحة فسمعته يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏مع الذين أنعم الله عليهم من النَّبيّين، والصِّدِّيقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً‏)‏‏)‏‏.‏

قالت عائشة‏:‏ فظننا أنه كان يخيَّر‏.‏

وأخرجاه من حديث شعبة به‏.‏

وقال الزُّهري‏:‏ أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير في رجال من أهل العلم أن عائشة قالت‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول وهو صحيح‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّه لم يقبض نبي حتَّى يرى مقعده من الجنة ثمَّ يخيَّر‏)‏‏)‏‏.‏

قالت عائشة‏:‏ فلما نزل برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ورأسه على فخذي - غشي عليه ساعة ثمَّ أفاق، فأشخص بصره إلى سقف البيت وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم الرفيق الأعلى‏)‏‏)‏ فعرفت أنه الحديث الذي كان حدَّثناه، وهو صحيح أنه لم يقبض نبي قط حتَّى يرى مقعده من الجنَّة ثمَّ يخيَّر‏.‏

قالت عائشة‏:‏ فقلت‏:‏ إذاً لا تختارنا وقالت عائشة‏:‏ كانت تلك الكلمة آخر كلمة تكلَّم بها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ‏(‏‏(‏الرفيق الأعلى‏)‏‏)‏‏.‏

أخرجاه من غير وجه عن الزُّهري به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/261‏)‏

وقال سفيان هو الثوري - عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن أبي بردة، عن عائشة قالت‏:‏ أغمي على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو في حجري، فجعلت أمسح وجهه، وأدعو له بالشفاء فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا بل أسأل الله الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل، وميكائيل وإسرافيل‏)‏‏)‏‏.‏

رواه النسائي من حديث سفيان الثَّوري به‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ وغيره قالوا‏:‏ ثنا أبو العبَّاس الأصم، ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، ثنا أنس بن عياض عن هشام بن عروة، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، أنَّ عائشة أخبرته أنها سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأصغت إليه قبل أن يموت وهو مسند إلى صدرها يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق‏)‏‏)‏‏.‏

أخرجاه من حديث هشام بن عروة‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يعقوب، ثنا أبي عن ابن إسحاق، حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد سمعت عائشة تقول‏:‏ مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بين سحري ونحري وفي دولتي، ولم أظلم فيه أحداً فمن سفهي وحداثة سني، أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قبض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة، وقمت ألدم مع النساء وأضرب وجهي‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير، ثنا كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله قال‏:‏ قالت عائشة‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏ما من نبي إلا تقبض نفسه ثم يرى الثواب، ثم ترد إليه فيخيَّر بين أن ترد إليه وبين أن يلحق‏)‏‏)‏ فكنت قد حفظت ذلك منه، فإني لمسندته إلى صدري، فنظرت إليه حين مالت عنقه، فقلت‏:‏ قد قضى فعرفت الذي قال، فنظرت إليه حين ارتفع فنظر قالت‏:‏ قلت‏:‏ إذاً والله لا يختارنا فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مع الرفيق الأعلى في الجنة، مع الذين أنعم الله عليهم من النَّبيّين والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به أحمد، ولم يخرِّجوه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، أنبأنا همام، أنبأنا هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ قبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ورأسه بين سحري ونحري قالت‏:‏ فلما خرجت نفسه لم أجد ريحاً قط أطيب منها‏.‏

وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين، ولم يخرِّجه أحد من أصحاب الكتب الستة‏.‏

ورواه البيهقي من حديث حنبل بن إسحاق عن عفان‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو العبَّاس الأصم، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، عن أبي عروة، عن أم سلمة قالت‏:‏ وضعت يدي على صدر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم مات، فمرت لي جمع آكل وأتوضأ، وما يذهب ريح المسك من يدي‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا عفان، وبهز قالا‏:‏ ثنا سليمان بن المغيرة، ثنا حميد بن هلال عن أبي بردة قال‏:‏ دخلت على عائشة فأخرجت إلينا إزاراً غليظاً مما يصنع باليمن، وكساء من التي يدعون الملبدة فقالت‏:‏ إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قبض في هذين الثوبين‏.‏

وقد رواه الجماعة إلا النسائي من طرق عن حميد بن هلال به‏.‏

وقال التِّرمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/262‏)‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا بهز، ثنا حماد بن سلمة، أنبأنا أبو عمران الجوني عن يزيد بن بابنوس قال‏:‏ ذهبت أنا وصاحب لي إلى عائشة فاستأذنا عليها، فألقت لنا وسادة، وجذبت إليها الحجاب‏.‏

فقال صاحبي‏:‏ يا أم المؤمنين، ما تقولين في العراك‏؟‏

قالت‏:‏ وما العراك‏؟‏

فضربت منكب صاحبي‏.‏

قالت‏:‏ مه، آذيت أخاك ثم قالت‏:‏ ما العراك‏:‏ المحيض‏!‏قولوا‏:‏ ما قال الله عز وجل في المحيض ثم قالت‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يتوشحني وينال من رأسي، وبيني وبينه ثوب وأنا حائض ثم قالت‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا مرَّ ببابي مما يلقي الكلمة ينفعني الله بها، فمرَّ ذات يوم فلم يقل شيئاً، ثم مرَّ فلم يقل شيئاً، مرتين أو ثلاثاً فقلت‏:‏ يا جارية ضعي لي وسادة على الباب، وعصبت رأسي فمرَّ بي فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عائشة ما شأنك‏؟‏‏)‏‏)‏

فقلت‏:‏ أشتكي رأسي‏.‏

فقال‏:‏ أنا وارأساه، فذهب فلم يلبث إلا يسيراً حتَّى جيء به محمولاً في كساء، فدخل عليَّ وبعث إلى النساء فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني قد اشتكيت، وإني لا أستطيع أن أدور بينكن، فإذنَّ لي فلأكن عند عائشة، فكنت أمرضه ولم أمرِّض أحداً قبله، فبينما رأسه ذات يوم على منكبي إذ مال رأسه نحو رأسي، فظننت أنه يريد من رأسي حاجة، فخرجت من فِيه نقطة باردة، فوقعت على نقرة نحري فاقشعر لها جلدي، فظننت أنه غشي عليه، فسجيته ثوباً، فجاء عمر والمغيرة بن شعبة فاستأذنا، فأذنت لهما، وجذبت إليَّ الحجاب، فنظر عمر إليه فقال‏:‏ واغشياه، ما أشدَّ غشي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثم قاما فلما دنوا من الباب قال المغيرة‏:‏ يا عمر مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فقلت‏:‏ كذبت بل أنت رجل تحوسك فتنة، إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لا يموت حتَّى يفني الله المنافقين‏.‏

