فصل: الحسن بن محمد بن الحنفية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة سبع وتسعين

وفيها جهز سليمان بن عبد الملك الجيوش إلى القسطنطينية، وفيها أمر ابنه داود على الصائفة، ففتح حصن المرأة، قال الواقدي‏:‏ وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الوضاحية ففتح الحصن الذي بناه الوضاح صاحب الوضاحية‏.‏

وفيها غزا مسلمة أيضاً برجمة ففتح حصوناً وبرجمة وحصن الحديد وسرراً، وشتى بأرض الروم‏.‏

وفيها غزا عمر بن هبيرة الفزاري في البحر أرض الروم وشتى بها‏.‏

وفيها قتل عبد العزيز بن موسى بن نصير، وقدم برأسه على سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين‏.‏ مع حبيب بن أبي عبيد الفهري‏.‏

وفيها ولى سليمان نيابة خراسان ليزيد بن المهلب مضافاً إلى ما بيده من إمرة العراق، وكان سبب ذلك أن وكيع بن أبي سود لما قتل قتيبة بن مسلم وذريته، بعث برأس قتيبة إلى سليمان فحظي عنده وكتب له بإمرة خراسان، فبعث يزيد بن المهلب عبد الرحمن ابن الأهتم إلى سليمان بن عبد الملك ليحسن عنده أمر يزيد بن المهلب في إمرة خراسان، ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/ 193‏)‏ وينتقص عنده وكيع بن أبي سود، فسار ابن الأهتم - وكان ذا دهاء ومكر - إلى سليمان بن عبد الملك، فلم يزل به حتى عزل وكيعاً عن خراسان وولى عليها يزيد مع إمرة العراق، وبعث بعهده مع ابن الأهتم، فسار في سبع حتى جاء يزيد، فأعطاه عهد خراسان مع العراق، وكان يزيد وعده بمائة ألف فلم يف بها، وبعث يزيد ابنه مخلداً بين يديه إلى خراسان، ومعه كتاب أمير المؤمنين مضمونه أن قيساً زعموا أن قتيبة بن مسلم لم يكن خلع الطاعة، فإن كان وكيع قد تعرض له وثار عليه بسبب أنه خلع ولم يكن خلع فقيده وابعث به إلي فتقدم مخلد فأخذ وكيعاً فعاقبه وحبسه قبل أن يجيء أبوه، فكانت إمرة وكيع بن أبي سود الذي قتل قتيبة تسعة أشهر أو عشرة أشهر ثم قدم يزيد بن المهلب فتسلم خراسان وأقام بها واستناب في البلاد نواباً ذكرهم ابن جرير قال‏:‏ ثم سار يزيد بن المهلب فغزا جرجان ولم يكن يومئذ مدينة بأبواب وصور، وإنما هي جبال وأودية وكان ملكها يقال له‏:‏ صول فتحول عنها إلى قلعة هناك، وقيل‏:‏ إلى جزيرة في بحيرة هناك ثم أخذوه من البحيرة وقتلوا من أهلها خلقاً كثيراً وأسروا وغنموا، قال‏:‏ وفيها حج بالناس سليمان بن عبد الملك ونواب البلاد هم المذكورون في التي قبلها، غير أن خراسان عزل عنها وكيع بن سود ووليها يزيد بن المهلب بن أبي صفرة مع العراق، وممن  توفي فيها من الأعيان‏:‏

 الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب

أبو محمد القرشي الهاشمي روى عن أبيه، عن جده مرفوعاً من عال أهل بيت من المسلمين يومهم وليلتهم غفر الله له ذنوبه، وعن عبد الله بن جعفر، عن علي، في دعاء الكرب، وعن زوجته فاطمة بنت الحسين، وعن ابنه عبد الله وجماعة‏.‏

وفد على عبد الملك بن مروان فأكرمه ونصره على الحجاج وأقره وحده على ولاية صدقة علي، وقد ترجمه ابن عساكر فأحسن وذكر عنه آثاراً تدل على سيادته قيل‏:‏ إن الوليد بن عبد الملك كتب إلى عامله بالمدينة إن الحسن بن الحسن كاتب أهل العراق فإذا جاءك كتابي هذا فاجلده مائة ضربه، وقفه للناس، ولا تراني إلا قاتله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/194‏)‏

فأرسل خلفه فعلمه علي بن الحسين كلمات الكرب فقالها حين دخل عليه فنجاه الله منهم، وهي‏:‏ لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم، لا إله إلا الله رب السموات السبع ورب الأرض رب العرش العظيم‏.‏

توفي بالمدينة، وكانت أمه خولة بنت منظور الفزاري‏.‏ وقال يوماً لرجل من الرافضة‏:‏ والله إن قتلك لقربة إلى الله عز وجل، فقال له الرجل‏:‏ إنك تمزح، فقال‏:‏ الله ما هذا مني بمزح ولكنه الجد‏.‏

وقال له آخر منهم‏:‏ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من كنت مواه فعلي مولاه‏)‏‏)‏ ‏؟‏‏.‏ فقال‏:‏ بلى، ولو أراد الخلافة لخطب الناس فقال‏:‏ أيها الناس اعلموا أن هذا ولي أمركم من بعدي، وهو القائم عليكم فاسمعوا له وأطيعوا، والله لئن كان الله ورسوله اختار علياً لهذا الأمر ثم تركه علي لكان أول من ترك أمر الله ورسوله، وقال لهم أيضاً‏:‏ والله لئن ولينا من الأمر شيئاً لنقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ثم لا نقبل لكم توبة، ويلكم غررتمونا من أنفسنا، ويلكم لو كانت القرابة تنفع بلا عمل لنفعت أباه وأمه، لو كان ما تقولون فينا حقاً لكان آباؤنا إذ لم يعلمونا بذلك قد ظلمونا وكتموا عنا أفضل الأمور، والله إني لأخشى أن يضاعف العذاب للعاصي منا ضعفين، كما أني لأرجو للمحسن منا أن يكون له الأجر مرتين، ويلكم أحبونا إن أطعنا الله على طاعته، وأبغضونا إن عصينا الله على معصيته‏.‏

 موسى بن نصير أبو عبد الرحمن اللخمي

مولاهم، كان مولى لا مرأة منهم، وقيل كان مولى لبني أمية، افتتح بلاد المغرب، وغنم منها أموالاً لا تعد ولا توصف، وله بها مقامات مشهورة هائلة، ويقال إنه كان أعرج، ويقال إنه ولد في سنة تسع عشرة، وأصله من عين التمر، وقيل أنه من أراشة من بلِّي، سبي أبوه من جبل الخليل من الشام في أيام الصديق، وكان اسم أبيه نصراً فصغر، روى عن تميم الداري، وروى عنه ابنه عبد العزيز، ويزيد بن مسروق اليحصبي، وولي غزو البحر لمعاوية، فغزا قبرص، وبنى هنالك حصوناً كالماغوصة وحصن بانس وغير ذلك من الحصون التي بناها بقبرص، وكان نائب معاوية عليها بعد أن فتحها معاوية في سنة سبع وعشرين، وشهد مرج راهط مع الضحاك بن قيس، فلما قتل الضحاك لجأ موسى بن نصير لعبد العزيز بن مروان، ثم لما دخل مروان بلاد مصر كان معه فتركه عند ابنه عبد العزيز، ثم لما أخذ عبد الملك بلاد العراق جعله وزيراً عند أخيه بشر بن مروان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/195‏)‏

وكان موسى بن نصير هذا ذا رأي وتدبير وحزم و خبرة بالحرب، قال البغوي‏:‏ ولي موسى ابن نصير إمرة بلاد إفريقية سنة تسع وسبعين فافتتح بلاداً كثيرة جداً مدناً وأقاليم، وقد ذكرنا أنه افتتح بلاد الأندلس، وهي بلاد ذات مدن وقرى وريف، فسبى منها ومن غيرها خلقاً كثيراً، وغنم أموالاً كثيرةً جزيلةً، ومن الذهب والجواهر النفيسة شيئاً لا يحصى ولا يعد، وأما الآلات والمتاع والدواب فشيء لا يدرى ما هو وسبى من الغلمان الحسان والنساء الحسان شيئاً كثيراً، حتى قيل أنه لم يسلب أحد مثله من الأعداء، وأسلم أهل المغرب على يديه وبث فيهم الدين والقرآن، وكان إذا سار إلى مكان تحمل الأموال معه على العجل لكثرتها وعجز الدواب عنها‏.‏

وقد كان موسى بن نصير هذا يفتح في بلاد المغرب، وقتيبة يفتح في بلاد المشرق، فجزاهما الله خيراً فكلاهما فتح من الأقاليم والبلدان شيئاً كثيراً، ولكن موسى بن نصير حظي بأشياء لم يحظ بها قتيبة، حتى قيل أنه لما فتح الأندلس جاءه رجل فقال له‏:‏ ابعث معي رجالاً حتى أدلك على كنز عظيم، فبعث معه رجالاً فأتى بهم إلى مكان فقال‏:‏ احفروا، فحفروا فأفضى بهم الحفر إلى قاعة عظيمة ذات لواوين حسنة، فوجدوا هناك من اليواقيت والجواهر والزبرجد ما أبهتهم، وأما الذهب فشيء لا يعبر عنه، ووجدوا في ذلك الموضع الطنافس، الطنفسة منها منسوجة بقضبان الذهب، منظومة باللؤلؤ الغالي المفتخر، والطنفسة منظومة بالجوهر المثمن، واليواقيت التي ليس لها نظير في شكلها وحسنها وصفاتاه، ولقد سمع يومئذ مناد ينادي لا يرون شخصه أيها الناس إنه قد فتح عليكم باب من أبوب جهنم فخذوا حذركم‏.‏ وقيل إنهم وجدوا في هذا الكنز مائدة سليمان بن داود التي كان يأكل عليها‏.‏ وقد جمع أخباره وما جرى له في حروبه وغزواته رجل من ذريته يقال له أبو معاوية معارك بن مروان بن عبد الملك بن مروان بن موسى بن نصير النصيري‏.‏

وروى الحافظ ابن عساكر‏:‏ أن عمر بن عبد العزيز سأل موسى بن نصير حين قدم دمشق أيام الوليد عن أعجب شيء رأيت في البحر، فقال‏:‏ انتهينا مرة إلى جزيرة فيها ست عشرة جرة مختومة بخاتم سليمان بن داود عليهما السلام، قال‏:‏ فأمرت بأربعة منها فأخرجت، وأمرت بواحدة منها فنقبت فإذا قد خرج منها شيطان ينفض رأسه ويقول‏:‏ والذي أكرمك بالنبوة لا أعود بعدها أفسد في الأرض، قال‏:‏ ثم إن ذلك الشيطان نظر فقال‏:‏ إني لا أرى بهاء سليمان وملكه، فانساخ في الأرض فذهب، قال‏:‏ فأمرت بالثلاث البواقي فرددن إلى مكانهن‏.‏

وقد ذكر السمعاني وغيره عنه أنه سار إلى مدينة النحاس التي بقرب البحر المحيط الأخضر، في أقصى بلاد المغرب، وأنهم لما أشرفوا عليها رأوا بريق شرفاتها وحيطانها من مسافة بعيدة، وأنهم لما أتوها نزلوا عندها، ثم أرسل رجلاً من أصحابه ومعه مائة فارس من الأبطال، وأمره أن يدور حول سورها لينظر هل لها باب أو منفذ إلى داخلها، فقيل‏:‏ إنه سار يوماً وليلة حول سورها، ثم رجع إليه فأخبره أنه لم يجد باباً ولا منفذاً إلى داخلها، فأمرهم فجمعوا ما معهم من المتاع بعضه على بعض فلم يبلغوا أعلى سورها، ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/196‏)‏ فأمر فعمل سلالم فصعدوا عليها، وقيل‏:‏ إنه أمر رجلاً فصعد على سورها، فلما رأي ما في داخلها لم يملك نفسه أن ألقاها في داخلها فكان آخر العهد به، ثم آخر فكذلك، ثم امتنع الناس من الصعود إليها، فلم يحط أحد منهم بما في داخلها علماً، ثم ساروا عنها فقطعوها إلى بحيرة قريبة منها، فقيل‏:‏ إن تلك الجرار المذكورة وجدها فيها، ووجد عليها رجلاً قائماً، فقال له‏:‏ ما أنت‏؟‏ قال‏:‏ رجل من الجن وأبي محبوس في هذه البحيرة حبسه سليمان، فأنا أجيء إليه في كل سنة مرة أزوره‏.‏ فقال له‏:‏ هل رأيت أحداً خارجاً من هذه المدينة أو داخلاً إليها‏؟‏ قال‏:‏ لا إلا أن رجلاً يأتي في كل سنة إلى هذه البحيرة يتعبد عليها أياماً ثم يذهب فلا يعود إلى مثلها، والله أعلم ما هو‏.‏

