فصل: ترجمة هشام بن عبد الملك

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 وفيها توفي‏:‏

 القاسم بن أبي بزة

أبو عبد الله المكي القارئ، مولى عبد الله بن السائب، تابعي جليل‏.‏

روى عن‏:‏ أبي الطفيل عامر بن واثلة، وعنه جماعة، ووثقه الأئمة‏.‏

توفي في هذه السنة على الصحيح، وقيل‏:‏ بعدها بسنة، وقيل‏:‏ سنة أربع عشرة، وقيل‏:‏ سنة خمس عشرة، فالله أعلم‏.‏

 الزهري

محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة، أبو بكر القرشي الزهري، أحد الأعلام من أئمة الإسلام، تابعي جليل، سمع غير واحد من التابعين وغيرهم‏.‏

روى الحافظ ابن عساكر، عن الزهري، قال‏:‏ أصاب أهل المدينة جهد شديد فارتحلت إلى دمشق، وكان عندي عيال كثيرة‏.‏

فجئت جامعها فجلست في أعظم حلقة، فإذا رجل قد خرج من عند أمير المؤمنين عبد الملك، فقال‏:‏ إنه قد نزل بأمير المؤمنين مسألة - وكان قد سمع من سعيد بن المسيب فيها شيئاً، وقد شذَّ عنه في أمهات الأولاد يرويه عن عمر بن الخطاب -‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/373‏)‏

فقلت‏:‏ إني أحفظ عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب، فأخذني فأدخلني على عبد الملك‏:‏ فسألني ممن أنت‏؟‏

فانتسبت له، وذكرت له حاجتي وعيالي، فسألني هل تحفظ القرآن‏؟‏

قلت‏:‏ نعم، والفرائض والسنن‏.‏

فسألني عن ذلك كله فأجبته، فقضى ديني وأمر لي بجائزة، وقال لي‏:‏ أطلب العلم فإني أرى لك عيناً حافظةً وقلباً ذكياً‏.‏

قال‏:‏ فرجعت إلى المدينة أطلب العلم وأتتبعه، فبلغني أن امرأة بقباء رأت رؤيا عجيبة، فأتيتها فسألتها عن ذلك‏.‏

فقالت‏:‏ إن بعلي غاب وترك لنا خادماً وداجناً ونخيلات، نشرب من لبنها، ونأكل من ثمرها، فبينما أنا بين النائمة واليقظى رأيت كأن ابني الكبير - وكان مشتداً - قد أقبل فأخذ الشفرة فذبح ولد الداجن، وقال‏:‏ إن هذا يضيق علينا اللبن، ثم نصب القدر وقطعها ووضعها فيه، ثم أخذ الشفرة فذبح بها أخاه، وأخوه صغير كما قد جاء‏.‏

ثم استيقظت مذعورة، فدخل ولدي الكبير فقال‏:‏ أين اللبن‏؟‏

فقلت‏:‏ يا بني، شربه ولد الداجن‏.‏

فقال‏:‏ إنه قد ضيق علينا اللبن، ثم أخذ الشفرة فذبحه وقطعه في القدر‏.‏

فبقيت مشفقة خائفة مما رأيت، فأخذت ولدي الصغير فغيبته في بعض بيوت الجيران، ثم أقبلت إلى المنزل وأنا مشفقة جداً مما رأيت‏.‏

فأخذتني عيني فنمت فرأيت في المنام قائلاً يقول‏:‏ مالك مغتمة‏؟‏

فقلت‏:‏ إني رأيت مناماً فأنا أحذر منه‏.‏

فقال‏:‏ يا رؤيا يا رؤيا، فأقبلت امرأة حسناء جميلة، فقال‏:‏ ما أردت إلى هذه المرأة الصالحة‏؟‏ قالت‏:‏ ما أدرت إلا خيراً‏.‏

ثم قال‏:‏ يا أحلام يا أحلام، فأقبلت امرأة دونها في الحسن والجمال، فقال‏:‏ ما أردت إلى هذه المرأة الصالحة‏؟‏ فقالت‏:‏ ما أردت إلا خيراً‏.‏

ثم قال‏:‏ يا أضغاث يا أضغاث، فأقبلت امرأة سوداء شنيعة، فقال‏:‏ ما أردت إلى هذه المرأة الصالحة‏؟‏ فقالت‏:‏ إنها امرأة صالحة فأحببت أن أغمها ساعة‏.‏

ثم استيقظت فجاء ابني فوضع الطعام وقال‏:‏ أين أخي‏؟‏ فقلت‏:‏ درج إلى بيوت الجيران، فذهب وراءه فكأنما هدي إليه، فأقبل به يقبله، ثم جاء فوضعه وجلسنا جميعاً فأكلنا من ذلك الطعام‏.‏

ولد الزهري في سنة ثمان وخمسين في آخر خلافة معاوية، وكان قصيراً قليل اللحية، له شعرات طوال، خفيف العارضين‏.‏

قالوا‏:‏ وقد قرأ القرآن في نحو من ثمان وثمانين يوماً، وجالس سعيد بن المسيب ثمان سنين، تمس ركبته ركبته، وكان يخدم عبيد الله بن عبد الله يستسقي له الماء المالح، ويدور على مشايخ الحديث، ومعه ألواح يكتب عنهم فيها الحديث، ويكتب عنهم كل ما سمع منهم، حتى صار من أعلم الناس وأعملهم في زمانه، وقد احتاج أهل عصره إليه‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/374‏)‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا معمر، عن الزهري، قال‏:‏ كنا نكره كتاب العلم حتى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء، فرأينا أن لا نمنعه أحداً من المسلمين‏.‏

وقال أبو إسحاق‏:‏ كان الزهري يرجع من عند عروة فيقول لجارية عنده فيها لكنة‏:‏ ثنا عروة، ثنا فلان، ويسرد عليها ما سمعه منه، فتقول له الجارية‏:‏ والله ما أدري ما تقول، فيقول لها‏:‏ اسكتي لكاع، فإني لا أريدك إنما أريد نفسي‏.‏

ثم وفد على عبد الملك بدمشق كما تقدم فأكرمه وقضى دينه وفرض له في بيت المال، ثم كان بعد من أصحابه وجلسائه، ثم كان كذلك عند أولاده من بعده، الوليد وسليمان، وكذا عند عمر بن عبد العزيز، وعند يزيد بن عبد الملك، واستقضاه يزيد مع سليمان بن حبيب، ثم كان حظياً عند هشام، وحج معه وجعله معلم أولاده إلى أن توفي في هذه السنة، قبل هشام بسنة‏.‏

وقال ابن وهب‏:‏ سمعت الليث، يقول‏:‏ قال ابن شهاب‏:‏ ما استودعت قلبي شيئاً قط فنسيته‏.‏

قال‏:‏ وكان يكره أكل التفاح، وسؤر الفأرة، ويقول‏:‏ إنه ينسي‏.‏

وكان يشرب العسل ويقول‏:‏ إنه يذكي‏.‏

وفيه يقول فايد بن أقرم‏:‏

زر ذا وأثن على الكريم محمد * واذكر فواضله على الأصحاب

وإذا يقال من الجواد بماله * قيل‏:‏ الجواد محمد بن شهاب

أهل المدائن يعرفون مكانه * وربيع ناديه على الأعراب

يشري وفاء جفانه ويمدها * بكسور إنتاج وفتق لباب

وقال ابن مهدي‏:‏ سمعت مالكاً، يقول‏:‏ حدث الزهري يوماً بحديث، فلما قام أخذت بلجام دابته فاستفهمته فقال‏:‏ أتستفهمني‏؟‏ ما استفهمت عالماً قط، ولا رددت على عالم قط، ثم جعل ابن مهدي يقول‏:‏ فتلك الطوال وتلك المغازي‏.‏