قالت‏:‏ ثم جاء أبو بكر، فرفعت الحجاب، فنظر إليه فقال‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثم أتاه من قبل رأسه فحدرناه، فقبَّل جبهته ثم قال‏:‏ وانبياه، ثم رفع رأسه فحدرناه، وقبَّل جبهته، ثم قال‏:‏ واصفياه، ثم رفع رأسه وحدرناه، وقبَّل جبهته وقال‏:‏ واخليلاه، مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وخرج إلى المسجد، وعمر يخطب النَّاس، ويتكلم ويقول‏:‏ إنَّ رسول الله لا يموت حتَّى يفني الله المنافقين‏.‏

فتكلم أبو بكر فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال‏:‏ إنَّ الله يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 30‏]‏‏.‏ حتَّى فرغ من الآية ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 144‏]‏ حتَّى فرغ من الآية، ثم قال‏:‏ فمن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمد فإن محمداً قد مات‏.‏

فقال عمر‏:‏ أو إنها في كتاب الله‏؟‏ ما شعرت أنها في كتاب الله‏.‏

ثم قال عمر‏:‏ يا أيها النَّاس هذا أبو بكر وهو ذو شيبة المسلمين، فبايعوه فبايعوه‏.‏

وقد روى أبو داود، والتِّرمذي في ‏(‏الشمائل‏)‏ من حديث مرحوم بن عبد العزيز العطار عن أبي عمران الجوني به ببعضه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/263‏)‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبانا أبو بكر ابن إسحاق، أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن ملحان، ثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني أبو سلمة عن عبد الرحمن أن عائشة أخبرته‏:‏ أن أبا بكر أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتَّى نزل فدخل المسجد، فلم يكلّم النَّاس حتَّى دخل على عائشة، فيمم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو مسجَّى ببرد حبرة فكشف عن وجهه، ثم أكبَّ عليه فقبَّله، ثم بكى ثم قال‏:‏ بأبي أنت وأمي يا رسول الله، والله لا يجمع الله عليك موتتين أبداً، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متَّها‏.‏

قال الزُّهري‏:‏ وحدثني أبو سلمة عن ابن عبَّاس أن أبا بكر خرج وعمر يكلم النَّاس فقال‏:‏ اجلس يا عمر‏!‏

فأبى عمر أن يجلس‏.‏

فقال‏:‏ اجلس يا عمر‏.‏

فأبى عمر أن يجلس، فتشهد أبو بكر فأقبل النَّاس إليه فقال‏:‏ أما بعد فمن كان منكم يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 144‏]‏ الآية‏.‏

قال‏:‏ فوالله لكأن النَّاس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتَّى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه النَّاس كلهم فما سمع بشر من النَّاس إلا يتلوها‏.‏

قال الزُّهري‏:‏ وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال‏:‏ والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعرفت أنه الحق، فعقرت حتَّى ما تقلني رجلاي وحتَّى هويت إلى الأرض، وعرفت حين سمعته تلاها أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد مات‏.‏

ورواه البخاري عن يحيى ابن بكير به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/264‏)‏

وروى الحافظ البيهقي‏:‏ من طريق ابن لهيعة، ثنا أبو الأسود عن عروة بن الزبير في ذكر وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ وقام عمر بن الخطاب يخطب النَّاس، ويتوعَّد من قال مات، بالقتل والقطع ويقول‏:‏ إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في غشية، لو قد قام قتل وقطع، وعمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم بن أم مكتوم قائم في مؤخر المسجد يقرأ‏:‏ ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ‏}‏ الآية والنَّاس في المسجد يبكون ويموجون لا يسمعون، فخرج عبَّاس بن عبد المطلب على النَّاس فقال‏:‏ يا أيها النَّاس هل عند أحد منكم من عهد من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في وفاته فليحدِّثنا‏.‏

قالوا‏:‏ لا‏!‏

قال‏:‏ هل عندك يا عمر من علم‏؟‏

قال‏:‏ لا‏!‏

فقال العبَّاس‏:‏ اشهدوا أيها النَّاس أن أحداً لا يشهد على رسول الله بعهد عهده إليه في وفاته، والله الذي لا إله إلا هو لقد ذاق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الموت‏.‏

قال‏:‏ وأقبل أبو بكر رضي الله عنه من السنح على دابته، حتَّى نزل بباب المسجد وأقبل مكروباً حزيناً، فاستأذن في بيت ابنته عائشة، فأذنت له فدخل ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد توفي على الفراش والنسوة حوله، فخمرن وجوههن، واستترن من أبي بكر إلا ما كان من عائشة، فكشف عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فحثى عليه يقبِّله ويبكي ويقول‏:‏ ليس ما يقوله ابن الخطاب شيئاً، توفي رسول الله والذي نفسي بيده، رحمة الله عليك يا رسول الله، ما أطيبك حياً وميتاً، ثم غشاه بالثوب، ثم خرج سريعاً إلى المسجد يتخطى رقاب النَّاس، حتَّى أتى المنبر وجلس عمر حين رأى أبا بكر مقبلاً إليه، وقام أبو بكر إلى جانب المنبر ونادى النَّاس فجلسوا وأنصتوا، فتشهد أبو بكر بما علمه من التشهد وقال‏:‏ إن الله عز وجل نعى نبيه إلى نفسه وهو حي بين أظهركم، ونعاكم إلى أنفسكم وهو الموت حتَّى لا يبقى منكم أحد إلا الله عز وجل قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ‏}‏ الآية‏.‏

