فصل: بعثه عليه السَّلام خالد بن الوليد إلى أُكَيْدِر دُومة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


الجزء الخامس

 سنة تسع من الهجرة، ذكر غزوة تبوك في رجب منها

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 28 - 29‏]‏‏.‏

روي عن ابن عبَّاس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن خبير، وقتادة، والضحاك، وغيرهم أنه لما أمر الله تعالى أن يمنع المشركون من قربان المسجد الحرام في الحج وغيره‏.‏

قالت قريش‏:‏ لينقطعن عنَّا المتاجر والأسواق أيام الحج، وليذهبنَّ ما كنَّا نصيب منها؛ فعوضهم الله عن ذلك الأمر بقتال أهل الكتاب حتَّى يسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏.‏

قلت‏:‏ فعزم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على قتال الرُّوم لأنهم أقرب النَّاس إليه، وأولى النَّاس بالدعوة إلى الحق، لقربهم إلى الإسلام وأهله‏.‏

وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 123‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/6‏)‏

فلما عزم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على غزو الرُّوم عام تبوك، وكان ذلك في حرّ شديد، وضيق من الحال، جلَّى للنَّاس أمرها، ودعى من حوله من أحياء الأعراب للخروج معه، فأوعب معه بشر كثير، كما سيأتي قريباً من ثلاثين ألفاً، وتخلَّف آخرون، فعاتب الله من تخلَّف منهم لغير عذر من المنافقين والمقصرين، ولامهم ووبَّخهم وقرعهم أشدَّ التَّقريع، وفضحهم أشدَّ الفضيحة، وأنزل فيهم قرآناً يُتلى، وبيَّن أمرهم في سورة براءة، كما قد بينَّا ذلك مبسوطاً في التَّفسير، وأمر المؤمنين بالنفر على كل حال‏.‏

فقال تعالى‏:‏ ‏{‏انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 41 - 42‏]‏‏.‏ ثمَّ الآيات بعدها‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 122‏]‏‏.‏

فقيل‏:‏ إن هذه ناسخة لتلك‏.‏

وقيل‏:‏ لا، فالله أعلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم أقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالمدينة ما بين ذي الحجة إلى رجب - يعني‏:‏ من سنة تسع - ثم أمر النَّاس بالتَّهيؤ لغزو الرُّوم‏.‏

فذكر الزُّهري، ويزيد بن رومان، وعبد الله ابن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة، وغيرهم من علمائنا كلٌ يحدِّث عن غزوة تبوك ما بلغه عنها، وبعض القوم يحدِّث مالم يحدِّث بعض‏:‏

أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أمر أصحابه بالتَّهيؤ لغزو الرُّوم، وذلك في زمان عسرة من النَّاس، وشدَّة الحرّ، وجدب من البلاد، وحين طابت الثِّمار، فالنَّاس يحبّون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشُّخوص في الحال من الزَّمان الذي هم عليه‏.‏

وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قلَّ ما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بيَّنها للنَّاس لبعد المشقة، وشدَّة الزمان، وكثرة العدو الذي يصمد إليه، ليتأهب النَّاس لذلك أهبته‏.‏

فأمرهم بالجهاد وأخبرهم أنه يريد الرُّوم‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ذات يوم وهو في جهازه ذلك للجد بن قيس - أحد بني سلمة -‏:‏ ‏(‏‏(‏يا جد هل لك العام في جلاد بني الأصفر‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ يا رسول الله أوتأذن لي ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي أنه ما رجل أشد عجباً بالنِّساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر‏.‏

فأعرض عنه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد أذنت لك‏)‏‏)‏‏.‏

ففي الجد أنزل الله هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 49‏]‏‏.‏

وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض‏:‏ لا تنفروا في الحرّ زهادة في الجهاد، وشكَّاً في الحق، وإرجافاً بالرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم فأنزل الله فيهم‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 81-82‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/7‏)‏

قال ابن هشام‏:‏ حدَّثني الثِّقة عمن حدَّثه عن محمد بن طلحة بن عبد الرحمن، عن إسحاق بن إبراهيم بن عبد الله بن حارثة، عن أبيه، عن جده قال‏:‏ بلغ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ ناساً من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي - وكان بيته عند جاسوم - يثبطون النَّاس عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في غزوة تبوك، فبعث إليهم طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم، ففعل طلحة، فاقتحم الضحَّاك بن خليفة من ظهر البيت، فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فأفلتوا‏.‏

فقال الضحاك في ذلك‏:‏

كَادتْ وبَيْتُ اللهِ نارُ مُحَمدٍ * يُشِيطُ بِهَا الضَحَّاكُ وابنَ أُبيرّقِ

وَظَلّتْ وَقدْ طَبَقَتْ كَبْسَ سُوَيْلَمٍ * أَنُوء علَى رِجلِي كَسِيراً وَمِرُفَقِ

سَلامُ عَلَيّكُمْ لا أَعُودُ لمثِلِها * أَخَافُ وَمَن تَشمِل به النَّارَ يُحْرق

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم جدَّ في سفره، وأمر النَّاس بالجهاز والانكماش، وحضَّ أهل الغنى على النَّفقة، والحملان في سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا، وأنفق عثمان بن عفان نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ فحدَّثني من أثق به أنَّ عثمان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم ارض عثمان فإني عنه راض‏)‏‏)‏‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا هارون بن معروف، ثنا ضمرة، ثنا عبد الله بن شوذب عن عبد الله بن القاسم، عن كثة - مولى عبد الرحمن بن سمرة - قال‏:‏ جاء عثمان بن عفان إلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بألف دينار في ثوبه، حين جهَّز النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم جيش العسرة‏.‏

قال‏:‏ فصبها في حجر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فجعل النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقلِّبها بيده ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏ما ضرَّ ابن عفان ما عمل بعد اليوم‏)‏‏)‏

ورواه التِّرمذي عن محمد بن إسماعيل عن الحسن بن واقع عن ضمرة به‏.‏

وقال‏:‏ حسن غريب‏.‏

وقاله عبد الله بن أحمد في مسند أبيه‏:‏ حدَّثني أبو موسى العنزي، حدَّثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدَّثني سكن بن المغيرة، حدَّثني الوليد ابن أبي هشام، عن فرقد أبي طلحة، عن عبد الرحمن بن حباب السَّلمي قال‏:‏ خطب النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فحثَّ على جيش العسرة‏.‏

فقال عثمان بن عفان‏:‏ عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها‏.‏

قال‏:‏ ثم نزل مرقاة من المنبر، ثمَّ حثَّ‏.‏

فقال عثمان‏:‏ عليَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها‏.‏

قال‏:‏ فرأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول بيده هكذا يحرِّكها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/8‏)‏

وأخرج عبد الصَّمد يده كالمتعجب ‏(‏‏(‏ما على عثمان ما عمل بعد هذا‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه التِّرمذي عن محمد بن يسار عن أبي داود الطيالسي، عن سكن بن المغيرة أبي محمد - مولى لآل عثمان - به‏.‏

وقال‏:‏ غريب من هذا الوجه‏.‏

ورواه البيهقي من طريق عمرو بن مرزوق، عن سكن بن المغيرة به‏.‏

وقال‏:‏ ثلاث مرات أنه التزم بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها‏.‏

قال عبد الرحمن‏:‏ فأنا شهدت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول وهو على المنبر‏:‏

‏(‏‏(‏ما ضرَّ عثمان بعدها‏)‏‏)‏ - أو قال -‏:‏ ‏(‏‏(‏بعد اليوم‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدَّثنا أبو عوانة عن حصين بن عبد الرحمن، عن عمرو بن جاوان، عن الأحنف بن قيس قال‏:‏ سمعت عثمان بن عفان يقول لسعد ابن أبي وقاص، وعلي والزبير وطلحة‏:‏ أنشدكم بالله هل تعلمون أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من جهَّز جيش العسرة غفر الله له‏)‏‏)‏ فجهَّزتهم حتَّى ما يفقدون خطاماً ولا عقالاً‏.‏