ثم رجع إلى إفريقية، والله أعلم بصحة ذلك، والعهدة على من ذكر ذلك أولاً‏.‏

وقد استسقى موسى بن نصير بالناس في سنة ثلاث وتسعين حين أقحطوا بأفريقية، فأمرهم بصيام ثلاثة أيام قبل الاستسقاء، ثم خرج بين الناس وميز أهل الذمة عن المسلمين، وفرق بين البهائم وأولادها، ثم أمر بارتفاع الضجيج والبكاء، وهو يدعو الله تعالى حتى انتصف النهار، ثم نزل فقيل له‏:‏ ألا دعوت لأمير المؤمنين‏؟‏ فقال‏:‏ هذا موطن لا يذكر فيه إلا الله عز وجل، فسقاهم عز وجل لما قال ذلك‏.‏

وقد وفد موسى بن نصير على الوليد بن عبد الملك في آخر أيامه، فدخل دمشق في يوم جمعة والوليد على المنبر، وقد لبس موسى ثياباً حسنةً وهيئةً حسنةً، فدخل ومعه ثلاثون غلاماً من أبناء الملوك الذين أسرهم، والأسبان، وقد ألبسهم تيجان الملوك مع ما معهم من الخدم والحشم والأبهة العظيمة، فلما نظر إليهم الوليد وهو يخطب الناس على منبر جامع دمشق بهت إليهم لما رأى عليهم من الحرير والجواهر والزينة البالغة، وجاء موسى بن نصير فسلم على الوليد وهو على المنبر، وأمر أولئك فوقفوا عن يمين المنبر وشماله، فحمد الله الوليد وشكره على ما أيده به ووسع ملكه، وأطال الدعاء والتحميد والشكر حتى خرج وقت الجمعة، ثم نزل فصلى بالناس، ثم استدعى بموسى بن نصير فأحسن جائزته وأعطاه شيئاً كثيراً، وكذلك موسى بن نصير قدم معه بشيء كثير، من ذلك مائدة سليمان بن داود عليهما السلام، التي كان يأكل عليها، وكانت من خليطين ذهب وفضة، وعليها ثلاثة أطواق لؤلؤ وجوهر لم ير مثله، وجدها في مدينة طليطلة من بلاد الأندلس مع أموال كثيرة‏.‏

وقيل‏:‏ إنه بعث ابنه مروان على جيش فأصاب من السبي مائة ألف رأس، وبعث ابن أخيه في جيش فأصاب من السبي مائة ألف رأس أيضاً من البربر، فلما جاء كتابه إلى الوليد وذكر فيه أن خمس الغنائم أربعون ألف رأس قال الناس‏:‏ إن هذا أحمق، من أين له أربعون ألف رأس خمس الغنائم‏؟‏ فبلغه ذلك فأرسل أربعين ألف رأس وهي خمس ما غنم، ولم يسمع في الإسلام بمثل سبايا موسى بن نصير أمير المغرب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/197‏)‏

وقد جرت له عجائب في فتحه بلاد الأندلس وقال‏:‏ ولو انقاد الناس لي لقدتهم حتى أفتح بهم مدينة رومية - وهي المدينة العظمى في بلاد الفرنج - ثم ليفتحها الله على يدي إن شاء الله تعالى، ولما قدم على الوليد قدم معه بثلاثين ألفاً من السبي غير ما ذكرنا، وذلك خمس ما كان غنمه في آخر غزاة غزاها ببلاد المغرب، وقدم معه من الأموال والتحف واللآلي والجواهر ما لا يحد ولا يوصف، ولم يزل مقيماً بدمشق حتى مات الوليد وتولى سليمان، وكان سليمان عاتباً على موسى فحبسه عنده وطالبه بأموال عظيمة‏.‏ ولم يزل في يده حتى حج بالناس سليمان في هذه السنة وأخذه معه فمات بالمدينة، وقيل بوادي القرى، وقد قارب الثمانين، وقيل توفي في سنة تسع وتسعين، فالله أعلم ورحمه الله وعفا عنه بمنه وفضله آمين‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وتسعين

ففي هذه السنة جهز سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين أخاه مسلمة بن عبد الملك لغزو القسطنيطينية وراء الجيش الذين هم بها، فسار إليها ومعه جيش عظيم، ثم التف عليه ذلك الجيش الذين هم هناك وقد أمر كل رجل من الجيش أن يحمل معه على ظهر فرسه مدين من طعام، فلما وصل إليها جمعوا ذلك فإذا هو أمثال الجبال، فقال لهم مسلمة‏:‏ اتركوا هذا الطعام وكلوا مما تجدونه في بلادهم، وازرعوا في أماكن الزرع واستغلوه وابنوا لكم بيوتاً من خشب، فإنا لا نرجع عن هذا البلد إلا أن نفتحها إن شاء الله‏.‏

ثم إن مسلمة داخل رجلاً من النصارى يقال له اليون، وواطأه في الباطن ليأخذ له بلاد الروم، فظهر منه نصح في بادئ الأمر، ثم إنه توفي ملك القسطنطينية، فدخل إليون في رسالة من مسلمة وقد خافته الروم خوفاً شديداً، فلما دخل إليهم إليون قالوا له‏:‏ رده عنا ونحن نملكك علينا، فخرج فأعمل الحيلة في الغدر والمكر، ولم يزل قبحه الله حتى أحرق ذلك الطعام الذي للمسلمين، وذلك أنه قال لمسلمة إنهم ما داموا يرون هذا الطعام يظنون أنك تطاولهم في القتال، فلو أحرقته لتحققوا منك العزم، وسلموا إليك البلد سريعاً، فأمر مسلمة بالطعام فأحرق، ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/198‏)‏ ثم انشمر إليون في السفن وأخذ ما أمكنه من أمتعه الجيش في الليل، وأصبح وهو في البلد محارباً للمسلمين، وأظهر العداوة الأكيدة، وتحصن واجتمعت عليه الروم، وضاق الحال على المسلمين حتى أكلوا كل شيء إلا التراب، فلم يزل ذلك دأبهم حتى جاءتهم وفاة سليمان بن عبد الملك، وتوليه عمر بن عبد العزيز، فكروا راجعين إلى الشام وقد جهدوا جهداً شديداً، لكن لم يرجع مسلمة حتى بنى مسجداً بالقسطنطينية شديد البناء محكماً، رحب الفناء شاهقاً في السماء‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ لما ولي سليمان بن عبد الملك أراد الإقامة ببيت المقدس، ثم يرسل العساكر إلى القسطنطينية، فأشار عليه موسى بن نصير بأن يفتح ما دونها من المدن والرساتيق والحصون، حتى يبلغ المدينة فلا يأتيها إلا وقد هدمت حصونها ووهنت قوتها، فإذا فعلت ذلك لم يبق بينك وبينها مانع، فيعطوا بأيديهم ويسلموا لك البلد، ثم استشار أخاه مسلمة فأشار عليه بأن يدع ما دونها من البلاد ويفتحها عنوة، فمتى ما فتحت فإن باقي ما دونها من البلاد والحصون بيدك، فقال سليمان‏:‏ هذا هو الرأي ثم أخذ في تجهيز الجيوش من الشام والجزيرة فجهز في البر مائة وعشرين ألفاً، وفي البحر مائة وعشرين ألفاً من المقاتلة، وأخرج لهم الأعطية وأنفق فيهم الأموال الكثيرة، وأعلمهم بغزو القسطنطينية والإقامة إلى أن يفتحوها، ثم سار سليمان من بيت المقدس فدخل دمشق وقد اجتمعت له العساكر فأمر عليهم أخاه مسلمة، ثم قال‏:‏ سيروا على بركة الله وعليكم بتقوى الله والصبر والتناصح والتناصف‏.‏

ثم سار سليمان حتى نزل مرج دابق، فاجتمع إليه الناس أيضا من المتطوعة المحتسبين أجورهم على الله، فاجتمع له جند عظيم لم ير مثله، ثم أمر مسلمة أن يرحل بالجيوش وأخذ معه إليون الرومي المرعشي، ثم ساروا حتى نزلوا على القسطنطينية، فحاصرها إلى أن برح بهم وعرض أهلها الجزية على مسلمة فأبى إلا أن يفتحها عنوة، قالوا‏:‏ فابعث إلينا إليون نشاوره، فأرسله إليهم، فقالوا له‏:‏ رد هذه العساكر عنا ونحن نعطيك ونملكك علينا، فرجع إلى مسلمة، فقال‏:‏ قد أجابوا إلى فتحها غير أنهم لا يفتحونها حتى تتنحى عنهم، فقال مسلمة‏:‏ إني أخشى غدرك، فحلف له أن يدفع إليه مفاتيحها وما فيها، فلما تنحى عنهم أخذوا في ترميم ما تهدم من أسوارها واستعدوا للحصار‏.‏ وغدر إليون بالمسلمين قبحه الله‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة أخذ سليمان بن عبد الملك العهد لولده أيوب أنه الخليفة من بعده، وذلك بعد موت أخيه مروان بن عبد الملك، فعدل عن ولاية أخيه يزيد إلى ولاية ولده أيوب، وتربص بأخيه الدوائر، فمات أيوب في حياة أبيه، فبايع سليمان إلى ابن عمه عمر بن عبد العزيز أن يكون الخليفة من بعده، ونعم ما فعل‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/199‏)‏

وفيها فتحت مدينة الصقالبة‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وقد أغارت البرجان على جيش مسلمة وهو في قلة من الناس في هذه السنة‏.‏ فبعث إليه سليمان جيشاً فقاتل البرجان حتى هزمهم الله عز وجل‏.‏

وفيها غزا يزيد بن المهلب قهستان من أرض الصين، فحاصرها وقاتل عندها قتالاً شديداً، ولم يزل حتى تسلمها، وقتل من الترك الذين بها أربعة آلاف صبراً، وأخذ منها من الأموال والأثاث والأمتعة ما لا يحد ولا يوصف كثرة وقيمة وحسناً، ثم سار منها إلى جرجان فاستجاش صاحبها بالديلم، فقدموا لنجدته فقاتلهم يزيد بن المهلب وقاتلوه، فحمل محمد بن عبد الرحمن أبي سبرة الجعفي - وكان فارساً شجاعاً باهراً - على ملك الديلم فقتله وهزمهم الله، ولقد بارز ابن أبي سبرة هذا يوماً بعض فرسان الترك، فضربه التركي بالسيف على البيضة فنشب فيها، وضربه ابن أبي سبرة فقتله، ثم أقبل إلى المسلمين وسيفه يقطر دماً وسيق التركي ناشب في خودته، فنظر إليه يزيد بن المهلب فقال‏:‏ ما رأيت منظرا أحسن من هذا، من هذا الرجل‏؟‏ قالوا‏:‏ ابن أبي سبرة‏.‏ فقال‏:‏ نعم الرجل لولا انهماكه في الشراب‏.‏ ثم صمم يزيد على محاصرة جرجان وما زال يضيق على صاحبها حتى صالحه على سبعمائة ألف درهم وأربعمائة ألف دينار، ومائتي ألف ثوب وأربعمائة حمار موقرة زعفراناً، وأربعمائة رجل على رأس كل رجل ترس‏:‏ على الترس طيلسان وجام من فضة وسرقة من حرير، وهذه المدينة كان سعيد بن العاص فيها فتحها صلحاً على أن يحملوا الخراج في كل سنة مائة ألف، وفي سنة مائتي ألف، وفي بعض السنين ثلاثمائة ألف، ويمنعون ذلك في بعض السنين، ثم امتنعوا جملة وكفروا، فغزاهم يزيد بن المهلب وردها صلحاً على ما كانت عليه في زمن سعيد بن العاص‏.‏