فقال عمر‏:‏ هذه الآية في القرآن‏؟‏ والله ما علمت أن هذه الآية أنزلت قبل اليوم‏.‏

وقد قال الله تعالى لمحمد صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏‏.‏ ‏[‏القصص‏:‏ 88‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ‏}‏‏.‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 26-27‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏‏[‏آل عمران‏:‏ 185‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ إن الله عمَّر محمداً صلَّى الله عليه وسلَّم وأبقاه حتَّى أقام دين الله، وأظهر أمر الله، وبلَّغ رسالة الله، وجاهد في سبيل الله، ثمَّ توفاه الله على ذلك وقد ترككم على الطريقة، فلن يهلك هالك إلا من بعد البينة والشفاء، فمن كان الله ربه فإن الله حيّ لا يموت، ومن كان يعبد محمداً وينزله إلهاً فقد هلك إلهه، فاتقوا الله أيها النَّاس واعتصموا بدينكم، وتوكلوا على ربكم، فإن دين الله قائم، وإن كلمة الله تامة، وإن الله ناصر من نصره ومعز دينه، وإن كتاب الله بين أظهرنا وهو النور والشفاء، وبه هدى الله محمداً صلَّى الله عليه وسلَّم وفيه حلال الله وحرامه، والله لا نبالي من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف الله لمسلولة ما وضعناها بعد، ولنجاهدن من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلا يبغينَّ أحد إلا على نفسه‏.‏

ثم انصرف معه المهاجرون إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فذكر الحديث في غسله، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه‏.‏

قلت‏:‏ كما سنذكره مفصلاً بدلائله وشواهده، إن شاء الله تعالى‏.‏

وذكر الواقدي عن شيوخه قالوا‏:‏ ولما شكَّ في موت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال بعضهم‏:‏ مات‏!‏

وقال بعضهم‏:‏ لم يمت‏.‏

وضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت‏:‏ قد توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقد رفع الخاتم من بين كتفيه، فكان هذا الذي قد عرف به موته‏.‏

هكذا أورده الحافظ البيهقي في كتابه ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ من طريق الواقدي، وهو ضعيف، وشيوخه لم يسمون، ثم هو منقطع بكل حال ومخالف لما صح، وفيه غرابة شديدة وهو رفع الخاتم، فالله أعلم بالصواب‏.‏

وقد ذكر الواقدي وغيره في الوفاة أخباراً كثيرة فيها نكارات وغرابة شديدة، أضربنا عن أكثرها صفحاً لضعف أسانيدها، ونكارة متونها، ولا سيما ما يورده كثير من القصاص المتأخرين وغيرهم، فكثير منه موضوع لا محالة، وفي الأحاديث الصحيحة والحسنة والمروية في الكتب المشهورة غِنْيَة عن الأكاذيب، وما لا يعرف سنده، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/265‏)‏

 فصل في ذكر أمور مهمة وقعت بعد وفاته صلَّى الله عليه وسلَّم وقبل دفنه

ومن أعظمها وأجلها وأيمنها بركة على الإسلام وأهله بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لما مات كان الصديق رضي الله عنه قد صلى بالمسلمين صلاة الصبح، وكان إذ ذاك قد أفاق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إفاقة من غمرة ما كان فيه من الوجع، وكشف سترة الحجرة، ونظر إلى المسلمين وهم صفوف في الصلاة خلف أبي بكر فأعجبه ذلك، وتبسم صلوات الله وسلامه عليه حتَّى همَّ المسلمون أن يتركوا ما هم فيه من الصلاة لفرحهم به، وحتَّى أراد أبو بكر أن يتأخَّر ليصل الصف، فأشار إليهم أن يمكثوا كما هم وأرخى الستارة، وكان آخر العهد به عليه الصلاة والسلام فلما انصرف أبو بكر رضي الله عنه من الصلاة دخل عليه وقال لعائشة‏:‏ ما أرى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلا قد أقلع عنه الوجع، وهذا يوم بنت خارجة - يعني‏:‏ إحدى زوجتيه - وكانت ساكنة بالسنح شرقي المدينة، فركب على فرس له وذهب إلى منزله، وتوفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين اشتد الضحى من ذلك اليوم، وقيل‏:‏ عند زوال الشمس، والله أعلم‏.‏

فلما مات واختلف الصحابة فيما بينهم فمن قائل يقول‏:‏ مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

ومن قائل‏:‏ لم يمت‏.‏

فذهب سالم بن عبيد وراء الصديق إلى السنح فأعلمه بموت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فجاء الصديق من منزله حين بلغه الخبر، فدخل على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم منزله، وكشف الغطاء عن وجهه وقبَّله، وتحقق أنه قد مات، خرج إلى النَّاس فخطبهم إلى جانب المنبر وبيَّن لهم وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كما قدمنا، وأزاح الجدل، وأزال الإشكال، ورجع النَّاس كلهم إليه وبايعه في المسجد جماعة من الصحابة، ووقعت شبهة لبعض الأنصار، وقام في أذهان بعضهم جواز استخلاف خليفة من الأنصار، وتوسط بعضهم بين أن يكون أمير من المهاجرين وأمير من الأنصار، حتَّى بيَّن لهم الصديق أن الخلافة لا تكون إلا في قريش، فرجعوا إليه وأجمعوا عليه، كما سنبينه، وننبه عليه‏.‏

 قصة سقيفة بني ساعدة

قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا إسحاق بن عيسى الطباع، ثنا مالك بن أنس، حدثني ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن ابن عبَّاس أخبره أن عبد الرحمن بن عوف رجع إلى رحله قال ابن عبَّاس‏:‏ وكنت أقرئ عبد الرحمن بن عوف فوجدني وأنا أنتظره وذلك بمنى في آخر حجة حجها عمر بن الخطاب‏.‏

فقال عبد الرحمن بن عوف‏:‏ إن رجلاً أتى عمر بن الخطاب‏.‏

فقال‏:‏ إن فلاناً يقول‏:‏ لو قد مات عمر بايعت فلاناً‏.‏

فقال عمر‏:‏ إني قائم العشية إن شاء الله في النَّاس فمحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم‏.‏

قال عبد الرحمن‏:‏ فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع النَّاس وغوغاءهم، وأنهم الذين يغلبون على مجلسك إذا قمت في النَّاس فأخشى أن تقول مقالة يطير بها أولئك فلا يعوها ولا يضعوها مواضعها، ولكن حتَّى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة، وتخلص بعلماء النَّاس وأشرافهم فتقول ما قلت متمكناً، فيعون مقالتك ويضعوها مواضعها‏.‏

قال عمر‏:‏ لئن قدمت المدينة صالحاً لأكلمن بها النَّاس في أول مقام أقومه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/266‏)‏

