فصل: خلافة المعتصم بالله

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 خلافة المعتصم بالله أبي إسحاق بن هارون

بويع له بالخلافة يوم مات أخوه المأمون بطرسوس يوم الخميس الثاني عشر من رجب من سنة ثماني عشرة ومائتين، وكان إذ ذاك مريضاً، وهو الذي صلى على أخيه المأمون، وقد سعى بعض الأمراء في ولاية العباس بن المأمون فخرج عليهم العباس فقال‏:‏ ما هذا الخلف البارد‏؟‏ أنا قد بايعت عمي المعتصم‏.‏

فسكن الناس وخمدت الفتنة وركب البرد بالبيعة للمعتصم إلى الآفاق، وبالتعزية بالمأمون‏.‏

فأمر المعتصم بهدم ما كان بناه المأمون في مدينة طوانة، ونقل ما كان حوِّل إليها من السلاح وغيره إلى حصون المسلمين، وأذن الفعلة بالانصراف إلى بلدانهم، ثم ركب المعتصم بالجنود قاصداً بغداد وصحبته العباس بن المأمون، فدخلها يوم السبت مستهل رمضان في أبهة عظيمة وتجمل تام‏.‏

وفيها‏:‏ دخل خلق كثير من أهل همذان وأصبهان وماسبذان ومهرجان في دين الخرَّمية، فتجمع منهم بشر كثير، فجهز إليهم المعتصم جيوشاً كثيرة آخرهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب في جيش عظيم، وعقد له على الجبال، فخرج في ذي القعدة وقرئ كتابه بالفتح يوم التروية، وأنه قهر الخرَّمية وقتل منهم خلقاً كثيراً، وهرب بقيتهم إلى بلاد الروم‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 308‏)‏

وعلى يدي هذا جرت فتنة الإمام أحمد وضرب بين يديه كما سيأتي بسط ذلك في ترجمة أحمد في سنة إحدى وأربعين ومائتين‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 بشر المريسي

وهو بشر بن غياث، بن أبي كريمة، أبو عبد الرحمن المريسي المتكلم شيخ المعتزلة، وأحد من أضل المأمون‏.‏

وقد كان هذا الرجل ينظر أولاً في شيء من الفقه، وأخذ عن أبي يوسف القاضي، وروى الحديث عنه وعن‏:‏ حماد بن سلمة، وسفيان بن عيينة، وغيرهم، ثم غلب عليه علم الكلام، وقد نهاه الشافعي عن تعلمه وتعاطيه فلم يقبل منه‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ لئن يلقى الله العبد بكل ذنب ما عدا الشرك أحب إلي من أن يلقاه بعلم الكلام‏.‏

وقد اجتمع بشر بالشافعي عندما قدم بغداد‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ جدد القول بخلق القرآن وحكي عنه أقوال شنيعة، وكان مرجئياً وإليه تنسب المريسية من المرجئة‏.‏

وكان يقول‏:‏ إن السجود للشمس والقمر ليس بكفر، وإنما هو علامة للكفر‏.‏

وكان يناظر الشافعي وكان لا يحسن النحو، وكان يلحن لحناً فاحشاً‏.‏

ويقال‏:‏ إن أباه كان يهودياً صبَّاغاً بالكوفة، وكان يسكن درب المريسي ببغداد‏.‏

والمريس عندهم هو‏:‏ الخبز الرقاق يمرس بالسمن والتمر‏.‏

قال‏:‏ ومريس ناحية ببلاد النوبة تهب عليها في الشتاء ريح باردة‏.‏

وفيها توفي‏:‏

عبد الله بن يوسف الشـيـبي، وأبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر الغساني الدمشقي، ويحيى بن عبد الله البابلتي‏.‏

وأبو محمد عبد الملك بن هشام

ابن أيوب المعافري، راوي السيرة عن زياد بن عبد الله البكائي، عن ابن إسحاق مصنفها، وإنما نسبت إليه فيقال‏:‏ سيرة ابن هشام، لأنه هذبها وزاد فيها ونقص منها، وحرر أماكن واستدرك أشياء‏.‏

وكان إماماً في اللغة والنحو، وقد كان مقيماً بمصر واجتمع به الشافعي حين وردها، وتناشدا من أشعار العرب شيئاً كثيراً‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/309‏)‏

كانت وفاته بمصر لثلاث عشرة خلت من ربيع الآخر من هذه السنة، قاله ابن يونس في تاريخ مصر‏.‏

وزعم السهيلي أنه توفي في سنة ثلاث عشرة كما تقدم، فالله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائتين

فيها‏:‏ ظهر محمد بن القاسم بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بالطالقان من خراسان يدعو إلى الرضى من آل محمد، واجتمع عليه خلق كثير وقاتله قواد عبد الله بن طاهر مرات متعددة، ثم ظهروا عليه وهرب فأخذ ثم بعث به إلى عبد الله بن طاهر فبعث به إلى المعتصم فدخل عليه للنصف من ربيع الآخر، فأمر به فحبس في مكان ضيق طوله ثلاثة أذرع في ذراعين، فمكث فيه ثلاثاً، ثم حوِّل لأوسع منه وأجرى عليه رزق ومن يخدمه، فلم يزل محبوساً هناك إلى ليلة عيد الفطر فاشتغل الناس بالعيد فدلَّي له حبل من كوة كان يأتيه الضوء منها، فذهب فلم يدر كيف ذهب و إلى أين صار من الأرض‏.‏

وفي يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى‏:‏ دخل إسحاق بن إبراهيم إلى بغداد راجعاً من قتال الخرَّمية، ومعه أسارى منهم، وقد قتل في حربه منهم مائة ألف مقاتل‏.‏

وفيها‏:‏ بعث المعتصم عجيفاً في جيش كثيف لقتال الزط الذين عاثوا فساداً في بلاد البصرة، وقطعوا الطريق ونهبوا الغلات، فمكث في قتالهم تسعة أشهر فقهرهم وقمع شرهم وأباد خضراهم‏.‏

