فصل: باب‏:‏ بيان الموضع الذي أهلَّ منه عليه السلام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 باب بعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم علي ابن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع

حدثنا أحمد بن عثمان، ثنا شريح بن مسلمة، ثنا إبراهيم بن يوسف بن إسحاق ابن أبي إسحاق، حدثني أبي عن أبي إسحاق، سمعت البراء بن عازب قال‏:‏ بعثنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مع خالد بن الوليد إلى اليمن قال‏:‏ ثم بعث عليا بعد ذلك مكانه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏مُر أصحاب خالد من شاء منهم أن يعقب معك فليعقب، ومن شاء فليقبل‏)‏‏)‏‏.‏

فكنت فيمن عقب معه، قال‏:‏ فغنمت أواقي ذات عدد‏.‏

انفرد به البخاري من هذا الوجه‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن بشار، ثنا روح بن عبادة، ثنا علي بن سويد بن منجوف عن عبد الله ابن بريدة، عن أبيه قال‏:‏ بعث النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم علياً إلى خالد بن الوليد ليقبض الخمس، وكنت أبغض علياً، فأصبح وقد اغتسل، فقلت لخالد‏:‏ ألا ترى إلى هذا‏؟‏

فلما قدمنا على النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ذكرت ذلك له‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا بريدة أتبغض علياً‏؟‏‏)‏‏)‏

فقلت‏:‏ نعم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تبغضه فإن له في الخمس أكثر من ذلك‏)‏‏)‏‏.‏

انفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا يحيى بن سعيد، ثنا عبد الجليل قال‏:‏ انتهيت إلى حلقة فيها أبو مجلز، وابنا بريدة، فقال عبد الله بن بريدة‏:‏ حدثني أبو بريدة قال‏:‏ أبغضت علياً بغضاً لم أبغضه أحداً قط، قال‏:‏ وأحببت رجلاً من قريش لم أحبه إلا على بغضه علياً قال‏:‏ فبعث ذلك الرجل على خيل فصحبته ما أصحبه إلا على بغضه علياً، قال‏:‏ فأصبنا سبياً، قال‏:‏ فكتب إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أبعث إلينا من يخمسه، قال‏:‏ فبعث إلينا علياً، وفي السبي وصيفة من أفضل السبي‏.‏

قال‏:‏ فخمس، وقسَّم، فخرج ورأسه يقطر‏.‏

فقلنا‏:‏ يا أبا الحسن ما هذا‏؟‏

فقال‏:‏ ألم تروا إلى الوصيفة التي كانت في السبي فإني قسمت وخمست فصارت في أهل بيت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ثم صارت في آل علي ووقعت بها‏.‏

قال‏:‏ فكتب الرجل إلى نبي الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فقلت‏:‏ ابعثني فبعثني مصدقاً، فجعلت أقرأ الكتاب وأقول صدق قال‏:‏ فأمسك يدي والكتاب فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أتبغض علياً‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فلا تبغضه، وإن كنت تحبه فازدد له حباً، فوالذي نفس محمد بيده لنصيب آل علي في الخمس أفضل من وصيفة‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فما كان من النَّاس أحد بعد قول النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أحب إلي من علي‏.‏ ‏(‏ج /ص‏:‏5/ 121‏)‏

قال عبد الله بن بريدة‏:‏ فوالذي لا إله غيره ما بيني وبين النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في هذا الحديث غير أبي بريدة‏.‏

تفرَّد به بهذا السياق عبد الجليل بن عطية الفقيه أبو صالح البصري، وثَّقه ابن معين وابن حبان‏.‏

وقال البخاري‏:‏ إنما يهم في الشيء‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ ثنا أبان بن صالح عن عبد الله بن نيار الأسلميّ، عن خاله عمرو بن شاس الأسلميّ، وكان من أصحاب الحديبية، قال‏:‏ كنت مع علي ابن أبي طالب في خيله التي بعثه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى اليمن فجفاني علي بعض الجفاء، فوجدت في نفسي عليه، فلما قدمت المدينة اشتكيته في مجالس المدينة وعند من لقيته، فأقبلت يوماً ورسول الله جالس فلما رآني أنظر إلى عينيه، نظر إلي حتَّى جلست إليه فلما جلست إليه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه والله يا عمرو بن شاس لقد آذيتني‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون، أعوذ بالله والإسلام أن أوذي رسول الله‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من آذى علياً فقد آذاني‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه البيهقي من وجه آخر عن ابن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن الفضل بن معقل بن سنان، عن عبد الله بن نيار، عن خاله عمرو بن شاس، فذكره بمعناه‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ أنبأنا محمد بن عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو إسحاق المولى، ثنا عبيدة ابن أبي السفر، سمعت إبراهيم بن يوسف ابن أبي إسحاق عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن البراء أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام‏.‏

قال البراء‏:‏ فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، ثم إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعث علي ابن أبي طالب وأمره أن يقفل خالداً، إلا رجلاً كان ممن يمم مع خالد فأحب أن يعقب مع علي، فليعقب معه‏.‏

قال البراء‏:‏ فكنت فيمن عقب مع علي، فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا، ثم تقدم فصلى بنا علي، ثم صفنا صفاً واحداً، ثم تقدم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأسلمت همدان جميعاً، فكتب علي إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بإسلامها، فلما قرأ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الكتاب خرَّ ساجداً، ثم رفع رأسه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏السلام على همدان، السلام على همدان‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/122‏)‏

قال البيهقي‏:‏ رواه البخاري مختصراً من وجه آخر عن إبراهيم بن يوسف‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو الحسين محمد بن الحسين محمد بن الفضل القطان، أنبأنا أبو سهل ابن زياد القطان، حدثنا أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق القاضي، ثنا إسماعيل ابن أبي أويس، حدثني أخي عن سليمان بن بلال، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة، عن أبي سعيد الخدري أنه قال‏:‏ بعث رسول الله علي ابن أبي طالب إلى اليمن‏.‏

قال أبو سعيد‏:‏ فكنت فيمن خرج معه، فلما أخذ من إبل الصدقة سألناه أن نركب منها ونريح إبلنا وكنا قد رأينا في إبلنا خللاً فأبى علينا وقال‏:‏ إنما لكم فيها سهم كما للمسلمين‏.‏

قال‏:‏ فلما فرغ علي وانطفق من اليمن راجعاً أمر علينا إنساناً، وأسرع هو وأدرك الحج فلما قضى حجته، قال له النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏ارجع إلى أصحابك حتَّى تقدم عليهم‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو سعيد‏:‏ وقد كنا سألنا الذي استخلفه ما كان علي منعنا إياه ففعل، فلما عرف في إبل الصدقة أنها قد ركبت، ورأى أثر الركب قدم الذي أمره ولامه، فقلت‏:‏ أما أن الله علي لئن قدمت المدينة لأذكرن لرسول الله ولأخبرنه ما لقينا من الغلظة والتضييق‏.‏

قال‏:‏ فلما قدمنا المدينة غدوت إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أريد أن أفعل ما كنت حلفت عليه، فلقيت أبا بكر خارجاً من عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلما رآني وقف معي ورحب بي، وساءلني وساءلته، وقال‏:‏ متى قدمت‏؟‏

فقلت‏:‏ قدمت البارحة‏.‏

فرجع معي إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فدخل وقال‏:‏ هذا سعد بن مالك ابن الشهيد‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إئذن له‏)‏‏)‏‏.‏

فدخلت فحييت رسول الله وحياني، وأقبل علي وسألني عن نفسي وأهلي وأحفى المسألة‏.‏

فقلت‏:‏ يا رسول الله ما لقينا من علي من الغلظة وسوء الصحبة والتضييق‏.‏

فاتئد رسول الله وجعلت أنا أعدد ما لقينا منه، حتَّى إذا كنا في وسط كلامي ضرب رسول الله على فخذي، وكنت منه قريباً وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا سعد بن مالك ابن الشهيد مه، بعض قولك لأخيك علي، فوالله لقد علمت أنه أحسن في سبيل الله‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقلت في نفسي‏:‏ - ثكلتك أمك سعد بن مالك - ألا أراني كنت فيما يكره منذ اليوم ولا أدري لا جرم والله لا أذكره بسوء أبداً، سراً ولا علانية‏.‏

وهذا إسناد جيد على شرط النسائي، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة‏.‏

وقد قال يونس‏:‏ عن محمد بن إسحاق، حدثني يحيى بن عبد الله ابن أبي عمر، عن يزيد بن طلحة بن يزيد بن ركانة قال‏:‏ إنما وجد جيش علي ابن أبي طالب الذين كانوا معه باليمن لأنهم حين أقبلوا خلف عليهم رجلاً وتعجل إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ فعمد الرجل فكسى كل رجل حلة، فلما دنوا خرج عليهم علي يستلقيهم فإذا عليهم الحلل، قال علي‏:‏ ما هذا‏؟‏