فلما قدمنا المدينة في عقب ذي الحجة وكان يوم الجمعة عجلت الرواح صكة الأعمى قلت لمالك‏:‏ وما صكة الأعمى‏؟‏

قال‏:‏ إنه لا يبالي أي ساعة خرج لا يعرف الحر والبرد، أو نحو هذا، فوجدت سعيد بن زيد عند ركن المنبر الأيمن قد سبقني، فجلست حذاءه تحك ركبتي ركبته فلم أنشب أن طلع عمر، فلما رأيته قلت‏:‏ ليقولن العشية على هذا المنبر مقالة ما قالها عليه أحد قبله‏.‏

قال‏:‏ فأنكر سعيد بن زيد ذلك وقال‏:‏ ما عسيت أن يقول ما لم يقل أحد‏.‏

فجلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذن، قام فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال‏:‏ أما بعد أيها النَّاس فإني قائل مقالة وقد قدر لي أن أقولها لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن وعاها وعقلها فليحدِّث بها حيث انتهت به راحلته، ومن لم يعها فلا أحلّ له أن يكذب عليّ، إن الله بعث محمداً بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها، وعقلناها، ورجم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالنَّاس زمان أن يقول قائل‏:‏ لا نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله عز وجل فالرجم في كتاب الله حق على من زنا إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف، ألا وإنا قد كنا نقرأ‏:‏ لا ترغبوا عن آبائكم فإن كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم، ألا وإن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تطروني كما أطري عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا‏:‏ عبد الله ورسوله‏)‏‏)‏ وقد بلغني أن قائلاً منكم يقول‏:‏ لو قد مات عمر بايعت فلاناً، فلا يغترن امرؤ أن يقول‏:‏ إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت، ألا وأنها كانت كذلك، إلا إن الله وقى شرها، وليس فيكم اليوم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، وأنه كان من خبرنا حين توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن علياً والزبير ومن كان معهما تخلَّفوا في بيت فاطمة بنت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وتخلَّف عنها الأنصار بأجمعها في سقيفة بني ساعدة، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت له‏:‏ يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار، فانطلقنا نؤمهم حتَّى لقينا رجلان صالحان، فذكراً لنا الذي صنع القوم فقالا‏:‏ أين تريدون يا معشر المهاجرين‏؟‏

فقلت‏:‏ نريد إخواننا من الأنصار‏.‏

فقالا‏:‏ لا عليكم أن لا تقربوهم واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين‏.‏

فقلت‏:‏ والله لنأتينهم، فانطلقنا حتَّى جئناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا هم مجتمعون، وإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل فقلت‏:‏ من هذا‏؟‏

قالوا‏:‏ سعد بن عبادة‏.‏

فقلت‏:‏ ماله‏؟‏

قالوا‏:‏ وجع، فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله وقال‏:‏ أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط نبينا، وقد دفت دافة منكم تريدون أن تختزلونا من أصلنا، وتحصنونا من الأمر‏.‏

فلما سكت أردت أن أتكلم، وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أردت أن أقولها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحد وهو كان أحكم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قالها في بديهته وأفضل حتَّى سكت‏.‏

فقال‏:‏ أما بعد فما ذكرتم من خير فأنتم أهله، وما تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أيهما شئتم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/267‏)‏

وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة ابن الجراح، فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إليَّ أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، إلا أن تغير نفسي عند الموت‏.‏

فقال قائل من الأنصار‏:‏ أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش‏.‏

فقلت لمالك‏:‏ ما يعني‏:‏ أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب‏؟‏

قال‏:‏ كأنه يقول‏:‏ أنا داهيتها‏.‏

قال‏:‏ فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتَّى خشينا الاختلاف‏.‏

فقلت‏:‏ أبسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم‏:‏ قتلتم سعداً‏.‏

فقلت‏:‏ قتل الله سعداً‏.‏

قال عمر‏:‏ أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمراً هو أرفق من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما نبايعهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فساد، فمن بايع أميراً عن غير مشورة المسلمين فلا بيعة له، ولا بيعة للذي بايعه تغرة أن يقتلا‏.‏

قال مالك‏:‏ فأخبرني ابن شهاب عن عروة أن الرجلين اللذين لقياهما‏:‏ عويم بن ساعدة، ومعن بن عدي‏.‏

قال ابن شهاب‏:‏ وأخبرني سعيد بن المسيب أن الذي قال‏:‏ أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب‏:‏ هو الحباب بن المنذر‏.‏

وقد أخرج هذا الحديث الجماعة في كتبهم من طرق عن مالك وغيره عن الزُّهري به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا معاوية عن عمرو، ثنا زائدة، ثنا عاصم، وحدثني حسين بن علي عن زائدة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله - هو‏:‏ ابن مسعود - قال‏:‏ لما قبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قالت الأنصار‏:‏ منا أمير ومنكم أمير، فأتاهم عمر فقال‏:‏ يا معشر الأنصار ألستم تعلمون أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد أمر أبا بكر أن يؤمَّ النَّاس، فأيُّكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر، فقالت الأنصار‏:‏ نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر‏.‏

ورواه النسائي عن إسحاق بن راهويه، وهناد بن السري عن حسين بن علي الجعفي، عن زائدة به‏.‏

ورواه علي بن المديني عن حسين بن علي، وقال‏:‏ صحيح لا أحفظه إلا من حديث زائدة عن عاصم‏.‏

وقد رواه النسائي أيضاً من حديث سلمة بن نبيط، عن نعيم ابن أبي هند، عن نبيط بن شريط، عن سالم بن عبيد، عن عمر مثله‏.‏

وقد روي عن عمر بن الخطاب نحوه من طريق آخر، وجاء من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الله ابن أبي بكر، عن الزُّهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عبَّاس، عن عمر أنه قال‏:‏ قلت‏:‏ يا معشر المسلمين إن أولى النَّاس بأمر النَّبيّ الله ثاني اثنين إذ هما في الغار، وأبو بكر السبَّاق المسن، ثم أخذت بيده وبدرني رجل من الأنصار فضرب على يده قبل أن أضرب على يده، ثم ضربت على يده وتبايع النَّاس‏.‏