قالوا‏:‏ اللهم نعم‏!‏

ورواه النسائي من حديث حصين به‏.‏

 فصل فيمن تخلَّف معذوراً من البكَّائين وغيرهم

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ * لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 86-93‏]‏‏.‏

قد تكلَّمنا على تفسير هذا كله في التَّفسير بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنَّة‏.‏

والمقصود ذكر البكائين الذين جاؤا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ليحملهم حتَّى يصحبوه في غزوته هذه، فلم يجدوا عنده من الظّهر ما يحملهم عليه، فرجعوا وهم يبكون تأسُّفاً على ما فاتهم من الجهاد في سبيل الله، والنَّفقة فيه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/9‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكانوا سبعة نفر من الأنصار وغيرهم‏.‏

فمن بني عمرو بن عوفي‏:‏ سالم بن عمير، وعلبة بن زيد أخو بني حارثة، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن بن النجَّار، وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة، وعبد الله بن المغفل المزني، وبعض النَّاس يقولون‏:‏ بل هو عبد الله بن عمرو المزني، وهرمي بن عبد الله أخو بني واقف، وعرباض بن سارية الفزاري‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فبلغني أنَّ ابن يامين بن عمير بن كعب النَّضري لقي أبا ليلى، وعبد الله بن مغفل، وهما يبكيان‏.‏

فقال‏:‏ ما يبكيكما‏؟‏

قالا‏:‏ جئنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه، فأعطاهما ناضحاً له، فارتحلاه وزوَّدهما شيئاً من تمر، فخرجا مع النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق‏:‏ وأما علبة بن زيد، فخرج من اللَّيل فصلَّى من ليلته ما شاء الله، ثمَّ بكى وقال‏:‏ ‏(‏اللَّهم إنَّك أمرت بالجهاد، ورغبت فيه، ثمَّ لم تجعل عندي ما أتقوى به، ولم تجعل به، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإنِّي أتصدق على كل مسلم فيه بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو جسد أو عرض‏)‏‏.‏

ثم أصبح مع النَّاس فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أين المتصدق هذه الليلة‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فلم يقم أحد‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أين المتصدق فليقم‏)‏‏)‏‏.‏

فقام إليه فأخبره‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أبشر فوالذي نفسي بيده لقد كتبت في الزَّكاة المتقبلة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد أورد الحافظ البيهقي ها هنا حديث أبي موسى الأشعريّ فقال‏:‏ حدَّثنا أبو عبد الله الحافظ، حدَّثنا أبو العبَّاس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الحميد المازني، حدَّثنا أبو أسامة عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال‏:‏ أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أسأله لهم الحملان، إذ هم معه في جيش العسرة غزوة تبوك‏.‏

فقلت‏:‏ يا نبي الله‏!‏إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏والله لا أحملكم على شيء‏)‏‏)‏‏.‏

ووافقته وهو غضبان ولا أشعر، فرجعت حزيناً من منع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ومن مخافة أن يكون رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد وجد في نفسه عليّ، فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم بالذي قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالاً ينادي أين عبد الله بن قيس‏؟‏

فأجبته فقال‏:‏ أجب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يدعوك فلمَّا أتيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏خذ هذين القرينين، وهذين القرينين، وهذين القرينين‏)‏‏)‏

لستة أبعرة ابتاعهن حينئذ من سعد فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏انطلق بهن إلى أصحابك فقل‏:‏ إنَّ الله أو إنَّ رسول الله يحملكم على هؤلاء فاركبوهن‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو موسى‏:‏ فانطلقت إلى أصحابي فقلت‏:‏ إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يحملكم على هؤلاء، ولكن والله لا أدعكم، حتَّى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله، حين سألته لكم ومنعه لي في أول مرة، ثم إعطائه إياي بعد ذلك، لا تظنوا أني حدَّثتكم شيئاً لم يقله‏.‏

فقالوا لي‏:‏ والله إنك عندنا لمصدَّق، ولنفعلن ما أحببت‏.‏

قال‏:‏ فانطلق أبو موسى بنفر منهم حتَّى أتوا الذين سمعوا مقالة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من منعه إياهم ثم إعطائه بعد، فحدَّثوهم بما حدَّثهم به أبو موسى سواء‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/10‏)‏

وأخرجه البخاري ومسلم جميعاً عن أبي كريب، عن أبي أسامة‏.‏

وفي رواية لهما‏:‏ عن أبي موسى قال‏:‏ أتيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في رهط من الأشعريين ليحملنا‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏والله ما أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه‏)‏‏)‏

قال‏:‏ ثمَّ جيء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بنهب إبل فأمر لنا بست ذودعر الذرى، فأخذناها‏.‏

ثمَّ قلنا‏:‏ يعقلنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يمينه، والله لا يبارك لنا، فرجعنا له‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحلَّلتها‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم الغيبة، حتَّى تخلَّفوا عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من غير شكٍّ ولا ارتياب‏.‏

منهم‏:‏ كعب بن مالك ابن أبي كعب أخو بني سلمة، ومرارة بن ربيع أخو بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية أخو بني واقف، وأبو خيثمة أخو بني سالم بن عوف، وكانوا نفر صدق لا يُتَّهمون في إسلامهم‏.‏

قلت‏:‏ أمَّا الثَّلاثة الأول فستأتي قصتهم مبسوطة قريباً إن شاء الله تعالى الذين، وهم أنزل الله فيهم‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 118‏]‏‏.‏

وأما أبو خيثمة‏:‏ فإنه عاد وعزم على اللُّحوق برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كما سيأتي‏.‏

 فصل تخلُّف عبد الله ابن أُبيّ وأهل الرَّيب عام تبوك

قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق‏:‏ ثم استتب برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سفره، وأجمع السَّير، فلمَّا خرج يوم الخميس ضرب عسكره على ثنية الوداع ومعه زيادة على ثلاثين ألفاً من النَّاس، وضرب عبد الله بن أبيّ عدو الله عسكره أسفل منه - وما كان فيما يزعمون بأقل العسكرين - فلمَّا سار رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تخلَّف عنه عبد الله ابن أُبي في طائفة من المنافقين، وأهل الرَّيب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/11‏)‏

قال ابن هشام‏:‏ واستخلف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري‏.‏

قال‏:‏ وذكر الدراوردي‏:‏ أنه استخلف عليها عام تبوك سباع بن عرفطة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وخلَّف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم علي ابن أبي طالب على أهله، وأمره بالإقامة فيهم، فأرجف به المنافقون، وقالوا‏:‏ ما خلفه إلا استقلالاً له، وتخففاً منه، فلمَّا قالوا ذلك، أخذ عليّ سلاحه، ثمَّ خرج حتَّى لحق برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو نازل بالجُرْف، فأخبره بما قالوا‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كذبوا ولكني خلَّفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي‏)‏‏)‏‏.‏

فرجع علي، ومضى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في سفره‏.‏

ثم قال ابن إسحاق‏:‏ حدَّثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن إبراهيم بن سعد ابن أبي وقاص، عن أبيه سعد، أنه سمع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول لعلي هذه المقالة‏.‏

وقد روى البخاري ومسلم هذا الحديث من طريق شعبة عن سعد بن إبراهيم، عن إبراهيم بن سعد ابن أبي وقاص، عن أبيه به‏.‏

وقد قال أبو داود الطيالسي في مسنده‏:‏ حدَّثنا شعبة عن الحكم، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال‏:‏ خلَّف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم علي ابن أبي طالب في غزوة تبوك‏.‏

فقال‏:‏ يا رسول الله أتخلفني في النِّساء والصِّبيان‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي‏)‏‏)‏‏.‏

وأخرجاه من طرق عن شعبة نحوه‏.‏

وعلَّقه البخاري أيضاً من طريق أبي داود عن شعبة‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا قتيبة بن سعيد، حدَّثنا حاتم بن إسماعيل عن بكير بن مسمار، عن عامر بن سعد، عن أبيه سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول له - وخلَّفه في بعض مغازيه-‏.‏

فقال علي‏:‏ يا رسول الله تخلفني مع النِّساء والصِّبيان‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عليّ أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنَّه لا نبي بعدي‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم والتِّرمذي عن قتيبة‏.‏