وكان القائم بأمرهم رجل يقال له‏:‏ محمد بن عثمان ومعه آخر يقال له‏:‏ سملق، وهو داهيتهم وشيطانهم، فأراح الله المسلمين منه ومن شره‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ سليمان بن داود الهاشمي شيخ الإمام أحمد، وعبد الله بن الزبير الحميدي صاحب المسند، وتلميذ الشافعي، وعلي بن عياش، وأبو نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، وأبو بحار الهندي‏.‏

 ثم دخلت سنة عشرين ومائتين من الهجرة

في يوم عاشوراء‏:‏ دخل عجيف في السفن إلى بغداد ومعه من الزط سبعة وعشرون ألفاً قد جاؤوا بالأمان إلى الخليفة، فأنزلوا في الجانب الشرقي ثم نفاهم إلى عين زربة، فأغارت الروم عليهم فاجتاحوهم عن آخرهم، ولم يفلت منهم أحد، فكان آخر العهد بهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 310‏)‏

وفيها‏:‏ عقد لمعتصم للأفشين واسمه‏:‏ حيدر بن كاوس على جيش عظيم لقتال بابك الخرَّمي لعنه الله، وكان قد استفحل أمره جداً، وقويت شوكته، وانتشرت أتباعه في أذربيجان وما والاها‏.‏

وكان أول ظهوره في سنة إحدى ومائتين، وكان زنديقاً كبيراً وشيطاناً رجيماً، فسار الأفشين وقد أحكم صناعة الحرب في الأرصاد وعمارة الحصون وإرصاد المدد، وأرسل إليه المعتصم مع بغا الكبير أموالاً جزيلة نفقة لمن معه من الجند والأتباع، فالتقى هو وبابك فاقتتلا قتالاً شديداً، فقتل الأفشين من أصحاب بابك خلقاً كثيراً أزيد من مائة ألف، وهرب هو إلى مدينته فأوى فيها مكسوراً، فكان هذا أول ما تضعضع من أمر بابك، وجرت بينهما حروب يطول ذكرها، وقد استقصاها ابن جرير‏.‏

وفيها‏:‏ خرج المعتصم من بغداد فنزل القاطول فأقام بها‏.‏

وفيها‏:‏ غضب المعتصم على الفضل بن مروان بعد المكانة العظيمة، وعزله عن الوزراة وحبسه وأخذ أمواله وجعل مكانه محمد بن عبد الملك بن الزيات‏.‏

وحج بالناس فيها صالح بن علي بن محمد أمير السنة الماضية في الحج‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ آدم بن أبي إياس، وعبد الله بن رجاء، وعفان بن مسلمة، وقالون أحد مشاهير القراء، وأبو حذيفة الهندي‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائتين

فيها‏:‏ كانت وقعة هائلة بين بغا الكبير وبابك فهزم بابك بغا وقتل خلقاً من أصحابه‏.‏

ثم اقتتل الأفشين وبابك فهزمه أفشين وقتل خلقاً من أصحابه بعد حروب طويلة قد استقصاها ابن جرير‏.‏

وحج بالناس فيها نائب مكة محمد بن داود بن عيسى بن موسى العباسي‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 311‏)‏

 وفيها توفي‏:‏ عاصم بن علي، وعبد الله بن مسلم القعنبي، وعبدان، وهشام بن عبيد الله الرازي‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وعشرين ومائتين

فيها‏:‏ جهز المعتصم جيشاً كثيراً مدداً للأفشين على محاربة بابك، وبعث إليه ثلاثين ألف ألف درهم نفقة للجند، فاقتتلوا قتالاً عظيماً، وافتتح الأفشين البذ مدينة بابك واستباح ما فيها، وذلك يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان‏.‏

وذلك بعد محاصرة وحروب هائلة وقتال شديد وجهد جهيد‏.‏

وقد أطال ابن جرير بسط ذلك جدا ً‏.‏

وحاصل الأمر أنه افتتح البلد وأخذ جميع ما فيه من الأموال مما قدر عليه‏.‏

ذكر مسك بابك

لما احتوى المسلمين على بلده المسمى‏:‏ بالبذ وهي دار ملكه ومقر سلطته هرب بمن معه من أهله وولده ومعه أمه وامرأته، فانفرد في شرذمة قليلة ولم يبق معهم طعام، فاجتازوا بحراث فبعث غلامه إليه وأعطاه ذهباً فقال‏:‏ أعطه الذهب وخذ ما معه من الخبز‏.‏

فنظر شريك الحراث إليه من بعيد وهو يأخذ منه الخبز، فظن أنه قد اغتصبه منه، فذهب إلى حصن هناك فيه نائب للخليفة يقال له‏:‏ سهل بن سنباط ليستعدي على ذلك الغلام، فركب بنفسه وجاء فوجد الغلام فقال‏:‏ ما خبرك ‏؟‏

فقال‏:‏ لاشيء، إنما أعطيته دنانير وأخذت منه الخبز‏.‏

فقال‏:‏ ومن أنت ‏؟‏

فأراد أن يعمي عليه الخبر فألح عليه فقال‏:‏ من غلمان بابك‏.‏

فقال‏:‏ وأين هو ‏؟‏

فقال‏:‏ هاهو ذا جالس يريد الغداء‏.‏

فسار إليه سهل بن سنباط فلما رآه ترجل وقبل يده وقال‏:‏ يا سيدي أين تريد ‏؟‏

قال‏:‏ أريد أن أدخل بلاد

الروم‏.‏

فقال‏:‏ إلى عند من تذهب أحرز من حصني وأنا غلامك وفي خدمتك ‏؟‏

وما زال به حتى خدعه وأخذه معه إلى الحصن فأنزله عنده وأجرى عليه النفقات الكثيرة والتحف وغير ذلك، وكتب إلى الأفشين يعلمه، فأرسل إليه أميرين لقبضه، فنزلا قريباً من الحصن، وكتبا إلى ابن سنباط فقال‏:‏ أقيما مكانكما حتى يأتيكما أمري‏.‏