قالوا‏:‏ وأصاب يزيد بن المهلب من غيرها أموالاً كثيرةً جداً، فكان من جملتها تاج فيه جواهر نفيسه، فقال‏:‏ أترون أحداً يزهد في هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ لا نعلمه، فقال‏:‏ والله إني لأعلم رجلاً لو عرض عليه هذا وأمثاله لزهد فيه، ثم دعا بمحمد بن واسع - وكان في الجيش مغازياً - فعرض عليه أخذ التاج فقال‏:‏ لا حاجة لي فيه، فقال أقسمت عليك لتأخذنه، فأخذه وخرج به من عنده، فأمر يزيد رجلاً أن يتبعه فينظر ماذا يصنع بالتاج، فمر بسائل فطلب منه شيئاً فأعطاه التاج بكماله، وانصرف فبعث يزيد إلى ذلك السائل فأخذ منه التاج وعوضه عنه مالاً كثيراً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/200‏)‏

وقال علي بن محمد المدائني، قال أبو بكر الهذلي‏:‏ كان شهر بن حوشب على خزائن يزيد بن المهلب فرفعوا إليه أنه أخذ خريطة فيها مائة دينار، فسأله عنها فقال‏:‏ نعم وأحضرها، فقال له يزيد‏:‏ هي لك ثم استدعى الذي وشى به فشتمه، فقال‏:‏ في ذلك القطامي الكلبي، ويقال‏:‏ إنها لسنان بن مكمل النميري‏:‏

لقد باع شهر دينه بخريطة * فمن يأمن القراء بعدك يا شهر

أخذت به شيئاً طفيفاً وبعته * من ابن جونبوذان هذا هو الغدر

وقال مرة بن النخعي‏:‏

يا ابن المهلب ما أردت إلى امرئ * لولاك كان كصالح القراء

قال ابن جرير‏:‏ ويقال إن يزيد بن المهلب كان في غزوة جرجان في مائة ألف وعشرين ألفاً، منهم ستون ألفاً من جيش الشام أثابهم الله، وقد تمهدت تلك لبلاد بفتح جرجان وسلكت الطرق، وكانت قبل ذلك مخوفة جداً، ثم عزم يزيد على المسير إلى خوزستان، وقدم بين يديه سرية هي أربعة آلاف من سراة الناس، فلما التقوا اقتتلوا قتالاً شديداً، وقتل من المسلمين في المعركة أربعة آلاف و إنا لله و إنا إليه راجعون‏.‏

ثم إن يزيد عزم على فتح البلاد لا محالة، وما زال حتى صالحه صاحبها - وهو الأصبهبذ - بمال كثير سبعمائة، ألف في كل عام، وغير ذلك من المتاع والرقيق‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 عبد الله بن عبد الله بن عتبة

كان إماماً حجةً، وكان مؤدب عمر بن عبد العزيز، وله روايات كثيرة عن جماعات من الصحابة‏.‏

أبو الحفص النخعي

عبد الله بن محمد بن الحنفية

وقد ذكرنا تراجمهم في التكميل، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وتسعين

فيها كانت وفاة سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين يوم الجمعة لعشر مضين، وقيل بقين من صفر منها، عن خمس وأربعين سنة، وقيل عن ثلاث وأربعين، وقيل أنه لم يجاوز الأربعين‏.‏

وكانت خلافته سنتين وثمانية أشهر، وزعم أبو أحمد الحاكم‏:‏ أنه توفي يوم الجمعة لثلاث عشر بقيت من رمضان منها، وأنه استكمل في خلافته ثلاث سنين وثلاثة أشهر وخمسة أيام، وله من العمر تسع وثلاثون سنة، والصحيح قول الجمهور وهو الأول، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/201‏)‏

وهو سليمان بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي، أبو أيوب‏.‏

كان مولده بالمدينة في بني جذيلة، ونشأ بالشام عند أبيه، وروى الحديث عن أبيه، عن جده، عن عائشة أم المؤمنين، في قصة الإفك، رواه ابن عساكر من طريق ابنه عبد الواحد بن سليمان، عنه، وروى عن عبد الرحمن بن هنيدة أنه صحب عبد الله بن عمر إلى الغابة قال‏:‏ فسكت، فقال لي ابن عمر‏:‏ مالك‏؟‏ فقال‏:‏ إني كنت أتمنى‏.‏ فقال ابن عمر‏:‏ فما تتمنى يا أبا عبد الرحمن‏؟‏ فقال لي‏:‏ لو أن لي أحداً هذا ذهباً أعلم عدده وأخرج زكاته ما كرهت ذلك، أو قال‏:‏ ما خشيت أن يضرّ بي‏.‏ رواه محمد بن يحيى الذهلي، عن أبي صالح، عن الليث، عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن الزهري، عنه‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ وكانت داره بدمشق موضع ميضأة جيرون الآن في تلك المساحة جميعها، وبنى داراً كبيرةً مما يلي باب الصغير، موضع الدرب المعروف بدرب محرز، وجعلها دار الإمارة، وعمل فيها قبة صفراء تشبيهاً بالقبة الخضراء، قال‏:‏ وكان فصيحاً مؤثراً للعدل محباً للغزو، وقد أنفذ الجيش لحصار القسطنطينية حتى صالحوهم على بناء الجامع بها‏.‏

وقد روى أبو بكر الصولي‏:‏ أن عبد الملك جمع بنيه، الوليد وسليمان و مسلمة، بين يديه فاستقرأهم القرآن فأجادوا القراءة، ثم استنشدهم الشعر فأجادوا، غير أنهم لم يكملوا أو يحكموا شعر الأعشى، فلامهم على ذلك، ثم قال‏:‏ لينشدني كل رجل منكم أرق بيت قالته العرب ولا يفحش، هات يا وليد، فقال الوليد‏:‏

ما مركبٌ وركوبُ الخيلِ يعجبني * كمركب بين دملوجٍ وخلخالِ

فقال عبد الملك‏:‏ وهل يكون من الشعر أرق من هذا‏؟‏ هات يا سليمان، فقال‏:‏

حبذا رجعها يديها إليها * في يدي درعها تحل الإزارا

فقال‏:‏ لم تصب، هات يا مسلمة، فأنشده قول امرئ القيس‏:‏

وما ذرفت عيناك إلا لتضربي * بسهميك في أعشار قلب مقتَّل

فقال‏:‏ كذب امرؤ القيس ولم يصب، إذا ذرفت عيناها بالوجد فما بقى إلا اللقاء، وإنما ينبغي للعاشق أن يغتضي منها الجفاء ويكسوها المودة، ثم قال‏:‏ أنا مؤجلكم في هذا البيت ثلاثة أيام فمن أتاني به فله حكمه، أي مهما طلب أعطيته، فنهضوا من عنده فبينما سليمان في موكب إذا هو بأعرابي يسوق إبله وهو يقول‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/202‏)‏

لو ضربوا بالسيف رأسي في مودتها * لمال يهوي سريعاً نحوها رأسي

فأمر سليمان بالأعرابي فاعتقل، ثم جاء إلى أبيه فقال‏:‏ قد جئتك بما سألت، فقال‏:‏ هات، فأنشده البيت فقال‏:‏ أحسنت، وأنى لك هذا‏؟‏ فأخبره خبر الأعرابي، فقال‏:‏ سل حاجتك ولا تنس صاحبك‏.‏ فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنك عهدت بالأمر من بعدك للوليد، وإني أحب أن أكون ولي العهد من بعده، فأجابه إلى ذلك، وبعثه على الحج في إحدى وثمانين، وأطلق له مائة ألف درهم، فأعطاها سليمان لذلك الأعرابي الذي قال ذلك البيت من الشعر، فلما مات أبوه سنة ست وثمانين وصارت الخلافة إلى أخيه الوليد، كان بين يديه كالوزير والمشير، وكان هو المستحث على عمارة جامع دمشق، فلما توفي أخوه الوليد يوم السبت للنصف من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين، كان سليمان بالرملة، فلما أقبل تلقاه الأمراء ووجوه الناس، وقيل إنهم ساروا إليه إلى بيت المقدس فبايعوه هناك، وعزم على الإقامة بالقدس، وأتته الوفود إلى بيت المقدس، فلم يروا وفادة هناك، وكان يجلس في قبة في صحن المسجد مما يلي الصخرة من جهة الشمال، وتجلس أكابر الناس على الكراسي، وتقسم فيهم الأموال، ثم عزم على المجيء إلى دمشق، فدخلها وكمل عمارة الجامع‏.‏

وفي أيامه جددت المقصورة واتخذ ابن عمه عمر بن عبد العزيز مستشاراً ووزيراً، وقال له‏:‏ إنا قد ولينا ما ترى وليس لنا علم بتدبيره، فما رأيت من مصلحة العامة فمر به فليكتب، وكان من ذلك عزل نواب الحجاج وإخراج أهل السجون منها، وإطلاق الأسرى، وبذل الأعطية بالعراق، ورد الصلاة إلى ميقاتها الأول، بعد أن كانوا يؤخرونها إلى آخر وقتها، مع أمور حسنة كان يسمعها من عمر بن عبد العزيز، وأمر بغزو القسطنطينية فبعث إليها من أهل الشام والجزيرة والموصل في البر نحواً من مائة ألف وعشرين ألف مقاتل، وبعث من أهل مصر وإفريقية ألف مركب في البحر عليهم عمر بن هبيرة، وعلى جماعة الناس كلهم أخوه مسلمة، ومعه ابنه داود بن سليمان بن عبد الملك في جماعة من أهل بيته، وذلك كله عن مشورة موسى بن نصير‏:‏ حين قدم عليه من بلاد المغرب، والصحيح أنه قدم في أيام أخيه الوليد، والله أعلم‏.‏

قال ابن أبي الدنيا‏:‏ حدثني محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الكوفي، عن جابر بن عون الأسدي‏.‏ قال‏:‏ أول كلام تكلم به سليمان بن عبد الملك حين ولى الخلافة أن قال‏:‏ الحمد لله الذي ما شاء صنع وما شاء رفع وما شاء وضع، ومن شاء أعطى ومن شاء منع‏.‏ إن الدنيا دار غرور، ومنزل باطل، وزينة تقلب، تضحك باكياً وتبكي ضاحكاً، وتخيف آمناً وتؤمن خائفاً، تفقر مثريها، وتثري فقيرها، ميالة لاعبة بأهلها‏.‏ يا عباد الله اتخذوا كتاب الله إماماً، وارضوا به حكماً، ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/203‏)‏ واجعلوه لكم قائداً، فإنه ناسخ لما قبله، ولم ينسخه كتاب بعده‏.‏ اعلموا عباد الله أن هذا القرآن يجلو كيد الشيطان وضغائنه كما يجلو ضوء الصبح إذا تنفس أدبار الليل إذا عسعس‏.‏

وقال يحيى بن معين، عن حجاج بن محمد، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، قال‏:‏ سمعت سليمان بن عبد الملك يقول في خطبته‏:‏ فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه‏.‏

وقال حماد بن زيد، عن يزيد بن حازم‏.‏ قال‏:‏ كان سليمان بن عبد الملك يخطبنا كل جمعة لا يدع أن يقول في خطبته وإنما أهل الدنيا على رحيل، لم تمض لهم نية ولم تطمئن بهم حتى يأتي أمر الله ووعده وهم على ذلك، كذلك لا يدوم نعيمها، ولا تؤمن فجائعها ولا تبقى من شر أهلها ثم يتلو‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 205-207‏]‏‏.‏