وقد روى محمد بن سعد عن عارم بن الفضل، عن حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد فذكر نحواً من هذه القصة، وسمَّى هذا الرجل الذي بايع الصديق قبل عمر بن الخطاب فقال‏:‏ هو بشير بن سعد والد النعمان بن بشير‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/268‏)‏

اعتراف سعد بن عبادة بصحة ما قاله الصديق يوم السقيفة

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا أبو عوانة عن داود بن عبد الله الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن قال‏:‏ توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأبو بكر رضي الله عنه في صائفة من المدينة قال‏:‏ فجاء فكشف عن وجهه فقبَّله وقال‏:‏ فداك أبي وأمي ما أطيبك حياً وميتاً، مات محمد ورب الكعبة، فذكر الحديث‏.‏

قال‏:‏ فانطلق أبو بكر وعمر يتعادان حتَّى أتوهم، فتكلم أبو بكر فلم يترك شيئاً أنزل في الأنصار، ولا ذكره رسول الله من شأنهم إلا ذكره وقال‏:‏ لقد علمتم أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لو سلك النَّاس وادياً وسلكت الأنصار وادياً، سلكت وادي الأنصار‏)‏‏)‏ ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال وأنت قاعد‏:‏ ‏(‏‏(‏قريش ولاة هذا الأمر فبر النَّاس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال له سعد‏:‏ صدقت نحن الوزراء، وأنتم الأمراء‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا علي بن عبَّاس، ثنا الوليد بن مسلم، أخبرني يزيد بن سعيد بن ذي عضوان العبسي عن عبد الملك بن عمير اللخمي، عن رافع الطائي رفيق أبي بكر الصديق في غزوة ذات السلاسل قال‏:‏ وسألته عما قيل في بيعتهم‏.‏

فقال‏:‏ وهو يحدِّثه عما تقاولت به الأنصار وما كلمهم به، وما كلم به عمر بن الخطاب الأنصار، وما ذكرهم به من إمامتي إياهم بأمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في مرضه، فبايعوني لذلك وقبلتها منهم وتخوفت أن تكون فتنة بعدها ردة‏.‏

وهذا إسناد جيد قوي، ومعنى هذا‏:‏ أنه رضي الله عنه إنما قبل الإمامة تخوفاً أن يقع فتنة أربى من تركه قبولها، رضي الله عنه وأرضاه‏.‏

قلت‏:‏ كان هذا في بقية يوم الإثنين، فلما كان الغد صبيحة يوم الثلاثاء اجتمع النَّاس في المسجد، فتممت البيعة من المهاجرين والأنصار قاطبة، وكان ذلك قبل تجهيز رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تسليماً‏.‏

قال البخاري‏:‏ أنبأنا إبراهيم بن موسى، ثنا هشام عن معمر، عن الزُّهري، أخبرني أنس بن مالك، أنه سمع خطبة عمر الأخيرة حين جلس على المنبر، وذلك الغد من يوم توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وأبو بكر صامت لا يتكلم‏.‏

قال‏:‏ كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حتَّى يدبرنا - يريد بذلك أن يكون آخرهم - فإن يك محمد قد مات، فإن الله قد جعل بين أظهركم نوراً تهتدون به، هدي محمداً صلَّى الله عليه وسلَّم وإن أبا بكر صاحب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وثاني اثنين، وأنه أولى المسلمين بأموركم، فقدموا فبايعوه، وكانت طائفة قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة، وكانت بيعة العامة على المنبر‏.‏

قال الزُّهري عن أنس بن مالك سمعت عمر يقول يومئذ لأبي بكر‏:‏ اصعد المنبر‏!‏فلم يزل به حتَّى صعد المنبر، فبايعه عامة النَّاس‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/269‏)‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني الزُّهري، حدثني أنس بن مالك قال‏:‏ لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد، جلس أبو بكر على المنبر، وقام عمر فتكلَّم قبل أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال‏:‏ أيها النَّاس إني قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت إلا عن رأيي وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهداً عهدها إلي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ولكني كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا يقول‏:‏ يكون آخرنا وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسول الله، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه الله له، وأن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه، فبايع النَّاس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة‏.‏

ثم تكلَّم أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال‏:‏ أما بعد أيها النَّاس، فإني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف منكم قوي عندي حتَّى أزيح علته إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتَّى آخذ الحق إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا يشيع قوم قط الفاحشة إلا عمَّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله‏.‏

وهذا إسناد صحيح فقوله رضي الله عنه‏:‏ وليتكم ولست بخيركم‏:‏ من باب الهضم والتواضع، فإنهم مجمعون على أنه أفضلهم، وخيرهم رضي الله عنهم‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الحافظ الإسفراييني، حدثنا أبو علي الحسين بن علي الحافظ، حدثنا أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة وابن إبراهيم ابن أبي طالب قالا‏:‏ حدثنا ميدار بن يسار، وحدثنا أبو هشام المخزومي، حدثنا وهيب، حدثنا داود ابن أبي هند، حدثنا أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم واجتمع النَّاس في دار سعد بن عبادة وفيهم أبو بكر وعمر قال‏:‏ فقام خطيب الأنصار فقال‏:‏ أتعلمون أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان من المهاجرين، وخليفته من المهاجرين، ونحن كنا أنصار رسول الله، ونحن أنصار خليفته كما كنا أنصاره‏.‏

قال‏:‏ فقام عمر بن الخطاب فقال‏:‏ صدق قائلكم‏!‏أما لو قلتم على غير هذا لم نبايعكم، وأخذ بيد أبي بكر وقال‏:‏ هذا صاحبكم فبايعوه، فبايعه عمر، وبايعه المهاجرون والأنصار‏.‏

قال‏:‏ فصعد أبو بكر المنبر فنظر في وجوه القوم فلم ير الزبير قال‏:‏ فدعا بالزبير فجاء‏.‏

فقال‏:‏ قلت‏:‏ ابن عمة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وحواريه أردت أن تشق عصا المسلمين‏.‏

فقال‏:‏ لا تثريب يا خليفة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقام فبايعه‏.‏

ثم نظر في وجوه القوم فلم ير علياً فدعا بعلي بن أبي طالب، فجاء‏.‏

فقال‏:‏ قلت‏:‏ ابن عم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وختنه على ابنته، أردت أن تشق عصا المسلمين‏.‏