ثم قال لبابك‏:‏ إنه قد حصل لك هم وضيق من هذا الحصن وقد عزمت على الخروج اليوم إلى الصيد ومعنا بزاة وكلاب، فإن أحببت أن تخرج معنا لتشرح صدرك وتذهب همك فافعل‏.‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

فخرجوا وبعث ابن سنباط إلى الأميرين أن كونوا مكان كذا وكذا في وقت كذا وكذا من النهار، فلما كانا بذلك الموضع أقبل الأميران بمن معهما من الجنود فأحاطوا ببابك وهرب ابن سنباط، فلما رأوه جاؤوا إليه فقالوا‏:‏ ترجل عن دابتك‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/312‏)‏

فقال‏:‏ ومن أنتما ‏؟‏

فذكرا أنهما من عند الأفشين، فترجل حينئذ عن دابته وعليه دراعة بيضاء وخف قصير وفي يده باز، فنظر إلى ابن سنباط فقال‏:‏ قبحك الله فهلا طلبت مني من المال ما شئت كنت أعطيتك أكثر مما يعطيك هؤلاء ‏!‏

ثم أركبوه وأخذوه معهما إلى الأفشين، فلما اقتربوا منه خرج فتلقاه وأمر الناس أن يصطفوا صفين، وأمر بابك أن يترجل فيدخل بين الناس وهو ماش، ففعل ذلك، وكان يوماً مشهوداً جداً، وكان ذلك في شوال من هذه السنة، ثم احتفظ به وسجنه عنده، ثم كتب الأفشين إلى المعتصم بذلك فأمره أن يقدم به وبأخيه، وكان قد مسكه أيضاً‏.‏

وكان اسم أخي بابك‏:‏ عبد الله، فتجهز الأفشين بهما إلى بغداد في تمام هذه السنة ففرغت ولم يصل بهما إلى بغداد‏.‏

وحج بالناس فيها الأمير المتقدم ذكره في التي قبلها‏.‏

وفيها توفي‏:‏ أبو اليمان الحكم بن نافع، وعمر بن حفص بن عياش، ومسلم بن إبراهيم، ويحيى بن صالح الوحاظي‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين

في يوم الخميس ثالث صفر منها‏:‏ دخل الأفشين وصحبته بابك على المعتصم سامراً، ومعه أيضاً أخو بابك في تجمل عظيم، وقد أمر المعتصم ابنه هارون الواثق أن يتلقى الأفشين، وكانت أخباره تفد إلى المعتصم في كل يوم من شدة اعتناء المعتصم بأمر بابك، وقد ركب المعتصم قبل وصول بابك بيومين على البريد حتى دخل إلى بابك وهو لا يعرفه، فنظر إليه ثم رجع، فلما كان يوم دخوله عليه تأهب المعتصم واصطف الناس سماطين وأمر بابك أن يركب على فيل ليشهر أمره ويعرفوه، وعليه قباء ديباج وقلنسوة سمور مدورة، وقد هيأوا الفيل وخضبوا أطرافه ولبسّوه من الحرير والأمتعة التي تليق به شيئاً كثيراً، وقد قال فيه بعضهم‏:‏

قد خضّب الفيل كعاداته * يحمل شيطان خراسان

والفيل لا تخضب أعضاؤه * إلا لذي شأن من الشان

ولما أحضر بين يدي المعتصم أمر بقطع يديه ورجليه وجز رأسه وشق بطنه، ثم أمر بحمل رأسه إلى خراسان وصلب جثته على خشبة بسامرَّا، وكان بابك قد شرب الخمر ليلة قتله وهي ليلة الخميس لثلاث عشرة خلت من ربيع الآخر من هذه السنة‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 313‏)‏

وكان هذا الملعون قد قتل من المسلمين في مدة ظهوره - وهي‏:‏ عشرون سنة - مائتي ألف وخمسة وخمسين ألفاً وخمسمائة إنسان - قاله ابن جرير -وأسر خلقاً لا يحصون، وكان جملة من استنقذه الأفشين من أسره نحواً من سبعة آلاف وستمائة إنسان، وأسر من أولاده سبعة عشر رجلاً، ومن حلائله وحلائل أولاده ثلاثة وعشرين امرأة من الخواتين‏.‏

وقد كان أصل بابك من جارية زرية الشكل جداً، فآل به الحال إلى ما آل به إليه، ثم أراح الله المسلمين من شره بعدما افتتن به خلق كثير وجم غفير من العوام الطغام‏.‏

ولما قتله المعتصم توَّج الأفشين وقلده وشاحين من جوهر، وأطلق له عشرين ألف ألف درهم، وكتب له بولاية السند، وأمر الشعراء أن يدخلوا عليه فيمدحوه على ما فعل من الخير إلى المسلمين، وعلى تخريبه بلاد بابك التي يقال لها‏:‏ البذ وتركه إياها قيعاناً خراباً‏.‏

فقالوا في ذلك فأحسنوا، وكان من جملتهم أبو تمام الطائي وقد أورد قصيدته بتمامها ابن جرير وهي قوله‏:‏

بذّ الجلاد البذ فهو دفين * ما إن بها إلا الوحوش قطين

لم يقر هذا السيف هذا الصبر في * هيجاء إلا عزّ هذا الدين

قد كان عذرة سوددٍ فافتضّها * بالسيف فحل المشرق الأفشين

فأعادها تعوي الثعالب وسطها * ولقد ترى بالأمس وهي عرين

هطلت عليها من جماجم أهلها * ديم إمارتها طلى وشؤون

كانت من المهجات قبل مفازة * عسراً فأضحت وهي منه معين

وفي هذه السنة - أعني‏:‏ سنة ثلاث وعشرين ومائتين - أوقع ملك الروم توفيل بن ميخائيل بأهل ملطية من المسلمين وما والاها ملحمة عظيمة، قتل فيها خلقاً كثيراً من المسلمين، وأسر ما لا يحصون كثرة، وكان من جملة من أسر ألف امرأة من المسلمات‏.‏