قالوا‏:‏ كسانا فلان‏.‏

قال‏:‏ فما دعاك إلى هذا قبل أن تقدم على رسول الله فيصنع ما شاء فنزع الحلل منهم، فلما قدموا على رسول الله اشتكوه لذلك، وكانوا قد صالحوا رسول الله؛ وإنما بعث عليه إلى جزية موضوعة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/123‏)‏

قلت‏:‏ هذا السياق أقرب من سياق البيهقي، وذلك أن علياً سبقهم لأجل الحج وساق معه هدياً، وأهلَّ بإهلال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فأمره أن يمكث حراماً‏.‏

وفي رواية‏:‏ البراء بن عازب أنه قال له‏:‏ أني سقت الهدي وقرنت‏.‏

والمقصود‏:‏ أن علياً لما كثر فيه القيل والقال من ذلك الجيش بسبب منعه إياهم استعمال إبل الصدقة، واسترجاعه منهم الحلل التي أطلقها لهم نائبه، وعلي معذور فيما فعل، لكن اشتهر الكلام فيه في الحجيج، فلذلك و الله أعلم لما رجع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من حجته، وتفرغ من مناسكه، ورجع إلى المدينة فمر بغد يرخم قام في النَّاس خطيبا فبرأ ساحة علي، ورفع من قدره، ونبه على فضله ليزيل ما وقر في نفوس كثير من النَّاس، وسيأتي هذا مفصلاً في موضعه إن شاء الله، وبه الثقة‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا قتيبة، ثنا عبد الواحد عن عمارة بن القعقاع بن شبرمة، حدثني عبد الرحمن ابن أبي نُعم، سمعت أبا سعيد الخدري يقول‏:‏ بعث علي ابن أبي طالب إلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم من اليمن بذهيبة في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها‏.‏

قال‏:‏ فقسمها بين أربعة؛ بين‏:‏ عيينة بن بدر، والأقرع بن حابس، وزيد الخيل، والرابع‏:‏ إما علقمة بن علاثة، وإما عامر بن الطفيل‏.‏

فقال رجل من أصحابه‏:‏ كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء‏.‏

فبلغ ذلك النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا تأمنوني‏؟‏ وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار فقال‏:‏ يا رسول الله اتق الله‏!‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ويلك أولست أحق النَّاس أن يتقي الله‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ ثم ولى الرجل‏.‏

قال خالد بن الوليد‏:‏ يا رسول الله ألا أضرب عنقه‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا لعله أن يكون يصلي‏)‏‏)‏‏.‏

قال خالد‏:‏ وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إني لم أومر أن أنقب عن قلوب النَّاس، ولا أشق بطونهم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ثم نظر إليه وهو مقف‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه يخرج من ضئضئي هذا قوم يتلون كتاب الله رطباً لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية‏)‏‏)‏ أظنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه البخاري في مواضع أخر من كتابه‏.‏

ومسلم في ‏(‏كتاب الزكاة‏)‏ من صحيحه، من طرق متعددة إلى عمارة بن القعقاع به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/124‏)‏

ثم قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا يحيى عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي قال‏:‏ بعثني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى اليمن وأنا حديث السن، قال‏:‏ فقلت‏:‏ تبعثني إلى قوم يكون بينهم أحداث، ولا علم لي بالقضاء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله سيهدي لسانك، ويثبت قلبك‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فما شككت في قضاء بين اثنين‏.‏

ورواه ابن ماجه من حديث الأعمش به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أسود بن عامر، ثنا شريك عن سماك، عن حنش، عن علي قال‏:‏ بعثني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى اليمن قال‏:‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله تبعثني إلى قوم أسن مني، وأنا حدث لا أبصر القضاء‏.‏

قال‏:‏ فوضع يده على صدري وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم ثبَّت لسانه، واهد قلبه، يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتَّى تسمع من الآخر ما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فما اختلف عليقضاء بعد - أو ما أشكل علي قضاء بعد -‏.‏

ورواه أحمد أيضاً وأبو داود من طرق عن شريك، والتِّرمذي من حديث زائدة، كلاهما عن سماك بن حرب، عن حنش بن المعتمر‏.‏

وقيل‏:‏ ابن ربيعة الكناني الكوفي عن علي به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان بن عيينة عن الأجلح، عن الشعبي، عن عبد الله ابن أبي الخليل، عن زيد بن أرقم‏:‏ أن نفراً وطئوا امرأة في طهر، فقال علي‏:‏ لاثنين أتطيبان نفساً لذا‏؟‏

فقالا‏:‏ لا، فأقبل على الآخرين‏.‏

فقال‏:‏ أتطيبان نفساً لذا‏؟‏

فقالا‏:‏ لا‏.‏

فقال‏:‏ أنتم شركاء متشاكسون‏.‏

فقال‏:‏ إني مقرع بينكم فأيكم قرع أغرمته ثلثي الدية، وألزمته الولد‏.‏

قال‏:‏ فذكر ذلك للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا أعلم إلا ما قال علي‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا شريح بن النعمان، ثنا هشيم، أنبأنا الأجلح عن الشعبي، عن أبي الخليل، عن زيد بن أرقم‏:‏ أن علياً أتى في ثلاثة نفر إذ كان في اليمن، اشتركوا في ولد فأقرع بينهم، فضمن الذي أصابته القرعة ثلثي الدية، وجعل الولد له‏.‏

قال زيد بن أرقم‏:‏ فأتيت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فأخبرته بقضاء علي، فضحك حتَّى بدت نواجذه‏.‏

ورواه أبو داود عن مسدد، عن يحيى القطان‏.‏

والنسائي عن علي بن حجر، عن علي بن مسهر، كلاهما عن الأجلح بن عبد الله، عن عامر الشعبي، عن عبد الله بن الخليل‏.‏

وقال النسائي في رواية عبد الله ابن أبي الخليل، عن زيد بن أرقم قال‏:‏ كنت عند النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فجاء رجل من أهل اليمن فقال‏:‏ إن ثلاثة نفر أتوا علياً يختصمون في ولد وقعوا على امرأة في طهر واحد، فذكر نحو ما تقدم وقال‏:‏ فضحك النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقد روياه أعني أبا داود، والنسائي، من حديث شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن الشعبي، عن أبي الخليل، أو ابن الخليل، عن علي قوله‏:‏ فأرسله ولم يرفعه‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد أيضاً، عن عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن الأجلح، عن الشعبي، عن عبد خير، عن زيد بن أرقم، فذكر نحو ما تقدم‏.‏

وأخرجه أبو داود والنسائي جميعاً عن حنش بن أصرم‏.‏

وابن ماجه عن إسحاق ابن منصور، كلاهما عن عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن صالح الهمداني، عن الشعبي، عن عبد خير، عن زيد بن أرقم به‏.‏ ‏(‏ج/ ص‏:‏5/125‏)‏

قال شيخنا في الأطراف‏:‏ لعل عبد خير هذا هو ‏(‏عبد الله بن الخليل‏)‏، ولكن لم يضبط الراوي اسمه‏.‏

قلت‏:‏ فعلى هذا يقوى الحديث، وإن كان غيره كان أجود لمتابعته له، لكن الأجلح بن عبد الله الكندي فيه كلام ما، وقد ذهب إلى القول بالقرعة في الأنساب الإمام أحمد، وهو من أفراده‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا أبو سعيد، ثنا إسرائيل، ثنا سماك عن حنش، عن علي قال‏:‏ بعثني رسول الله إلى اليمن، فانتهينا إلى قوم قد بنوا زبية للأسد، فبينما هم كذلك يتدافعون إذ سقط رجل فتعلق بآخر ثم تعلق آخر بآخر حتَّى صاروا فيها أربعة، فجرحهم الأسد، فانتدب له رجل بحربة فقتله، وماتوا من جراحتهم كلهم، فقام أولياء الأول إلى أولياء الآخر فأخرجوا السلاح ليقتتلوا، فأتاهم علي على تعبية ذلك فقال‏:‏ تريدون أن تقاتلوا ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حي، إني أقضي بينكم قضاء إن رضيتم فهو القضاء، وإلا أحجز بعضكم عن بعض حتَّى تأتوا النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فيكون هو الذي يقضي بينكم، فمن عدا بعد ذلك فلا حق له، اجمعوا من قبائل الذين حضروا البئر ربع الدية، وثلث الدية، ونصف الدية، والدية كاملة، فللأول‏:‏ الربع، لأنه هلك، والثاني‏:‏ ثلث الدية، والثالث‏:‏ نصف الدية، والرابع‏:‏ الدية، فأبوا أن يرضوا فأتوا النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو عند مقام إبراهيم، فقصُّوا عليه القصة، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا أحكم بينكم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال رجل من القوم‏:‏ يا رسول الله إن عليا قضى علينا فقصُّوا عليه القصة، فأجازه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