وروى يعقوب بن سفيان، عن هشام بن خالد السلامي، عن الوليد بن مسلم، عن سعيد - يعني‏:‏ ابن عبد العزيز -، أن هشام بن عبد الملك، سأل الزهري أن يكتب لبنيه شيئاً من حديثه، فأملى على كاتبه أربعمائة حديث ثم خرج على أهل الحديث فحدثهم بها، ثم إن هشاماً قال للزهري‏:‏ إن ذلك الكتاب ضاع، فقال‏:‏ لا عليك، فأملى عليهم تلك الأحاديث، فأخرج هشام الكتاب الأول فإذا هو لم يغادر حرفاً واحداً، وإنما أراد هشام امتحان حفظه‏.‏

وقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ ما رأيت أحداً أحسن سوقاً للحديث إذا حدث من الزهري‏.‏

وقال سفيان بن عيينة‏:‏ عن عمرو بن دينار‏:‏ ما رأيت أحداً أنص للحديث من الزهري، ولا أهون من الدينار والدرهم عنده، وما الدراهم والدنانير عند الزهري إلا بمنزلة البعر‏.‏

قال عمرو بن دينار‏:‏ ولقد جالست جابراً، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، فما رأيت أحداً أسيق للحديث من الزهري‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ أحسن الناس حديثاً وأجودهم إسناداً الزهري‏.‏

وقال النسائي‏:‏ أحسن الأسانيد الزهري، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده علي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/375‏)‏

وقال سعيد، عن الزهري‏:‏ مكثت خمساً وأربعين سنة اختلفت من الحجاز إلى الشام، ومن الشام إلى الحجاز، فما كنت أسمع حديثاً استطرفه‏.‏

وقال الليث‏:‏ ما رأيت عالماً قط أجمع من ابن شهاب، ولو سمعته يحدث في الترغيب والترهيب لقلت‏:‏ ما يحسن غير هذا، وإن حدث عن الأنبياء وأهل الكتاب قلت‏:‏ لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن الأعراب والأنساب قلت‏:‏ لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن القرآن والسنة كان حديثه بدعاً جامعاً‏.‏

وكان يقول‏:‏ اللهم إني أسألك من كل خير أحاط به علمك، وأعوذ بك من كل شر أحاط به علمك في الدنيا والآخرة‏.‏

قال الليث‏:‏ وكان الزهري أسخى من رأيت، يعطي كل من جاء وسأله، حتى إذا لم يبق عنده شيء استسلف‏.‏

وكان يطعم الناس الثريد، ويسقيهم العسل، وكان يستمر على شراب العسل كما يستمر أهل الشراب على شرابهم، ويقول‏:‏ اسقونا وحدثونا، فإذا نعس أحدهم يقول له‏:‏ ما أنت من سمار قريش‏.‏

وكانت له قبة معصفرة، وعليه ملحفة معصفرة، وتحته بساط معصفر‏.‏

وقال الليث‏:‏ قال يحيى بن سعيد‏:‏ ما بقي عند أحد من العلم ما بقي عند ابن شهاب‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أنبأ معمر، قال‏:‏ قال عمر بن عبد العزيز‏:‏ عليكم بابن شهاب، فإنه ما بقي أحد أعلم بسنة ماضية منه، وكذا قال مكحول‏.‏

وقال أيوب‏:‏ ما رأيت أحداً أعلم من الزهري، فقيل له‏:‏ ولا الحسن‏؟‏ فقال‏:‏ ما رأيت أعلم من الزهري‏.‏

وقيل لمكحول‏:‏ من أعلم من لقيت‏؟‏ قال‏:‏ الزهري، قيل‏:‏ ثم من‏؟‏ قال‏:‏ الزهري، قيل‏:‏ ثم من‏؟‏ قال‏:‏ الزهري‏.‏

وقال مالك‏:‏ كان الزهري إذا دخل المدينة لم يحدث بها أحداً حتى يخرج‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن ابن عيينة‏:‏ محدثوا أهل الحجاز ثلاثة‏:‏ الزهري، ويحيى بن سعيد، وابن جريج‏.‏

وقال علي بن المديني‏:‏ الذين أفتوا أربعة‏:‏ الزهري، والحكم، وحماد، وقتادة، والزهري أفقههم عندي‏.‏

وقال الزهري‏:‏ ثلاثة إذا كن في القاضي فليس بقاض‏:‏ إذا كره الملاوم، وأحب المحامد، وكره العزل‏.‏

وقال أحمد بن صالح‏:‏ كان يقال‏:‏ فصحاء زمانهم‏:‏ الزهري، وعمر بن عبد العزيز، وموسى بن طلحة، وعبيد الله، رحمهم الله‏.‏

وقال مالك‏:‏ عن الزهري، أنه قال‏:‏ إن هذا العلم الذي أدب الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأدب رسول الله به أمته أمانة الله إلى رسوله ليؤديه على ما أدي إليه، فمن سمع علماً فليجعله أمامه حجة فيما بينه وبين الله عز وجل‏.‏

وقال محمد بن الحسين‏:‏ عن يونس، عن الزهري، قال‏:‏ الاعتصام بالسنة نجاة‏.‏

وقال الوليد‏:‏ عن الأوزاعي، عن الزهري، قال‏:‏ أمرِّوا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاءت‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ عن الزهري‏:‏ إن من غوائل العلم أن يترك العالم حتى يذهب علمه‏.‏

وفي رواية‏:‏ أن يترك العالم العمل بالعلم حتى يذهب، فإن من غوائله قلة انتفاع العالم بعلمه، ومن غوائله النسيان والكذب، وهو أشد الغوائل‏.‏

وقال أبو زرعة‏:‏ عن نعيم بن حماد، عن محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، قال‏:‏ القراءة على العالم والسماع عليه سواء إن شاء الله تعالى‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/376‏)‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ عن معمر، عن الزهري، قال‏:‏ إذا طال المجلس كان للشيطان فيه حظ ونصيب‏.‏

وقد قضى عنه هشام مرة ثمانين ألف درهم، وفي رواية‏:‏ سبعة عشرة ألفاً، وفي رواية‏:‏ عشرين ألفاً‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ عتب رجاء بن حيوة على الزهري في الإسراف وكان يستدين، فقال له‏:‏ لا آمن أن يحبس هؤلاء القوم ما بأيديهم عنك فتكون قد حملت على أمانيك، قال‏:‏ فوعده الزهري أن يقصر، فمر به بعد ذلك وقد وضع الطعام ونصب موائد العسل، فوقف به رجاء وقال‏:‏ يا أبا بكر ما هذا بالذي فارقتنا عليه، فقال له الزهري‏:‏ انزل فإن السخي لا تؤدبه التجارب‏.‏