وروى الأصمعي أن نقش خاتم سليمان كان‏:‏ آمنت بالله مخلصاً، وقال أبو مسهر، عن أبي مسلم سلمة بن العيار الفزاري‏.‏ قال‏:‏ كان محمد بن سيرين يترحم على سليمان بن عبد الملك، ويقول‏:‏ افتتح خلافته بخير وختمها بخير، افتتحها بإجابة الصلاة لمواقيتها، وختمها باستخلافه عمر بن عبد العزيز‏.‏

قد أجمع علماء الناس والتواريخ أنه حج بالناس في سنة سبع وتسعين وهو خليفة، قال الهيثم بن عدي قال الشعبي‏:‏ حج سليمان بن عبد الملك فلما رأى الناس بالموسم قال لعمر بن عبد العزيز‏:‏ ألا ترى هذا الخلق الذي لا يحصى عددهم إلا الله، ولا يسع رزقهم غيره، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين هؤلاء رعيتك اليوم، وهم غداً خصماؤك عند الله، فبكى سليمان بكاءً شديداً، ثم قال‏:‏ بالله أستعين‏.‏

وقال ابن أبي الدنيا، ثنا إسحاق بن إسماعيل، ثنا جرير، عن عطاء بن السائب، قال‏:‏ كان عمر بن عبد العزيز في سفر مع سليمان بن عبد الملك فأصابهم السماء برعد وبرق وظلمة وريح شديدة، حتى فزعوا لذلك، وجعل عمر بن عبد العزيز يضحك، فقال له سليمان‏:‏ ما يضحكك يا عمر‏؟‏ أما ترى ما نحن فيه‏؟‏ فقال له‏:‏ يا أمير المؤمنين هذه آثار رحمته فيها شدائد ما نرى، فكيف بآثار سخطه وغضبه‏؟‏

ومن كلامه الحسن رحمه الله قوله‏:‏ الصمت منام العقل والنطق يقظته، ولا يتم هذا إلا بهذا‏.‏

ودخل عليه رجل فكلمه فأعجبه منطقه ثم فتشه فلم يحمد عقله، فقال‏:‏ فضل منطق الرجل على عقله خدعه، وفضل عقله على منطقه هجنة، وخير ذلك ما أشبه بعضه بعضاً‏.‏

وقال‏:‏ العاقل أحرص على إقامة لسانه منه على طلب معاشه‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ إن من تكلم فأحسن قادر على أن يسكت فيحسن، وليس كل من سكت فأحسن قادراً على أن يتكلم فيحسن‏.‏

ومن شعره يتسلى عن صديق له مات فقال‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/204‏)‏

وهون وجدي في شراحيل أنني * متى شئت لاقيت امرءاً مات صاحبه

ومن شعره أيضاً‏:‏

ومن شيمي ألا أفارق صاحبي * وإن ملني إلا سألت له رشدا

وإن دام لي بالواد دمت ولم أكن * كآخر لا يرعى ذماماً ولا عهدا

وسمع سليمان ليلة صوت غناء في معسكره فلم يزل يفحص حتى أتى بهم، فقال سليمان‏:‏ إن الفرس ليصهل فتستودق له الرمكة، وإن الجمل ليهدر فتضبع له الناقة، وإن التيس لينب فتستخذى له العنز، وإن الرجل ليتغنى فتشتاق له المرأة، ثم أمر بهم فقال‏:‏ اخصوهم، فيقال إن عمر بن عبد العزيز قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنها مثلة، ولكن انفهم، فنفاهم‏.‏ وفي رواية أنه خصى أحدهم، ثم سأل عن أصل الغناء فقيل‏:‏ إنه بالمدينة فكتب إلى عامله بها وهو أبو بكر بن محمد بن حزم يأمره أن يخصي من عنده من المغنين المخنثين‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ دخل أعرابي على سليمان فدعاه إلى أكل الفالوذج وقال له‏:‏ إن أكلها يزيد في الدماغ فقال‏:‏ لو كان هذا صحيحاً لكان ينبغي أن يكون رأس أمير المؤمنين مثل رأس البغل‏.‏

وذكروا أن سليمان كان نهما في الأكل، وقد نقلوا عنه أشياء في ذلك غريبة، فمن ذلك أنه اصطبح في بعض الأيام بأربعين دجاجة مشوية، وأربع وثمانين كلوة بشحمها، وثمانين جردقة، ثم أكل مع الناس على العادة في السماط العام‏.‏

ودخل ذات يوم بستاناً له وكان قد أمر قيمه أن يجثى ثماره، فدخله ومعه أصحابه فأكل القوم حتى ملوا، واستمر هو يأكل أكلا ذريعاً من تلك الفواكه، ثم استدعى بشاة مشوية فأكلها ثم اقبل على أكل الفاكهة، ثم أتي بدجاجتين فأكلهما، ثم عاد إلى الفاكهة فأكل منها، ثم أتي بقعب يقعد فيه الرجل مملوءاً سويقاً وسمناً وسكراً فأكله، ثم عاد إلى دار الخلافة، وأتي بالسماط فما فقدوا من أكله شيئاً‏.‏

وقد روى أنه عرضت له حمى عقب هذا الأكل أدته إلى الموت، وقد قيل أن سبب مرضه كان من أكل أربعمائة بيضة وسلتين تيناً، فالله أعلم‏.‏

وذكر الفضل بن أبي المهلب أنه لبس في يوم جمعة حلة صفراء ثم نزعها ولبس بدلها حلة خضراء و اعتم بعمامة خضراء وجلس على فراش أخضر وقد بسط ما حوله بالخضرة، ثم نظر في المرآة فأعجبه حسنه، فشمر عن ذراعيه و قال‏:‏ أنا الخليفة الشاب، وقيل‏:‏ إنه كان ينظر في المرآة من فرقه إلى قدمه و يقول‏:‏ أنا الملك الشاب، وفي رواية أنه كان ينظر فيها ويقول‏:‏ كان محمد نبياً، و كان أبو بكر صديقاً، وكان عمر فاروقاً، وكان عثمان حيياً، وكان علي شجاعاً، وكان معاوية حليماً، وكان يزيد صبوراً، وكان عبد الملك سائساً، وكان الوليد جبارا ً، وأنا الملك الشاب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/205‏)‏

قالوا‏:‏ فما حال عليه بعد ذلك شهر، وفي رواية جمعة، حتى مات‏.‏

قالوا‏:‏ ولما حم شرع يتوضأ فدعا بجارية فصبت عليه ماء الوضوء ثم أنشدته‏:‏

أنت نعم المتاع لو كنت تبقى * غير أن لا بقاء للإنسان

أنت خلوٌ من العيوب ومما * يكره الناس غير أنك فان

قالوا‏:‏ صاح بها، وقال‏:‏ عزتني في نفسي، ثم أمر خاله الوليد بن العباس القعقاع العنسي أن يصب عليه وقال‏:‏

قرب وضوءك يا وليد فإنما * دنياك هذي بلغة ومتاع

فاعمل لنفسك في حياتك صالحاً * فالدهر فيه فرقة وجماع

ويروى أن الجارية لما جاءته بالطست جعلت تضطرب من الحمى، فقال‏:‏ أين فلانة‏؟‏ فقالت‏:‏ محمومة، قال‏:‏ ففلانة‏؟‏ قالت‏:‏ محمومة، وكان بمرج دابق من أرض قنسرين، فأمر خاله فوضأه ثم خرج يصلي بالناس فأخذته بحة في الخطبة، ثم نزل وقد أصابته الحمى فمات في الجمعة المقبلة، ويقال‏:‏ إنه أصابه ذات الجنب فمات بها رحمه الله‏.‏

وكان قد أقسم أنه لا يبرح بمرج دابق حتى يرجع إليه الخبر بفتح القسطنطينية، أو يموت قبل ذلك، فمات قبل ذلك رحمه الله وأكرم مثواه، قالوا‏:‏ وجعل يلهج في مرضه ويقول‏:‏

إن بنيَّ صغار * أفلح من كان له كبار

فيقول له عمر بن عبد العزيز‏:‏ قد أفلح المؤمنون يا أمير المؤمنين، ثم يقول‏:‏

إن بنيَّ صبية صيفيون * قد أفلح من كان له ربعيون

ويروى أن هذا آخر ما تكلم به، والصحيح أن آخر ما تكلم به أن قال‏:‏ أسألك منقلباً كريماً، ثم قضى‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/206‏)‏

وروى ابن جرير عن رجاء بن حيوة - وكان وزير صدق لبني أمية - قال‏:‏ استشارني سليمان بن عبد الملك وهو مريض أن يولي له ابناً صغيراً لم يبلغ الحلم، فقلت‏:‏ إن مما يحفظ الخليفة في قبره أن يولي على المسلمين الرجل الصالح، ثم شاورني في ولاية ابنه داود، فقلت‏:‏ إنه غائب عنك بالقسطنطينية ولا تدري أحي هو أو ميت، فقال‏:‏ من ترى‏؟‏ فقلت‏:‏ رأيك يا أمير المؤمنين، قال‏:‏ فكيف ترى في عمر بن عبد العزيز‏؟‏ فقلت‏:‏ أعلمه والله خيراً فاضلاً مسلماً يحب الخير وأهله، ولكن أتخوف عليه إخوتك أن لا يرضوا بذلك، فقال‏:‏ هو والله على ذلك وأشار رجال أن يجعل يزيد بن عبد الملك ولي العهد من بعد عمر بن عبد العزيز ليرضى بذلك بنو مروان، فكتب‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله سليمان بن عبد الملك لعمر بن عبد العزيز، إني قد وليته الخلافة من بعدي ومن بعده يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا، واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم عدوكم‏.‏

وختم الكتاب وأرسل إلى كعب بن حامد العبسي صاحب الشرطة، فقال له‏:‏ اجمع أهل بيتي فمرهم فليبايعوا على ما في هذا الكتاب مختوماً، فمن أبى منهم ضرب عنقه‏.‏ فاجتمعوا ودخل رجال منهم فسلموا على أمير المؤمنين، فقال لهم‏:‏ هذا الكتاب عهدي إليكم، فاسمعوا له وأطيعوا وبايعوا من وليت فيه، فبايعوا لذلك رجلاً رجلاً، قال رجاء‏:‏ فلما تفرقوا جاءني عمر بن عبد العزيز فقال‏:‏ أنشدك الله وحرمتي ومودتي إلا أعلمتني إن كان كتب لي ذلك حتى أستعفيه الآن قبل أن يأتي حال لا أقدر فيها على ما أقدر عليه الساعة، فقلت‏:‏ والله لا أخبرك حرفاً واحداً‏.‏ قال‏:‏ ولقيه هشام بن عبد الملك فقال‏:‏ يا رجاء إن لي بك حرمة ومودة قديمة، فأخبرني هذا الأمر إن كان إلي علمت، وإن كان لغيري فما مثلي قصر به عن هذا، فقلت‏:‏ والله لا أخبرك حرفاً واحداً مما أسره إلي أمير المؤمنين، قال رجاء‏:‏ ودخلت على سليمان فإذا هو يموت، فجعلت إذا أخذته السكرة من سكرات الموت أحرفه إلى القبلة، فإذا أفاق يقول‏:‏ لم يأن لذلك بعد يا رجاء، فلما كانت الثالثة قال‏:‏ من الآن يا رجاء إن كنت تريد شيئاً أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال‏:‏ فحرفته إلى القبلة فمات رحمه الله‏.‏ قال‏:‏ فغطيته بقطيغة خضراء وأغلقت الباب عليه وأرسلت إلى كعب بن حامد فجمع الناس في مسجد دابق، فقلت‏:‏ بايعوا لمن في هذا الكتاب، فقالوا‏:‏ قد بايعنا، فقلت‏:‏ بايعوا ثانية، ففعلوا، ثم قلت‏:‏ قوموا إلى صاحبكم فقد مات، وقرأت الكتاب عليهم، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز تغيرت وجوه بني مروان، فلما قرأت وإن هشام بن عبد الملك بعده، تراجعوا بعض الشيء‏.‏ ونادى هشام لا نبايعه أبداً، فقلت‏:‏ أضرب عنقك والله، قم فبايع، ونهض الناس إلى عمر بن عبد العزيز وهو في مؤخر المسجد، فلما تحقق ذلك قال‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون، ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/207‏)‏ ولم تحمله رجلاه حتى أخذوا بضبعية فأصعدوه على المنبر، فسكت حيناً، فقال رجاء بن حيوة‏:‏ ألا تقوموا إلى أمير المؤمنين فتبايعوه، فنهض القوم فبايعوه، ثم أتى هشام فصعد المنبر ليبايع وهو يقول‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال عمر‏:‏ نعم ‏!‏ إنا لله وإنا إليه راجعون الذي صرت أنا وأنت نتنازع هذا الأمر‏.‏