ثم، رواه الإمام أحمد أيضاً عن وكيع، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن حنش، عن علي فذكره‏.‏

 كتاب حجة الوداع في سنة عشر

ويقال لها‏:‏ حجة البلاغ، وحجة الإسلام، وحجة الوداع‏.‏

لأنه عليه الصلاة والسلام ودَّع الناس فيها ولم يحج بعدها‏.‏

وسميت‏:‏ حجة الإسلام، لأنه عليه السلام لم يحج من المدينة غيرها، ولكن حج قبل الهجرة مرات قبل النبوة وبعدها، وقد قيل‏:‏ إن فريضة الحج نزلت عامئذ، وقيل‏:‏ سنة تسع، وقيل‏:‏ سنة ست، وقيل‏:‏ قبل الهجرة، وهو غريب‏.‏

وسميت حجة البلاغ، لأنه عليه السلام بلَّغ النَّاس شرع الله في الحج قولاً وفعلاً، ولم يكن بقي من دعائم الإسلام وقواعده شيء إلا وقد بينه عليه السلام، فلما بين لهم شريعة الحج ووضحه وشرحه، أنزل الله عز وجل عليه وهو واقف بعرفة‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً‏}‏‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وسيأتي إيضاح لهذا كله‏.‏

والمقصود‏:‏ ذكر حجته عليه السلام كيف كانت، فإن النقلة اختلفوا فيها اختلافاً كثيراً جداً، بحسب ما وصل إلى كل منهم من العلم، وتفاوتوا في ذلك تفاوتاً كثيراً، لا سيما من بعد الصحابة رضي الله عنهم ونحن نورد بحمد الله وعونه وحسن توفيقه ما ذكره الأئمة في كتبهم من هذه الروايات، ونجمع بينهما جمعاً يثلج قلب من تأمله وأنعم النظر فيه، وجمع بين طريقتي الحديث وفهم معانيه، إن شاء الله، وبالله الثقة، وعليه التكلان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5 /126‏)‏

وقد اعتنى النَّاس بحجة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم اعتناء كثيراً من قدماء الأئمة ومتأخريهم، وقد صنف العلامة أبو محمد ابن حزم الأندلسي رحمه الله مجلداً في حجة الوداع، أجاد في أكثره، ووقع له فيه أوهام سننبه عليها في مواضعها، وبالله المستعان‏.‏

 باب بيان أنه عليه السلام لم يحج من المدينة إلا حجة واحدة وأنه اعتمر قبلها ثلاث عُمر

كما رواه البخاري ومسلم عن هدبة، عن همام، عن قتادة، عن أنس قال‏:‏ اعتمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أربع عمر، كلهن في ذي القعدة، إلا التي في حجته الحديث‏.‏

وقد رواه يونس بن بكير عن عمر بن ذر، عن مجاهد، عن أبي هريرة مثله‏.‏ وقال سعد بن منصور عن الداروردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ اعتمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثلاث عمر‏:‏ عمرة في شوال، وعمرتين في ذي القعدة‏.‏

وكذا رواه ابن بكير عن مالك، عن هشام بن عروة‏.‏

وروى الإمام أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده أن رسول الله اعتمر ثلاث عمر كلَّهن في ذي القعدة‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا أبو النضر، ثنا داود - يعني‏:‏ العطار - عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ اعتمر رسول الله أربع عمر‏:‏ عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، والثالثة‏:‏ من الجعرانة، والرابعة‏:‏ التي مع حجته‏.‏

ورواه أبو داود والتِّرمذي والنسائي، من حديث داود العطار، وحسَّنه التِّرمذي‏.‏

وقد تقدم هذا الفصل عند عمرة الجعرانة، وسيأتي في فصل من قال‏:‏ إنه عليه السلام حج قارناً، وبالله المستعان‏.‏

فالأولى من هذه العمر‏:‏ عمرة الحديبية التي صدَّ عنها‏.‏

ثم بعدها‏:‏ عمرة القضاء، ويقال‏:‏ عمرة القصاص، ويقال‏:‏ عمرة القضية‏.‏

ثم بعدها‏:‏ عمرة الجعرانة مرجعه من الطائف حين قسم غنائم حنين، وقد قدمنا ذلك كله في مواضعه‏.‏

والرابعة‏:‏ عمرته مع حجة، وسنبين اختلاف النَّاس في عمرته هذه مع الحجة هل كان متمتعاً بأن أوقع العمرة، قبل الحجة وحل منها، أو منعه من الإحلال منها سوقه الهدي، أو كان قارناً لها مع الحجة، كما نذكره من الأحاديث الدالة على ذلك، أو كان مفرداً لها عن الحجة بأن أوقعها بعد قضاء الحجة‏.‏

قال‏:‏ وهذا هو الذي يقول من يقوله‏:‏ بالإفراد، كما هو المشهور عن الشافعي، وسيأتي بيان هذا عند ذكرنا إحرامه صلَّى الله عليه وسلَّم كيف كان مفرداً، أومتمتعاً، أوقارناً‏.‏

قال البخاري‏:‏ ثنا عمرو بن خالد، ثنا زهير، ثنا أبو إسحاق، حدثني زيد بن أرقم أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم غزا تسع عشرة غزوة، وأنه حج بعد ما هاجر حجة واحدة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5 /127‏)‏

قال أبو إسحاق‏:‏ وبمكة أخرى‏.‏

وقد رواه مسلم من حديث زهير، وأخرجاه من حديث شعبة، زاد البخاري وإسرائيل، ثلاثتهم عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن زيد به‏.‏

وهذا الذي قال أبو إسحاق من أنه عليه السلام حج بمكة حجة أخرى، أي‏:‏ أراد أنه لم يقع منه بمكة إلا حجة واحدة ما هو ظاهر لفظه فهو بعيد، فإنه عليه السلام كان بعد الرسالة يحضر مواسم الحج ويدعو النَّاس إلى الله، ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏من رجل يؤويني حتَّى أبلغ كلام ربي، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل‏)‏‏)‏ حتَّى قيض الله جماعة الأنصار يلقونه ليلة العقبة، أي‏:‏ عشية يوم النحر عند جمرة العقبة ثلاث سنين متتاليات، حتَّى إذا كانوا آخر سنة بايعوه ليلة العقبة الثانية، وهي‏:‏ ثالث اجتماعه لهم به، ثم كانت بعدها الهجرة إلى المدينة كما قدمنا ذلك مبسوطاً في موضعه، والله أعلم‏.‏

وفي حديث جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ أقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالمدينة تسع سنين لم يحج، ثم أذَّن في النَّاس بالحج، فاجتمع بالمدينة بشر كثير، فخرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لخمس بقين من ذي القعدة، أو لأربع، فلما كان بذي الحليفة صلى ثم استوى على راحلته، فلما أخذت به في البيداء لبى وأهللنا لا ننوي إلا الحج‏.‏

وسيأتي الحديث بطوله، وهو في صحيح مسلم‏.‏

وهذا لفظ البيهقي، من طريق أحمد بن حنبل عن إبراهيم بن طهمان، عن جعفر بن محمد به‏.‏

 باب خروجه عليه السلام من المدينة لحجة الوداع

بعد ما استعمل عليها أبا دجانة سماك بن حرشة السَّاعديّ، ويقال‏:‏ سباع بن عرفطة الغفاري‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ فلما دخل على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ذو القعدة من سنة عشر تجهَّز للحج، وأمرالنَّاس بالجهاز له، فحدثني عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه القاسم بن محمد، عن عائشة زوج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قالت‏:‏ خرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الحج لخمس ليال بقين من ذي القعدة، وهذا إسناد جيد‏.‏

وروى الإمام مالك في موطائه عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة، عن عائشة‏.‏

ورواه الإمام أحمد عن عبد الله بن نمير، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة عنها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/128‏)‏

وهو ثابت في الصحيحين، وسنن النسائي، وابن ماجه، ومصنف ابن أبي شيبة، من طرق عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة، عن عائشة قالت‏:‏ خرجنا مع رسول الله لخمس بقين من ذي القعدة لا نرى إلا الحج، الحديث بطوله، كما سيأتي‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا محمد ابن أبي بكر المقدمي، ثنا فضيل بن سليمان، ثنا موسى بن عقبة، أخبرني كريب عن ابن عبَّاس قال‏:‏ انطلق النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم من المدينة بعد ما ترجل وادَّهن، ولبس إزاره ورداءه، ولم ينه عن شيء من الأردية، ولا الأرز إلا المزعفرة التي تردع الجلد، فأصبح بذي الحليفة، ركب راحلته حتَّى استوى على البيداء، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة، فقدم مكة لخمس خلون من ذي الحجة‏.‏