زاد مسلم ومحمد بن عباد كلاهما عن حاتم بن إسماعيل به‏.‏

وقال التِّرمذي‏:‏ حسن صحيح غريب من هذا الوجه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم إنَّ أبا خيثمة رجع بعد ما سار رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أياماً إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه، قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت فيه ماء، وهيَّأت له فيه طعاماً، فلمَّا دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في الضحِّ والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ، وامرأة حسناء في ماله مقيم ما هذا بالنصف‏!‏والله لا أدخل عريش واحدة منكما، حتَّى ألحق برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فهيِّئا زاداً ففعلتا، ثمَّ قدم ناضحه فارتحله، ثمَّ خرج في طلب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حتَّى أدركه حين نزل تبوك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/12‏)‏

وكان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق يطلب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فترافقا حتَّى إذا دنوا من تبوك‏.‏

قال أبو خيثمة لعمير بن وهب‏:‏ إن لي ذنباً فلا عليك أن تخلف عني حتَّى آتي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ففعل حتَّى إذا دنا من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

قال النَّاس‏:‏ هذا راكب على الطريق مقبل‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏كن أبا خيثمة‏)‏‏)‏‏.‏

فقالوا‏:‏ يا رسول الله هو والله أبو خيثمة‏.‏

فلمَّا بلغ، أقبل فسلَّم على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏أولى لك يا أبا خيثمة‏)‏‏)‏‏.‏

ثمَّ أخبر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الخبر فقال‏:‏ خيراً ودعا له بخير‏.‏

وقد ذكر عروة بن الزبير وموسى بن عقبة‏:‏ قصة أبي خيثمة بنحو من سياق محمد بن إسحاق وأبسط، وذكر أن خروجه عليه السَّلام إلى تبوك كان في زمن الخريف، فالله أعلم‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وقال أبو خيثمة واسمه مالك بن قيس في ذلك‏:‏

لَمّا رَأيْت النَّاسَ في الدينِ نَافَقُوا * أَتَيّتُ التي كانت أعفّ وَأكرما

وَبَايَعْتُ بِاليُمْنَى يَديِ ِلمحمدٍ * فَلَمْ أكتسِب إثماً لم أغش مَحْرِما

تَرَكْت خَضِيبَاً في العَريش وصَرّمَةِ * صَفَايَا كِراما بسرّهُا قَدْ تَحّمِمَا

وَكُنْتُ إذَا شَكَّ الُمنافِقُ أسّمَحَتْ * إلَى الدِّينِ نَفْسي شَطرَهُ حَيْثُ يَممّا

قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق، عن بريدة، عن سفيان، عن محمد بن كعب القرظي، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم -إلى تبوك جعل لا يزال الرجل يتخلف‏.‏

فيقولون‏:‏ يا رسول الله تخلف فلان‏.‏

فيقول‏:‏ ‏(‏‏(‏دعوه إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك به غير ذلك فقد أراحكم الله منه‏)‏‏)‏‏.‏

حتَّى قيل‏:‏ يا رسول الله تخلَّف أبو ذر وأبطأ به بعيره‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏دعوه إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه‏)‏‏)‏‏.‏

فتلوم أبو ذر بعيره، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه فجعله على ظهره، ثم خرج يتبع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ماشياً، ونزل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعض منازله، ونظر ناظر من المسلمين فقال‏:‏ يا رسول الله إنَّ هذا الرجل ماشٍ على الطَّريق‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ‏(‏‏(‏كن أبا ذر‏)‏‏)‏

فلمَّا تأمَّله القوم قالوا‏:‏ يا رسول الله هو والله أبو ذر‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏يرحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فضرب الدَّهر من ضربه، وسير أبو ذر إلى الربذة، فلمَّا حضره الموت أوصى امرأته وغلامه‏.‏

فقال‏:‏ إذا متّ فاغسلاني، وكفِّناني من اللَّيل، ثمَّ ضعاني على قارعة الطَّريق، فأوَّل ركب يمرون بكم فقولوا‏:‏ هذا أبو ذر‏.‏

فلمَّا مات فعلوا به كذلك، فاطلع ركب فما علموا به، حتَّى كادت ركابهم تطأ سريره، فإذا ابن مسعود في رهطٍ من أهل الكوفة فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏

فقيل‏:‏ جنازة أبي ذر‏.‏

فاستهلَّ ابن مسعود يبكي وقال‏:‏ صدق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، فنزل فوليه بنفسه حتَّى أجنه‏.‏

إسناده حسن، ولم يخرِّجوه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/13‏)‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا عبد الرَّزاق، أخبرنا‏:‏ معمر أخبرنا‏:‏ عبد الله بن محمد بن عقيل في قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏الذين اتَّبعوه في ساعة العسرة‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ خرجوا في غزوة تبوك؛ الرَّجلان والثلاثة على بعير واحد، وخرجوا في حرّ شديد، فأصابهم في يوم عطش، حتَّى جعلوا ينحرون إبلهم لينفضوا أكراشها ويشربوا ماءها، فكان ذلك عسرة في الماء، وعسرة في النَّفقة، وعسرة في الظهر‏.‏

قال عبد الله بن وهب‏:‏ أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد ابن أبي هلال، عن عتبة ابن أبي عتبة، عن نافع بن جبير، عن عبد الله بن عبَّاس، أنه قيل لعمر بن الخطاب‏:‏ حدِّثنا عن شأن ساعة العسرة‏.‏

فقال عمر‏:‏ خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلاً وأصابنا فيه عطش، حتَّى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتَّى إن كان أحدنا ليذهب فيلتمس الرَّحل فلا يرجع حتَّى يظن أن رقبته ستنقطع، حتَّى أن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه، ثمَّ يجعل ما بقي على كبده‏.‏

فقال أبو بكر الصديق‏:‏ يا رسول الله إنَّ الله قد عوَّدك في الدعاء خيراً، فادع الله لنا‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أو تحب ذلك‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ نعم‏!‏

قال‏:‏ فرفع يديه نحو السَّماء فلم يرجعهما حتَّى قالت السماء فأطلت، ثمَّ سكبت، فملئوا ما معهم ثمَّ ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر‏.‏

إسناده جيد ولم يخرِّجوه من هذا الوجه‏.‏

وقد ذكر ابن إسحاق‏:‏ عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن رجال من قومه أنَّ هذه القصة كانت وهم بالحِجر، وأنهم قالوا لرجل معهم منافق‏:‏ ويحك هل بعد هذا من شيء‏؟‏ ‏!‏

فقال‏:‏ سحابة مارة‏.‏

وذكر أنَّ ناقة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ضلَّت فذهبوا في طلبها‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لعمارة بن حزم الأنصاري، وكان عنده‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ رجلاً قال‏:‏ هذا محمد يخبركم أنَّه نبي ويخبركم خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته، وإنِّي والله لا أعلم إلا ما علَّمني الله، وقد دلَّني الله عليها هي في الوادي قد حبستها شجرة بزمامها‏)‏‏)‏

فانطلقوا فجاءوا بها، فرجع عمارة إلى رحله فحدَّثهم عما جاء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من خبر الرَّجل‏.‏

فقال رجل ممن كان في رحل عمارة‏:‏ إنما قال ذلك لزيد بن اللصيت‏.‏

وكان في رحل عمارة قبل أن يأتي، فأقبل عمارة على زيد يجأ في عنقه، ويقول‏:‏ إنَّ في رحلي لداهية وأنا لا أدري، اخرج عني يا عدو الله فلا تصحبني‏.‏

فقال بعض النَّاس‏:‏ إن زيداً تاب‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ لم يزل متَّهماً بشرّحتَّى هلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/14‏)‏

قال الحافظ البيهقي‏:‏ وقد روينا من حديث ابن مسعود شبيهاً بقصة الرَّاحلة، ثمَّ روى من حديث الأعمش‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أو عن أبي سعيد الخدري - شكَّ الأعمش - قال‏:‏ لما كان يوم غزوة تبوك أصاب النَّاس مجاعة، فقالوا‏:‏ يا رسول الله لو أذنت لنا فننحر نواضحنا، فأكلنا وادَّهنا‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏افعلوا‏)‏‏)‏