قال‏:‏ لا تثريب يا خليفة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فبايعه، هذا أو معناه‏.‏

وقال أبو علي الحافظ‏:‏ سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول‏:‏ جاءني مسلم بن الحجاج فسألني عن هذا الحديث، فكتبته له في رقعة وقرأته عليه، وهذا حديث يسوي بدنة، بل يسوي بدرة ‏!‏‏.‏

وقد رواه البيهقي عن الحاكم، وأبي محمد بن حامد المقري، كلاهما عن أبي العبَّاس محمد بن يعقوب الأصم، عن جعفر بن محمد بن شاكر، عن عفان بن سلم، عن وهيب به، ولكن ذكر أن الصديق هو القائل لخطيب الأنصار بدل عمر، وفيه أن زيد بن ثابت أخذ بيد أبي بكر فقال‏:‏ هذا صاحبكم فبايعوه، ثم انطلقوا، فلما قعد أبو بكر على المنبر نظر في وجوه القوم فلم ير علياً، فسأل عنه، فقام ناس من الأنصار فأتوا به، فذكر نحو ما تقدم، ثم ذكر قصة الزبير بعد علي، فالله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/270‏)‏

وقد رواه علي بن عاصم عن الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري فذكر نحو ما تقدَّم، وهذا إسناد صحيح محفوظ، من حديث أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري، وفيه فائدة جليلة وهي‏:‏ مبايعة علي ابن أبي طالب، أما في أول يوم، أو في اليوم الثاني من الوفاة، وهذا حق فإن علي ابن أبي طالب لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات، ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه، كما سنذكره، وخرج معه إلى ذي القصة لما خرج الصديق شاهراً سيفه يريد قتال أهل الردة كما سنبينه قريباً، ولكن لما حصل من فاطمة رضي الله عنها عتب على الصديق بسبب ما كانت متوهمة من أنها تستحق ميراث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ولم تعلم بما أخبرها به الصديق رضي الله عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا نورث ما تركنا فهو صدقة‏)‏‏)‏ فحجبها وغيرها من أزواجه وعمه عن الميراث بهذا النص الصريح، كما سنبين ذلك في موضعه، فسألته أن ينظر علي في صدقة الأرض التي بخيبر وفدك، فلم يجبها إلى ذلك، لأنه رأى أن حقاً عليه أن يقوم في جميع ما كان يتولاه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو الصادق البار، الراشد التابع للحق رضي الله عنه فحصل لها وهي امرأة من البشر ليست بواجبة العصمة عتب وتغضب، ولم تكلِّم الصديق حتَّىماتت، واحتاج علي أن يراعي خاطرها بعض الشيء، فلما ماتت بعد ستة أشهر من وفاة أبيها صلَّى الله عليه وسلَّم رأى علي أن يجدد البيعة مع أبي بكر رضي الله عنه، كما سنذكره من الصحيحين، وغيرهما فيما بعد إن شاء الله تعالى مع ما تقدم له من البيعة قبل دفن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

ويزيد ذلك صحة قول موسى بن عقبة في مغازيه عن سعد بن إبراهيم، حدثني أبي أن أباه عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر، وأن محمد بن مسلمة كسر سيف الزبير، ثم خطب أبو بكر واعتذر إلى النَّاس وقال‏:‏ ما كنت حريصاً على الإمارة يوماً ولا ليلة، ولا سألتها في سر ولا علانية، فقبل المهاجرون مقالته، وقال علي والزبير‏:‏ ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة، وإنا نرى أن أبا بكر أحق النَّاس بها، إنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف شرفه وخبره، ولقد أمره رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يصلي بالنَّاس وهو حي‏.‏

إسناد جيد، ولله الحمد والمنة‏.‏

 فصل خلافة أبي بكر

ومن تأمل ما ذكرناه ظهر له إجماع المهاجرين منهم والأنصار على تقديم أبي بكر، وظهر برهان قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏‏(‏يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر‏)‏‏)‏ وظهر له أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لم ينص على الخلافة عيناً لأحد من النَّاس لا لأبي بكر كما قد زعمه طائفة من أهل السنة، ولا لعلي كما يقوله طائفة من الرافضة، ولكن أشار إشارة قوية‏!‏يفهمها كل ذي لب وعقل إلى الصديق، كما قدمنا وسنذكره ولله الحمد‏.‏

كما ثبت في الصحيحين من حديث هشام بن عروة عن أبيه، عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب لما طعن قيل له‏:‏ ألا تستخلف يا أمير المؤمنين‏؟‏

فقال‏:‏ إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني‏:‏ أبا بكر -، وإن أترك، فقد ترك من هو خير مني يعني‏:‏ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

قال ابن عمر‏:‏ فعرفت حين ذكر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه غير مستخلف‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/271‏)‏

وقال سفيان الثوري عن عمرو بن قيس، عن عمرو بن سفيان قال‏:‏ لما ظهر علي على النَّاس قال‏:‏ يا أيها النَّاس إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئاً حتَّى رأينا من الرأي أن يستخلف أبا بكر، فأقام واستقام حتَّى مضى لسبيله، ثم إن أبا بكر رأى من الرأي أن يستخلف عمر، فأقام واستقام حتَّى مضى لسبيله - أو قال‏:‏ حتَّى ضرب ألين بجرانه - إلى آخره‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا أبو نعيم، ثنا شريك عن الأسود بن قيس، عن عمرو بن سفيان قال‏:‏ خطب رجل يوم البصرة حين ظهر علي فقال علي‏:‏ هذا الخطيب السجسج، سبق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وصلى أبو بكر، وثلث عمر، ثم خبطتنا فتنة بعدهم يصنع الله فيها ما يشاء‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو بكر محمد بن أحمد الزكي بمرو، ثنا عبد الله بن روح المدائني، ثنا شبابة بن سوار، ثنا شعيب بن ميمون عن حصين بن عبد الرحمن، عن الشعبي، عن أبي وائل قال‏:‏ قيل لعلي ابن أبي طالب‏:‏ ألا تستخلف علينا‏؟‏

فقال‏:‏ ما استخلف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأستخلف، ولكن إن يرد الله بالنَّاس خيراً فسيجمعهم بعدي على خيرهم، كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم‏.‏