تفرد به البخاري‏.‏

فقوله‏:‏ وذلك لخمس بقين من ذي القعدة إن أراد به صبيحة يومه بذي الحليفة، صحَّ قول ابن حزم في دعواه، أنه صلَّى الله عليه وسلَّم خرج من المدينة يوم الخميس، وبات بذي الحليفة ليلة الجمعة، وأصبح بها يوم الجمعة، وهو اليوم الخامس والعشرين من ذي القعدة‏.‏

وإن أراد ابن عبَّاس بقوله‏:‏ وذلك لخمس من ذي القعدة يوم انطلاقه عليه السلام من المدينة، بعد ما ترجل وادَّهن، ولبس إزاره ورداءه، كما قالت عائشة وجابر‏:‏ أنهم خرجوا من المدينة لخمس بقين من ذي القعدة، بعد قول ابن حزم، وتعذر المصير إليه، وتعين القول بغيره، ولم ينطبق ذلك إلا على يوم الجمعة، إن كان شهر ذي القعدة كاملاً، ولا يجوز أن يكون خروجه عليه السلام من المدينة كان يوم الجمعة‏.‏

لما روى البخاري‏:‏ حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا وهيب، ثنا أيوب عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك قال‏:‏ صلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ونحن معه الظهر بالمدينة أربعاً، والعصر بذي الحليفة ركعتين، ثم بات بها حتَّى أصبح، ثم ركب حتَّى استوت به راحلته على البيداء، حمد الله عز وجل، وسبح، ثم أهلَّ بحج وعمرة‏.‏

وقد رواه مسلم والنسائي جميعاً عن قتيبة بن حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك‏:‏ أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صلى الظهر بالمدينة أربعاً، والعصر بذي الحليفة ركعتين‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرحمن عن سفيان، عن محمد يعني‏:‏ ابن المنكدر وإبراهيم بن ميسرة، عن أنس بن مالك‏:‏ أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صلى الظهر بالمدينة أربعاً، والعصر بذي الحليفة ركعتين‏.‏

ورواه البخاري عن أبي نعيم، عن سفيان الثوري به‏.‏

وأخرجه مسلم وأبو داود، والنسائي من حديث سفيان بن عيينة عن محمد بن المنذر، وإبراهيم بن ميسرة، عن أنس به‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا محمد بن بكير، ثنا ابن جريج عن محمد بن المنذر، عن أنس قال‏:‏ صلى بنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالمدينة الظهر أربعاً، والعصر بذي الحليفة ركعتين، ثم بات بذي الحليفة حتَّى أصبح، فلما ركب راحلته واستوت به أهلَّ‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا يعقوب، ثنا أبي عن محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن المنذر التيمي عن أنس بن مالك الأنصاري قال‏:‏ صلى بنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الظهر في مسجده بالمدينة أربع ركعات، ثم صلى بنا العصر بذي الحليفة ركعتين، آمناً لا يخاف في حجة الوداع‏.‏

تفرد به أحمد، من هذين الوجهين الآخرين، وهما على شرط الصحيح، وهذه ينفي كون خروجه عليه السلام يوم الجمعة قطعاً، ولا يجوز على هذا أن يكون خروجه يوم الخميس كما قال ابن حزم، لأنه كان يوم الرابع والعشرين من ذي القعدة، لأنه لا خلاف أن أول ذي الحجة كان يوم الخميس، لما ثبت بالتواتر والإجماع من أنه عليه السلام وقف بعرفة يوم الجمعة، وهو تاسع ذي الحجة بلا نزاع، فلو كان خروجه يوم الخميس الرابع والعشرين من ذي القعدة لبقي في الشهر ست ليال قطعاً، ليلة الجمعة والسبت، والأحد والإثنين، والثلاثاء والأربعاء، فهذه ست ليالٍ‏.‏ ‏(‏ج/ ص‏:‏5/129‏)‏

وقد قال ابن عبَّاس وعائشة وجابر‏:‏ أنه خرج لخمس بقين من ذي القعدة، وتعذر أنه يوم الجمعة لحديث أنس، فتعين على هذا أنه عليه السلام خرج من المدينة يوم السبت، وظن الراوي أن الشهر يكون تاماً فاتفق في تلك السنة نقصانه، فانسلخ يوم الأربعاء، واستهلَّ شهر ذي الحجة ليلة الخميس‏.‏

ويؤيده ما وقع في رواية جابر‏:‏ لخمس بقين أو أربع، وهذا التقرير على هذا التقدير لا محيد عنه ولا بد منه، والله أعلم‏.‏

 باب صفة خروجه عليه السلام من المدينة إلى مكة للحج

قال البخاري‏:‏ حدثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا أنس بن عياض عن عبيد الله هو‏:‏ ابن عمر، عن نافع، عن عبد الله بن عمر‏:‏ أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يخرج من طريق الشجرة، ويدخل من طريق المعرس، وأن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا خرج إلى مكة يصلي في مسجد الشجرة، وإذا رجع صلى بذي الحليفة ببطن الوادي، وبات حتَّى يصبح‏.‏

تفرد به البخاري من هذا الوجه‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ وجدت في كتابي عن عمرو بن مالك، عن يزيد بن زريع، عن هشام، عن عروة، عن ثابت، عن ثمامة، عن أنس‏:‏ أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حج على رحل رث وتحته قطيفة وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏حجة لا رياء فيها، ولا سمعة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد علقه البخاري في صحيحه فقال‏:‏ وقال محمد ابن أبي بكر المقدمي‏:‏ حدثنا يزيد بن زريع عن عروة، عن ثابت، عن ثمامة قال‏:‏ حج أنس على رحل رث ولم يكن شحيحاً، وحدث أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حج على رحل، وكانت زاملته‏.‏

هكذا ذكره البزار والبخاري معلَّقاً، مقطوع الإسناد من أوله‏.‏

وقد أسنده الحافظ البيهقي في سننه فقال‏:‏ أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد بن علي المقرئ، أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد بن إسحاق، ثنا يوسف بن يعقوب القاضي، ثنا محمد ابن أبي بكر، ثنا يزيد بن زريع فذكره‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/130‏)‏

وقد رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده من وجه آخر عن أنس بن مالك فقال‏:‏ حدثنا علي بن الجعد، أنبأنا الربيع بن صبيح عن يزيد الرقاشي، عن أنس قال‏:‏

حجَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على رحل رثٍ وقطيفة تساوي - أو لا تساوي - أربعة دراهم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم حجة لا رياء فيها‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه التِّرمذي في ‏(‏الشمائل‏)‏ من حديث أبي داود الطيالسي‏.‏

وسفيان الثوري وابن ماجه من حديث وكيع بن الجراح، ثلاثتهم عن الربيع بن صبيح به وهو إسناد ضعيف، من جهة يزيد بن أبان الرقاشي فإنه غير مقبول الرواية عند الأئمة‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا هاشم، ثنا إسحاق بن سعيد عن أبيه قال‏:‏ صدرت مع ابن عمر، فمرت بنا رفقة يمانية ورحالهم الأدم، وخطم إبلهم الخرز‏.‏

فقال عبد الله‏:‏ من أحب أن ينظر إلى أشبه رفقة وردت العام برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه إذا قدموا في حجة الوداع، فلينظر إلى هذه الرفقة‏.‏

ورواه أبو داود عن هناد، عن وكيع، عن إسحاق، عن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، عن أبيه، عن ابن عمر‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو طاهر الفقية، وأبو زكريا ابن أبي إسحاق، وأبو بكر بن الحسن، وأبو سعيد ابن أبي عمرو، قالوا‏:‏ ثنا أبو العبَّاس - هو الأصم -، أنبأنا محمد بن عبد الله بن الحكم، أنبانا سعيد بن بشير القرشي، حدثنا عبد الله بن حكيم الكناني - رجل من أهل اليمن من مواليهم - عن بشر بن قدامة الضبابي قال‏:‏ أبصرت عيناي حبيبي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم واقفاً بعرفات مع النَّاس على ناقة، له حمراء قصواء تحته قطيفة بولانية، وهو يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اجعلها حجة غير رياءً ولا مناً ولا سمعة‏)‏‏)‏‏.‏

والنَّاس يقولون‏:‏ هذا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الله بن إدريس، ثنا ابن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه أن أسماء بنت أبي بكر قالت‏:‏ خرجنا مع النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حجاجاً حتَّى أدركنا بالعرج، نزل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فجلست عائشة إلى جنب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وجلست إلى جنب أبي، وكانت زمالة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وزمالة أبي بكر واحدة مع غلام أبي بكر، فجلس أبو بكر ينتظر أن يطلع عليه، فطلع عليه وليس معه بعيره فقال‏:‏ أين بعيرك‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ أضللته البارحة‏.‏