فجاء عمر فقال‏:‏ ‏(‏يا رسول الله إن فعلت قلَّ الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، وادع الله لهم فيها بالبركة، لعلَّ الله أن يجعل فيها البركة‏)‏‏.‏

فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم ‏!‏‏)‏‏)‏

فدعا بنطع فبسطه، ثمَّ دعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف من التَّمر، ويجيء الآخر بكسرة حتَّى اجتمع على النَّطع من ذلك شيء يسير، فدعا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالبركة ثمَّ قال لهم‏:‏ ‏(‏‏(‏خذوا في أوعيتكم‏)‏‏)‏

فأخذوا في أوعيتهم حتَّى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملئوها، وأكلوا حتَّى شبعوا، وفضلت فضلة‏.‏

فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏أشهد أنَّ لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله، لا يلقى الله بها غير شاكٍ فيحجب عن الجنَّة‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم عن أبي كريب، عن أبي معاوية، عن الأعمش به‏.‏

ورواه الإمام أحمد من حديث سهيل عن أبيه، عن أبي هريرة به، ولم يذكر غزوة تبوك، بل قال‏:‏ كان غزوة غزاها‏.‏

 مروره صلَّى الله عليه وسلَّم في ذهابه إلى تبوك بمساكن ثمود بالحجر

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين مرَّ بالحجر نزلها، واستقى النَّاس من بئرها، فلمَّا راحوا‏.‏

قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تشربوا من مياهها شيئاً ولا تتوضئوا منه للصَّلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئاً‏)‏‏)‏‏.‏

هكذا ذكره ابن إسحاق بغير إسناد‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا يعمر بن بشر، حدَّثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا‏:‏ معمر عن الزُّهري أخبرني‏:‏ سالم بن عبد الله عن أبيه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لما مرَّ بالحجر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم‏)‏‏)‏ وتقنَّع بردائه وهو على الرَّحل‏.‏

ورواه البخاري من حديث عبد الله بن المبارك، وعبد الرزاق، كلاهما عن معمر بإسناده نحوه‏.‏

وقال مالك عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال لأصحابه‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه البخاري من حديث مالك، ومن حديث سليمان بن بلال، كلاهما عن عبد الله بن دينار‏.‏

ورواه مسلم من وجه آخر عن عبد الله بن دينار نحوه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/15‏)‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا عبد الصمد، حدَّثنا صخر - هو ابن جويرية - عن نافع، عن ابن عمر، قال‏:‏ نزل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالنَّاس عام تبوك الحجر عند بيوت ثمود فاستقى النَّاس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا ونصبوا القدور باللَّحم‏.‏

فأمرهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأهرقوا القدور، وعلفوا العجين الإبل، ثمَّ ارتحل بهم حتَّى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها النَّاقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عُذِّبوا‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنِّي أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا الحديث إسناده على شرط الصَّحيحين من هذا الوجه، ولم يخرِّجوه‏.‏

وإنَّما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أنس بن عياض عن أبي ضمرة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر به‏.‏

قال البخاري‏:‏ وتابعه أسامة عن عبيد الله‏.‏

ورواه مسلم من حديث شعيب بن إسحاق عن عبيد الله عن نافع به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا عبد الرزاق، حدَّثنا معمر عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر قال‏:‏ لما مرَّ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالحِجر قال‏:‏

‏(‏‏(‏لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح، فكانت ترد من هذا الفجّ، وتصدر من هذا الفجّ، فعتوا عن أمر ربهم، فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يوماً، ويشربون لبنها يوماً، فعقروها، فأخذتهم صيحة أهمد الله من تحت أديم السَّماء، منهم إلا رجلاً واحداً كان في حرم الله‏)‏‏)‏‏.‏

قيل‏:‏ من هو يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هو أبو رغال فلمَّا خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه‏)‏‏)‏‏.‏

إسناده صحيح ولم يخرِّجوه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا يزيد بن هارون، أخبرنا‏:‏ المسعودي عن إسماعيل بن واسط عن محمد ابن أبي كبشة الأنماري، عن أبيه قال‏:‏ لما كان في غزوة تبوك تسارع النَّاس إلى أهل الحجر، يدخلون عليهم، فبلغ ذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فنودي في النَّاس‏:‏ الصَّلاة جامعة‏.‏

قال‏:‏ فأتيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو ممسك بعيره، وهو يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم‏)‏‏)‏‏.‏

فناداه رجل‏:‏ نعجب منهم‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أفلا أنبِّئكم بأعجب من ذلك، رجل من أنفسكم ينبِّئكم بما كان قبلكم، وما هو كائن بعدكم، فاستقيموا وسدِّدوا، فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئاً، وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئاً‏)‏‏)‏‏.‏

إسناده حسن ولم يخرِّجوه‏.‏

وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق‏:‏ حدَّثني عبد الله ابن أبي بكر ابن حزم، عن العبَّاس بن سهل بن سعد السَّاعديّ، أو عن العبَّاس بن سعد‏:‏ الشكّ منِّي أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين مرَّ بالحجر ونزلها، استقى النَّاس من بئرها، فلمَّا راحوا منها‏.‏

قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم للنَّاس لا تشربوا من مائها شيئاً، ولا تتوضئوا منه للصَّلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئاً، ولا يخرجنَّ أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له‏)‏‏)‏‏.‏

ففعل النَّاس ما أمرهم به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلا رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعير له، فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه‏.‏

وأما الذي ذهب في طلب بعيره فاحتملته الرَّيح حتَّى ألقته بجبل طيء، فأُخبر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بذلك فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألم أنهكم أن يخرج رجل إلا ومعه صاحب له‏)‏‏)‏ ثمَّ دعا للذي أصيب على مذهبه فشفي‏.‏

وأما الآخر فإنه وصل إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من تبوك‏.‏

وفي رواية زياد عن ابن إسحاق أنَّ طيئاً أهدته إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين رجع إلى المدينة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/16‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد حدَّثني عبد الله ابن أبي بكر أنَّ العبَّاس بن سهل سمَّى له الرَّجلين لكنه استكتمه إياهما، فلم يحدَّثني بهما‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا عفَّان، حدَّثنا وهيب بن خالد، ثنا عمرو بن يحيى عن العبَّاس بن سهل بن سعد السَّاعديّ، عن أبي حميد السَّاعديّ قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عام تبوك حتَّى جئنا وادي القرى، فإذا امرأة في حديقة لها‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لأصحابه‏:‏ ‏(‏‏(‏أخرصوا‏)‏‏)‏

فخرص القوم، وخرص رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عشرة أوسق‏.‏

وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم للمرأة‏:‏ ‏(‏‏(‏أحصي ما يخرج منها، حتَّى أرجع إليك إن شاء الله‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فخرج حتَّى قدم تبوك‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّها ستهب عليكم اللَّيلة ريح شديدة، فلا يقومنَّ فيها رجل، فمن كان له بعير فليوثق عقاله‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو حميد‏:‏ فعقلناها، فلمَّا كان من اللَّيل هبَّت علينا ريح شديدة، فقام رجل، فألقته في جبل طيء، ثمَّ جاء رسول الله ملك إيلة، فأهدى لرسول الله بغلة بيضاء، وكساه رسول الله برداً، وكتب له يجيرهم، ثمَّ أقبل وأقبلنا معه حتَّى جئنا وادي القرى‏.‏

قال للمرأة‏:‏ ‏(‏‏(‏كم جاءت حديقتك‏؟‏‏)‏‏)‏

قالت‏:‏ عشرة أوسق خرص رسول الله‏.‏

فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏إنِّي متعجل فمن أحب منكم أن يتعجل فليفعل‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فخرج رسول الله، وخرجنا معه، حتَّى إذا أوفى على المدينة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذه طابة‏)‏‏)‏

فلمَّا رأى أحداً قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا أحد يحبنا ونحبه، ألا أخبركم بخير دور الأنصار‏)‏‏)‏