وقد أنشد بعضهم في هذا المعنى‏:‏

له سحائب جود في أنامله * أمطارها الفضة البيضاء والذهب

يقول في العسر‏:‏ إن أيسرت ثانية * أقصرت عن بعض ما أعطي وما أهب

حتى إذا عاد أيام اليسار له * رأيت أمواله في الناس تنتهب

وقال الواقدي‏:‏ ولد الزهري سنة ثمان وخمسين، وقدم في سنة أربع وعشرين ومائة إلى أمواله بثلاث بشعب زبدا، فأقام بها فمرض هناك ومات وأوصى أن يدفن على قارعة الطريق، وكانت وفاته لسبع عشرة من رمضان في هذه السنة، وهو ابن خمس وسبعين سنة‏.‏

قالوا‏:‏ وكان ثقة كثير الحديث والعلم والرواية، فقيهاً جامعاً‏.‏

وقال الحسين بن المتوكل العسقلاني‏:‏ رأيت قبر الزهري بشعب زبدا من فلسطين مسنماً مجصصاً‏.‏

وقد وقف الأوزاعي يوماً على قبره فقال‏:‏

يا قبر كم فيك من علم ومن حلم * يا قبر كم فيك من علم ومن كرم * وكم جمعت روايات وأحكاماً‏.‏

وقال الزبير بن بكار‏:‏ توفي الزهري بأمواله بشعب ثنين، ليلة الثلاثاء لسبع عشر ليلة خلت من رمضان سنة أربع وعشرين ومائة، عن ثنتين وسبعين سنة، ودفن على قارعة الطريق ليدعو له المارة‏.‏

وقيل‏:‏ إنه توفي سنة ثلاث وعشرين ومائة، وقال أبو معشر‏:‏ سنة خمس وعشرين ومائة، والصحيح الأول، والله أعلم‏.‏

 فصل

وروى الطبراني، عن إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، قال‏:‏ أخبرني صالح بن كيسان، قال‏:‏ اجتمعت أنا والزهري ونحن نطلب العلم، فقلنا‏:‏ نحن نكتب السنن، فكتبنا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال لي‏:‏ هلم فلنكتب ما جاء عن أصحابه فإنه سنة، فقلت‏:‏ إنه ليس بسنة فلا تكتب ، قال‏:‏ فكتب ما جاء عنهم ولم أكتب، فأنحج وضيعت‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/377‏)‏

وروى الإمام أحمد‏:‏ عن معمر، قال‏:‏ كنا نرى أنا قد أكثرنا عن الزهري حتى قتل الوليد، فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من خزانته يقول‏:‏ من علم الزهري‏.‏

وروي عن الليث بن سعد، قال‏:‏ وضع الطست بين يدي ابن شهاب فتذكر حديثاً فلم تزل يده في الطست حتى طلع الفجر، وصححه‏.‏

وروى أصبغ بن الفرج، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، قال‏:‏ للعلم واد فإذا هبطت واديه فعليك بالتؤدة حتى تخرج منه، فإنك لا تقطعه حتى يقطع بك‏.‏

وقال الطبراني‏:‏ حدثنا أحمد بن يحيى تغلب، حدثنا الزبير بن بكار، حدثني محمد بن الحسن بن زبالة، عن مالك بن أنس، عن الزهري، قال‏:‏ خدمت عبيد الله بن عتبة، حتى أن كان خادمه ليخرج فيقول‏:‏ من بالباب‏؟‏ فتقول الجارية‏:‏ غلامك الأعيمش، فتظن أني غلامه، وإن كنت لأخدمه حتى أستقي له وضوءه‏.‏

وروى عبد الرحمن بن أحمد، عن محمد بن عباد، عن الثوري، عن مالك بن أنس، أراه عن الزهري، قال‏:‏ تبعت سعيد بن المسيب ثلاثة أيام في طلب حديث‏.‏

وروى الأوزاعي، عن الزهري، قال‏:‏ كنا نأتي العالم فما نتعلم من أدبه أحب إلينا من علمه‏.‏

وقال سفيان‏:‏ كان الزهري، يقول‏:‏ حدثني فلان، وكان من أوعية العلم، ولا يقول‏:‏ كان عالماً‏.‏

وقال مالك‏:‏ أول من دون العلم ابن شهاب‏.‏

وقال أبو المليح‏:‏ كان هشام هو الذي أكره الزهري على كتابة الحديث، فكان الناس يكتبون بعد ذلك‏.‏

وقال رشيد بن سعد‏:‏ قال الزهري‏:‏ العلم خزائن وتفتحها المسائل‏.‏

وقال الزهري‏:‏ كان يصطاد العلم بالمسألة كما يصطاد الوحش‏.‏

وكان ابن شهاب ينزل بالأعراب يعلمهم لئلا ينسى العلم، وقال‏:‏ إنما يذهب العلم النسيان وترك المذاكرة‏.‏

وقال‏:‏ إن هذا العلم إن أخذته بالمكابرة غلبك ولم تظفر منه بشيء، ولكن خذه مع الأيام والليالي أخذاً رفيقاً تظفر به‏.‏

وقال‏:‏ ما أحدث الناس مروءة أعجب إلي من الفصاحة‏.‏

وقال‏:‏ العلم ذكرٌ لا يحبه إلا الذكور من الرجال ويكرهه مؤنثوهم‏.‏

ومر الزهري على أبي حازم وهو يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ مالي أرى أحاديث ليس لها خطم ولا أزمة‏؟‏

وقال‏:‏ ما عبد الله بشيء أفضل من العلم‏.‏

وقال ابن مسلم أبي عاصم‏:‏ حدثنا دحيم، حدثنا الوليد بن مسلم، عن القاسم بن هزان، أنه سمع الزهري، يقول‏:‏ لا يوثق الناس علم عالم لا يعمل به، ولا يؤمن بقول عالم لا يرضى‏.‏

وقال ضمرة‏:‏ عن يونس، عن الزهري، قال‏:‏ إياك وغلول الكتب، قلت‏:‏ وما غلولها‏؟‏ قال‏:‏ حبسها عن أهلها‏.‏

وروى الشافعي، عن الزهري، قال‏:‏ حضور المجلس بلا نسخة ذل‏.‏

وروى الأصمعي، عن مالك بن أنس، عن ابن شهاب، قال‏:‏ جلست إلى ثعلبة بن أبي معين، فقال‏:‏ أراك تحب العلم‏؟‏ قلت‏:‏ نعم ‏!‏ قال‏:‏ فعليك بذاك الشيخ - يعني‏:‏ سعيد بن المسيب - قال‏:‏ فلزمت سعيداً سبع سنين ثم تحولت عنه إلى عروة ففجرت ثبج بحره‏.‏

وقال الليث‏:‏ قال ابن شهاب‏:‏ ما صبر أحد على علم صبري، وما نشره أحد قط نشري، فأما عروة بن الزبير فبئر لا تكدره الدلاء، وأما ابن المسيب فانتصب للناس فذهب اسمه كل مذهب‏.‏

وقال مكي بن عبدان‏:‏ حدثنا محمد بن عبد العزيز بن عبد الله الأوسي، حدثنا مالك بن أنس‏:‏ أن ابن شهاب سأله بعض بني أمية عن سعيد بن المسيب فذكر علمه بخير وأخبره بحاله، فبلغ ذلك سعيداً فلما قدم ابن شهاب المدينة جاء فسلم على سعيد فلم يرد عليه ولم يكلمه، فلما انصرف سعيد مشى الزهري معه، فقال‏:‏ مالي سلمت عليك فلم تكلمني‏؟‏ ماذا بلغك عني وما قلت إلا خيراً‏؟‏ قال له‏:‏ ذكرتني لبني مروان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/378‏)‏