ثم قام فخطب الناس خطبة بليغة وبايعوه، فكان مما قال في خطبته‏:‏ أيها الناس، إني لست بمبتدع ولكني متبع، وإن من حولكم من الأمصار والمدن إن أطاعوا كما أطعتم فأنا واليكم، وإن هم أبوا فلست لكم بوالٍ، ثم نزل، فأخذوا في جهاز سليمان، قال الأوزاعي‏:‏ فلم يفرغوا منه حتى دخل وقت المغرب، فصلى عمر بالناس صلاة المغرب، ثم صلى على سليمان ودفن بعد المغرب، فلما انصرف عمر أُتي بمراكب الخلافة فأبى أن يركبها وركب دابته وانصرف مع الناس حتى أتوا دمشق، فمالوا به نحو دار الخلافة فقال‏:‏ لا أنزل إلا في منزلي حتى تفرغ دار أبي أيوب، فاستحسنوا ذلك منه، ثم استدعى بالكاتب فجعل يملي عليه نسخة الكتاب الذي يبايع عليه الأمصار، قال رجاء‏:‏ فما رأيت أفصح منه‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ وكان وفاة سليمان بن عبد الملك بدابق من أرض قنسرين يوم الجمعة لعشر ليال خلت من صفر سنة تسع وتسعين، على رأس سنتين وتسعة أشهر وعشرين يوماً من متوفى الوليد، وكذا قال الجمهور في تاريخ وفاته، ومنهم من يقول‏:‏ لعشر بقين من صفر، وقالوا‏:‏ كانت ولايته سنتين وثمانية أشهر، زاد بعضهم إلا خمسة أيام، والله أعلم‏.‏

وقول الحاكم أبي أحمد‏:‏ إنه توفي يوم الجمعة لثلاث عشر بقين من رمضان سنة تسع وتسعين، حكاه ابن عساكر، وهو غريب جداً، وقد خالفه الجمهور في كل ما قاله، وعندهم أنه جاوز الأربعين فقيل‏:‏ بثلاث، وقيل‏:‏ بخمس، والله أعلم‏.‏

قالوا‏:‏ وكان طويلاً جميلاً أبيض نحيفاً، حسن الوجه، مقرون الحاجبين، وكان فصيحاً بليغاً، يحسن العربية ويرجع إلى دين وخير ومحبة للحق وأهله، واتباع القرآن والسنة، وإظهار الشرائع الإسلامية رحمه الله، وقد كان رحمه الله آلى على نفسه حين خرج من دمشق إلى مرج دابق - ودابق قريبة من بلاد حلب - لما جهز الجيوش إلى مدينة الروم العظمى المسماة بالقسطنطينية، أن لا يرجع إلى دمشق حتى تفتح أو يموت، فمات هنالك كما ذكرنا، فحصل له بهذه النية أجر الرباط في سبيل الله، فهو إن شاء الله ممن يجرى له ثوابه إلى يوم القيامة رحمه الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/208‏)‏

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة شراحيل بن عبيدة بن قيس العقيلي ما مضمونه‏:‏ إن مسلمة ابن عبد الملك لما ضيق بمحاصرته على أهل القسطنطينية، وتتبع المسالك واستحوذ على ما هنالك من الممالك، كتب إليون ملك الروم إلى ملك البرجان يستنصره على مسلمة، ويقول له‏:‏ ليس لهم همة إلا في الدعوة إلى دينهم، الأقرب منهم فالأقرب، وإنهم متى فرغوا مني خلصوا إليك، فمهما كنت صانعاً حينئذ فاصنعه الآن، فعند ذلك شرع لعنه الله في المكر والخديعة، فكتب إلى مسلمة يقول له‏:‏ إن إليون كتب إليّ يستنصرني عليك، وأنا معك فمرني لما شئت‏.‏ فكتب إليه مسلمة‏:‏ إني لا أريد منك رجالاً ولا عدداً، ولكن أرسل إلينا بالميرة فقد قلَّ ما عندنا من الأزواد‏.‏ فكتب إليه‏:‏ إني قد أرسلت إليك بسوق عظيمة إلى مكان كذا وكذا، فأرسل من يتسلمها ويشتري منها‏.‏ فأذن مسلمة لمن شاء من الجيش أن يذهب إلى هناك فيشتري له ما يحتاج إليه، فذهب خلق كثير فوجدوا هنالك سوقاً هائلةً، فيها من أنواع البضائع الأمتعة والأطعمة، فأقبلوا يشترون، واشتغلوا بذلك، ولا يشعرون بما أرصد لهم الخبيث من الكمائن بين تلك الجبال التي هنالك، فخرجوا عليهم بغتة واحدة فقتلوا خلقاً كثيراً من المسلمين وأسروا آخرين، وما رجع إلى مسلمة إلا القليل منهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فكتب مسلمة بذلك إلى أخيه سليمان يخبره بما وقع من ذلك، فأرسل جيشاً كثيفاً صحبة شراحيل بن عبيدة هذا، وأمرهم أن يعبروا خليج القسطنطينية أولاً فيقاتلوا ملك البرجان، ثم يعودوا إلى مسلمة، فذهبوا إلى بلاد البرجان وقطعوا إليهم تلك الخلجان، فاقتتلوا معهم قتالاً شديداً، فهزمهم المسلمون بإذن الله، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وسبوا وأسروا خلقاً كثيراً، وخلصوا أسرى المسلمين، ثم تحيزوا إلى مسلمة فكانوا عنده حتى استقدم الجميع عمر بن عبد العزيز خوفاً عليهم من غائلة الروم وبلادهم، ومن ضيق العيش، وقد كان لهم قبل ذلك مدة طويلة أثابهم الله‏.‏

 خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

قد تقدم أنه بويع له بالخلافة يوم الجمعة لعشر مضين، وقد قيل‏:‏ بقين من صفر من هذه السنة - أعني سنة تسع وتسعين - يوم مات سليمان بن عبد الملك، عن عهد منه إليه من غير علم من عمر كما قدمنا، وقد ظهرت عليه مخايل الورع والدين والتقشف والصيانة والنزاهة، من أول حركة بدت منه، حيث أعرض عن ركوب مراكب الخلافة، وهي الخيول الحسان الجياد المعدة لها، والاجتزاء بمركوبه الذي كان يركبه، وسكنى منزله رغبة عن منزل الخلافة، ويقال أنه خطب الناس فقال في خطبته‏:‏ أيها الناس إن لي نفساً تواقةً لا تعطى شيئاً إلا تاقت إلى ما هو أعلى منه، وإني لما أعطيت الخلافة تاقت نفسي إلى ما هو أعلى منها وهي الجنة، فأعينوني عليها يرحمكم الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/209‏)‏

وستأتي ترجمته عند وفاته إن شاء الله، وكان مما بادر إليه عمر في هذه السنة أن بعث إلى مسلمة بن عبد الملك ومن معه من المسلمين وهم بأرض الروم محاصروا القسطنطينية، وقد اشتد عليهم الحال وضاف عليهم المجال، لأنهم عسكر كثير، فكتب إليهم يأمرهم بالرجوع إلى الشام إلى منازلهم‏.‏ وبعث إليهم بطعام كثير وخيول كثيرة عتاق، يقال‏:‏ خمسمائة فرس، ففرح الناس بذلك‏.‏

وفيها أغارت الترك على أذربيجان فقتلوا خلقاً كثيراً من المسلمين، فوجه إليهم عمر حاتم بن النعمان الباهلي فقتل أولئك الأتراك، ولم يفلت منهم إلا اليسير، وبعث منهم أسارى إلى عمر وهو بخناصرة‏.‏

وقد كان المؤذنون يذكرونه بعد أذانهم باقتراب الوقت وضيقه لئلا يؤخرها كما كان يؤخرها من قبله، لكثرة الاشتغال ، وكان ذلك عن أمره لهم بذلك، والله أعلم‏.‏ فروى ابن عساكر في ترجمة جرير بن عثمان الرحبي الحمصي قال‏:‏ رأيت مؤذني عمر بن عبد العزيز يسلمون عليه في الصلاة‏:‏ السلام عليك أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، حي على الصلاة حي على الفلاح، الصلاة قد قاربت‏.‏

وفي هذه السنة عزل عمر يزيد بن المهلب عن إمرة العراق وبعث عدي بن أرطاة الفزاري على إمرة البصرة، فاستقضى عليها الحسن البصري، ثم استعفاه فأعفاه، واستقضى مكانه إياس بن معاوية الذكي المشهور، وبعث على إمرة الكوفة وأرضها عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وضم إليه أبا الزناد كاتباً بين يديه، واستقضى عليها عامراً الشعبي‏.‏ قال الواقدي‏:‏ فلم يزل قاضياً عليها مدة خلافة عمر بن عبد العزيز، وجعل على إمرة خراسان الجراح بن عبد الله الحكمي، وكان نائب مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى إمرة المدينة أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهو الذي حج بالناس في هذه السنة، وعزل عن إمرة مصر عبد الملك بن أبي وداعة وولى عليها أيوب بن شرحبيل، وجعل الفتيا إلى جعفر بن ربيعة ويزيد بن أبي حبيب وعبيد الله بن أبي جعفر، فهؤلاء الذين كانوا يفتون الناس، واستعمل على إفريقية وبلاد المغرب إسماعيل بن عبد الله المخزومي، وكان حسن السيرة، وأسلم في ولايته على بلاد المغرب خلق كثير من البربر، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 الحسن بن محمد بن الحنفية

تابعي جليل، يقال‏:‏ إنه أول من تكلم في الأرجاء، وقد تقدم أن أبا عبيد قال‏:‏ توفي في سنة خمس وتسعين، وذكر خليفة أنه توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز، وذكر شيخنا الذهبي في الإعلام‏:‏ أنه توفي هذا العام، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/210‏)‏

 عبد الله بن محيريز بن جنادة بن عبيد

القرشي الجمحي المكي، نزيل بيت المقدس، تابعي جليل، روى عن زوج أم أبي محذورة المؤذن، وعبادة بن الصامت، وأبي سعيد، ومعاوية، وغيرهم، وعنه خالد بن معدان، ومكحول، وحسان بن عطية، والزهري، وآخرون‏.‏

وقد وثقه غير واحد، وأثنى عليه جماعة من الأئمة، حتى قال رجاء بن حيوة‏:‏ إن يفخر علينا أهل المدينة بعابدهم ابن عمر، فإنا نفخر عليهم بعابدنا عبد الله بن محيريز‏.‏

وقال بعض ولده‏:‏ كان يختم القرآن كل جمعة، وكان يفرش له الفراش فلا ينام عليه‏.‏

قالوا‏:‏ وكان صموناً معتزلاً للفتن، وكان لا يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يذكر شيئاً من خصاله المحمودة‏.‏

ورأى على بعض الأمراء حلة من حرير فأنكر عليه، فقال‏:‏ إنما ألبسها من أجل هؤلاء - وأشار إلى عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين - فقال له ابن محيريز‏:‏ لا تعدل بخوفك من الله خوف أحد من المخلوقين‏.‏

وقال الأوزاعي‏:‏ من كان مقتدياً فليقتد بمثله، فإن الله لا يضل أمة فيها مثله‏.‏

قال بعضهم‏:‏ توفي أيام الوليد، وقال خليفة بن خياط‏:‏ توفي أيام عمر بن عبد العزيز، وذكر الذهبي في الأعلام أنه توفي في هذا العام، والله سبحانه أعلم‏.‏