فقال أبو بكر‏:‏ بعير واحد تضله، فطفق يضربه، ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يبتسم ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏انظروا إلى هذا المحرم وما يصنع‏)‏‏)‏‏.‏

وكذا رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل، ومحمد بن عبد العزيز ابن أبي رزمة‏.‏

وأخرجه ابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، ثلاثتهم عن عبد الله بن إدريس به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/131‏)‏

فأما الحديث الذي رواه أبو بكر البزار في مسنده قائلاً‏:‏ حدثنا إسماعيل بن حفص، ثنا يحيى بن اليمان، ثنا حمزة الزيات عن حمران بن أعين، عن أبي الطفيل، عن أبي سعيد قال‏:‏ حجَّ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة، قد ربطوا أوساطهم، ومشيهم خلط الهرولة‏.‏

فإنه حديث منكر، ضعيف الإسناد، وحمزة بن حبيب الزيات ضعيف، وشيخ متروك الحديث‏.‏

وقد قال البزار‏:‏ لا يروى إلا من هذا الوجه وإن كان إسناده حسناً عندنا، ومعناه‏:‏ أنهم كانوا في عمرة، إن ثبت الحديث لأنه عليه السلام إنما حج حجة واحدة وكان راكباً، وبعض أصحابه مشاة‏.‏

قلت‏:‏ ولم يعتمر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في شيء من عمره ماشياً لا في الحديبية، ولا في القضاء، ولا الجعرانة، ولا في حجة الوداع، وأحواله عليه السلام أشهر وأعرف من أن تخفى على النَّاس، بل هذا الحديث منكر شاذ لا يثبت مثله والله أعلم‏.‏

فصل

تقدَّم أنه عليه السلام صلَّى الظهر بالمدينة أربعاً، ثم ركب منها إلى الحليفة وهي وادي العقيق فصلى بها العصر ركعتين، فدل على أنه جاء الحليفة نهاراً في وقت العصر، فصلى بها العصر قصراً، وهي من المدينة على ثلاثة أميال، ثم صلى بها المغرب والعشاء، وبات بها حتَّى أصبح، فصلى بأصحابه وأخبرهم أنه جاءه الوحي من الليل بما يعتمده في الإحرام‏.‏

كما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى بن آدم، ثنا زهير عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه أتى في المعرس من ذي الحليفة، فقيل له‏:‏ إنك ببطحاء مباركة‏.‏

وأخرجاه في الصحيحين من حديث موسى بن عقبة به‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا الحميدي، ثنا الوليد وبشر بن بكر قالا‏:‏ ثنا الأوزاعيّ، ثنا يحيى، حدثني عكرمه أنه سمع ابن عبَّاس أنه سمع ابن عمر يقول‏:‏ سمعت رسول الله بوادي العقيق يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال‏:‏ صلِّ في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة‏)‏‏)‏‏.‏

تفرَّد به دون مسلم‏.‏

فالظاهر‏:‏ أنه أمره عليه السلام بالصلاة في وادي العقيق، هو أمر بالإقامة به إلى أن يصلي صلاة الظهر، لأن الأمر إنما جاءه في الليل، وأخبرهم بعد صلاة الصبح فلم يبق إلا صلاة الظهر فأمر أن يصليها هنالك، وأن يوقع الإحرام بعدها‏.‏

ولهذا قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أتاني الليلة آتٍ من ربي عز وجل فقال‏:‏ صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد احتج به على الأمر بالقرآن في الحج، وهو من أقوى الأدلة على ذلك كما سيأتي بيانه قريباً‏.‏

والمقصود‏:‏ أنه عليه السلام أمر بالإقامة بوادي العقيق إلى صلاة الظهر، وقد امتثل صلوات الله وسلامه عليه ذلك، فأقام هنالك وطاف على نسائه في تلك الصبيحة وكن تسع نسوة، وكلهن خرج معه، ولم يزل هنالك حتَّى صلى الظهر، كما سيأتي في حديث أبي حسان الأعرج عن ابن عبَّاس أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صلى الظهر بذي الحليفة، ثم أشعر بدنته، ثم ركب فأهلَّ، وهو عند مسلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/132‏)‏

وهكذا قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا روح، ثنا أشعث - هو ابن عبد الملك - عن الحسن، عن أنس أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صلى الظهر ثم ركب راحلته، فلما علا شرف البيداء أهلّ‏.‏

ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل والنسائي عن إسحاق بن راهويه، عن النضر بن شميل، عن أشعث بمعناه‏.‏

وعن أحمد بن الأزهر عن محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أشعث أتم منه‏.‏

وهذا فيه رد على ابن حزم حيث زعم أن ذلك في صدر النهار، وله أن يعتضد بما رواه البخاري‏:‏ من طريق أيوب عن رجل، عن أنس أن رسول الله بات بذي الحليفة حتَّى أصبح، فصلى الصبح ثم ركب راحلته، حتَّى إذا استوت به البيداء أهلّ بعمرة وحج‏.‏

ولكن في إسناده رجل مبهم، والظاهر أنه أبو قلابة والله أعلم‏.‏

قال مسلم في صحيحه‏:‏ حدثنا يحيى بن حبيب الحارثي، ثنا خالد - يعني‏:‏ ابن الحارث - ثنا شعبة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، سمعت أبي يحدِّث عن عائشة أنها قالت‏:‏ كنت أطيب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثم يطوف على نسائه، ثم يصبح محرماً ينضح طيباً‏.‏

وقد رواه البخاري من حديث شعبة، وأخرجاه من حديث أبي عوانة، زاد مسلم ومسعر، وسفيان ابن سعيد الثوري أربعتهم عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر به‏.‏

وفي رواية لمسلم عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه قال‏:‏ سألت عبد الله بن عمر عن الرجل يتطيب ثم يصبح محرماً‏.‏

قال‏:‏ ما أحب أني أصبح محرماً أنضح طيباً، لأن أطلي القطران أحب إليّ من أن أفعل ذلك‏.‏

فقالت عائشة‏:‏ أنا طيَّبت رسول الله عند إحرامه، ثم طاف في نسائه ثم أصبح محرماً‏.‏

وهذا اللفظ الذي رواه مسلم يقتضي أنه كان صلَّى الله عليه وسلَّم يتطيب قبل أن يطوف على نسائه، ليكون ذلك أطيب لنفسه وأحب إليهن، ثم لما اغتسل من الجنابة وللإحرام تطيب أيضاً للإحرام طيبا آخر‏.‏

كما رواه التِّرمذي والنسائي من حديث عبد الرحمن ابن أبي الزناد عن أبيه، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه أنه رأى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تجرَّد لإهلاله واغتسل‏.‏

وقال التِّرمذي‏:‏ حسن غريب‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا زكريا بن عدي، أنبأنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عروة، عن عائشة قالت‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا أراد أن يُحرم غسل رأسه بخطمي وأشنان، ودهنه بشيء من زيت غير كثير‏.‏

الحديث تفرَّد به أحمد‏.‏

وقال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله‏:‏ أنبأنا سفيان بن عيينة، عن عثمان بن عروة‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ سمعت عائشة تقول‏:‏ طيَّبت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لحرمه ولحله‏.‏

قلت لها‏:‏ بأي طيب‏؟‏

قال‏:‏ بأطيب الطِّيب‏.‏

وقد رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة‏.‏

وأخرجه البخاري من حديث وهب عن هشام بن عروة عن أخيه عثمان، عن أبيه عروة، عن عائشة به‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا عبد الله بن يوسف، أنبأنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ كنت أطيِّب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لإحرامه حين يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت‏.‏

وقال مسلم‏:‏ حدثنا عبد بن حميد، أنبأنا محمد ابن أبي بكر، أنبأنا ابن جريج، أخبرني عمر بن عبد الله بن عروة، أنه سمع عروة والقاسم يخبرانه عن عائشة قالت‏:‏ طيبت رسول الله بيدي بذريرة في حجة الوداع للحل والإحرام‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/133‏)‏

وروى مسلم من حديث سفيان بن عيينة عن الزُّهري، عن عروة عن عائشة قالت‏:‏ طيَّبت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بيدي هاتين لحرمه حين أحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت‏.‏

وقال مسلم‏:‏ حدثني أحمد بن منيع، ويعقوب الدورقي قالا‏:‏ ثنا هشيم، أنبأنا منصور عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ كنت أطيِّب النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قبل أن يحرم ويحل، ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك‏.‏

وقال مسلم‏:‏ حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، وزهير بن حرب قالا‏:‏ ثنا وكيع ثنا الأعمش عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة قالت‏:‏ كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يلبِّي‏.‏

ثم رواه مسلم من حديث الثوري وغيره عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت‏:‏ كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو مُحرم‏.‏