قال أبو حاتم‏:‏ حدثنا مكي بن عبدان، حدثنا محمد بن يحيى، حدثني عطاف بن خالد المخزومي، عن عبد الأعلى بن عبد الله بن أبي فروة، عن ابن شهاب، قال‏:‏ أصاب أهل المدينة حاجة زمان فتنة عبد الملك بن مروان، فعمت أهل البلد، وقد خيل إلي أنه قد أصابنا أهل البيت من ذلك ما لم يصب أحداً من أهل البلد، وذلك لخبرتي بأهلي، فتذكرت‏:‏ هل من أحد أمتُّ إليه برحم أو مودة أرجو إن خرجت إليه أن أصيب عنده شيئاً‏؟‏ فما علمت من أحد أخرج إليه‏.‏

ثم قلت‏:‏ إن الرزق بيد الله عز وجل‏.‏

ثم خرجت حتى قدمت دمشق فوضعت رحلي ثم أتيت المسجد فنظرت إلى أعظم حلقة رأيتها وأكبرها فجلست فيها، فبينا نحن على ذلك إذ خرج رجل من عند أمير المؤمنين عبد الملك، كأجسم الرجال وأجملهم وأحسنهم هيئة، فجاء إلى المجلس الذي أنا فيه فتحثحثوا له - أي‏:‏ أوسعوا - فجلس فقال‏:‏ لقد جاء أمير المؤمنين اليوم كتاب ما جاءه مثله منذ استخلفه الله‏.‏

قالوا‏:‏ ما هو‏؟‏

قال‏:‏ كتب إليه عامله على المدينة هشام بن إسماعيل يذكر أن ابناً لمصعب بن الزبير من أم ولد مات، فأرادت أمه أن تأخذ ميراثاً منه، فمنعها عروة بن الزبير، وزعم أنه لا ميراث لها، فتوهم أمير المؤمنين حديثاً في ذلك سمعه من سعيد بن المسيب يذكر عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في أمهات الأولاد، ولا يحفظه الآن، وقد شذ عنه ذلك الحديث‏.‏

قال ابن شهاب‏:‏ فقلت‏:‏ أنا أحدثه به، فقام إلي قبيصة حتى أخذ بيدي ثم خرج حتى دخل الدار على عبد الملك‏.‏

فقال‏:‏ السلام عليك‏.‏

فقال له عبد الملك مجيباً‏:‏ وعليك السلام‏.‏

فقال قبيصة‏:‏ أندخل‏؟‏

فقال عبد الملك‏:‏ ادخل‏.‏

فدخل قبيصة على عبد الملك وهو آخذاً بيدي وقال‏:‏ هذا يا أمير المؤمنين يحدثك بالحديث الذي سمعته من ابن المسيب في أمهات الأولاد‏.‏

فقال عبد الملك‏:‏ إيه‏.‏

قال الزهري‏:‏ فقلت‏:‏ سمعت سعيد بن المسيب يذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بأمهات الأولاد أن يقوَّمن في أموال أبنائهن بقيمة عدل ثم يعتقن، فكتب عمر بذلك صدراً من خلافته‏.‏

ثم توفى رجل من قريش كان له ابن من أم ولد، وقد كان عمر يعجب بذلك الغلام، فمرَّ ذلك الغلام على عمر في المسجد بعد وفاة أبيه بليال، فقال له عمر‏:‏ ما فعلت يا ابن أخي في أمك‏؟‏ قال‏:‏ فعلت يا أمير المؤمنين خيراً، خيروني بين أن يسترقُّوا أمي‏.‏

فقال عمر‏:‏ أولست إنما أمرت في ذلك بقيمة عدل‏؟‏ ما أرى رأياً وما أمرت بأمر إلا قلتم فيه، ثم قام فجلس على المنبر فاجتمع الناس إليه حتى إذا رضي من جماعتهم قال‏:‏ أيها الناس ‏!‏ إني قد كنت أمرت في أمهات الأولاد بأمر قد علمتموه، ثم حدث رأي غير ذلك، فأيما امرئ كان عنده أم ولد فملكها بيمينه ما عاش، فإذا مات فهي حرة لا سبيل له عليها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/379‏)‏

فقال لي عبد الملك‏:‏ من أنت‏؟‏

قلت‏:‏ أنا محمد بن مسلم بن عبيد بن شهاب‏.‏

فقال‏:‏ أما والله إن كان أبوك لأباً نعَّاراً في الفتنة مؤذياً لنا فيها‏.‏

قال الزهري‏:‏ فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين، قل كما قال العبد الصالح‏:‏ ‏{‏قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 92‏]‏‏.‏

فقال‏:‏ أجل ‏!‏ لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم‏.‏

قال‏:‏ فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين، افرض لي فإني منقطع من الديوان‏.‏

فقال‏:‏ إن بلدك ما فرضنا فيه

لأحد منذ كان هذا الأمر، ثم نظر إلى قبيصة وأنا وهو قائمان بين يديه، فكأنه أومأ إليه أن افرض له، فقال‏:‏ قد فرض إليك أمير المؤمنين‏.‏

فقلت‏:‏ إني والله ما خرجت من عند أهلي إلا وهم في شدة وحاجة ما يعلمها إلا الله، وقد عمت الحاجة أهل البلد‏.‏

قال‏:‏ قد وصلك أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين وخادم يخدمنا، فإن أهلي ليس لهم خادم إلا أختي، فإنها الآن تعجن وتخبز وتطحن‏.‏

قال‏:‏ قد أخدمك أمير المؤمنين‏.‏

وروى الأوزاعي، عن الزهري أنه روى رسول الله صلى الله عليه و سلم، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت للزهري‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقال‏:‏ من الله العلم، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم، أمرُّوا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاءت‏.‏

وعن ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، قال‏:‏ كان عمر بن الخطاب يأمر برواية قصيدة لبيد بن ربيعة التي يقول فيها‏:‏

إن تقوى ربنا خير نَفَلْ * وبإذن الله ريثي والعجل

أحمد الله فلا ندَّ له * بيديه الخير ما شاء فعل

من هداه سبل الخير اهتدى * ناعم البال ومن شاء أضل

وقال الزهري‏:‏ دخلت على عبيد الله بن عبد الله بن عتبة منزله فإذا هو مغناظ ينفخ، فقلت‏:‏ مالي أراك هكذا‏؟‏

فقال‏:‏ دخلت على أميركم آنفاً - يعني‏:‏ عمر بن عبد العزيز - ومعه عبد الله بن عمرو بن عثمان فسلمت عليهما فلم يردا عليَّ السلام، فقلت‏:‏

لا تعجبا أن تؤتيا فتكلما * فما حشى الأقوام شراً من الكبر

ومسَّا تراب الأرض منه خلقتما * وفيها المعاد والمصير إلى الحشر

فقلت‏:‏ يرحمك الله ‏!‏‏!‏ مثلك في فقهك وفضلك وسنك تقول الشعر ‏؟‏‏!‏

فقال‏:‏ إن المصدور إذا نفث برأ‏.‏

وجاء شيخ إلى الزهري فقال‏:‏ حدثني، فقال‏:‏ إنك لا تعرف اللغة، فقال الشيخ‏:‏ لعلي أعرفها، فقال‏:‏ فما تقول في قول الشاعر‏:‏