دخل ابن محيريز مرة حانوت بزاز ليشتري منه ثوباً فرفع في السوم، فقال له جاره‏:‏ ويحك هذا ابن محيريز ضع له، فأخذ ابن محيريز بيد غلامه وقال‏:‏ اذهب بنا، إنما جئت لنشتري بأموالنا لا بأدياننا، فذهب وتركه‏.‏

 محمود بن لبيد بن عقبة

أبو نعيم الأنصاري الأشهلي ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه أحاديث لكن حكمها حكم الإرسال‏.‏ وقال البخاري‏:‏ له صحبة‏.‏ وقال ابن عبد البر‏:‏ هو أحسن من محمود بن الربيع‏.‏ قيل‏:‏ إنه توفي سنة ست، وقيل‏:‏ سبع وتسعين، وذكر الذهبي في الأعلام أنه توفي في هذا العام والله أعلم باليقين‏.‏

 نافع بن جبير بن مطعم

ابن عدي بن نوفل القرشي النوفلي المدني، روى عن أبيه وعثمان وعلي والعباس وأبي هريرة وعائشة وغيرهم، وروى عنه جماعة من التابعين وغيرهم، وكان ثقة عابداً يحج ماشياً ومركوبه يقاد معه، قال غير واحد‏:‏ توفي سنة تسع وتسعين بالمدينة‏.‏

 كريب بن مسلم

مولى ابن عباس روى عن جماعة من الصحابة وغيرهم، وكان عنده حمل كتب، وكان من الثقات المشهورين بالخير والديانة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/211‏)‏

 محمد بن جبير بن مطعم

كان من علماء قريش وأشرافها، وله روايات كثيرة، وكان يعقل مجة مجها النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وعمره أربع سنين، توفي وعمره ثلاث وتسعون سنة بالمدينة‏.‏

 مسلم بن يسار

أبو عبد الله البصري، الفقيه الزاهد، له روايات كثيرة، كان لا يفضل عليه أحد في زمانه، وكان عابداً ورعاً زاهداً كثير الصلاة كثير الخشوع، وقيل‏:‏ إنه وقع في داره حريق فأطفاؤه وهو في الصلاة لم يشعر به‏.‏ وله مناقب كثيرة رحمه الله‏.‏

قلت‏:‏ وانهدمت مرة ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدتها، وإنه لفي المسجد في صلاته فما التفت‏.‏

وقال ابنه‏:‏ رأيته ساجداً وهو يقول‏:‏ متى ألقاك وأنت عني راض، ثم يذهب في الدعاء، ثم يقول‏:‏ متى ألقاك وأنت عني راض، وكان إذا كان في غير صلاة كأنه في الصلاة، وقد تقدمت ترجمته‏.‏

 حنش بن عمرو الصنعاني

كان والي إفريقية وبلاد المغرب، وبإفريقية توفي غازياً، وله روايات كثيرة عن جماعة من الصحابة‏.‏

 خارجة بن زيد

ابن الضحاك الأنصاري المدني الفقيه، كان يفتي بالمدينة، وكان من فقهائها المعدودين، كان عالماً بالفرائض وتقسيم المواريث، وهو أحد الفقهاء السبعة الذين مدار الفتوى على قولهم‏.‏

 سنة مائة من الهجرة النبوية

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا علي بن حفص، أنبأ ورقاء، عن منصور، عن المنهال بن عمرو، عن نعيم بن دجاجة، قال‏:‏ دخل ابن مسعود على علي فقال‏:‏ أنت القائل قال رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يأتي على الناس مائة عام وعلى الأرض نفس منفوسة‏)‏‏)‏‏؟‏ إنما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يأتي على الناس مائة عام وعلى الأرض نفس منفوسة ممن هو حي، وإن رخاء هذه الأمة بعد المائة‏)‏‏)‏‏.‏ تفرد به أحمد وفي رواية لابنه عبد الله أن علياً قال له‏:‏ يا فروخ أنت القائل لا يأتي على الناس مائة سنة وعلى الأرض عين تطرف ممن هو حي اليوم، وإنما رخاء هذه الأمة وفرحها بعد المائة‏؟‏ إنما قال رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يأتي على الناس مائة سنة وعلى الأرض عين تطرف، أخطأت أستك الحفرة، وإنما أراد ممن هو اليوم حي‏)‏‏)‏‏.‏ تفرد به وهكذا جاء في الصحيحين عن ابن عمر، فوهل الناس في مقالة رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ تلك، وإنما أراد انخرام قرنه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/212‏)‏

وفيها خرجت خارجة من الحرورية بالعراق فبعث أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد نائب الكوفة، يأمره بأن يدعوهم إلى الحق، ويتلطف بهم، ولا يقاتلهم حتى يفسدوا في الأرض، فلما فعلوا ذلك بعث إليهم جيشاً فكسرهم الحرورية، فبعث عمر إليه يلومه على جيشه، وأرسل عمر ابن عمه مسلمة بن عبد الملك من الجزيرة إلى حربهم، فأظفره الله بهم، وقد أرسل عمر إلى كبير الخوارج - وكان يقال له‏:‏ بسطام - يقول له‏:‏ ما أخرجك عليّ‏؟‏ فإن كنت خرجت غضاً لله فأنا أحق بذلك منك، ولست أولى بذلك مني، وهلم أناظرك، فإن رأيت حقاً اتبعته، وإن أبديت حقاً نظرنا فيه‏.‏ فبعث طائفة من أصحابه إليه فاختار منهم عمر رجلين فسألهما‏:‏ ماذا تنقمون‏؟‏ فقالا‏:‏ جعلك يزيد بن عبد الملك من بعدك، فقال‏:‏ إني لم أجعله أبداً وإنما جعله غيري‏.‏ قالا‏:‏ فكيف ترضى به أميناً للأمة من بعدك‏؟‏ فقال‏:‏ أنظراني ثلاثة، فيقال إن بني أمية دست إليه سماً فقتلوه خشية أن يخرج الأمر من أيديهم ويمنعهم الأموال، والله أعلم‏.‏

وفيها غزا عمر بن الوليد بن هشام المعيطي، وعمر بن قيس الكندي من أهل حمص، الصائفة‏.‏

وفيها ولي عمر بن عبد العزيز عمر بن هبيرة الجزيرة فسار إليها‏.‏

وفيها حمل يزيد بن المهلب إلى عمر بن عبد العزيز من العراق، فأرسله عدي بن أرطاة نائب البصرة مع موسى بن وجيه، وكان عمر يبغض يزيد بن المهلب وأهل بيته، ويقول هؤلاء جبابرة ولا أحب مثلهم، فلما دخل على عمر طالبه بما قبله من الأموال التي كان قد كتب إلى سليمان أنها حاصلة عنده، فقال‏:‏ إنما كتبت ذلك لأرهب الأعداء بذلك، ولم يكن بيني وبين سليمان شيء، وقد عرفت مكانتي عنده‏.‏ فقال له عمر‏:‏ لا أسمع منك هذا، ولست أطلقك حتى تؤدي أموال المسلمين، وأمر بسجنه‏.‏

وكان عمر قد بعث على إمرة خراسان الجراح بن عبد الله الحكمي عوضه، وقدم ولد يزيد بن المهلب، مخلد بن يزيد، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قد منَّ على هذه الأمة بولايتك عليها، فلا نكونن نحن أشقى الناس بك، فعلام تحبس هذا الشيخ وأنا أقوم له أتصالحني عنه‏؟‏ فقال عمر‏:‏ لا أصالحك عنه إلا أن تقوم بجميع ما يطلب منه، ولا آخذ منه إلا جميع ما عنده من مال المسلمين‏.‏ فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن كانت لك بينة عليه بما تقول وإلا فاقبل يمينه أو فصالحني عنه، فقال‏:‏ لا آخذ منه إلا جميع ما عنده‏.‏ فخرج مخلد بن يزيد من عند عمر، فلم يلبث أن مات مخلد‏.‏ وكان عمر يقول‏:‏ هو خير من أبيه‏.‏

ثم إن عمر أمر بأن يلبس يزيد بن المهلب جبة صوف ويركب على بعير إلى جزيرة دهلك التي كان ينفي إليها الفساق، فشفعوا فيه فرده إلى السجن، فلم يزل به حتى مرض عمر مرضه الذي مات فيه، فهرب من السجن وهو مريض، وعلم أنه يموت في مرضه ذلك، وبذلك كتب إليه كما سيأتي، وأظنه كان عالماً أن عمر قد سقى سماً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/213‏)‏

وفيها في رمضان منها عزل عمر بن عبد العزيز الجراح بن عبد الله الحكمي عن إمرة خراسان، بعد سنة وخمسة أشهر، وإنما عزله لأنه كان يأخذ الجزية ممن أسلم من الكفار ويقول‏:‏ أنتم إنما تسلمون فراراً منها‏.‏ فامتنعوا من الإسلام وثبتوا على دينهم وأدوا الجزية، فكتب إليه عمر‏:‏ إن الله إنما بعث محمداً ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ داعياً، ولم يبعثه جابياً‏.‏ وعزله وولى بدله عبد الرحمن بن نعيم القشيري على الحرب، وعبد الرحمن بن عبد الله على الخراج‏.‏

وفيها كتب عمر إلى عماله يأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر، ويبين لهم الحق ويوضحه لهم ويعظهم فيما بينه وبينهم، ويخوفهم بأس الله وانتقامه، وكان فيما كتب إلى عبد الرحمن بن نعيم القشيري‏:‏

أما بعد فكن عبد الله ناصحاً لله في عباده، ولا تأخذك في الله لومة لائم، فإن الله أولى بك من الناس، وحقه عليك أعظم، ولا تولين شيئاً من أمور المسلمين إلا المعروف بالنصيحة لهم، والتوفير عليهم‏.‏ وأدَّى الأمانة فيما استرعي، وإياك أن يكون ميلك ميلاً إلى غير الحق، فإن الله لا تخفى عليه خافية، ولا تذهبن عن الله مذهباً، فإنه لا ملجأ من الله إلا إليه‏.‏

وكتب مثل ذلك مواعظ كثيرة إلى العمال‏.‏ وقال البخاري في صحيحه‏:‏ وكتب عمر إلى عدي بن عدي‏:‏ إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً، من استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص‏.‏

 وفيها كان بدوّ دعوة بني العباس

وذلك أن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس - وكان مقيماً بأرض انشراة - بعث من جهته رجلاً يقال له‏:‏ ميسرة إلى العراق، وأرسل طائفة أخرى وهم محمد بن خُنَيس وأبو عكرمة السراج، وهو أبو محمد الصادق، وحيان العطار - خال إبراهيم بن سلمة - إلى خراسان، وعليها يومئذ الجراح بن عبد الله الحكمي قبل أن يعزل في رمضان، وأمرهم بالدعاء إليه وإلى أهل بيته، فلقوا من لقوا ثم انصرفوا بكتب من استجاب منهم إلى ميسرة الذي بالعراق، فبعث بها إلى محمد بن علي ففرح بها واستبشر وسره أن ذلك أول مبادئ أمر قد كتب الله إتمامه، ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/214‏)‏ وأول رأي قد أحكم الله إبرامه، أن دولة بني أمية قد بان عليها مخايل الوهن والضعف، ولا سيما بعد موت عمر بن عبد العزيز، كما سيأتي بيانه‏.‏

وقد اختار أبو محمد الصادق لمحمد بن علي اثني عشر نقيباً، وهم سليمان بن كثير الخزاعي، ولاهز بن قريظ التميمي، وقحطبة بن شبيب الطائي، وموسى بن كعب التميمي، وخالد بن إبراهيم أبو داود من بني عمرو بن شيبان بن ذهل، والقاسم بن مجاشع التميمي، وعمران بن إسماعيل أبو النجم - مولى لآل أبي معيط - ومالك بن الهيثم الخزاعي، وطلحة بن زريق الخزاعي، وعمرو بن أعين أبو حمزة - مولى لخزاعة - وشبل بن طهمان أبو علي الهروي - مولى لبني حنيفة - وعيسى بن أعين - مولى لخزاعة أيضاً‏.‏ واختار سبعين رجلاً أيضاً‏.‏ وكتب إليهم محمد بن علي كتاباً يكون مثالاً وسيرة يقتدون بها ويسيرون بها‏.‏