ورواه البخاري من حديث سفيان الثوري، ومسلم من حديث الأعمش كلاهما عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود عنها‏.‏

وأخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة عن الحكم بن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ أنبأنا أشعث عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت‏:‏ كأني أنظر إلى وبيص الطِّيب في أصول شعر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو مُحرم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة عن إبراهيم النخعي، عن الأسود، عن عائشة قالت‏:‏ كأني أنظر إلى وبيص الطِّيب في مفرق النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعد أيام وهو مُحرم‏.‏

وقال عبد الله بن الزبير الحميدي‏:‏ ثنا سفيان بن عيينة، ثنا عطاء بن السائب عن إبراهيم النخعي، عن الأسود، عن عائشة قالت‏:‏ رأيت الطيب في مفرق رسول الله بعد ثالثة، وهو مُحرم‏.‏

فهذه الأحاديث دالة على أنه عليه السلام تطيَّب بعد الغُسل، إذ لو كان الطيب قبل الغسل لذهب به الغسل ولما بقي له أثر، ولا سيما بعد ثلاثة أيام من يوم الإحرام‏.‏

وقد ذهب طائفة من السلف منهم‏:‏ ابن عمر، إلى كراهة التطيب عند الإحرام، وقد روينا هذا الحديث من طريق ابن عمر عن عائشة فقال الحافظ البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو الحسين ابن بشران - ببغداد - أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد المصري، ثنا يحيى بن عثمان بن صالح، ثنا عبد الرحمن ابن أبي العمر، ثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن عائشة أنها قالت‏:‏ طيَّبت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالغالية الجيدة عند إحرامه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/134‏)‏

وهذا إسناد غريب عزيز المخرج‏.‏

ثم إنه عليه السلام لبَّد رأسه ليكون أحفظ لما فيه من الطيب، وأصون له من استقرار التراب والغبار‏.‏

قال مالك عن نافع عن ابن عمر‏:‏ أن حفصة زوج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قالت‏:‏ يا رسول الله ما شأن النَّاس حلُّوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني لبدت رأسي، وقلدت هدي، فلا أحل حتَّى أنحر‏)‏‏)‏‏.‏

وأخرجاه في الصحيحين من حديث مالك، وله طرق كثيرة عن نافع‏.‏

قال البيهقي‏:‏ أنبأنا الحاكم، أنبأنا الأصم، أنبأنا يحيى، ثنا عبيد الله بن عمر القواريري، ثنا عبد الأعلى، ثنا محمد بن إسحاق عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لبَّد رأسه بالعسل‏.‏

وهذا إسناد جيد‏.‏

ثم أنه عليه السلام أشعر الهدي وقلَّده، وكان معه بذي الحليفة‏.‏

قال الليث عن عقيل، عن الزُّهري، عن سالم، عن أبيه‏:‏ تمتَّع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى فساق معه الهجدي من ذي الحليفة‏.‏

وسيأتي الحديث بتمامه، وهو في الصحيحين، والكلام عليه إن شاء الله‏.‏

وقال مسلم‏:‏ حدثنا محمد بن المثنى، ثنا معاذ بن هشام - هو الدستوائي - حدثني أبي عن قتادة، عن أبي حسان، عن ابن عبَّاس أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لما أتى ذا الحليفة دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن، وسلت الدم، وقلَّدها نعلين، ثم ركب راحلته‏.‏

وقد رواه أهل السنن الأربعة من طرق عن قتادة‏.‏

وهذا يدل على أنه عليه السلام تعاطى هذا الإشعار والتقليد بيده الكريمة في هذه البدنة، وتولى إشعار بقية الهدي وتقليده غيره، فإنه قد كان هَدْي كثير، إما مائة بدنة أو أقل منها بقليل، وقد ذبح بيده الكريمة ثلاثاً وستين بدنة، وأعطى علياً فذبح ما غبر‏.‏

وفي حديث جابر أن علياً قدم من اليمن ببدن للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وفي سياق ابن إسحاق أنه عليه السلام أشرك علياً في بدنه والله أعلم‏.‏

وذكر غيره أنه ذبح هو وعلي يوم النحر مائة بدنة‏.‏

فعلى هذا يكون قد ساقها معه من ذي الحليفة، وقد يكون اشترى بعضها بعد ذلك وهو مُحرم‏.‏

 باب‏:‏ بيان الموضع الذي أهلَّ منه عليه السلام واختلاف الناقلين لذلك وترجيح الحق في ذلك

تقدَّم الحديث الذي رواه البخاري من حديث الأوزاعيّ عن يحيى ابن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس، عن عمر سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بوادي العقيق يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏أتاني آتٍ من ربي فقال‏:‏ صلِّ في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/135‏)‏

وقال البخاري - باب الإهلال عند مسجد ذي الحليفة -‏:‏ حدثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، ثنا موسى بن عقبة سمعت سالم بن عبد الله، وحدثنا عبد الله بن مسلمة، ثنا مالك عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله، أنه سمع أباه يقول‏:‏ ما أهلَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلا من عند المسجد - يعني‏:‏ مسجد ذي الحليفة -‏.‏

وقد رواه الجماعة إلا ابن ماجه من طرق عن موسى بن عقبة‏.‏

وفي رواية لمسلم عن موسى بن عقبة، عن سالم ونافع، وحمزة بن عبد الله بن عمر، ثلاثتهم عن عبد الله بن عمر، فذكره وزاد فقال‏:‏ لبيك‏.‏

وفي رواية لهما من طريق مالك عن موسى بن عقبة عن سالم قال‏:‏ قال عبد الله بن عمر‏:‏ بيداؤكم هذه التي تكذبون فيها على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أهلَّ رسول الله من عند المسجد‏.‏

وقد روي عن ابن عمر خلاف هذا، كما يأتي في الشق الآخر‏.‏

وهو ما أخرجاه في الصحيحين‏:‏ من طريق مالك عن سعيد المقبري، عن عبيد بن جريج، عن ابن عمر فذكر حديثاً فيه أن عبد الله قال‏:‏ وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يهل حتَّى تنبعث به راحلته‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يعقوب، حدثنا أبي عن ابن إسحاق، حدثني خصيف بن عبد الرحمن الجزري، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ قلت لعبد الله بن عبَّاس‏:‏ يا أبا العبَّاس عجباً لاختلاف أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في إهلال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين أوجب‏.‏

فقال‏:‏ إني لأعلم النَّاس بذلك، إنما كانت من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حجة واحدة فمن هناك اختلفوا، خرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حاجاً، فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه، أوجب في مجلسه فأهلَّ بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه قوم فحفظوا عنه، ثم ركب، فلما استقلت به ناقته أهلَّ وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن النَّاس إنما كانوا يأتون إرسالاً، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل‏.‏

فقالوا‏:‏ إنما أهلَّ رسول الله حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول الله حين علا شرف البيداء، وأيم الله لقد أوجب في مُصلاه، وأهلَّ حين استقلت به ناقته، وأهلَّ حين علا شرف البيداء، فمن أخذ بقول عبد الله بن عبَّاس أنه أهلَّ في مصلاه إذا فرغ من ركعتيه‏.‏

وقد رواه التِّرمذي والنسائي جميعاً عن قتيبة، عن عبد السلام بن حرب، عن خصيف به نحوه‏.‏

وقال التِّرمذي‏:‏ حسن غريب لا نعرف أحد رواه غير عبد السلام كذا قال، وقد تقدَّم رواية الإمام أحمد له من طريق محمد ابن إسحاق عنه‏.‏

وكذلك رواه الحافظ البيهقي عن الحاكم، عن القطيعي، عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه ثم قال‏:‏ خصيف الجزري غير قوي‏.‏

وقد رواه الواقدي بإسناد له عن ابن عبَّاس‏.‏

قال البيهقي‏:‏ إلا أنه لا ينفع متابعة الواقدي، والأحاديث التي وردت في ذلك عن عمر وغيره مسانيدها قوية ثابتة، والله تعالى أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/136‏)‏

قلت‏:‏ فلو صح هذا الحديث، لكان فيه جمع لما بين الأحاديث من الاختلاف، وبسط لعذر من نقل خلاف الواقع، ولكن في إسناده ضعف، ثم قد روي عن ابن عبَّاس وابن عمر خلاف ما تقدم عنهما، كما سننبه عليه ونبينه‏.‏

وهكذا ذكر من قال‏:‏ أنه عليه السلام أهلَّ حين استوت به راحلته‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا هشام بن يوسف، أنبأنا ابن جريج، حدثني محمد بن المنكدر عن أنس بن مالك قال‏:‏ صلَّى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالمدينة أربعاً، وبذي الحليفة ركعتين، ثم بات حتَّى أصبح بذي الحليفة فلما ركب راحلته واستوت به أهلَّ‏.‏