صريع ندامى يرفع الشرب رأسه * وقد مات منه كل عضو ومفصل‏؟‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/380‏)‏

ما المفصل‏؟‏ قال‏:‏ اللسان، قال‏:‏ عد عليَّ أحدثك‏.‏

وكان الزهري يتمثل كثيراً بهذا‏:‏

ذهب الشباب فلا يعود جمانا * وكأن ما قد كان لم يك كانا

فطويت كفي يا جمان على العصا * وكفى جمان بطيِّها حدثانا

وكان نقش خاتم الزهري‏:‏ محمد يسأل الله العافية‏.‏

وقيل لابن أخي الزهري‏:‏ هل كان عمك يتطيب‏؟‏ قال‏:‏ كنت أشم ريح المسك من سوط دابة الزهري‏.‏

وقال‏:‏ استكثروا من شيء لا تمسه النار، قيل‏:‏ وما هو‏؟‏ قال‏:‏ المعروف‏.‏

وامتدحه رجل مرة فأعطاه قميصه، فقيل له‏:‏ أتعطي على كلام الشيطان‏؟‏ فقال‏:‏ إن من ابتغاء الخير اتقاء الشر‏.‏

وقال سفيان‏:‏ سئل الزهري عن الزاهد، فقال‏:‏ من لم يمنع الحلال شكره، ولم يغلب الحرام صبره‏.‏

وقال سفيان‏:‏ قالوا للزهري‏:‏ لو أنك الآن في آخر عمرك أقمت بالمدينة، فقعدت إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودرجت وجلسنا إلى عمود من أعمدته فذكرت الناس وعلمتهم‏؟‏

فقال‏:‏ لو أني فعلت ذلك لوطىء عقبي ولا ينبغي لي أن أفعل ذلك حتى أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة‏.‏

وكان الزهري يحدث‏:‏ أنه هلك في جبال بيت المقدس بضعة وعشرون نبياً، ماتوا من الجوع والعمل‏.‏

كانوا لا يأكلون إلا ما عرفوا، و لا يلبسون إلا ما عرفوا‏.‏

وكان يقول‏:‏ العبادة هي‏:‏ الورع والزهد، والعلم هو‏:‏ الحسنة، والصبر هو‏:‏ احتمال المكاره، والدعوة إلى الله على العمل الصالح‏.‏

وممن توفي في خلافة هشام بن عبد الملك كما أورده ابن عساكر‏:‏

بلال بن سعد

ابن تميم السكوني، أبو عمرو، وكان من الزهاد الكبار، والعباد الصوام القوام‏.‏

روى عن‏:‏ أبيه وكان أبوه له صحبه، وعن جابر، وابن عمر، وأبي الدرداء، وغيرهم‏.‏

وعنه جماعات منهم‏:‏ أبو عمر، و الأوزاعي، وكان الأوزاعي يكتب عنه ما يقوله من الفوائد العظيمة في قصصه ووعظه، وقال‏:‏ ما رأيت واعظاً قط مثله‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ ما بلغني عن أحد من العبادة ما بلغني عنه، كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة‏.‏

وقال غيره وهو‏:‏ الأصمعي‏:‏ كان إذا نعس في ليل الشتاء ألقى نفسه في ثيابه في البركة، فعاتبه بعض أصحابه في ذلك فقال‏:‏ إن ماء البركة أهون من عذاب جهنم‏.‏

وقال الوليد بن مسلم‏:‏ كان إذا كبَّر في المحراب سمعوا تكبيره من الأوزاع‏.‏ قلت‏:‏ وهي خارج باب الفراديس‏.‏

وقال أحمد بن عبد الله العجلي‏:‏ هو شامي تابعي ثقة‏.‏

وقال أبو زرعة الدمشقي‏:‏ كان أحد العلماء قاصاً حسن القصص، وقد اتهمه رجاء بن حيوة بالقدر حتى قال بلال يوماً في وعظه‏:‏ رب مسرور مغرور، ورب مغرور لا يشعر، فويل لمن له الويل وهو لا يشعر، يأكل ويشرب، ويضحك، وقد حق عليه في قضاء الله أنه من أهل النار، فيا ويل لك روحاً، فيا ويل لك جسداً، فلتبك ولتبك عليك البواكي لطول الأبد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/381‏)‏

وقد ساق ابن عساكر شيئاً حسناً من كلامه في مواعظه البليغة، فمن ذلك قوله‏:‏ والله لكفى به ذنباً أن الله يزهدنا في الدنيا ونحن نرغب فيها، زاهدكم راغب، وعالمك جاهل، ومجتهدكم مقصر‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ أخ لك كلما لقيك ذكرك بنصيبك من الله، وأخبرك بعيب فيك، أحب إليك، وخير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك ديناراً‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ لا تكن ولياً لله في العلانية وعدوه في السر، ولا تكن عدو إبليس والنفس والشهوات في العلانية وصديقهم في السر، ولا تكن ذا وجهين وذا لسانين فتظهر للناس أنك تخشى الله ليحمدوك وقلبك فاجر‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ أيها الناس إنكم لم تخلقوا للفناء وإنما خلقتم للبقاء، ولكنكم تنتقلون من دار إلى دار، كما نقلتم من الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى القبور، ومن القبور إلى الموقف، ومن الموقف إلى الجنة أو النار‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ عباد الرحمن ‏!‏ إنكم تعملون في أيام قصار لأيام طوال، وفي دار زوال إلى دار مقام، وفي دار حزن ونصب لدار نعيم وخلود، فمن لم يعمل على يقين فلا تنفعن‏.‏

عباد الرحمن ‏!‏ لو قد غفرت خطاياكم الماضية لكان فيما تستقبلون لكم شغلاً، ولو عملتم بما تعلمون لكان لكم مقتداً وملتجاً‏.‏

عباد الرحمن ‏!‏ أما ما وكلتم به فتضيعونه، وأما ما تكفل الله لكم به فتطلبونه، ما هكذا نعت الله عباده الموقنين، أذووا عقول في الدنيا وبله في الآخرة، وعمي عما خلقتم له بصراء في أمر الدنيا‏؟‏ فكما ترجون رحمة الله بما تؤدون من طاعته، فكذلك أشفقوا من عذابه بما تنتهكون من معاصيه‏.‏

عباد الرحمن ‏!‏ هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئاً من أعمالكم قد تقبل منكم‏؟‏ أو شيئاً من خطاياكم قد غفر لكم‏؟‏ ‏{‏أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 115‏]‏‏.‏

والله لو عجل لكم الثواب في الدنيا لاستقللتم ما فرض عليكم‏.‏

أترغبون في طاعة الله لدار معمورة بالآفات‏؟‏ ولا ترغبون وتنافسون في جنة أكلها دائم وظلها، وعرضها عرض الأرض والسماوات ‏{‏تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 35‏]‏‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ الذكر ذكران‏:‏ ذكر الله باللسان حسن جميل، وذكر الله عندما أحل وحرم أفضل‏.‏