قلنا‏:‏ بلى يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏خير دور الأنصار بنو النجَّار، ثمَّ دار بني عبد الأشهل، ثمَّ دار بني ساعدة، ثمَّ في كل دور الأنصار خير‏)‏‏)‏‏.‏

وأخرجه البخاري ومسلم من غير وجه عن عمرو بن يحيى به نحوه‏.‏

وقال الإمام مالك رحمه الله عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة‏:‏ أنَّ معاذ بن جبل أخبره‏:‏ أنَّهم خرجوا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عام تبوك، فكان يجمع بين الظُّهر والعصر، وبين المغرب والعشاء‏.‏

قال‏:‏ فأخَّر الصلاة يوماً ثمَّ خرج فصلَّى الظُّهر والعصر جميعاً، ثمَّ دخل ثمَّ خرج فصلَّى المغرب والعشاء جميعاً ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّكم ستأتون غداً إن شاء الله عين تبوك، وإنَّكم لن تأتونها حتَّى يضحى ضحى النَّهار، فمن جاءها فلا يمسّ من مائها شيئاً، حتَّى آتي‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فجئناها، وقد سبق إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء، فسألهما رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏هل مسستما من مائها شيئاً‏)‏‏)‏‏.‏

قالا‏:‏ نعم‏.‏

فسبَّهما وقال لهما‏:‏ ‏(‏‏(‏ما شاء الله أن يقول‏)‏‏)‏

ثمَّ غرفوا من العين قليلاً قليلاً، حتَّى اجتمع في شيء، ثمَّ غسل رسول الله فيه وجهه ويديه، ثمَّ أعاده فيها، فجرت العين بماء كثير، فاستقى النَّاس‏.‏

ثمَّ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معاذ يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جناناً‏)‏‏)‏‏.‏

أخرجه مسلم من حديث مالك به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/17‏)‏

 ذكر خطبته صلَّى الله عليه وسلَّم إلى تبوك إلى نخلة هناك

روى الإمام أحمد عن أبي النَّضر هاشم بن القاسم يونس بن محمد المؤدب، وحجاج بن محمد ثلاثتهم عن اللَّيث بن سعد، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن أبي الخطَّاب، عن أبي سعيد الخدري أنَّه قال‏:‏ إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عام تبوك خطب النَّاس، وهو مسند ظهره إلى نخلة‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا أخبركم بخير النَّاس، وشرِّ النَّاس، إنَّ من خير النَّاس رجلاً عمل في سبيل الله على ظهر فرسه، أو على ظهر بعيره، أو على قدميه، حتَّى يأتيه الموت، وإنَّ من شرِّ النَّاس رجلاً فاجراً جريئاً يقرأ كتاب الله لا يرعوي إلى شيء منه‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه النَّسائي عن قتيبة عن اللَّيث به‏.‏

وقال أبو الخطَّاب‏:‏ لا أعرفه‏.‏

وروى البيهقي من طريق يعقوب بن محمد الزُّهري، عن عبد العزيز بن عمران، حدَّثنا مصعب بن عبد الله، عن منظور بن جميل بن سنان، أخبرني أبي، سمعت عقبة بن عامر الجهني‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في غزوة تبوك، فاسترقد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلم يستيقظ حتَّى كانت الشَّمس قيد رمح‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألم أقل لك يا بلال اكلأ لنا الفجر‏)‏‏)‏

فقال‏:‏ يا رسول الله ذهب بي من النَّوم مثل الذي ذهب بك‏.‏

قال‏:‏ فانتقل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من منزله غير بعيد، ثمَّ صلَّى، وسار بقية يومه وليلته، فأصبح بتبوك، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثمَّ قال‏:‏

‏(‏‏(‏أيها النَّاس أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التَّقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وخير السّنن سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الأمور عوازمها، وشرُّ الأمور محدثاتها، وأحسن الهدي هدي الأنبياء، وأشرف الموت قتل الشّهداء، وأعمى العمى الضَّلالة بعد الهدى، وخير الأعمال ما نفع، وخير الهدى ما اتبع، وشرّ العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السّفلى، وما قلَّ وكفى خير مما كثر وألهى، وشرُّ المعذرة حين يحضر الموت، وشرُّ النَّدامة يوم القيامة، ومن النَّاس من لا يأتي الجمعة إلا دبراً، ومن النَّاس من لا يذكر الله إلا هجراً، ومن أعظم الخطايا اللِّسان الكذوب، وخير الغنى غنى النَّفس، وخير الزَّاد التَّقوى، ورأس الحكمة مخافة الله عز وجل، وخير ما وقر في القلوب اليقين، والارتياب من الكفر، والنّياحة من عمل الجاهلية، والغلول من حثاء جهنم، والسكر كيُّ من النار، والشعر من إبليس، والخمر جماع الإثم، والنِّساء حبائل الشَّيطان، والشَّباب شعبة من الجنون، وشرّ المكاسب كسب الرِّبا، وشرّ المآكل أكل مال اليتيم، والسَّعيد من وعظ بغيره، والشَّقي من شقي في بطن أمه، وإنَّما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع، والأمر إلى الآخرة، وملاك العمل خواتمه، وشرّ الروايا روايا الكذب، وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يتألى على الله يكذبه، ومن يستغفره يغفر له، ومن يعفّ يعفّ الله عنه، ومن يكظم يأجره الله، ومن يصبر على الرّزية يعوضه الله، ومن يبتغي السّمعة يسمع الله به، ومن يصبر يضعف الله له، ومن يعص الله يعذبه الله، اللَّهم اغفر لي ولأمتي، اللَّهم اغفر لي ولأمتي، اللَّهم اغفر لي ولأمتي‏)‏‏)‏

قالها ثلاثاً‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أستغفر الله لي ولكم‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا حديث غريب وفيه نكارة، وفي إسناده ضعف، والله أعلم بالصَّواب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/18‏)‏

وقال أبو داود‏:‏ ثنا أحمد بن سعيد الهمداني، وسليمان ابن داود، قالا‏:‏ أخبرنا ابن وهب أخبرني معاوية عن سعيد بن غزوان، عن أبيه أنَّه نزل بتبوك، وهو حاج، فإذا رجل مقعد فسألته عن أمره، فقال‏:‏ سأحدثك حديثاً فلا تحدِّث به ما سمعت أني حي‏:‏ إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نزل بتبوك إلى نخلة‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذه قبلتنا‏)‏‏)‏

ثمَّ صلى إليها، قال‏:‏ فأقبلت وأنا غلام أسعى حتَّى مررت بينه وبينها‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قطع صلاتنا قطع الله أثره‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فما قمت عليها إلى يومي هذا‏.‏

ثمَّ رواه أبو داود من حديث سعيد عن عبد العزيز التَّنوخي، عن مولى ليزيد بن نمران، عن يزيد بن نمران، قال‏:‏ رأيت بتبوك مقعداً‏.‏

فقال‏:‏ مررت بين يدي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأنا على حمار، وهو يصلي‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم اقطع أثره‏)‏‏)‏‏.‏

فما مشيت عليها بعد‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏‏(‏قطع صلاتنا قطع الله أثره‏)‏‏)‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/19‏)‏

 الصَّلاة على معاوية ابن أبي معاوية

روى البيهقي من حديث يزيد بن هارون، أخبرنا العلاء أبو محمد الثَّقفي قال‏:‏ سمعت أنس بن مالك قال‏:‏ كنَّا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بتبوك فطلعت الشَّمس بضياء، ولها شعاع ونور، لم أرها طلعت فيما مضى، فأتى جبريل رسول الله‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا جبريل مالي أرى الشَّمس اليوم طلعت بيضاء ونور وشعاع، لم أرها طلعت فيما مضى‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ذلك أنَّ معاوية ابن أبي معاوية اللَّيثي مات بالمدينة اليوم، فبعث الله إليه سبعين ألف ملك يصلّون عليه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ومم ذاك‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ بكثرة قراءته ‏{‏قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ‏}‏ باللَّيل والنَّهار، وفي ممشاه وفي قيامه وقعوده، فهل لك يا رسول الله أن أقبض لك الأرض فتصلي عليه‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم ‏!‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فصلَّى عليه، ثمَّ رجع‏.‏