وقد رواه البخاري و مسلم وأهل السنن من طرق عن محمد بن المنكدر، وإبراهيم بن ميسرة، عن أنس‏.‏

وثابت في الصحيحين من حديث مالك عن سعيد المقبري، عن عبيد بن جريج، عن ابن عمر قال‏:‏ وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله يهل حتَّى تنبعث به راحلته‏.‏

وأخرجا في الصحيحين من رواية ابن وهب عن يونس عن الزُّهري، عن سالم، عن أبيه أن رسول الله كان يركب راحلته بذي الحليفة، ثم يهل حين تستوي به قائمة‏.‏

وقال البخاري - باب من أهلَّ حين استوت به راحلته -‏:‏ حدثنا أبو عاصم، ثنا ابن جريج، أخبرني صالح بن كيسان عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ أهلَّ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حين استوت به راحلته قائمة‏.‏

وقد رواه مسلم والنسائي من حديث ابن جريج به‏.‏

وقال مسلم‏:‏ حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، ثنا علي بن مسهر، عن عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا وضع رجله في الغرز وانبعثت به راحلته قائمة أهل من ذي الحليفة‏.‏

انفرد به مسلم من هذا الوجه‏.‏

وأخرجاه من وجه آخر عن عبيد الله بن عمر عن نافع عنه‏.‏

ثم قال البخاري - باب الإهلال مستقبل القبلة -‏:‏ قال أبو معمر‏:‏ حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب عن نافع قال‏:‏ كان ابن عمر إذ صلى الغداة بذي الحليفة أمر براحلته فرحلت ثم ركب، فإذا استوت به استقبل القبلة قائماً، ثم يلبي حتَّى يبلغ الحرم، ثم يمسك حتَّى إذا جاء ذا طوى بات به حتَّى يصبح، فإذا صلى الغداة اغتسل، وزعم أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فعل ذلك‏.‏

ثم قال‏:‏ تابعه إسماعيل عن أيوب في الغسل‏.‏

وقد علَّق البخاري أيضاً هذا الحديث في ‏(‏كتاب الحج‏)‏ عن محمد بن عيسى، عن حماد بن زيد، وأسنده فيه عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي، عن إسماعيل - هو ابن علية -‏.‏

ورواه مسلم عن زهير بن حرب، عن إسماعيل، وعن أبي الربيع الزهراني وغيره عن حماد بن زيد، ثلاثتهم عن أيوب، عن أبي تميمة السختياني به‏.‏

ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل عن إسماعيل بن علية به‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا سليمان أبو الربيع، ثنا فليح عن نافع قال‏:‏ كان ابن عمر إذا أراد الخروج إلى مكة ادَّهن بدهن ليس له رائحة طيبة، ثم يأتي مسجد ذي الحليفة فيصلي، ثم يركب فإذا استوت به راحلته قائمة أحرم، ثم قال‏:‏ هكذا رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يفعل‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/137‏)‏

تفرَّد به البخاري من هذا الوجه‏.‏

وروى مسلم عن قتيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه قال‏:‏ بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فيها، والله ما أهلَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلا عند الشجرة حين قام به بعيره‏.‏

وهذا الحديث يجمع بين رواية ابن عمر الأولى وهذه الروايات عنه، وهو أن الإحرام كان من عند المسجد، ولكن بعد ما ركب راحلته واستوت به على البيداء - يعني‏:‏ الأرض - وذلك قبل أن يصل إلى المكان المعروف بالبيداء‏.‏

ثم قال البخاري في موضع آخر‏:‏ حدثنا محمد ابن أبي بكر المقدمي، ثنا فضيل بن سليمان، ثنا موسى بن عقبة، حدثني كريب عن عبد الله بن عبَّاس قال‏:‏ انطلق النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم من المدينة بعد ما ترجل وادَّهن، ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه، وله ينه عن شيء من الأردية والأزر تلبس، إلا المزعفرة التي تردع على الجلد، فأصبح بذي الحليفة، ركب راحلته حتَّى استوى على البيداء أهلَّ هو وأصحابه، وقلَّد بدنه، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة، فقدم مكة لأربع خلون من ذي الحجة، فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، ولم يحل من أجل بدنه لأنه قلَّدها، لم تزل بأعلا مكة عند الحجون وهو مهلّ بالحج، ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها حتَّى رجع من عرفة، وأمر أصحابه أن يطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يقصروا من رؤوسهم ثم يحلوا، وذلك لمن لم يكن معه بدنة قلَّدها، ومن كانت معه امرأته فهي له حلال والطيب والثياب‏.‏

انفرد به البخاري‏.‏

وقد روى الإمام أحمد عن بهز بن أسد وحجاج، وروح بن عبادة، وعفان بن مسلم، كلهم عن شعبة قال‏:‏ أخبرني قتادة قال‏:‏ سمعت أبا حسان الأعرج الأجرد، وهو مسلم بن عبد الله البصري عن ابن عبَّاس‏.‏

قال‏:‏ صلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الظهر بذي الحليفة، ثم دعا ببدنته فأشعر صفحة سنامها الأيمن، وسلت الدم عنها، وقلَّدها نعلين، ثم دعا براحلته فلما استوت على البيداء أهلَّ بالحج‏.‏

ورواه أيضاً عن هشيم‏:‏ أنبأنا أصحابنا منهم شعبة فذكر نحوه‏.‏

ثم رواه الإمام أحمد أيضاً عن روح وأبي داود الطيالسي، ووكيع بن الجراح، كلهم عن هشام الدستوائي عن قتادة به نحوه‏.‏

ومن هذا الوجه رواه مسلم في صحيحه، وأهل السنن في كتبهم‏.‏

فهذه الطرق عن ابن عبَّاس من أنه عليه السلام أهلَّ حين استوت به راحلته أصح وأثبت من رواية خصيف الجزري عن سعيد بن جبير عنه، والله أعلم‏.‏

وهكذا الرواية المثبتة المفسرة أنه أهلَّ حين استوت به الراحلة مقدمة على الأخرى لاحتمال أنه أحرم من عند المسجد حين استوت به راحلته، ويكون رواية ركوبه الراحلة فيها زيادة علم على الأخرى والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/138‏)‏

ورواية أنس في ذلك سالمة عن المعارض، وهكذا رواية جابر بن عبد الله في صحيح مسلم من طريق جعفر الصادق عن أبيه، عن أبي الحسين زين العابدين، عن جابر في حديثه الطويل الذي سيأتي، أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أهلَّ حين استوت به راحلته سالمة عن المعارض والله أعلم‏.‏

وروى البخاري‏:‏ من طريق الأوزاعيّ سمعت عطاء، عن جابر بن عبد الله أن إهلال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من ذي الحليفة حين استوت به راحلته‏.‏

فأما الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق بن يسار عن أبي الزناد، عن عائشة بنت سعد قالت‏:‏ قال سعد‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا أخذ طريق الفرع أهلَّ إذا استقلت به راحلته وإذا أخذ طريقاً أخرى، أهلَّ إذا علا على شرف البيداء‏.‏

فرواه أبو داود والبيهقي من حديث ابن إسحاق، وفيه غرابة ونكارة والله أعلم‏.‏

فهذه الطرق كلها دالة على القطع أو الظن الغالب أنه عليه السلام أحرم بعد الصلاة، وبعد ما ركب راحلته، وابتدأت به السير‏.‏

زاد ابن عمر في روايته‏:‏ وهو مستقبل القبلة‏.‏

 باب‏:‏ بسط البيان لما أحرم به عليه السلام في حجته هذه من الإفراد والتمتع أو القران

رواية عائشة أم المؤمنين في ذلك قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي‏:‏ أنبأنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أفرد الحج‏.‏

ورواه مسلم عن إسماعيل، عن أبي أويس ويحيى بن يحيى عن مالك‏.‏

ورواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك به‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثني المنكدر بن محمد عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن، عن القاسم بن محمد، عن عائشة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أفرد الحج‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا شريح، ثنا ابن أبي الزناد عن أبيه، عن عروة، عن عائشة، وعن علقمة ابن أبي علقمة، عن أمه، عن عائشة، وعن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أفرد الحج‏.‏

تفرَّد به أحمد من هذه الوجوه عنها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/139‏)‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثني عبد الأعلى بن حماد قال‏:‏ قرأت على مالك بن أنس عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أفرد الحج‏.‏

وقال‏:‏ حدثنا روح، ثنا مالك عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل - وكان يتيماً في حجر عروة - عن عروة بن الزبير، عن عائشة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أفرد الحج‏.‏

ورواه ابن ماجه عن أبي مصعب، عن مالك كذلك‏.‏

ورواه النسائي عن قتيبة، عن مالك، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة أن رسول الله أهلَّ بالحج‏.‏