عباد الرحمن ‏!‏ يقال لأحدنا‏:‏ تحب أن تموت‏؟‏

فيقول‏:‏ لا ‏!‏

فيقال له‏:‏ لم‏؟‏

فيقول‏:‏ حتى أعمل‏.‏

فيقال له‏:‏ اعمل‏.‏

فيقول‏:‏ سوف أعمل، فلا تحب أن تموت، ولا تحب أن تعمل، وأحب شيء إليه يحب أن يؤخر عمل الله، ولا يحب أن يؤخر الله عنه عرض دنياه‏.‏

عباد الرحمن ‏!‏ إن العبد ليعمل الفريضة الواحدة من فرائض الله وقد أضاع ما سواها، فما يزال يمنيه الشيطان ويزين له حتى ما يرى شيئاً دون الجنة، مع إقامته على معاصي الله‏.‏

عباد الرحمن ‏!‏ قبل أن تعملوا أعمالكم فانظروا ماذا تريدون بها، فإن كانت خالصة فامضوها وإن كانت لغير الله فلا تشقوا على أنفسكم، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً، فإنه قال‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ إن الله ليس إلى عذابكم بالسريع، يقبل المقبل ويدعو المدبر‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ إذا رأيت الرجل متحرجاً لحوحاً ممارياً معجباً برأيه فقد تمت خسارته‏.‏

وقال الأوزاعي‏:‏ خرج الناس بدمشق يستسقون فقام بهم بلال بن سعد فقال‏:‏ يا معشر من حضر ‏!‏ ألستم مقرين بالإساءة‏؟‏

قالوا‏:‏ نعم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/382‏)‏

فقال‏:‏ اللهم إنك قلت‏:‏ ‏{‏مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 91‏]‏ وقد أقررنا بالإساءة فاعف عنا واغفر لنا‏.‏

قال‏:‏ فسقوا يومهم ذلك‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ سمعته يقول‏:‏ لقد أدركت أقواماً يشتدون بين الأغراض، ويضحك بعضهم إلى بعض، فإذا جثهم الليل كانوا رهباناً‏.‏

وسمعته أيضاً يقول‏:‏ لا تنظر إلى صغر الذنب وانظر إلى من عصيت‏.‏

وسمعته يقول‏:‏ من بادأك بالود فقد استرقك بالشكر‏.‏

وكان من دعائه‏:‏ اللهم إني أعوذ بك من زيغ القلوب، ومن تبعات الذنوب، ومن مرديات الأعمال ومضلات العين‏.‏

وقال الأوزاعي، عنه، أنه قال‏:‏ عباد الرحمن ‏!‏ لو أنتم لم تدعوا إلى الله طاعة إلا عملتموها ولا معصية إلا اجتنبتموها، إلا أنكم تحبون الدنيا لكفاكم ذلك عقوبة عند الله عز وجل‏.‏

وقال‏:‏ إن الله يغفر الذنوب لمن تاب منها، ولكن لا يمحوها من الصحيفة حتى يوقف العبد عليها يوم القيامة‏.‏

 ترجمة الجعد بن درهم

هو أول من قال بخلق القرآن، وهو الذي ينسب إليه مروان الجعدي، وهو‏:‏ مروان الحمار، آخر خلفاء بني أمية‏.‏

كان شيخه‏:‏ الجعد بن درهم، أصله من خراسان، ويقال‏:‏ إنه من موالي بني مروان، سكن الجعد دمشق، وكانت له بها دار بالقرب من القلاسيين إلى جانب الكنيسة، ذكره ابن عساكر‏.‏

قلت‏:‏ وهي محلة من الخواصين اليوم غربيها عند حمام القطانين الذي يقال له‏:‏ حمام قلنيس‏.‏

قال ابن عساكر وغيره‏:‏ وقد أخذ الجعد بدعته عن بيان بن سمعان، وأخذها بيان عن طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم، زوج ابنته، وأخذها لبيد بن أعصم الساحر الذي سحر الرسول صلى الله عليه وسلم عن يهودي باليمن‏.‏

وأخذ عن الجعد الجهم بن صفوان الخزري، وقيل‏:‏ الترمذي‏.‏

وقد أقام ببلخ، وكان يصلي مع مقاتل بن سليمان في مسجده ويتناظران، حتى نفي إلى ترمذ، ثم قتل الجهم بأصبهان، وقيل‏:‏ بمرو، قتله نائبها مسلم بن أحوز رحمه الله وجزاه عن المسلمين خيراً‏.‏

وأخذ بشر المريسي عن الجهم، وأخذ أحمد بن أبي داود عن بشر‏.‏

وأما الجعد فإنه أقام بدمشق حتى أظهر القول بخلق القرآن، فتطلبه بنو أمية فهرب منهم فسكن الكوفة، فلقيه فيها الجهم بن صفوان فتقلد هذا القول عنه‏.‏

ثم إن خالد بن عبد الله القسري قتل الجعد يوم عيد الأضحى بالكوفة، وذلك أن خالداً خطب الناس فقال في خطبته تلك‏:‏ أيها الناس ‏!‏ ضحوا يقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً‏.‏ ثم نزل فذبحه في أصل المنبر‏.‏

وقد ذكر هذا غير واحد من الحفاظ منهم‏:‏ البخاري، وابن أبي حاتم، والبيهقي، وعبد الله بن أحمد، وذكره ابن عساكر في التاريخ‏.‏

وذكر أنه كان يتردد إلى وهب بن منبه، وأنه كان كلما راح إلى وهب يغتسل ويقول‏:‏ اجمع للعقل، وكان يسأل وهباً عن صفات الله عز وجل‏.‏

فقال له وهب يوماً‏:‏ ويلك يا جعد، اقصر المسألة عن ذلك، إني لأظنك من الهالكين، لو لم يخبرنا الله في كتابه أن له يداً ما قلنا ذلك، وأن له عيناً ما قلنا ذلك، وأن له نفساً ما قلنا ذلك، وأن له سمعاً ما قلنا ذلك، وذكر الصفات من العلم والكلام وغير ذلك، ثم لم يلبث الجعد أن صلب ثم قتل‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/383‏)‏

ذكره ابن عساكر، وذكر في ترجمت أنه قال للحجاج بن يوسف ويروى لعمران بن حطان‏:‏

ليث عليَّ وفي الحروب نعامة * فتخاء تجفل من صفير الصافر

هلا برزت إلى غزالة في الوغى * بل كان قلبك في جناحي طائر

 ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائة

قال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا رزق الله بن موسى، ثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، ثنا عبد الملك بن زيد، عن مصعب بن مصعب، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ترفع زينة الدنيا سنة خمس وعشرين ومائة‏)‏‏)‏‏.‏

وكذا رواه أبو يعلى في مسنده، عن أبي كريب، عن ابن أبي فديك، عن عبد الملك بن سعيد بن زيد بن نفيل، عن مصعب بن مصعب، عن الزهري، به‏.‏

قلت‏:‏ وهذا حديث غريب منكر، ومصعب بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزهري تكلم فيه، وضعفه علي بن الحسين بن جنيد، وكذا تكلم في الراوي عنه أيضاً، والله أعلم‏.‏

وفيها غزا النعمان بن يزيد بن عبد الملك الصائفة من بلاد الروم‏.‏

وفي ربيع الآخر منها توفي أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك بن مروان‏.‏