إسناد جيد، ولم يخرِّجوه‏.‏

وقد قدمنا ما ذكره البخاري من حديث الزُّهري عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن ابن عبَّاس أن عبَّاساً وعلياً لما خرجا من عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال رجل‏:‏ كيف أصبح رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏؟‏

فقال علي‏:‏ أصبح بحمد الله بارئاً‏.‏

فقال العبَّاس‏:‏ إنك والله عبد العصا بعد ثلاث، إني لأعرف في وجوه بني هاشم الموت، وإني لأرى في وجه رسول الله الموت، فاذهب بنا إليه فنسأله فيمن هذا الأمر فإن كان فينا عرفناه، وإن كان في غيرنا أمرناه فوصاه بنا‏.‏

فقال علي‏:‏ إني لا أسأله ذلك، والله إن منعناها لا يعطيناها النَّاس بعده أبداً‏.‏

وقد رواه محمد بن إسحاق عن الزُّهري به، فذكره وقال فيه‏:‏ فدخلا عليه في يوم قبض صلَّى الله عليه وسلَّم، فذكره وقال في آخره‏:‏ فتوفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين اشتد الضحى من ذلك اليوم‏.‏

قلت‏:‏ فهذا يكون في يوم الإثنين يوم الوفاة، فدل على أنه عليه السلام توفي عن غير وصية في الإمارة‏.‏

وفي الصحيحين عن ابن عبَّاس أن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وبين أن يكتب ذلك الكتاب، وقد قدمنا أنه عليه السلام كان طلب أن يكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده، فلما أكثروا اللغط والاختلاف عنده قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قوموا عني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه‏)‏‏)‏‏.‏

وقد قدمنا أنه قال بعد ذلك‏:‏ ‏(‏‏(‏يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عون عن إبراهيم التيمي، عن الأسود قال‏:‏ قيل لعائشة‏:‏ إنهم يقولون أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أوصى إلى علي‏.‏

فقالت‏:‏ بما أوصى إلى علي‏؟‏ لقد دعا بطست ليبول فيها، وأنا مسندته إلى صدري فانحنف فمات، وما شعرت فيم يقول هؤلاء أنه أوصى إلى علي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/272‏)‏

وفي الصَّحيحين من حديث مالك بن مغول عن طلحة بن مصرف قال‏:‏ سألت عبد الله ابن أبي أوفى هل أوصى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏؟‏

قال‏:‏ لا‏!‏

قلت‏:‏ فلم أمرنا بالوصية‏؟‏

قال‏:‏ أوصى بكتاب الله عز وجل‏.‏

قال طلحة بن مصرف وقال هذيل بن شرحبيل‏:‏ أبو بكر يتأمر على وصي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ود أبو بكر أنه وجد عهداً من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فخرم أنفه بخرامة‏.‏

وفي الصحيحين أيضاً من حديث الأعمش عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال‏:‏ خطبنا علي ابن أبي طالب رضي الله عنه فقال‏:‏ من زعم أن عندنا شيئا نقرأه ليس في كتاب الله، وهذه الصحيفة لصحيفة معلقة في سيفه فيها أسنان الإبل، وأشياء من الجراحات فقد كذب‏.‏

وفيها قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً، أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والنَّاس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً، ومن ادَّعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والنَّاس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً، وذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والنَّاس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا الحديث الثابت في الصَّحيحين وغيرهما عن علي رضي الله عنه يرد على فرقة الرَّافضة في زعمهم أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أوصى إليه بالخلافة، ولو كان الأمر كما زعموا لما ردَّ ذلك أحد من الصَّحابة، فإنَّهم كانوا أطوع لله ولرسوله في حياته صلَّى الله عليه وسلَّم وبعد وفاته من أن يقتاتوا عليه فيقدموا غير من قدمه، ويؤخروا من قدمه بنصه، حاشا وكلا ولما، ومن ظن بالصَّحابة رضوان الله عليهم ذلك فقد نسبهم بأجمعهم إلى الفجور والتواطئ على معاندة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم ومضادتهم في حكمه ونصه، ومن وصل من النَّاس إلى هذا المقام فقد خلع ربقة الإسلام، وكفر بإجماع الأئمة الأعلام، وكان إراقة دمه أحل من إراقة المدام، ثم لو كان مع علي ابن أبي طالب رضي الله عنه نص، فلِمَ لا كان يحتج به على الصحابة على إثبات إمارته عليهم وإمامته لهم‏؟‏ فإن لم يقدر على تنفيذ ما معه من النص فهو عاجز، والعاجز لا يصلح للإمارة، وإن كان يقدر ولم يفعله فهو خائن، والخائن الفاسق مسلوب معزول عن الإمارة، وإن لم يعلم بوجود النص فهو جاهل، ثم وقد عرفه وعلمه من بعده هذا محال، وافتراء، وجهل، وضلال، وإنما يحسن هذا في أذهان الجهلة الطغام، والمغترين من الأنام، يزينه لهم الشيطان بلا دليل ولا برهان، بل بمجرد التحكم والهذيان، والإفك والبهتان، عياذاً بالله مما هم فيه من التخليط والخذلان، والتخبيط والكفران، وملاذاً بالله بالتمسك بالسنة والقرآن، والوفاة على الإسلام والإيمان، والموافاة على الثبات والإيقان، وتثقيل الميزان، والنجاة من النيران، والفوز بالجنان، إنه كريم منان، رحيم رحمن‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/273‏)‏

وفي هذا الحديث الثابت في الصَّحيحين، عن علي الذي قدمناه رد على متقولة كثير من الطرقية، والقُصَّاص الجهلة في دعواهم أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أوصى إلى علي بأشياء كثيرة يسوقونها مطولة، يا علي إفعل كذا، يا علي لا تفعل كذا، يا علي من فعل كذا كان كذا وكذا بألفاظ ركيكة، ومعاني أكثرها سخيفة، وكثير منها صحفية لا تساوي تسويد الصحيفة، والله أعلم‏.‏

وقد أورد الحافظ البيهقي من طريق حماد بن عمرو النصيبي وهو‏:‏ أحد الكذابين الصواغين - عن السري بن خلاد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي ابن أبي طالب، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا علي أوصيك بوصية إحفظها، فإنك لا تزال بخير ما حفظتها، يا علي إن للمؤمن ثلاث علامات‏:‏ الصلاة، والصيام، والزكاة‏)‏‏)‏‏.‏