وقد حج بالناس في هذه السنة أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم نائب المدينة، والنواب على الأمصار هم المذكورون في التي قبلها، سوى من ذكرنا ممن عزل وتولى غيره، والله أعلم‏.‏

ولم يحج عمر بن عبد العزيز في أيام خلافته لشغله بالأمور، ولكنه كان يبرد البريد إلى المدينة فيقول له‏:‏ سلم على رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ عني، وسيأتي بإسناده إن شاء الله‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 سالم بن أبي الجعد الأشجعي

مولاهم الكوفي، أخو زياد وعبد الله وعبيد الله وعمران ومسلم، وهو تابعي جليل، روى عن ثوبان وجابر وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، والنعمان بن بشير وغيرهم‏.‏ وعنه قتادة والأعمش وآخرون، وكان ثقة نبيلاً جليلاً‏.‏

 أبو أمامة سهل بن حنيف

الأنصاري الأوسي المدني، ولد في حياة النبي ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏، ورآه وحدث عن أبيه وعمر وعثمان وزيد بن ثابت ومعاوية وابن عباس‏.‏ وعنه الزهري وأبو حازم وجماعة‏.‏

قال الزهري‏:‏ كان من علِّية الأنصار وعلمائهم، ومن أبناء الذين شهدوا بدراً‏.‏

وقال يوسف بن الماجشون، عن عتبة بن مسلم، قال‏:‏ آخر خرجة خرجها عثمان بن عفان إلى الجمعة حصبة الناس وحالوا بينه وبين الصلاة، فصلى بالناس يومئذ أبو أمامة سهل بن حنيف‏.‏

قالوا‏:‏ توفي سنة مائة، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/ 215‏)‏

 أبو الزاهرية حدير بن كريب الحمصي

تابعي جليل، سمع أبا أمامة صدي بن عجلان، وعبد الله بن بسر، ويقال‏:‏ أنه أدرك أبا الدرداء، والصحيح أن روايته عنه وعن حذيفة مرسلة، وقد حدث عنه جماعة من أهل بلده، وقد وثقه ابن معين وغيره‏.‏

ومن أغرب ما روى عنه قول قتيبة‏:‏ ثنا شهاب بن خراش، عن حميد، عن أبي الزاهرية، قال‏:‏ أغفيت في صخرة بيت المقدس فجاءت السدنة فأغلقوا عليّ الباب، فما انتبهت إلا بتسبيح الملائكة فوثبت مذعوراً فإذا الملائكة صفوف، فدخلت معهم في الصف‏.‏

قال أبو عبيدة وغيره‏:‏ مات سنة مائة‏.‏

 أبو الطفيل عامر بن واثلة

ابن عبد الله بن عمرو الليثي الكناني، صحابي، وهو آخر من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وفاة بالإجماع، قال‏:‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستلم الركن بمحجنه، وذكر صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر وعمر وعلي ومعاذ وابن مسعود، وحدث عنه الزهري وقتادة وعمرو بن دينار وأبو الزبير وجماعة من التابعين، وكان من أنصار علي بن أبي طالب، شهد معه حروبه كلها، لكن نقم بعضهم عليه كونه كان مع المختار بن أبي عبيد، ويقال‏:‏ إنه كان حامل رايته، وقد روى أنه دخل على معاوية فقال‏:‏ ما أبقى لك الدهر من ثكلك علياً‏؟‏ فقال‏:‏ ثكل العجوز المقلاة والشيخ الرقوب، فقال‏:‏ كيف حبك له‏؟‏ قال‏:‏ حب أم موسى لموسى، و إلى الله أشكو التقصير‏.‏

قيل‏:‏ إنه أدرك من حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، ومات سنة مائة‏.‏ وقيل‏:‏ سنة سبع ومائة، فالله أعلم‏.‏

قال مسلمة بن الحجاج‏:‏ وهو آخر من مات من الصحابة مطلقاً، ومات سنة مائة‏.‏

 أبو عثمان النهدي

واسمه عبد الرحمن بن مُلِ البصري، أدرك الجاهلية وحج في زمن الجاهلية مرتين، وأسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره، وأدى في زمانه الزكاة ثلاث سنين إلى عمال النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا يسميه أئمة الحديث مخضرماً وهاجر إلى المدينة في زمان عمر بن الخطاب، فسمع منه ومن علي وابن مسعود وخلق من الصحابة، وصحب سلمان الفارسي ثنتي عشرة سنة حتى دفنه، وروى عنه جماعة من التابعين وغيرهم، منهم أيوب، و حميد الطويل، و سليمان بن طرخان التيمي، وقال عاصم الأحول‏:‏ سمعته يقول‏:‏ أدركت في الجاهلية يغوث صنماً من رصاص يحمل على جمل أجرد، فإذا بلغ وادياً برك فيه، فيقولون‏:‏ قد رضي ربكم لكم هذا الوادي فينزلون فيه، قال‏:‏ وسمعته وقد قيل له أدركت النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏:‏ نعم ‏!‏ أسلمت على عهده، وأديت إليه الزكاة ثلاث مرات، ولم ألقه، وشهدت اليرموك والقادسية وجلولاء ونهاوند‏.‏

كان أبو عثمان صواماً قواماً، يسرد الصوم ويقوم الليل لا يتركه، وكان يصلي حتى يغشى عليه، وحج ستين مرة ما بين حجة وعمرة، ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/216‏)‏ قال سليمان التيمي‏:‏ إني لأحسبه لا يصيب ذنباً، لأنه ليله قائماً ونهاره صائماً، وقال بعضهم‏:‏ سمعت أبا عثمان النهدي يقول‏:‏ أتت عليَّ ثلاثون ومائة سنة وما مني شيء إلا وقد أنكرته خلا أملي فإني أجده كما هو‏.‏

وقال ثابت البناني، عن أبي عثمان‏.‏ قال‏:‏ إني لأعلم حين يذكرني ربي عز وجل، قال‏:‏ فيقول‏:‏ من أين تعلم ذلك‏؟‏ فيقول‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 152‏]‏فإذا ذكرت الله ذكرني‏.‏

قال‏:‏ وكنا إذا دعونا الله قال‏:‏ والله لقد استجاب الله لنا، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ قالوا‏:‏ وعاش مائة وثلاثين سنة، قاله هشيم وغيره‏.‏

قال المدائني وغيره‏:‏ توفي سنة مائة، وقال الفلاس‏:‏ توفي سنة خمس وتسعين، والصحيح سنة مائة، والله أعلم‏.‏

وفيها توفي عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، وكان يفضل على والده في العبادة والانقطاع عن الناس، وله كلمات حسان مع أبيه ووعظه إياه‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى ومائة

فيها كان هرب يزيد بن المهلب من السجن حين بلغه مرض عمر بن عبد العزيز، فواعد غلمانه يلقونه بالخيل في بعض الأماكن، وقيل بإبل له، ثم نزل من محبسه ومعه جماعة وامرأته عاتكة بنت الفرات العامرية، فلما جاء غلمانه ركب رواحله وسار وكتب إلى عمر بن عبد العزيز‏:‏ إني والله ما خرجت من سجنك إلا حين بلغني مرضك، ولو رجوت حياتك ما خرجت، ولكني خشيت من يزيد بن عبد الملك فإنه يتوعدني بالقتل، وكان يزيد يقول‏:‏ لئن وليت لأقطعن من يزيد بن المهلب طائفة، وذلك أنه لما ولي العراق عاقب أصهاره آل عقيل، وهم بيت الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان يزيد بن عبد الملك مزوجاً ببنت محمد بن يوسف، وله ابنه الوليد بن يزيد الفاسق المقتول كما سيأتي‏.‏

ولما بلغ عمر بن عبد العزيز أن يزيد بن المهلب هرب من السجن قال‏:‏ اللهم إن كان يريد بهذه الأمة سوءاً فاكفهم شره، واردد كيده في نحره، ثم لم يزل المرض يتزايد بعمر بن عبد العزيز حتى مات وهو بخناصرة، من دير سمعان بين حماه وحلب، في يوم الجمعة، وقيل‏:‏ في يوم الأربعاء لخمس بقين من رجب من هذه السنة - أعنى سنة إحدى ومائة - عن تسع وثلاثين سنة وأشهر، وقيل‏:‏ إنه جاوز الأربعين بأشهر، فالله اعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/217‏)‏

وكانت خلافته فيما ذكر غير واحد سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، وكان حكماً مقسطاً، وإماماً عادلاً ورعاً ديِّناً، لا تأخذه في الله لومة لائم رحمه الله تعالى‏.‏

 وهذه ترجمة عمر بن عبد العزيز الإمام المشهور رحمه الله

هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو حفص القرشي الأموي المعروف أمير المؤمنين، وأمه أم عاصم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ويقال له‏:‏ أشج بني مروان، وكان يقال‏:‏ الأشج والناقص أعدل بني مروان‏.‏ فهذا هو الأشج وسيأتي ذكر الناقص‏.‏

كان عمر تابعياً جليلاً، روى عن أنس بن مالك والسائب بن يزيد، ويوسف بن عبد الله بن سلام، ويوسف صحابي صغير‏.‏

وروى عن خلق من التابعين، وعنه جماعة من التابعين وغيرهم‏.‏

قال الإمام أحمد بن حنبل‏:‏ لا أدري قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز‏.‏

بويع له بالخلافة بعد ابن عمه سليمان بن عبد الملك، عن عهد منه له بذلك كما تقدم، ويقال‏:‏ كان مولده في سنة إحدى وستين، وهي السنة التي قتل فيها الحسين بن علي بمصر، قاله غير واحد‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ ولد سنة ثلاث وستين، وقيل‏:‏ سنة تسع وخمسين، فالله أعلم‏.‏

وكان له جماعة من الأخوة ولكن الذين هم من أبويه أبو بكر وعاصم ومحمد، وقال أبو بكر بن أبي خيثمة، عن يحيى بن معين، عن يحيى بن بكير، عن الليث‏.‏ قال‏:‏ بلغني أن عمران بن عبد الرحمن بن شرحبيل بن حسنة كان يحدث أن رجلاً رأى في المنام ليلة ولد عمر بن عبد العزيز - أو ليلة ولي الخلافة شك أبو بكر - أن منادياً بين السماء والأرض ينادي‏:‏ أتاكم اللّين والديّن وإظهار العمل الصالح في المصلين، فقلت‏:‏ ومن هو‏؟‏ فنزل فكتب في الأرض ع م ر‏.‏

وقال آدم بن إياس، ثنا أبو علي ثروان مولى عمر بن عبد العزيز‏.‏ قال‏:‏ دخل عمر بن عبد العزيز إلى اصطبل أبيه فضربه فرس فشجه، فجعل أبوه يمسح الدم عنه ويقول‏:‏ إن كنت أشج بني أمية إنك إذا لسعيد‏.‏ رواه الحافظ ابن عساكر من طريق هارون بن معروف، عن ضمرة، وقال نعيم بن حماد‏:‏ ثنا ضمام بن إسماعيل، عن أبي قبيل أن عمر بن عبد العزيز بكى وهو غلام صغير، فبلع أمه فأرسلت إليه فقالت‏:‏ ما يبكيك‏؟‏ قال‏:‏ ذكرت الموت، فبكت أمه‏.‏ وكان قد جمع القرآن وهو صغير، وقال الضحاك بن عثمان الخزامي‏.‏ كان أبوه قد جعله عند صالح بن كيسان يؤدبه، فلما حج أبوه اجتاز به في المدينة فسأله عنه فقال‏:‏ ما خبرت أحداً الله أعظم في صدره من هذا الغلام‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/218‏)‏