وهذا الحديث فيه غرابة شديدة ونكارة، والنَّاس يسندون أمرها إلى العلاء بن زيد هذا، وقد تكلَّموا فيه‏.‏

ثمَّ قال البيهقي‏:‏ أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدَّثنا هاشم بن عليّ، أخبرنا عثمان بن الهيثم، حدَّثنا محبوب بن هلال، عن عطاء ابن أبي ميمونة، عن أنس قال‏:‏ جاء جبريل فقال‏:‏ يا محمد مات معاوية ابن أبي معاوية المزني، أفتحبّ أن تصلِّي عليه‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم ‏!‏‏)‏‏)‏‏.‏

فضرب بجناحه فلم يبق من شجرة، ولا أكمة إلا تضعضعت له‏.‏

قال‏:‏ فصلَّى وخلفه صفَّان من الملائكة في كل صفٍّ سبعون ألف ملك‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ ‏(‏‏(‏يا جبريل بم نال هذه المنزلة من الله‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ بحبه ‏(‏‏(‏قل هو الله أحد‏)‏‏)‏ يقرؤها قائماً وقاعداً، وذاهباً وجائياً، وعلى كل حال‏.‏

قال عثمان‏:‏ فسألت أبي أين كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏؟‏

قال‏:‏ بغزوة تبوك بالشَّام، ومات معاوية بالمدينة، ورفع له سريره حتَّى نظر إليه، وصلَّى عليه‏.‏

وهذا أيضاً منكر من هذا الوجه‏.‏

 قدوم رسول قيصر إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بتبوك

قال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا إسحاق بن عيسى، حدَّثنا يحيى بن سليم، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد ابن أبي راشد، قال‏:‏ لقيت التَّنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بحمص، وكان جاراً لي شيخاً كبيراً قد بلغ العقد أو قرب‏.‏

فقلت‏:‏ ألا تخبرني عن رسالة هرقل إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ورسالة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى هرقل‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ بلى، قدم رسول الله تبوك، فبعث دحية الكلبي إلى هرقل، فلمَّا جاءه كتاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم دعا قسِّيسي الرُّوم وبطارقتها، ثمَّ أغلق عليه وعليهم الدَّار‏.‏

فقال‏:‏ قد نزل هذا الرَّجل حيث رأيتم‏؟‏

وقد أرسل إلَّي يدعوني إلى ثلاث خصال، يدعوني أن أتَّبعه على دينه، أو على أن نعطيه مالنا على أرضنا والأرض أرضنا، أو نلقي إليه الحرب‏.‏

والله لقد عرفتم فيما تقرؤون من الكتب ليأخذنّ ما تحت قدمي، فهلمّ فلنتَّبعه على دينه، أو نعطيه مالنا على أرضنا‏.‏

فنخروا نخرة رجل واحد، حتَّى خرجوا من براسنهم‏.‏

وقالوا‏:‏ تدعونا إلى نذر أن النَّصرانية أو نكون عبيداً لأعرابي جاء من الحجاز‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/20‏)‏

فلمَّا ظنَّ أنَّهم إن خرجوا من عنده أفسدوا عليه الرُّوم رقأهم، ولم يكد‏.‏

وقال‏:‏ إنما قلت ذلك لأعلم صلابتكم على أمركم، ثمَّ دعا رجلاً من عرب تجيب كان على نصارى العرب قال‏:‏ ادع لي رجلاً حافظاً للحديث عربي اللِّسان أبعثه إلى هذا الرَّجل بجواب كتابه، فجاء بي، فدفع إلي هرقل كتاباً‏.‏

فقال‏:‏ اذهب بكتابي إلى هذا الرَّجل، فما سمعت من حديثه فاحفظ لي منه ثلاث خصال؛ انظر هل يذكر صحيفته إليّ التي كتب بشيء، وانظر إذا قرأ كتابي، فهل يذكر اللَّيل، وانظر في ظهره، هل به شيء يربيك‏.‏

قال‏:‏ فانطلقت بكتابه حتَّى جئت تبوكاً، فإذا هو جالس بين ظهراني أصحابه محتبياً على الماء‏.‏

فقلت‏:‏ أين صاحبكم‏؟‏

قيل‏:‏ ها هو ذا، فأقبلت أمشي حتَّى جلست بين يديه، فناولته كتابي، فوضعه في حجره‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ممن أنت‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ أنا أخو تنوخ‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هل لك إلى الإسلام الحنيفية ملة أبيكم إبراهيم‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ إني رسول قوم، وعلى دين قوم لا أرجع عنه حتَّى أرجع إليهم‏.‏

فضحك‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء، وهو أعلم بالمهتدين، يا أخو تنوخ إني كتبت بكتاب إلى كسرى، والله ممزقه وممزق ملكه، وكتبت إلى النَّجاشي بصحيفة فخرقها، والله مخرقه، ومخرق ملكه وكتبت إلى صاحبك بصحيفة فأمسكها، فلن يزال النَّاس يجدون منه بأساً ما دام في العيش خير‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ هذه إحدى الثَّلاث التي أوصاني بها صاحبي، فأخذت سهماً من جعبتي، فكتبته في جنب سيفي، ثمَّ إنَّه ناول الصَّحيفة رجلاً عن يساره‏.‏

قلت‏:‏ من صاحب كتابكم الذي يقرأ لكم‏؟‏

قالوا‏:‏ معاوية‏.‏

فإذا في كتاب صاحبي تدعوني إلى جنَّة عرضها السَّموات والأرض أعدَّت للمتَّقين فأين النَّار‏؟‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏سبحان الله أين اللَّيل إذا جاء النَّهار‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأخذت سهماً من جعبتي، فكتبته في جلد سيفي، فلمَّا أن فرغ من قراءة كتابي‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ لك حقاً، وإنك لرسول، فلو وجدت عندنا جائزة جوَّزناك بها، إنا سفر مرملون‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فناداه رجل من طائفة النَّاس، قال‏:‏ أنا أجوزه، ففتح رحله فإذا هو يأتي بحلة صفورية فوضعها في حجري‏.‏

قلت‏:‏ من صاحب الجائزة‏؟‏

قيل لي‏:‏ عثمان‏.‏

ثمَّ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏أيُّكم ينزل هذا الرَّجل‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال فتى من الأنصار‏:‏ أنا‏.‏

فقام الأنصاري وقمت معه حتَّى إذا خرجت من طائفة المجلس، ناداني رسول الله فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏تعال يا أخا تنوخ‏)‏‏)‏‏.‏

فأقبلت أهوي حتَّى كنت قائماً في مجلسي الذي كنت بين يديه، فحل حبوته عن ظهره، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ها هنا امض لما أمرت به‏)‏‏)‏‏.‏

فجلت في ظهره، فإذا أنا بخاتم في موضع غضون الكتف، مثل الحمحمة الضخمة‏.‏

هذا حديث غريب وإسناده لا بأس به تفرَّد به الإمام أحمد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/21‏)‏

 مصالحته عليه السَّلام ملك أيلة وأهل جرباء وأذرح قبل رجوعه من تبوك

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما انتهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى تبوك أتاه يحنة بن رؤبة صاحب إيلة، فصالح رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأعطاه الجزية‏.‏

وأتاه أهل جرباء وأذرح وأعطوه الجزية‏.‏

وكتب لهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كتاباً فهو عندهم‏.‏

وكتب ليحنة بن رؤبة وأهل إيلة‏:‏ ‏(‏‏(‏بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، هذه أمنة من الله، ومحمَّد النَّبيّ رسول الله ليحنة بن رؤبة، وأهل إيلة سفنهم وسيارتهم في البرِّ والبحر، لهم ذمة الله وذمة محمد النَّبيّ، ومن كان معهم من أهل الشَّام، وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثاً، فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وأنه طيب لمن أخذه من النَّاس، وأنه لا يحلّ أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقاً يردونه من برّ أو بحر‏)‏‏)‏‏.‏

زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق بعد هذا؛ وهذا كتاب جهيم بن الصَّلت، وشرحبيل بن حسنة بإذن رسول الله‏.‏

قال يونس عن ابن إسحاق، وكتب لأهل جرباء وأذرح‏:‏

‏(‏‏(‏بسم الله الرَّحمن الرَّحيم هذا كتاب من محمَّد النَّبيّ رسول الله، لأهل جرباء وأذرح، أنَّهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأنَّ عليهم مائة دينار في كل رجب، ومائة أوقية طيبة، وأنَّ الله عليهم كفيل بالنّصح والإحسان إلى المسلمين، ومن لجأ إليهم من المسلمين‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وأعطى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أهل أيلة بردة مع كتابه أماناً لهم‏.‏

قال‏:‏ فاشتراه بعد ذلك أبو العبَّاس، عبد الله بن محمد بثلاثمائة دينار‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/22‏)‏

 بعثه عليه السَّلام خالد بن الوليد إلى أُكَيْدِر دُومة

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم دعا خالد بن الوليد، فبعثه إلى أكيدر دومة، وهو أكيدر بن عبد الملك، رجل من بني كنانة، كان ملكاً عليها، وكان نصرانياً‏.‏

وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لخالد‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّك ستجده يصيد البقر‏)‏‏)‏‏.‏

فخرج خالد حتَّى إذا كان من حصنه بمنظر العين، وفي ليلة مقمرة صائفة، وهو على سطح له ومعه امرأته، وباتت البقر تحكُّ بقرونها باب القصر‏.‏

فقالت له امرأته‏:‏ هل رأيت مثل هذا قط‏؟‏

قال‏:‏ لا والله‏.‏

قالت‏:‏ فمن يترك هذا‏؟‏

قال‏:‏ لا أحد، فنزل فأمر بفرسه، فأُسرج له، وركب معه نفر من أهل بيته، فيهم أخ له، يقال له‏:‏ حسان، فركب وخرجوا معه بمطاردهم‏.‏

فلمَّا خرجوا تلقَّتهم خيل النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فأخذته وقتلوا أخاه، وكان عليه قباء من ديباج مخوَّص بالذَّهب، فاستلبه خالد فبعث به إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قبل قدومه عليه‏.‏

قال‏:‏ فحدَّثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أنس بن مالك قال‏:‏ رأيت قباء أُكَيدر حين قدم به على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم ويتعجبون منه‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أتعجبون من هذا فوالذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنَّة أحسن من هذا‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثمَّ إنَّ خالد بن الوليد لما قدم بأُكَيدر على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حقن له دمه، فصالحه على الجزية، ثمَّ خلَّى سبيله، فرجع إلى قريته، فقال رجل من بني طيء يقال له‏:‏ بجير بن بجرة في ذلك‏:‏

تَبَارَكَ سَائِقُ البَقَرَاتِ إِنِّي * رَأَيْتُ الله يَهْدِي كُلَّ هَادِ

فَمَنْ يَكُ حَائِدَاً عَنْ ذِي تَبوكٍ * فَإنَّا قَدْ أَمَرْنَا بِالِجهَادِ

وقد حكى البيهقي أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال لهذا الشاعر‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يفضض الله فاك‏)‏‏)‏‏.‏

فأتت عليه سبعون سنة ما تحرَّك له فيها ضرس ولا سن‏.‏

وقد روى ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعث خالداً مرجعه من تبوك في أربعمائة وعشرين فارساً إلى أُكَيدر دومة، فذكر نحو ما تقدَّم‏.‏

إلا أنَّه ذكر أنَّه ما كره حتَّى أنزله من الحصن‏.‏

وذكر أنَّه قدم مع أُكَيدر إلى رسول الله ثمانمائة من السّبي ألف بعير، وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح‏.‏

وذكر أنَّه لما سمع عظيم أيلة يحنة ابن رؤبة بقضية أُكَيدر دومة أقبل قادماً إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصالحه فاجتمعا عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بتبوك فالله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/23‏)‏

وروى يونس بن بكير عن سعد بن أوس، عن بلال بن يحيى أنَّ أبا بكر الصّديق كان على المهاجرين في غزوة دومة الجندل‏.‏

وخالد بن الوليد على الأعراب في غزوة دومة الجندل، فالله أعلم‏.‏

فصل

قال ابن إسحاق‏:‏ فأقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بضع عشرة ليلة لم يجاوزها، ثمَّ انصرف قافلاً إلى المدينة‏.‏

قال‏:‏ وكان في الطَّريق ماء يخرج من وشل يروي الرّاكب، والرّاكبين، والثّلاثة بواد يقال له‏:‏ وادي المشقق‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏من سبقنا إلى ذلك الماء فلا يستقين منه شيئاً، حتَّى نأتيه‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فسبقه إليه نفر من المنافقين، فاستقوا ما فيه‏.‏

فلمَّا أتاه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقف عليه فلم ير فيه شيئاً‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من سبقنا إلى هذا الماء‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقيل له‏:‏ يا رسول الله فلان وفلان‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أولم أنههم أن يستقوا منه حتَّى آتيه‏)‏‏)‏ ثمَّ لعنهم، ودعا عليهم، ثمَّ نزل فوضع يده تحت الوشل، فجعل يصبّ في يده ما شاء الله أن يصب، ثمَّ نضحه به، ومسحه بيده، ودعا بما شاء الله أن يدعو، فانخرق من الماء - كما يقول من سمعه - ما أن له حسّاً كحس الصّواعق، فشرب النَّاس، واستقوا حاجتهم منه‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لئن بقيتم أو من بقي منكم ليسمعن بهذا الوادي، وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدَّثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التّيميّ أنَّ عبد الله بن مسعود كان يحدِّث‏.‏

قال‏:‏ قمت من جوف اللَّيل، وأنا مع رسول الله في غزوة تبوك، فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر، فاتبعتها أنظر إليها‏.‏

قال‏:‏ فإذا رسول الله، وأبو بكر، وعمر، وإذا عبد الله ذو البجادين قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله في حفرته، وأبو بكر وعمر يدلِّيانه إليه، وإذا هو يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏أدنيا إليّ أخاكما‏)‏‏)‏ فدلَّياه إليه، فلمَّا هيَّأه لشقه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم إنِّي قد أمسيت راضياً عنه فارض عنه‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ يقول ابن مسعود‏:‏ يا ليتني كنت صاحب الحفرة‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ إنَّما سمي‏:‏ ذو البجادين، لأنَّه كان يريد الإسلام، فمنعه قومه، وضيَّقوا عليه، حتَّى خرج من بينهم، وليس عليه إلا بجاد - وهو الكساء الغليظ - فشقَّه بإثنين فائتزر بواحدة، وارتدى الأخرى، ثمَّ أتى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فسمي ذو البجادين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/24‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وذكر ابن شهاب الزُّهري عن ابن أكيمة الليثي، عن ابن أخي أبي رهم الغفاري، أنَّه سمع أبا رهم كلثوم بن الحصين، وكان من أصحاب الشّجرة يقول‏:‏

غزوت مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم غزوة تبوك، فسرت ذات ليلة معه، ونحن بالأخضر، وألقى الله عليّ النّعاس، وطفقت أستيقظ وقد دنت راحلتي من راحلة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فيفزعني دنوها منه، مخافة أن أصيب رجله في الغرز، فطفقت أحوز راحلتي عنه، حتَّى غلبتني عيني في بعض الطَّريق، فزاحمت راحلتي راحلته، ورجله في الغرز، فلم أستيقظ إلا بقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏حس‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ يا رسول الله استغفر لي‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏سر‏)‏‏)‏‏.‏

فجعل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يسألني عمن تخلَّف عنه من بني غفار، فأخبره به‏.‏

فقال وهو يسألني‏:‏ ‏(‏‏(‏ما فعل النفر الحمر الطّوال الثطاط الذين لا شعر في وجوههم‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فحدَّثته بتخلّفهم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فما فعل النَّفر السّود الجعاد القصار‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ والله ما أعرف هؤلاء منَّا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بلى الذين لهم نَعَمٌ بشبكة شدخ‏)‏‏)‏‏.‏