قال البيهقي‏:‏ فذكر حديثاً مطويلاً في الرغائب والآداب، وهو حديث موضوع، وقد شرطت في أول الكتاب أن لا أخرج فيه حديثاً أعلمه موضوعاً، ثم روى من طريق حماد بن عمر، وهذا عن زيد بن رفيع، عن مكحول الشامي قال‏:‏ هذا ما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لعلي ابن أبي طالب حين رجع من غزوة حنين، وأنزلت عليه سورة النَّصر‏.‏

قال البيهقي‏:‏ فذكر حديثاً طويلاً في الفتنة، وهو أيضاً حديث منكر ليس له أصل، وفي الأحاديث الصحيحية كفاية، وبالله التوفيق‏.‏

ولنذكر هاهنا ترجمة حماد بن عمرو أبي إسماعيل النصيبي، روى عن الأعمش وغيره، وعنه إبراهيم بن موسى، ومحمد بن مهران، وموسى بن أيوب، وغيرهم‏.‏

قال يحيى بن معين‏:‏ هو ممن يكذب ويضع الحديث‏.‏

وقال عمرو بن علي الفلاس، وأبو حاتم‏:‏ منكر الحديث ضعيف جداً‏.‏

وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني‏:‏ كان يكذب‏.‏

وقال البخاري‏:‏ منكر الحديث‏.‏

وقال أبو زرعة‏:‏ واهي الحديث‏.‏

وقال النسائي‏:‏ متروك‏.‏

وقال ابن حبان‏:‏ يضع الحديث وضعاً‏.‏

وقال ابن عدي‏:‏ عامة حديثه مما لا يتابعه أحد من الثقات عليه‏.‏

وقال الدارقطني‏:‏ ضعيف‏.‏

وقال الحاكم أبو عبد الله‏:‏ يروي عن الثقات أحاديث موضوعة، وهو ساقط بمرة‏.‏

فأما الحديث الذي قال الحافظ البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ، أنبأنا حمزة بن العبَّاس العقبي ببغداد، ثنا عبد الله بن روح المدائني، ثنا سلام بن سليمان المدائني، ثنا سلام بن سليم الطويل عن عبد الملك بن عبد الرحمن، عن الحسن المقبري، عن الأشعث بن طليق، عن مرة بن شراحيل، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ لما ثقل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم اجتمعنا في بيت عائشة، فنظر إلينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فدمعت عيناه ثم قال لنا‏:‏ ‏(‏‏(‏قد دنا الفراق‏)‏‏)‏ ونعى إلينا نفسه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏مرحباً بكم، حياكم الله، هداكم الله، نصركم الله، نفعكم الله، وفَّقكم الله، سدَّدكم الله، وقاكم الله، أعانكم الله، قبِلكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأوصي الله بكم واستخلفه عليكم إني لكم منه نذير مبين، أن لا تعلوا على الله في عباده وبلاده، فإن الله قال لي ولكم‏:‏ ‏(‏‏(‏تلك الدَّار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين‏)‏‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أليس في جهنم مثوى للمتكبرين‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/274‏)‏

قلنا‏:‏ فمتى أجلك يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد دنا الأجل، والمنقلب إلى الله، والسدرة المنتهى، والكأس الأوفى، والفرش الأعلى‏)‏‏)‏‏.‏

قلنا‏:‏ فمن يغسِّلك يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏رجال أهل بيتي الأدنى فالأدنى مع ملائكة كثيرة يرونكم من حيث لا ترونهم‏)‏‏)‏‏.‏

قلنا‏:‏ ففيمَ نكفنك يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏في ثيابي هذه إن شئتم، أو في يمنية، أو في بياض مصر‏)‏‏)‏‏.‏

قلنا‏:‏ فمن يصلي عليك يا رسول الله‏؟‏

فبكى وبكينا وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مهلاً‏!‏غفر الله لكم، وجزاكم عن نبيكم خيراً، إذا غسلتموني، وحنطتموني، وكفنتموني، فضعوني على شفير قبري، ثم أخرجوا عني ساعة، فإن أول من يصلي علي خليلاي وجليساي جبريل وميكائيل، ثم إسرافيل، ثم ملك الموت مع جنود من الملائكة عليهم السلام، وليبدأ بالصلاة علي رجال أهل بيتي، ثم نساؤهم، ثم ادخلوا علي أفواجاً أفواجاً، وفرادى فرادى، ولا تؤذوني بباكية ولا برنة ولا بضجة، ومن كان غائباً من أصحابي فأبلغوه عني السلام، وأشهدكم بأني قد سلَّمت على من دخل في الإسلام، ومن تابعني في ديني، هذا منذ اليوم إلى يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

قلنا‏:‏ فمن يدخلك قبرك يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏رجال أهل بيتي الأدنى فالأدنى مع ملائكة كثيرة يرونكم من حيث لا ترونهم‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال البيهقي‏:‏ تابعه أحمد بن يونس عن سلام الطويل، وتفرَّد به سلام الطويل‏.‏

قلت‏:‏ وهو سلام بن مسلم ويقال‏:‏ ابن سليم، ويقال‏:‏ ابن سليمان، والأول أصح، التميمي السعدي الطويل يروي عن جعفر الصادق، وحميد الطويل، وزيد العمي، وجماعة، وعنه جماعة أيضاً منهم‏:‏ أحمد بن عبد الله بن يونس، وأسد بن موسى، وخلف بن هشام البزار، وعلي بن الجعد، وقبيصة بن عقبة، وقد ضعَّفه علي بن المديني، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والبخاري، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والجوزجاني، والنسائي، وغير واحد، وكذَّبه بعض الأئمة، وتركه آخرون‏.‏

لكن روى هذا الحديث بهذا السياق بطوله الحافظ أبو بكر البزار من غير طريق سلام هذا فقال‏:‏ حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن ابن الأصبهاني، أنه أخبره عن مرة، عن عبد الله فذكر الحديث بطوله‏.‏

ثم قال البزار‏:‏ وقد روى هذا عن مرة من غير وجه بأسانيد متقاربة، وعبد الرحمن ابن الأصبهانيّ لم يسمع هذا من مرة وإنما هو عمن أخبره عن مرة، ولا أعلم أحداً رواه عن عبد الله، عن مرة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/275‏)‏