وروى يعقوب بن سفيان أن عمر بن عبد العزيز تأخر عن الصلاة مع الجماعة يوماً، فقال صالح بن كيسان‏:‏ ما شغلك‏؟‏ فقال‏:‏ كانت مرجِّلتي تسكن شعري، فقال له‏:‏ قدمت ذلك على الصلاة‏؟‏ وكتب إلى أبيه وهو على مصر يعلمه بذلك، فبعث أبوه رسولاً فلم يكلمه حتى حلق رأسه‏.‏

وكان عمر بن عبد العزيز يختلف إلى عبيد الله بن عبد الله يسمع منه، فبلغ عبيد الله أن عمر ينتقص علياً، فلما أتاه عمر أعرض عبيد الله عنه وقام يصلي، فجلس عمر ينتظره، فلما سلم أقبل على عمر مغضباً وقال له‏:‏ متى بلغك أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم‏؟‏ قال‏:‏ ففهمها عمر وقال‏:‏ معذرة إلى الله ثم إليك، والله لا أعود، قال‏:‏ فما سمع بعد ذلك يذكر علياً إلا بخير‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة‏:‏ ثنا أبي، ثنا المفضل بن عبد الله، عن داود بن أبي هند‏.‏ قال‏:‏ دخل علينا عمر بن عبد العزيز من هذا الباب - وأشار إلى باب من أبواب مسجد النبي صلى الله عليه وسلم - فقال رجل من القوم‏:‏ بعث الفاسق لنا بابنه هذا يتعلم الفرائض والسنن، ويزعم أنه لن يموت حتى يكون خليفة، ويسير سيرة عمر بن الخطاب‏.‏ قال داود‏:‏ والله ما مات حتى رأينا ذلك فيه‏.‏

وقال الزبير بن بكار‏:‏ حدثني العتبي قال‏:‏ إن أول ما استبين من رشد عمر بن عبد العزيز حرصه على العلم ورغبته في الأدب، إن أباه ولي مصر وهو حديث السن يشك في بلوغه، فأراد أبوه إخراجه معه إلى مصر من الشام، فقال‏:‏ يا أبت أو غير ذلك لعله يكون أنفع لي ولك‏؟‏ قال‏:‏ وما هو‏؟‏ قال‏:‏ ترحِّلني إلى المدينة فأقعد إلى فقهائها وأتأدب بآدابهم، فعند ذلك أرسله أبوه إلى المدينة، وأرسل معه الخدام، فقعد مع مشايخ قريش، وتجنب شبابهم، وما زال ذلك دأبه حتى اشتهر ذكره، فلما مات أبوه أخذه عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فخلطه بولده، وقدمه على كثير منهم، وزوجه بابنته فاطمة، وهي التي يقول الشاعر فيها‏:‏

بنت الخليفة والخليفة جدها * أخت الخلائف والخليفة زوجها

قال‏:‏ ولا نعرف امرأة بهذه الصفة إلى يومنا هذا سواها‏.‏

قال العتبي‏:‏ ولم يكن حاسد عمر بن عبد العزيز ينقم عليه شيئاً سوى متابعته في النعمة، والاختيال في المشية، وقد قال الأحنف بن قيس‏:‏ الكامل من عدت هفواته ولا تعد إلا من قلة‏.‏

وقد ورث عمر من أبيه من الأموال والمتاع والدواب هو وإخوته ما لم يرثه غيره فيما نعلم، كما تقدم ذلك، ودخل يوماً على عمه عبد الملك وهو يتجانف في مشيته، فقال‏:‏ يا عمر مالك تمشي غير مشيتك‏؟‏ قال‏:‏ إن في جرحاً، فقال‏:‏ وأين هو من جسدك‏؟‏ قال‏:‏ بين الرانقة والصفن - يعني بين طرف الإلية وجلدة الخصية - فقال عبد الملك لروج بن زنباع‏:‏ بالله لو رجل من قومك سئل عن هذا ما أجاب بمثل هذا الجواب، قالوا‏:‏ ولما مات عمه عبد الملك حزن عليه ولبس المسوح تحت ثيابه سبعين يوماً، ولما ولي الوليد عامله بما كان أبوه يعامله به، وولاه المدينة ومكة والطائف من سنة ست وثمانين إلى سنة ثلاث وتسعين، وأقام للناس الحج سنة تسع وثمانين، وسنة تسعين، وحج الوليد بالناس سنة إحدى وتسعين، ثم حج بالناس عمر سنة ثنتين أو ثلاث وتسعين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/219‏)‏

وبنى في مدة ولايته هذه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ووسعه عن أمر الوليد له بذلك، فدخل فيه قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان في هذه المدة من أحسن الناس معاشرة، وأعدلهم سيرة، كان إذا وقع له أمر مشكل جمع فقهاء المدينة عليه، وقد عين عشرة منهم، وكان لا يقطع أمراً بدونهم أو من حضر منهم، وهم عروة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر بن سليمان بن خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد بن حزم، وسالم بن عبد الله، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد بن ثابت‏.‏

وكان لا يخرج عن قول سعيد بن المسيب، وقد كان سعيد بن المسيب لا يأتي أحداً من الخلفاء، وكان يأتي إلى عمر بن عبد العزيز وهو بالمدينة، وقال إبراهيم بن عبلة‏:‏ قدمت المدينة وبها ابن المسيب وغيره، وقد ندبهم عمر يوماً إلى رأي‏.‏

وقال ابن وهب‏:‏ حدثني الليث، حدثني قادم البربري أنه ذاكر ربيعة بن أبي عبد الرحمن يوماً شيئاً من قضايا عمر بن عبد العزيز إذ كان بالمدينة، فقال له الربيع‏:‏ كأنك تقول‏:‏ أخطأ، والذي نفسي بيده ما أخطأ قط‏.‏

وثبت من غير وجه عن أنس بن مالك‏.‏ قال‏:‏ ما صليت وراء إمام أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى - يعني عمر بن عبد العزيز - حين كان على المدينة‏.‏

قالوا‏:‏ وكان يتم الركوع والسجود ويخفف القيام والقعود، وفي رواية صحيحة أنه كان يسبح في الركوع والسجود عشراً عشراً‏.‏

وقال ابن وهب‏:‏ حدثني الليث، عن أبي النضر المديني، قال‏:‏ رأيت سليمان بن يسار خارجاً من عند عمر بن عبد العزيز فقلت له‏:‏ من عند عمر خرجت‏؟‏ قال‏:‏ نعم ‏!‏ قلت‏:‏ تعلمونه‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فقلت‏:‏ هو والله أعلمكم‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ أتينا عمر نعلمه فما برحنا حتى تعلمنا منه‏.‏

وقال ميمون بن مهران‏:‏ كانت العلماء عند عمر بن عبد العزيز تلامذة، وفي رواية قال ميمون‏:‏ كان عمر بن عبد العزيز معلم العلماء‏.‏

وقال الليث‏:‏ حدثني رجل كان قد صحب ابن عمر وابن عباس، وكان عمر بن عبد العزيز يستعمله على الجزيرة، قال‏:‏ ما التمسنا علم شيء إلا وجدنا عمر بن عبد العزيز أعلم الناس بأصله وفرعه، وما كان العلماء عند عمر بن عبد العزيز إلا تلامذة‏.‏

وقال عبد الله بن طاووس‏:‏ رأيت أبي تواقف هو وعمر بن عبد العزيز من بعد صلاة العشاء حتى أصبحنا، فلما افترقا قلت‏:‏ يا أبت من هذا الرجل‏؟‏ قال‏:‏ هذا عمر بن عبد، العزيز وهو من صالحي هذا البيت - يعني بني أمية - وقال عبد الله بن كثير‏:‏ قلت لعمر بن عبد العزيز‏:‏ ما كان بدء إنابتك‏؟‏ قال‏:‏ أردت ضرب غلام لي فقال لي‏:‏ اذكر ليلة صبيحتها يوم القيامة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/220‏)‏

وقال الإمام مالك‏:‏ لما عزل عمر بن عبد العزيز عن المدينة - يعني في سنة ثلاث وتسعين - وخرج منها التفت إليها وبكى وقال لمولاه‏:‏ يا مزاحم، نخشى أن نكون ممن نفت المدينة - يعني أن المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد - وينصع طيبها‏.‏

قلت‏:‏ خرج من المدينة فنزل بمكان قريب منها يقال له‏:‏ السويداء حيناً، ثم قدم دمشق على بني عمه‏.‏ قال محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أبي حكيم، قال‏:‏ سمعت عمر بن عبد العزيز، يقول‏:‏ خرجت من المدينة وما من رجل أعلم مني، فلما قدمت الشام نسيت‏.‏

وقال الإمام أحمد، حدثنا عفان، ثنا حماد بن زيد، عن معمر، عن الزهري، قال‏:‏ سهرت مع عمر بن عبد العزيز ذات ليلة فحدثته، فقال‏:‏ كل ما حدثت فقد سمعته ولكن حفظت ونسيت‏.‏

وقال ابن وهب، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري، قال‏:‏ قال عمر بن عبد العزيز‏:‏ بعث إلي الوليد ذات ساعة من الظهيرة، فدخلت عليه فإذا هو عابس، فأشار إلي أن اجلس، فجلست فقال‏:‏ ما تقول فيمن يسب الخلفاء أيقتل‏؟‏ فسكت، ثم عاد فسكت، ثم عاد فسكت، ثم عاد فقلت‏:‏ أقتل يا أمير المؤمنين‏؟‏ قال‏:‏ لا، ولكن سب، فقلت‏:‏ ينكل به، فغضب وانصرف إلى أهله، وقال لي ابن الريان السياف‏:‏ اذهب، قال‏:‏ فخرجت من عنده وما تهب ريح إلا وأنا أظن أنه رسول يردني إليه، وقال عثمان بن زبر‏:‏ أقبل سليمان بن عبد الملك وهو أمير المؤمنين ومعه عمر بن عبد العزيز على معسكر سليمان، وفيه تلك الخيول والجمال والبغال والأثقال والرجال، فقال سليمان‏:‏ ما تقول يا عمر في هذا‏؟‏ فقال‏:‏ أرى دنيا يأكل بعضها بعضاً وأنت المسئول عن ذلك كله، فلما اقتربوا من المعسكر إذا غراب قد أخذ لقمة في فيه من فسطاط سليمان وهو طائر بها، ونعب نعبة، فقال له سليمان‏:‏ ما هذا يا عمر‏؟‏ فقال لا أدري، فقال‏:‏ ما ظنك أنه يقول‏؟‏ قلت‏:‏ كأنه يقول‏:‏ من أين جاءت وأين يذهب بها‏؟‏ فقال له سليمان‏:‏ ما أعجبك‏؟‏ فقال عمر‏:‏ أعجب ممن عرف الله فعصاه، ومن عرف الشيطان فأطاعه، ومن عرف الدنيا فركن إليها‏.‏

وتقدم أنه لما وقف سليمان وعمر بعرفة ورأى سليمان كثرة الناس فقال له عمر‏:‏ هؤلاء رعيتك اليوم وأنت مسؤول عنهم غداً‏.‏ وفي رواية وهم خصماؤك يوم القيامة، فبكى سليمان وقال‏:‏ بالله نستعين‏.‏

وتقدم أنهم لما أصابهم ذلك المطر والرعد فزع سليمان وضحك عمر فقال له‏:‏ أتضحك‏؟‏ فقال‏:‏ نعم هذه آثار رحمته ونحن في هذه الحال، فكيف بآثار غضبه وعقابه ونحن في تلك الحال‏؟‏

وذكر الإمام مالك أن سليمان وعمر تقاولا مرة فقال له سليمان في جملة الكلام‏:‏ كذبت، فقال‏:‏ تقول كذبت‏؟‏ والله ما كذبت منذ عرفت أن الكذب يضر أهله، ثم هجره عمر وعزم على الرحيل إلى مصر، فلم يمكنه سليمان، ثم بعث إليه فصالحه وقال‏:‏ له ما عرض لي أمر يهمني إلا خطرت على بالي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/221‏)‏

وقد ذكرنا أنه لما حضرته الوفاة أوصى بالأمر من بعده إلى عمر بن عبد العزيز فانتظم الأمر على ذلك ولله الحمد‏.‏