ومثَّل بمن وقع في أسره من المسلمين فقطع آذانهم وأنوفهم وسمل أعينهم قبحه الله‏.‏

وكان سبب ذلك أن بابك لما أحيط به في مدينة البذ استوسقت الجيوش حوله وكتب إلى ملك الروم يقول له‏:‏ إن ملك العرب قد جهز إلي جمهور جيشه ولم يبق في أطراف بلاده من يحفظها، فإن كنت تريد الغنيمة فانهض سريعاً إلى ما حولك من بلاده فخذها فإنك لا تجد أحداً يمانعك عنها‏.‏

فركب توفيل بمائة ألف وانضاف إليه المحمرة الذين كانوا قد خرجوا في الجبال وقاتلهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فلم يقدر عليهم لأنهم تحصنوا بتلك الجبال فلما قدم ملك الروم صاروا معه على المسلمين، فوصلوا إلى ملطية فقتلوا من أهلها خلقاً كثيراً وأسروا نساءهم‏.‏

فلما بلغ ذلك المعتصم انزعج لذلك جداً وصرخ في قصره بالنفير، ثم نهض من فوره وأمر بتعبئة الجيوش واستدعى القاضي والشهود فأشهدهم أن ما يملكه من الضياع ثلثه صدقة وثلثه لولده وثلثه لمواليه‏.‏

وخرج من بغداد فعسكر غربي دجلة يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الأولى ووجه بين يديه عجيفاً وطائفة من الأمراء ومعهم خلق من الجيش إعانة لأهل زبطرة، فأسرعوا السير فوجدوا ملك الروم قد فعل ما فعل وانشمر راجعاً إلى بلاده، وتفارط الحال ولم يمكن الاستدراك فيه، فرجعوا إلى الخليفة لإعلامه بما وقع من الأمر‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/314‏)‏

فقال للأمراء أي بلاد الروم أمنع ‏؟‏

قالوا‏:‏ عمورية لم يعرض لها أحد منذ كان الإسلام، وهي أشرف عندهم من القسطنطينة‏.‏

 فتح عمورية على يد المعتصم

لما تفرغ المعتصم من بابك وقتله وأخذ بلاده استدعى بالجيوش إلى بين يديه وتجهز جهازاً لم يجهزه أحد كان قبله من الخلفاء، وأخذ معه من آلات الحرب والأحمال والجمال والقرب والدواب والنفط والخيل والبغال شيئاً لم يسمع بمثله‏.‏

وسار إلى عمورية في جحافل أمثال الجبال، وبعث الأفشين حيدر بن كاوس من ناحية سروج، وعبى جيوشه تعبئة لم يسمع بمثلها، وقدم بين يديه الأمراء المعروفين بالحرب، فانتهى في سيره إلى نهر اللسى وهو قريب من طرسوس، وذلك في رجب من هذه السنة‏.‏

وقد ركب ملك الروم في جيشه فقصد نحو المعتصم فتقاربا حتى كان بين الجيشين نحو من أربعة فراسخ، ودخل الأفشين بلاد الروم من ناحية أخرى، فجاؤوا في أثره وضاق ذرعه بسبب ذلك إن هو ناجز الخليفة جاءه الأفشين من خلفه فالتقيا عليه فيهلك، وإن اشتغل بأحدهما وترك الآخر أخذه من خلفه‏.‏

ثم اقترب منه الأفشين فسار إليه ملك الروم في شرذمة من جيشه واستخلف على بقية جيشه قريباً له فالتقيا هو والأفشين في يوم الخميس لخمس بقين من شعبان منها، فثبت الأفشين في ثاني الحال وقتل من الروم خلقاً وجرح آخرين، وتغلب على ملك الروم‏.‏

وبلغه أن بقية الجيش قد شردوا عن قرابته وذهبوا عنه وتفرقوا عليه فأسرع الأوبة فإذا نظام الجيش قد انحل، فغضب على قرابته وضرب عنقه وجاءت الأخبار بذلك كله إلى المعتصم فسره ذلك وركب من فوره وجاء إلى أنقره ووافاه الأفشين بمن معه إلى هناك، فوجدوا أهلها قد هربوا منه فتقووا منها بما وجدوا من طعام وغيره، ثم فرق المعتصم جيشه ثلاث فرق فالميمنة عليها الأفشين، والميسرة عليها أشناس، والمعتصم في القلب، وبين كل عسكرين فرسخان، وأمر كل أمير من الأفشين وأشناس أن يجعل لجيشه ميمنة وميسرة وقلباً ومقدمة وساقة، وأنهم مهما مروا عليه من القرى حرقوه وخربوه وأسروا وغنموا‏.‏

وسار بهم كذلك قاصداً إلى عمورية، وكان بينها وبين مدينة أنقره سبع مراحل، فأول من وصل إليها من الجيش أشناس أمير الميسرة ضحوة يوم الخميس لخمس خلون من رمضان من هذه السنة، فدار حولها دورة ثم نزل على ميلين منها، ثم قدم المعتصم صبيحة يوم الجمعة بعده، فدار حولها دورة ثم نزل قريباً منها، وقد تحصن أهلها تحصناً شديداً وملأوا أبراجها بالرجال والسلاح، وهي مدينة عظيمة كبيرة جداً ذات سور منيع وأبراج عالية كبار كثيرة‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/315‏)‏

وقسّم المعتصم الأبراج على الأمراء فنزل كل أمير تجاه الموضع الذي أقطعه وعينه له، ونزل المعتصم قبالة مكان هناك قد أرشد إليه، أرشده إليه بعض من كان فيها من المسلمين‏.‏

وكان قد تنصر عندهم وتزوج منهم، فلما رأى أمير المؤمنين والمسلمين رجع إلى الإسلام وخرج إلى الخليفة فأسلم وأعلمه بمكان في السور كان قد هدمه السيل وبني بناء ضعيفاً بلا أساس‏.‏

فنصب المعتصم المجانيق حول عمورية فكان أول موضع انهدم من سورها ذلك الموضع الذي دلهم عليه ذلك الأسير، فبادر أهل البلد فسدوه بالخشب الكبار المتلاصقة فألح عليها المنجنيق فجعلوا فوقها البرادع ليردوا حدة الحجر فلم تغن شيئاً، و انهدم السور من ذلك الجانب وتفسخ‏.‏