وقال أحمد أيضاً‏:‏ ثنا عبد الرحمن عن مالك، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة قالت‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فمنا من أهلَّ بالحج، ومنا من أهلَّ بالعمرة، ومنا من أهلَّ بالحج والعمرة، وأهلَّ رسول الله بالحج؛ فأما من أهلَّ بالعمرة فأحلوا حين طافوا بالبيت وبالصفا والمروة، وأما من أهلَّ بالحج أو بالحج والعمرة فلم يحلوا إلى يوم النحر‏.‏

وهكذا رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، والقعيني وإسماعيل ابن أبي أويس عن مالك‏.‏

ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى، عن مالك به‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا سفيان عن الزُّهري، عن عروة، عن عائشة أهلَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالحج وأهلَّ ناس بالحج والعمرة، وأهلَّ ناس بالعمرة‏.‏

ورواه مسلم عن ابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة به نحوه‏.‏

فأما الحديث الذي قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا عبد العزيز بن محمد عن علقمة ابن أبي علقمة، عن أمه، عن عائشة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أمر النَّاس في حجة الوداع فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أحب أن يبدأ بعمرة قبل الحج فليفعل‏)‏‏)‏‏.‏

وأفرد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الحج ولم يعتمر‏.‏

فإنه حديث غريب جداً، تفرَّد به أحمد بن حنبل، وإسناده لا بأس به، ولكن لفظه فيه نكارة شديدة، وهو قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏فلم يعتمر‏)‏‏)‏ فإن أريد بهذا أنه لم يعتمر مع الحج ولا قبله هو قول من ذهب إلى الإفراد‏.‏

وإن أريد أنه لم يعتمر بالكلية لا قبل الحج ولا معه ولا بعده، فهذا مما لا أعلم أحدا من العلماء قال به؛ ثم هو مخالف لما صح عن عائشة وغيرها من أنه صلَّى الله عليه وسلَّم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته‏.‏

وسيأتي تقرير هذا في فصل القران مستقصى، والله أعلم‏.‏

وهكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد قائلاً في مسنده‏:‏ حدثنا روح، ثنا صالح ابن أبي الأخضر، ثنا ابن شهاب أن عروة أخبره أن عائشة زوج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قالت‏:‏ أهلَّ رسول الله بالحج والعمرة في حجة الوداع، وساق معه الهدي، وأهلَّ ناس بالعمرة وساقوا الهدي، وأهلَّ ناس بالعمرة ولم يسوقوا هدياً‏.‏

قالت عائشة‏:‏ وكنت ممن أهلَّ بالعمرة ولم أسق هدياً، فلما قدم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من كان منكم أهلَّ بالعمرة فساق معه الهدي فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، ولا يحل منه شيء حرم منه حتَّى يقضي حجه وينحر هديه يوم النحر، ومن كان منكم أهلَّ بالعمرة ولم يسق معه هدياً فليطف بالبيت وبالصفا والمروة ثم ليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهد، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله‏)‏‏)‏‏.‏

قالت عائشة‏:‏ فقدَّم رسول الله الحج الذي خاف فوته، وأخَّر العمرة‏.‏

فهو حديث من أفراد الإمام أحمد، وفي بعض ألفاظه نكارة، ولبعضه شاهد في الصحيح، وصالح ابن أبي الأخضر ليس من علية أصحاب الزُّهري، لا سيما إذا خالفه غيره كما ههنا في بعض ألفاظ سياقه هذا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏فقدَّم الحج الذي يخاف فوته، وأخَّر العمرة‏)‏‏)‏ لا يلتئم مع أول الحديث أهلَّ بالحج والعمرة، فإن أراد أنه أهلَّ بهما في الجملة، وقدَّم أفعال الحج، ثم بعد فراغه أهلَّ بالعمرة، كما يقوله من ذهب إلى الإفراد، فهو مما نحن فيه ههنا‏.‏

وإن أراد أنه أخَّر العمرة بالكلية بعد إحرامه بها، فهذا لا أعلم أحداً من العلماء صار إليه‏.‏

وإن أراد أنه المقضي بأفعال الحج عن أفعال العمرة ودخلت العمرة في الحج، فهذا قول من ذهب إلى القران، وهم يؤولون قول من روى أنه عليه الصلاة والسلام أفرد الحج - أي‏:‏ أفرد أفعال الحج - وإن كان قد نوى معه العمرة، قالوا‏:‏ لأنه قد روى القرآن كل من روى الإفراد، كما سيأتي بيانه، والله تعالى أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/140‏)‏

رواية جابر بن عبد الله في الإفراد‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ أهلَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في حجته بالحج‏.‏

إسناده جيد على شرط مسلم‏.‏

ورواه البيهقي عن الحاكم، وغيره عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال‏:‏ أهلَّ رسول الله في حجته بالحج ليس معه عمرة‏.‏

وهذه الزيادة غريبة جداً، ورواية الإمام أحمد بن حنبل أحفظ، والله أعلم‏.‏

وفي صحيح مسلم من طريق جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر قال‏:‏ أهللنا بالحج لسنا نعرف العمرة‏.‏

وقد روى ابن ماجه عن هشام بن عمار، عن الداروردي وحاتم بن إسماعيل، كلاهما عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أفرد الحج، وهذا إسناد جيد‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا عبد الوهاب الثقفي، ثنا حبيب - يعني‏:‏ المعلم - عن عطاء، حدثني جابر بن عبد الله أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أهلَّ هو وأصحابه بالحج ليس مع أحد منهم هدي إلا النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وطلحة، وذكر تمام الحديث‏.‏

وهو في صحيح البخاري بطوله كما سيأتي، عن محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب رواية عبد الله بن عمر للإفراد‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إسماعيل بن محمد، ثنا عباد - يعني‏:‏ ابن عباد -، حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ أهللنا مع النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالحج مفرداً‏.‏

ورواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عون، عن عباد بن عباد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أهلَّ بالحج مفرداً‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ ثنا الحسن بن عبد العزيز، ومحمد بن مسكين قالا‏:‏ ثنا بشر بن بكر، ثنا سعيد بن عبد العزيز بن زيد بن أسلم، عن ابن عمر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أهل بالحج يعني‏:‏ - مفردا - إسناده جيد، ولم يخرِّجوه‏.‏

رواية ابن عبَّاس للإفراد‏:‏ روى الحافظ البيهقي من حديث روح بن عبادة عن شعبة، عن أيوب، عن أبي العالية البراء، عن ابن عبَّاس أنه قال‏:‏ أهلَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالحج فقدم لأربع مضين من ذي الحجة، فصلى بنا الصبح بالبطحاء ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها‏)‏‏)‏

ثم قال‏:‏ رواه مسلم عن إبراهيم بن دينار، عن ابن روح، وتقدم من رواية قتادة عن أبي حسان الأعرج، عن ابن عبَّاس أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صلى الظهر بذي الحليفة، ثم أتى ببدنة فأشعر صفحة سنامها الأيمن، ثم أتى براحلته فركبها، فلما استوت به على البيداء أهلَّ بالحج، وهو في صحيح مسلم أيضاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5 /141‏)‏

وقال الحافظ أبو الحسن الدارقطني‏:‏ ثنا الحسين بن إسماعيل، ثنا أبو بكر ابن عياش، ثنا أبو حصين عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه قال‏:‏ حججت مع أبي بكر فجرَّد، ومع عمر فجرَّد، ومع عثمان فجرَّد‏.‏

تابعه الثوري عن أبي حصين، وهذا إنما ذكرناه ههنا لأن الظاهر‏:‏ أن هؤلاء الأئمة رضي الله عنهم إنما يفعلون هذا عن توقيف، والمراد بالتجريد ههنا‏:‏ الإفراد، والله أعلم‏.‏

وقال الدارقطني‏:‏ ثنا أبو عبيد الله القاسم بن إسماعيل، ومحمد بن مخلد قالا‏:‏ ثنا علي بن محمد بن معاوية الرزاز، ثنا عبد الله بن نافع عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم استعمل عتاب بن أسيد على الحج فأفرد، ثم استعمل أبا بكر سنة تسع فأفرد الحج، ثم حجَّ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم سنة عشر فأفرد الحج، ثم توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم واستخلف أبو بكر، فبعث عمر فأفرد الحج، ثم حجَّ أبو بكر فأفرد الحج، وتوفي أبو بكر واستخلف عمر، فبعث عبد الرحمن بن عوف فأفرد الحج، ثم حج فأفرد الحج، ثم حصر ‏.‏ عثمان فأقام عبد الله بن عبَّاس للناس فأفرد الحج‏.‏

في إسناده عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف، لكن قال الحافظ البيهقي‏:‏ له شاهد بإسناد صحيح‏.‏