 ذكر وفاته وترجمته رحمه الله

هو هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، أبو الوليد القرشي الأموي الدمشقي، أمير المؤمنين‏.‏

وأمه أم هشام بنت هشام بن إسماعيل المخزومي، وكانت داره بدمشق عند باب الخواصين، وبعضها اليوم مدرسة نور الدين الشهيد التي يقال لها‏:‏ النورية الكبيرة، وتعرف بدار القبابين - يعني‏:‏ الذين يبيعون القباب وهي الخيام - فكانت تلك المحلة داره، والله أعلم‏.‏

وقد بويع له بالخلافة بعد أخيه يزيد بن عبد الملك بعهد منه إليه، وذلك يوم الجمعة لأربع بقين من شعبان سنة خمس ومائة، وكان له من العمر يومئذ أربع وثلاثون سنة‏.‏

وكان جميلاً أبيض أحول يخضب بالسواد، وهو الرابع من ولد عبد الملك الذين ولوا الخلافة، وقد كان عبد الملك رأى في المنام كأنه بال في المحراب أربع مرات، فدسَّ إلى سعيد بن المسيب من سأله عنها ففسرها له بأنه يلي الخلافة من ولده أربعة، فوقع ذلك، فكان هشام آخرهم، وكان في خلافته حازم الرأي جمَّاعاً للأموال يبخل، وكان ذكياً مدبراً له بصر بالأمور جليلها وحقيرها، وكان فيه حلم وأناة‏.‏

شتم مرة رجلاً من الأشراف فقال‏:‏ أتشتمني وأنت خليفة الله في الأرض‏؟‏

فاستحيا وقال‏:‏ اقتص مني بدلها أو قال‏:‏ بمثلها‏.‏

قال‏:‏ إذا أكون سفيهاً مثلك‏.‏

قال‏:‏ فخذ عوضاً‏.‏

قال‏:‏ لا أفعل‏.‏

قال‏:‏ فاتركها لله‏.‏

قال‏:‏ هي لله ثم لك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/384‏)‏

فقال هشام عند ذلك‏:‏ والله لا أعود إلى مثلها‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ أسمع رجل هشاماً كلاماً فقال له‏:‏ أتقول لي مثل هذا وأنا خليفتك‏؟‏

وغضب مرة على رجل فقال له‏:‏ اسكت وإلا ضربتك سوطاً‏.‏

وكان علي بن الحسين قد اقترض من مروان بن الحكم مالاً أربعة آلاف دينار، فلم يتعرض له أحد من بني مروان، حتى استخلف هشام فقال‏:‏ ما فعل حقنا قبلك‏؟‏

قال‏:‏ موفور مشكور‏.‏

فقال‏:‏ هو لك‏.‏

قلت‏:‏ هذا الكلام فيه نظر، وذلك أن علي بن الحسين مات سنة الفقهاء، وهي سنة أربع وتسعين، قبل أن يلي هشام الخلافة بإحدى عشرة سنة، فإنه إنما ولي الخلافة سنة خمس ومائة، فقول المؤلف‏:‏ إن أحداً من خلفاء بني مروان لم يتعرض لمطالبة علي بن الحسين حتى ولي هشام فطالبه بالمال المذكور، فيه نظر، ولا يصح لتقدم موت علي على خلافة هشام، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

وكان هشام من أكره الناس لسفك الدماء، ولقد دخل عليه من مقتل زيد بن علي وابنه يحيى أمر شديد وقال‏:‏ وددت أني افتديهما بجميع ما أملك‏.‏

وقال المدائني، عن رجل من حيي، عن بشر مولى هشام، قال‏:‏ أتى هشام برجل عنده قيان وخمر وبربط، فقال‏:‏ اكسروا الطنبور على رأسه وقرنه، فبكى الشيخ، قال بشر‏:‏ فضربه، قال‏:‏ أتراني أبكي للضرب، إنما أبكي لاحتقارك البربط حتى سميته طنبوراً‏.‏

وأغلظ لهشام رجل يوماً في الكلام فقال‏:‏ ليس لك أن تقول هذا لإمامك‏.‏

وتفقد أحد ولده يوم الجمعة فبعث إليه‏:‏ مالك لم تشهد الجمعة‏؟‏

فقال‏:‏ إن بغلتي عجزت عني، فبعث إليه‏:‏ أما كان يمكنك المشي، ومنعه أن يركب سنة، وأن يشهد الجمعة ماشياً‏.‏

وذكر المدائني‏:‏ أن رجلاً أهدى إلى هشام طيرين، فأوردهما السفير إلى هشام، وهو جالس على سرير في وسط داره، فقال له‏:‏ أرسلهما في الدار، فأرسلهما، ثم قال‏:‏ جائزتي يا أمير المؤمنين، فقال‏:‏ ويحك ‏!‏ وما جائزتك على هدية طيرين‏؟‏ خذ أحدهما، فجعل الرجل يسعى خلف أحدهما، فقال‏:‏ ويحك ‏!‏ ما بالك‏؟‏ فقال‏:‏ أختار أجودهما، قال‏:‏ وتختار أيضاً الجيد وتترك الرديء‏؟‏ ثم أمر له بأربعين أو خمسين درهماً‏.‏

وذكر المدائني، عن محرم، كاتب يوسف بن عمر، قال‏:‏ بعثني يوسف إلى هشام بياقوتة حمراء ولؤلؤة كانتا لرابعة، جارية خالد بن عبد الله القسري، مشترى الياقوتة ثلاثة وسبعون ألف دينار، قال‏:‏ فدخلت عليه وهو على سرير فوقه فرش لم أر رأس هشام من علو تلك الفرش، فأريتها له، فقال‏:‏ كم زنتها‏؟‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/385‏)‏

فقلت‏:‏ إن مثل هذه لا مثل لها، فسكت‏.‏

قالوا‏:‏ ورأى قوماً يفرطون الزيتون، فقالوا‏:‏ القطوه لقطاً ولا تنفضوه نفضاً، فتفقأ عيونه وتكسر غصونه‏.‏

وكان يقول‏:‏ ثلاثة لا يضعن الشريف‏:‏ تعاهد الصنيعة، وإصلاح المعيشة، وطلب الحق وإن قل‏.‏

وقال أبو بكر الخرائطي‏:‏ يقال إن هشاماً لم يقل من الشعر سوى هذا البيت‏:‏

إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى * إلى كل ما فيه عليك مقال

وقد روي له الشعر غير هذا‏.‏

وقال المدائني‏:‏ عن ابن يسار الأعرجي، حدثني ابن أبي بجيلة، عن عقال بن شبة، قال‏:‏ دخلت على هشام وعليه قباء فتك أخضر، فوجهني إلى خراسان، ثم جعل يوصيني وأنا انظر إلى القباء، ففطن فقال‏:‏ مالك‏؟‏

قلت‏:‏ عليك قباء فتك أخضر، وكنت رأيت عليك مثله قبل أن تلي الخلافة، فجعلت أتأمل هذا هو ذاك أم غيره‏.‏

قال‏:‏ والله الذي لا إله غيره هو ذاك، مالي قباء غيره، وما ترون من جمعي لهذا المال وصونه إلا لكم‏.‏

قال عقال‏:‏ وكان هشام محشواً بخلاً‏.‏

وقال عبد الله بن علي عم السفاح‏:‏ جمعت دواوين بني أمية فلم أر أصلح للعامة والسلطان من ديوان هشام‏.‏