فكتب نائب البلد إلى ملك الروم يعلمه بذلك، وبعث ذلك مع غلامين من قومهم فلما اجتازوا بالجيش في طريقهما أنكر المسلمين أمرهما فسألوهما‏:‏ ممن أنتما ‏؟‏

فقالا‏:‏ من أصحاب فلان - لأمير سموه من أمراء المسلمين -‏.‏

فحملا إلى المعتصم فقررهما فإذا معهما كتاب مناطس نائب عمورية إلى ملك الروم يعلمه بما حصل لهم من الحصار، وأنه عازم على الخروج من أبواب البلد بمن معه بغتة على المسلمين ومناجزهم القتال كائناً في ذلك ما كان‏.‏

فلما وقف المعتصم على ذلك أمر بالغلامين فخلع عليهما، وأن يعطى كل غلام منهما بدرة، فأسلما من فورهما فأمر الخليفة أن يطاف بهما حول البلد وعليهما الخلع، وأن يوقفا تحت حصن مناطس فينثر عليهما الدراهم والخلع، ومعهما الكتاب الذي كتب به مناطس إلى ملك الروم فجعلت الروم تلعنها وتسبهما‏.‏

ثم أمر المعتصم عند ذلك بتجديد الحرس والاحتياط والاحتفاظ من خروج الروم بغتة، فضاقت الروم ذرعاً بذلك، وألح عليهم المسلمون في الحصار، وقد زاد المعتصم في المجانيق والدبابات وغير ذلك من آلات الحرب‏.‏

ولما رأى المعتصم عمق خندقها وارتفاع سورها، أعمل المجانيق في مقاومة السور، وكان قد غنم في الطريق غنماً كثيراً جداً ففرقها في الناس وأمر أن يأكل كل رجل رأساً ويجيء بملء جلده تراباً فيطرحه في الخندق، ففعل الناس ذلك فتساوى الخندق بوجه الأرض من كثرة ما طرح فيه من الأغنام، ثم أمر بالتراب فوضع فوق ذلك حتى صار طريقاً ممهداً، وأمر بالدبابات أن توضع فوقه فلم يحوج الله إلى ذلك‏.‏

وبينما الناس في الجسر المردوم إذ هدم المنجنيق ذلك الموضع المعيب، فلما سقط ما بين البرجين سمع الناس هدة عظيمة فظنها من لم يرها أن الروم قد خرجوا على المسلمين بغتة، فبعث المعتصم من نادى في الناس‏:‏ إنما ذلك سقوط السور‏.‏

ففرح المسلمون بذلك فرحاً شديداً، لكن لم يكن ما هدم يسع الخيل والرجال إذا دخلوا‏.‏

وقوي الحصار وقد وكلت الروم بكل برج من أبراج السور أميراً يحفظه، فضعف ذلك الأمير الذي هدمت ناحيته من السور عن مقاومة ما يلقاه من الحصار، فذهب إلى مناطس فسأله نجدة فامتنع أحد من الروم أن ينجده وقالوا‏:‏ لا نترك ما نحن موكلون في حفظه‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 316‏)‏

فلما يئس منهم خرج إلى المعتصم ليجتمع به‏.‏

فلما وصل إليه أمر المعتصم المسلمين أن يدخلوا البلد من تلك الثغرة التي قد خلت من المقاتلة، فركب المسلمون نحوها فجعلت الروم يشيرون إليهم ولا يقدرون على دفاعهم، فلم يلتفت إليهم المسلمون‏.‏

ثم تكاثروا عليهم ودخلوا البلد قهراً، وتتابع المسلمون إليها يكبرون، وتفرقت الروم عن أماكنها فجعل المسلمون يقتلونهم في كل مكان حيث وجدوهم، وقد حشروهم في كنيسة لهم هائلة ففتحوها قسراً وقتلوا من فيها وأحرقوا عليهم باب الكنيسة فاحترقت فأحرقوا عن آخرهم‏.‏

ولم يبق فيها موضع محصن سوى المكان الذي فيه النائب، وهو مناطس في حصن منيع، فركب المعتصم فرسه وجاء حتى وقف بحذاء الحصن الذي فيه مناطس فناداه المنادي‏:‏ ويحك يا مناطس ‏!‏ هذا أمير المؤمنين واقف تجاهك‏.‏

فقالوا‏:‏ ليس بمناطس ههنا مرتين‏.‏

فغضب المعتصم من ذلك وولى فنادى مناطس‏:‏ هذا مناطس، هذا مناطس‏.‏

فرجع الخليفة ونصب السلالم على الحصن وطلعت الرسل إليه فقالوا له‏:‏ ويحك ‏!‏ انزل على حكم أمير المؤمنين‏.‏

فتمنع ثم نزل متقلداً سيفاً فوضع السيف في عنقه ثم جيء به حتى أوقف بين يدي المعتصم فضربه بالسوط على رأسه ثم أمر به أن يمشي إلى مضرب الخليفة مهاناً إلى الوطاق الذي فيه الخليفة نازل، فأوثق هناك‏.‏

وأخذ المسلمون من عمورية أموالاً لا تحد ولا توصف فحملوا منها ما أمكن حمله، وأمر المعتصم بإحراق ما بقي من ذلك، وبإحراق ما هنالك من المجانيق والدبابات وآلات الحرب لئلا يتقوى بها الروم على شيء من حرب المسلمين، ثم انصرف المعتصم راجعاً إلى ناحية طرسوس في آخر شوال من هذه السنة‏.‏