فتذكَّرتهم في بني غفار، فلم أذكرهم حتَّى ذكرت أنهم رهط من أسلم كانوا حلفاء فينا‏.‏

فقلت‏:‏ يا رسول الله أولئك رهط من أسلم حلفاء فينا‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما منع أحد أولئك حين تخلَّف أن يحمل على بعير من إبله امرءاً نشيطاً في سبيل الله، إنَّ أعز أهلي عليّ أن يتخلَّف عنِّي المهاجرون والأنصار، وغفار وأسلم‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبيرقال‏:‏ لما قفل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من تبوك إلى المدينة، همَّ جماعة من المنافقين بالفتك به، وأن يطرحوه من رأس عقبة في الطَّريق، فأخبر بخبرهم، فأمر النَّاس بالمسير من الوادي، وصعد هو العقبة، وسلكها معه أولئك النَّفر وقد تلثموا، وأمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أن يمشيا معه، عمار آخذ بزمام النَّاقة، وحذيفة يسوقها، فبينما هم يسيرون، إذ سمعوا بالقوم قد غشّوهم، فغضب رسول الله، وأبصر حذيفة غضبه، فرجع إليهم ومعه محجن، فاستقبل وجوه رواحلهم بمحجنه، فلمَّا رأوا حذيفة ظنّوا أن قد أظهر على ما أضمروه من الأمر العظيم، فأسرعوا حتَّى خالطوا النَّاس، وأقبل حذيفة حتَّى أدرك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأمرهما، فأسرعا حتَّى قطعوا العقبة، ووقفوا ينتظرون النَّاس‏.‏

ثمَّ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لحذيفة‏:‏ ‏(‏‏(‏هل عرفت هؤلاء القوم‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ ما عرفت إلا رواحلهم في ظلمة اللَّيل حين غشيتهم‏.‏

ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏علمتما ما كان من شأن هؤلاء الرَّكب‏؟‏‏)‏‏)‏

قالا‏:‏ لا، فأخبرهما بما كانوا تمالَّئوا عليه، وسماهم لهما، واستكتمهما ذلك‏؟‏

فقالا‏:‏ يا رسول الله أفلا تأمر بقتلهم‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أكره أن يتحدث النَّاس أنَّ محمَّداً يقتل أصحابه‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/25‏)‏

وقد ذكر ابن إسحاق هذه القصة إلا أنَّه ذكر أنَّ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم إنَّما أعلم بأسمائهم حذيفة بن اليمان وحده، وهذا هو الأشبه والله أعلم‏.‏

ويشهد له قول أبي الدرداء لعلقمة صاحب ابن مسعود‏:‏ أليس فيكم - يعني أهل الكوفة - صاحب السّواد، والوساد - يعني‏:‏ ابن مسعود - أليس فيكم صاحب السِّرّ الذي لا يعلمه غيره - يعني‏:‏ حذيفة - أليس فيكم الذي أجاره الله من الشَّيطان على لسان محمد - يعني‏:‏ عماراً -‏.‏

وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّه قال لحذيفة‏:‏ أقسمت عليك بالله أنا منهم‏؟‏

قال‏:‏ لا ولا أبرئ بعدك أحداً يعني‏:‏ حتَّى لا يكون مفشياً سرَّ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

قلت‏:‏ وقد كانوا أربعة عشر رجلاً‏.‏

وقيل‏:‏ كانوا اثني عشر رجلاً‏.‏

وذكر ابن إسحاق أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعث إليهم حذيفة بن اليمان فجمعهم له، فأخبرهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ما كان من أمرهم، وبما تمالَّئوا عليه‏.‏

ثمَّ سرد ابن إسحاق أسماءهم‏.‏

قال‏:‏ وفيهم أنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وهمّوا بما لم ينالوا‏}‏‏.‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 74‏]‏‏.‏

وروى البيهقي من طريق محمد بن مسلمة عن أبي إسحاق، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن حذيفة بن اليمان، قال‏:‏ كنت آخذاً بخطام ناقة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أقود به، وعمار يسوق النَّاقة - أو أنا أسوق النَّاقة وعمار يقود به - حتَّى إذا كنَّا بالعقبة، إذا باثني عشر رجلاً قد اعترضوه فيها‏.‏

قال‏:‏ فأنبهت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فصرخ بهم فولّوا مدبرين‏.‏

فقال لنا رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏هل عرفتم القوم‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قلنا‏:‏ لا يا رسول الله قد كانوا متلثمين، ولكنا قد عرفنا الرّكاب‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة، وهل تدرون ما أرادوا‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قلنا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أرادوا أن يزحموا رسول الله في العقبة، فيلقوه منها‏)‏‏)‏‏.‏

قلنا‏:‏ يا رسول الله أولا تبعث إلى عشائرهم حتَّى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا أكره أن يتحدَّث العرب بينها أنَّ محمَّداً قاتل لقومه، حتَّى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم‏)‏‏)‏‏.‏

ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم ارمهم بالدبيلة‏)‏‏)‏‏.‏

قلنا‏:‏ يا رسول الله، وما الدبيلة‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هي شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك‏)‏‏)‏

وفي صحيح مسلم من طريق شعبة عن قتادة، عن أبي نضرة، عن قيس بن عبادة قال‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/26‏)‏

قلت لعمار‏:‏ أرأيتم صنيعكم هذا فيما كان من أمر عليّ، أرأي رأيتموه أم شيء عهده إليكم رسول الله‏؟‏

فقال‏:‏ ما عهد إلينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم شيئاً لم يعهده إلى النَّاس كافة، ولكن حذيفة أخبرني عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال ‏(‏‏(‏في أصحابي إثنا عشر منافقاً منهم ثمانية لا يدخلون الجنَّة حتَّى يلج الجمل في سمِّ الخيَاط‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية من وجه آخر عن قتادة‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ في أمتي إثنى عشر منافقاً لا يدخلون الجنَّة حتَّى يلج الجمل في سمِّ الخيَاط، ثمانية منهم يكفيكهم الدبيلة، سراج من النَّار يظهر بين أكتافهم حتَّى ينجم من صدورهم‏)‏‏)‏‏.‏

قال الحافظ البيهقي‏:‏ وروينا عن حذيفة أنَّهم كانوا أربعة عشر - أو خمسة عشر - وأشهد بالله أنَّ اثنى عشر، منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدُّنيا، ويوم يقوم الأشهاد، وعذر ثلاثة أنَّهم قالوا‏:‏ ما سمعنا المنادي ولا علمنا بما أراد‏.‏

وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في مسنده قال‏:‏ حدَّثنا يزيد - هو ابن هارون - أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل قال‏:‏ لما أقبل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من غزوة تبوك أمر منادياً فنادى‏:‏ إنَّ رسول الله آخذٌ بالعقبة فلا يأخذها أحد، فبينما رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقوده حذيفة ويسوقه عمَّار إذ أقبل رهط متلثمون على الرَّواحل، فغشوا عماراً، وهو يسوق برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأقبل عمَّار يضرب وجوه الرَّواحل‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لحذيفة‏:‏ ‏(‏‏(‏قد قد‏)‏‏)‏‏.‏

حتَّى هبط رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من الوادي، فلمَّا هبط، ورجع عمَّار‏.‏

قال يا عمَّار‏:‏ ‏(‏‏(‏هل عرفت القوم‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ قد عرفت عامة الرَّواحل، والقوم متلثمون‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هل تدري ما أرادوا‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أرادوا أن ينفروا برسول الله فيطرحوه‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فسارَّ عمَّار رجلاً من أصحاب النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ نشدتك بالله كم تعلم كان أصحاب العقبة‏؟‏

قال‏:‏ أربعة عشر رجلاً‏.‏

فقال‏:‏ إن كنت فيهم فقد كانوا خمسة عشر‏.‏

قال‏:‏ فعذر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم منهم ثلاثة قالوا‏:‏ ما سمعنا منادي رسول الله، وما علمنا ما أراد القوم‏.‏

فقال عمَّار‏:‏ أشهد أنَّ الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدُّنيا، ويوم يقوم الأشهاد‏.‏