وقال المدائني‏:‏ عن هشام بن عبد الحميد‏:‏ لم يكن أحد من بني مروان أشد نظراً في أصحابه ودواوينه، ولا أشد مبالغة في الفحص عنهم من هشام، وهو الذي قتل غيلان القدري، ولما أحضر بين يديه قال له‏:‏ ويحك ‏!‏ قل ما عندك، إن كان حقاً اتبعناه، وإن كان باطلاً رجعت عنه‏.‏

فناظره ميمون بن مهران فقال لميمون أشياء فقال له‏:‏ أيعصي الله كارهاً‏؟‏

فسكت غيلان فقيَّده حينئذ هشام وقتله‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ عن أبي الزناد، عن منذر بن أبي، وقال‏:‏ أصبنا في خزائن هشام اثني عشر ألف قميص كلها قد أثر بها‏.‏

وشكى هشام إلى أبيه ثلاثاً‏:‏ إحداها‏:‏ أنه يهاب الصعود إلى المنبر، والثانية‏:‏ قلة تناول الطعام، والثالثة‏:‏ أن عنده في القصر مائة جارية من حسان النساء لا يكاد يصل إلى واحدة منهن‏.‏

فكتب إليه أبوه‏:‏ أما صعودك إلى المنبر‏:‏ فإذا علوت فوقه فارم ببصرك إلى مؤخر الناس فإنه أهون عليك، وأما قلة الطعام‏:‏ فمر الطباخ فليكثر الألوان فعلك أن تتناول من كل لون لقمة، وعليك بكل بيضاء بضَّة، ذات جمال وحسن‏.‏

وقال أبو عبد الله الشافعي‏:‏ لما بنى هشام بن عبد الملك الرصافة قال‏:‏ أحب أن أخلو بها يوماً لا يأتيني فيه خبر غم، فما انتصف النهار حتى أتته ريشة دم من بعض الثغور، فقال‏:‏ ولا يوماً واحداً ‏؟‏‏!‏

وقال سفيان بن عيينة‏:‏ كان هشام لا يكتب إليه بكتاب فيه ذكر الموت‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/386‏)‏

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة‏:‏ ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، ثنا حسين بن زيد، عن شهاب بن عبد ربه، عن عمر بن علي، قال‏:‏ مشيت مع محمد بن علي - يعني‏:‏ ابن الحسين بن علي بن أبي طالب - إلى داره عند الحمام فقلت له‏:‏ إنه قد طال ملك هشام وسلطانه، وقد قرب من العشرين سنة، وقد زعم الناس أن سليمان سأل ربه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فزعم الناس أنها العشرون‏.‏

فقال‏:‏ ما أدري ما أحاديث الناس، ولكن أبي حدثني، عن أبيه، عن علي، عن النبي صلى الله عليه و سلم، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لن يعمِّر الله ملكاً في أمة نبي مضى قبله ما بلغ ذلك النبي من العمر في أمته، فإن الله عمَّر نبيه صلى الله عليه و سلم ثلاث عشر سنة بمكة وعشراً في بالمدينة‏)‏‏)‏‏.‏

وقال ابن أبي خيثمة‏:‏ ليس حديث فيه توقيت غير هذا، قرأه يحيى بن معين على كتابي، فقال‏:‏ من حدثك به‏؟‏ فقلت‏:‏ إبراهيم، فتلهف أن لا يكون سمعه، وقد رواه ابن جرير في تاريخه، عن أحمد بن زهير، عن إبراهيم بن المنذر الحزامي‏.‏

وروى مسلم بن إبراهيم، ثنا القاسم بن الفضل، حدثني عباد بن المعرا الفتكي، عن عاصم بن المنذر بن الزبير، عن عبد الله بن الزبير، أنه سمع علياً، يقول‏:‏ هلاك ملك بني أمية على رجل أحول - يعني‏:‏ هشاماً -‏.‏

وروى أبو بكر بن أبي الدنيا، عن عمر بن أبي معاذ النميري، عن أبيه، عن عمرو بن كليع، عن سالم كاتب هشام بن عبد الملك، قال‏:‏ خرج علينا يوماً هشام وعليه كآبة وقد ظهر عليه الحزن، فاستدعى الأبرش بن الوليد فجاءه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين مالي أراك هكذا ‏؟‏

فقال‏:‏ مالي لا أكون وقد زعم أهل العلم بالنجوم أني أموت إلى ثلاث وثلاثين من يومي هذا‏.‏

قال‏:‏ فكتبنا ذلك، فلما كان آخر ليلة من ذلك جاءني رسوله في الليل يقول‏:‏ أحضر معك دواء للذبحة‏.‏

وكان قد أصابته قبل ذلك فاستعمل منه فعوفي، فذهبت إليه ومعي ذلك الدواء فتناوله وهو في وجع شديد، واستمر فيه عامة الليل‏.‏

ثم قال‏:‏ يا سالم اذهب إلى منزلك فقد وجدت خفة وذر الدواء عندي‏.‏

فذهبت فما هو إلا أن وصلت إلى منزلي حتى سمعت الصياح عليه فجئت فإذا هو قد مات‏.‏

وذكر غيره‏:‏ أن هشاماً نظر إلى أولاد وهم يبكون حوله فقال‏:‏ جاد لكم هشام بالدنيا، وجدتم عليه بالبكاء، وترك لكم ما جمع، وتركتم له ما كسب، ما أسوأ منقلب هشام إن لم يغفر الله له‏.‏

ولما مات جاءت الخزنة فختموا على حواصله وأرادوا تسخين الماء فلم يقدروا له على فحم حتى استعاروا له‏.‏

وكان نقش خاتمه‏:‏ الحكم للحكم الحكيم‏.‏

وكانت وفاته بالرصافة يوم الأربعاء لست بقين من ربيع الآخر، سنة خمس وعشرين ومائة، وهو ابن بضع وخمسين سنة، وقيل‏:‏ إنه جاوز الستين، وصلى عليه الوليد بن يزيد بن عبد الملك، الذي ولي الخلافة بعده‏.‏

وكانت خلافة هشام تسع عشرة سنة وسبعة أشهر وأحد عشر يوماً، وقيل‏:‏ وثمانية أشهر وأيام، فالله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/387‏)‏

وقال ابن أبي فديك‏:‏ ثنا عبد الملك بن زيد، عن مصعب، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ترفع زينة الدنيا سنة خمس وعشرين ومائة‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن أبي فديك‏:‏ زينتها نور الإسلام وبهجته‏.‏

وقال غيره‏:‏ - يعني‏:‏ الرجال -، والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ لما مات هشام بن عبد الملك مات ملك بني أمية، وتولى وأدبر أمر الجهاد في سبيل الله، واضطرب أمرهم جداً، وإن كانت قد تأخرت أيامهم بعده نحواً من سبع سنين، ولكن في اختلاف وهيج، ومازالوا كذلك حتى خرجت عليهم بنو العباس فاستلبوهم نعمتهم وملكهم، وقتلوا منهم خلقاً وسلبوهم الخلافة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ذلك، مبسوطاً مقدراً في مواضع، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

بحمد الله تعالى قد تم الجزء التاسع من البداية والنهاية ويليه الجزء العاشر‏.‏