وكانت إقامته على عمورية خمسة وعشرين يوماً‏.‏

 مقتل العباس بن المأمون

كان العباس مع عمه المعتصم في غزوة عمورية، وكان عجيف بن عنبسة قد ندّمه إذ لم يأخذ الخلافة بعد أبيه المأمون بطرسوس حين مات بها، ولامه على مبايعته عمه المعتصم، ولم يزل به حتى أجابه إلى الفتك بعمه وأخذ البيعة من الأمراء له، وجهز رجلاً يقال له‏:‏ الحارث السمرقندي، وكان نديماً للعباس، فأخذ له البيعة من جماعة من الأمراء في الباطن، واستوثق منهم وتقدم إليهم أنه يلي الفتك بعمه، فلما كانوا بدرب الروم وهم قاصدون إلى أنقره ومنها إلى عمورية، أشار عجيف على العباس أن يقتل عمه في هذا المضيق ويأخذ له البيعة ويرجع إلى بغداد، فقال العباس‏:‏ إني أكره أن أعطل على الناس هذه الغزوة‏.‏

فلما فتحوا عمورية واشتغل الناس بالمغانم أشار عليه أن يقتله فوعده مضيق الدرب إذا رجعوا‏.‏

فلما رجعوا فطن المعتصم بالخبر فأمر بالاحتفاظ وقوة الحرس وأخذ بالحزم واجتهد بالعزم، واستدعى بالحارث السمرقندي فاستقره فأقر له بجملة الأمر، وأخذ البيعة للعباس بن المأمون من جماعة من الأمراء أسماهم له، فاستكثرهم المعتصم واستدعى بابن أخيه العباس فقيَّده وغضب عليه وأهانه‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 317‏)‏

ثم أظهر له أنه قد رضي عنه وعفا عنه، فأرسله من القيد وأطلق سراحه، فلما كان من الليل استدعاه إلى حضرته في مجلس شرابه واستخلى به حتى سقاه واستحكاه عن الذي كان قد دبره من الأمر، فشرح له القضية، وذكر له القصة، فإذا الأمر كما ذكر الحارث السمرقندي‏.‏

فلما أصبح استدعى بالحارث فأخلاه وسأله عن القضية ثانياً فذكرها له كما ذكرها أول مرة، فقال‏:‏ ويحك ‏!‏ إني كنت حريصاً على ذلك فلم أجد إلى ذلك سبيلاً بصدقك إياي في هذه القصة‏.‏

ثم أمر المعتصم حينئذ بابن أخيه العباس فقيِّد وسلم إلى الأفشين، وأمر بعجيف وبقية الأمراء الذين ذكرهم فاحتفظ عليهم، ثم أخذهم بأنواع النقمات التي اقترحها لهم، فقتل كل واحد منهم بنوع لم يقتل به الآخر‏.‏

ومات العباس بن المأمون بمنبج فدفن هناك، وكان سبب موته أنه أجاعه جوعاً شديداً، ثم جيء بأكل كثير فأكل منه وطلب الماء فمنع منه حتى مات، وأمر المعتصم بلعنه على المنبر وسماه‏:‏ اللعين‏.‏

وقتل جماعة من ولد المأمون أيضاً‏.‏

وحج بالناس فيها محمد بن داود‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ بابك الخرَّمي، قتل وصلب كما قدمنا‏.‏

وخالد بن خراش، وعبد الله بن صالح، كاتب الليث بن سعد، ومحمد بن سنان العوفي، وموسى بن إسماعيل‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائتين

فيها‏:‏ خرج رجل بآمل طبرستان يقال له‏:‏ مازيار بن قارن بن يزداهرمز، وكان لا يرضى أن يدفع الخراج إلى نائب خراسان عبد الله بن طاهر بن الحسين، بل يبعثه إلى الخليفة ليقبضه منه، فيبعث الخليفة من يتلقى الحمل إلى بعض البلاد ليقبضه منه ثم يدفعه إلى ابن طاهر، ثم آل أمره إلى أن وثب على تلك البلاد وأظهر المخالفة للمعتصم‏.‏

وقد كان المازيار هذا ممن يكاتب بابك الخرَّمي ويعده بالنصر‏.‏

ويقال‏:‏ إن الذي قوَّى رأس مازيار على ذلك الأفشين ليعجز عبد الله بن طاهر عن مقاومته فيوليه المعتصم بلاد خراسان مكانه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 318‏)‏

فبعث إليه المعتصم محمد بن إبراهيم بن مصعب - أخا إسحاق بن إبراهيم - في جيش كثيف فجرت بينهم حروب طويلة استقصاها ابن جرير، وكان آخر ذلك أسر المازيار وحمله إلى ابن طاهر، فاستقره عن الكتب التي بعثها إليه الأشفين فأقر بها، فأرسله إلى المعتصم وما معه من أمواله التي احتفظت للخليفة، وهي أشياء كثيرة جداً، من الجواهر والذهب والثياب‏.‏

فلما أوقف بين يدي الخليفة سأله عن كتب الأفشين إليه فأنكرها، فأمر به فضرب بالسياط حتى مات وصلب إلى جانب بابك الخرَّمي على جسر بغداد، وقتل عيون أصحابه وأتباعه‏.‏

وفيها‏:‏ تزوج الحسن بن الأفشين بأترجة بنت أشناس ودخل بها في قصر المعتصم بسامرا في جمادى، وكان عرساً حافلاً، وليه المعتصم بنفسه، حتى قيل‏:‏ إنهم كانوا يخضبون لحا العامية بالغالية‏.‏

وفيها‏:‏ خرج منكجور الأشروسني قرابة الأفشين بأرض أذربيجان وخلع الطاعة، وذلك أن الأفشين كان قد استنابه على بلاد أذربيجان حين فرغ من أمر بابك، فظفر منكجور بمال عظيم مخزون لبابك في بعض البلدان، فأخذه لنفسه وأخفاه عن المعتصم وظهر على ذلك رجل يقال له‏:‏ عبد الله بن عبد الرحمن فكتب إلى الخليفة في ذلك فكتب منكجور يكذبه في ذلك، وهم به ليقتله فامتنع منه بأهل أردبيل‏.‏

فلما تحقق الخليفة كذب منكجور بعث إليه بغا الكبير فحاربه وأخذه بالأمان وجاء به إلى الخليفة‏.‏

وفيها‏:‏ مات مناطس الرومي نائب عمورية، وذلك أن المعتصم أخذه معه أسيراً فاعتقله بسامرا حتى مات في هذه السنة‏.‏

 وفي رمضان منها مات‏:‏

 إبراهيم بن المهدي بن المنصور

عم المعتصم، ويعرف‏:‏ بابن شكله، وكان أسود اللون ضخماً فصيحاً فاضلاً‏.‏

قال ابن ماكولا‏:‏ وكان يقال له‏:‏ الصيني - يعني‏:‏ لسواده - وقد كان ترجمه ابن عساكر ترجمة حافلة، وذكر أنه ولي إمرة دمشق نيابة عن الرشيد أخيه مدة سنتين ثم عزله عنها ثم أعاده إليها الثانية فأقام بها أربع سنين‏.‏

وذكر من عدله وصرامته أشياء حسنة، وأنه أقام للناس الحج سنة أربع وثمانين، ثم عاد إلى دمشق، ولما بويع بالخلافة في أول خلافة المأمون سنة ثنتين ومائتين قاتله الحسن بن سهل نائب بغداد، فهزمه إبراهيم هذا، فقصده حميد الطوسي فهزم إبراهيم واختفى إبراهيم ببغداد حين قدمها المأمون‏.‏

ثم ظفر به المأمون فعفا عنه وأكرمه‏.‏

وكانت مدة ولايته الخلافة سنة وإحدى عشر شهراً واثنا عشر يوماً‏.‏

وكان بدء اختفائه في أواخر ذي الحجة سنة ثلاث ومائتين، فمكث مختفياً ست سنين وأربعة أشهر وعشراً‏.‏

قال الخطيب‏:‏ كان إبراهيم بن المهدي هذا وافر الفضل، غزير الأدب، واسع النفس، سخي الكف، وكان معروفاً بصناعة الغناء، حاذقاً فيها، وقد قلَّ المال عليه في أيام خلافته ببغداد فألح الأعراب عليه في أعطياهم فجعل يسوِّف بهم‏.‏

ثم خرج إليهم رسوله يقول‏:‏ إنه لا مال عنده اليوم‏.‏

فقال بعضهم‏:‏ فليخرج الخليفة إلينا فليغن لأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات، ولأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات‏.‏

فقال في ذلك دعبل شاعر المأمون يذم إبراهيم بن المهدي‏:‏

يا معشر الأعراب لا تغلطوا * خذوا عطاياكم ولا تسخطوا

فسوف يعطيكم حنينية * لا تدخل الكيس ولا تربط

والمعبديات لقوادكم * وما بهذا أحد يغبط

فهكذا يرزق أصحابه * خليفة مصحفه البربط

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 319‏)‏

وكتب إلى ابن أخيه المأمون حين طال عليه الاختفاء‏:‏ وليُّ الثأر محكم في القصاص والعفو أقرب للتقوى، وقد جعل الله أمير المؤمنين فوق كل عفو، كما جعل كل ذي نسب دونه، فإن عفا فبفضله وإن عاقب فبحقه‏.‏

فوقع المأمون في جواب ذلك‏:‏ القدرة تذهب الحفيظة، وكفى بالندم إنابة وعفو الله أوسع من كل شيء‏.‏

ولما دخل عليه أنشأ يقول‏:‏

إن أكن مذنباً فحظي أخطأت * فدع عنك كثرة التأنيب

قل كما قال يوسف لبني يعقو * ب لما أتوه لا تثريب

فقال المأمون‏:‏ لا تثريب‏.‏

وروى الخطيب أن إبراهيم لما وقف بين يدي المأمون شرع يؤنبه على ما فعل فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ حضرت أبي وهو جدك وقد أتي برجل ذنبه أعظم من ذنبي فأمر بقتله‏.‏

فقال مبارك بن فضالة‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إن رأيت أن تؤخر قتل هذا الرجل حتى أحدثك حديثاً‏.‏

فقال‏:‏ قل‏.‏

فقال‏:‏ حدثني الحسن البصري، عن عمران بن حصين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش‏:‏ ليقم العافون عن الناس من الخلفاء إلى أكرم الجزاء، فلا يقوم إلا من عفا‏)‏‏)‏‏.‏

فقال المأمون‏:‏ قد قبلت هذا الحديث بقبوله وعفوت عنك يا عم‏.‏

وقد ذكرنا في سنة أربع ومائتين زيادة على هذا‏.‏

وكانت أشعاره جيدة بليغة سامحه الله‏.‏

وقد ساق من ذلك ابن عساكر جانباً جيداً‏.‏

كان مولد إبراهيم هذا في مستهل ذي القعدة سنة ثنتين وستين ومائة، وتوفي يوم الجمعة لسبع خلون من هذه السنة عن ثنتين وستين سنة‏.‏

وفيها توفي‏:‏ سعيد بن أبي مريم المصري، وسليمان بن حرب، وأبو معمر المقعد، وعلي بن محمد المدائني، الأخباري، أحد أئمة هذا الشأن في زمانه، وعمرو بن مرزوق، شيخ البخاري، وقد تزوج هذا الرجل ألف امرأة‏.‏

وأبو عبيد القاسم بن سلام

البغدادي، أحد أئمة اللغة، والفقه والحديث والقرآن، والأخبار وأيام الناس، له المصنفات المشهورة المنتشرة بين الناس، حتى يقال‏:‏ إن الإمام أحمد كتب كتابه في الغريب بيده، ولما وقف عليه عبد الله بن طاهر رتب له في كل شهر خمسمائة درهم، وأجراها على ذريته من بعده‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 320‏)‏

وذكر ابن خلكان أن ابن طاهر استحسن كتابه وقال‏:‏ ما ينبغي لعقل بعث صاحبه على تصنيف هذا الكتاب أن نحوج صاحبه إلى طلب المعاش‏.‏

وأجرى له عشرة آلاف درهم في كل شهر‏.‏

وقال محمد بن وهب المسعودي‏:‏ سمعت أبا عبيد، يقول‏:‏ مكثت في تصنيف هذا الكتاب أربعين سنة‏.‏

وقال هلال بن المعلى الرقي‏:‏ منَّ الله على المسلمين بهؤلاء الأربعة‏:‏ الشافعي تفقه في الفقه والحديث، وأحمد بن حنبل في المحنة، ويحيى بن معين في نفي الكذب، وأبو عبيد في تفسير غريب الحديث، ولولا ذلك لاقتحم الناس المهالك‏.‏

وذكر ابن خلكان أن أبا عبيد ولي القضاء بطرسوس ثماني عشرة سنة، وذكر له من العبادة والاجتهاد في العبادة شيئاً كثيراً‏.‏

وقد روى الغريب عن‏:‏ أبي زيد الأنصاري، والأصمعي، وأبي عبيدة معمر بن المثنى، وابن الأعرابي، والفراء، والكسائي، وغيرهم‏.‏

وقال إسحاق بن راهويه‏:‏ نحن نحتاج إليه وهو لا يحتاج إلينا‏.‏

وقدم بغداد وسمع الناس منه ومن تصانيفه‏.‏

وقال إبراهيم الحربي‏:‏ كان كأنه جبل نفخ فيه روح، يحسن كل شيء‏.‏

وقال أحمد بن كامل القاضي‏:‏ كان أبو عبيد فاضلاً ديِّناً ربانياً عالماً متقناً في أصناف علوم أهل الإيمان والإتقان والإسلام‏:‏ من القرآن، والفقه، والعربية، والأحاديث، حسن الرواية صحيح النقل، لا أعلم أحداً طعن عليه في شيء من علمه وكتبه، وله كتاب الأموال، وكتاب فضائل القرآن ومعانيه، وغير ذلك من الكتب المنتفع بها، رحمه الله‏.‏

توفي في هذه السنة قاله البخاري‏.‏

وقيل‏:‏ في التي قبلها بمكة‏.‏

وقيل‏:‏ بالمدينة‏.‏

وله سبع وستون سنة‏.‏

وقيل‏:‏ جاوز السبعين، فالله أعلم‏.‏

ومحمد بن عثمان، أبو الجماهر، الدمشقي الكفرتوتي، أحد مشايخ الحديث‏.‏

ومحمد بن الفضل، أبو النعمان السدوسي، الملقب‏:‏ بعارم، شيخ البخاري، ومحمد بن عيسى بن الطباع، ويزيد بن عبد ربه، الجرجسي الحمصي، شيخها في زمانه‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 321‏)‏

 ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائتين

فيها‏:‏ دخل بغا الكبير ومعه منكجور قد أعطى الطاعة بالأمان‏.‏

وفيها‏:‏ عزل المعتصم جعفر بن دينار عن نيابة اليمن وغضب عليه وولى اليمن ايتاخ‏.‏

وفيها‏:‏ وجه عبد الله بن طاهر بالمازيار فدخل بغداد على بغل بأكاف فضربه المعتصم بين يديه أربعمائة وخمسين سوطاً ثم سقى الماء حتى مات، وأمر بصلبه إلى جنب بابك‏.‏

وأقر في ضربه أن الأفشين كان يكاتبه ويحسن له خلع الطاعة، فغضب المعتصم على الأفشين وأمر بسجنه، فبنى له مكان كالمنارة من دار الخلافة تسمى‏:‏ الكوة، إنما تسعه فقط، وذلك لما تحقق أنه يريد مخالفته والخروج عليه، وأنه قد عزم على الذهاب لبلاد الخزر ليستجيش بهم على المسلمين فعاجله الخليفة بالقبض عليه قبل ذلك كله‏.‏

وعقد له المعتصم مجلساً فيه قاضيه أحمد بن أبي دؤاد المعتزلي، ووزير محمد بن عبد الملك بن الزيات، ونائبه إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فاتهم الأفشين في هذا المجلس بأشياء تدل على أنه باق على دين أجداده من الفرس‏.‏

منها‏:‏ أنه غير مختن فاعتذر أنه يخاف ألم ذلك، فقال له الوزير - وهو الذي كان يناظره من بين القوم -‏:‏ فأنت تطاعن بالرماح في الحروب ولا تخاف من طعنها وتخاف من قطع قلفة ببدنك ‏؟‏

ومنها‏:‏ أنه ضرب رجلين إماماً ومؤذناً كل واحد ألف سوط لأنهما هدما بيت أصنام فاتخذاه مسجداً‏.‏

ومنها‏:‏ أنه عنده كتاب كليلة ودمنة مصوراً فيه الكفر وهو محلى بالجواهر والذهب، فاعتذر أنه ورثه من آبائهم‏.‏

واتهم بأن الأعاجم يكاتبونه وتكتب إليه في كتبها‏:‏ أنت إله الآلهة من العبيد‏.‏ وأنه يقرهم على ذلك‏.‏

فجعل يعتذر بأنه أجراهم على ما كانوا يكاتبون به أباه وأجداده، وخاف أن يأمرهم بترك ذلك فيتضع عندهم‏.‏

فقال له الوزير‏:‏ ويحك ‏!‏ فماذا أبقيت لفرعون حين قال‏:‏ ‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏‏.‏

وإنه كان يكاتب المازيار بأن يخرج عن الطاعة، وأنه في ضيق حتى ينصر دين المجوس الذي كان قديماً ويظهره على دين العرب، وأنه كان يستطيب المنخنقة على المذبوحة، وأنه كان في كل يوم أربعاء يستدعي بشاة سوداء فيضربها بالسيف نصفين ويمشي بينهما ثم يأكلها، فعند ذلك أمر المعتصم بغا الكبير أن يسجنه مهاناً ذليلاً، فجعل يقول‏:‏ إني كنت أتوقع منكم ذلك‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ حمل عبد الله بن طاهر الحسن بن الأفشين وزوجته أترجة بنت أشناس إلى سامرا‏.‏

وحج بالناس فيها محمد بن داود‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

أصبغ بن الفرج، وسعدويه، ومحمد بن سلام، البيكندي، شيخ البخاري، وأبو عمر الجرمي، وأبو دلف العجلي، التميمي، الأمير، أحد الأجواد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 322‏)‏

وسعيد بن مسعدة

أبو الحسن، الأخفش الأوسط، البلخي ثم البصري، النحوي، أخذ النحو عن سيبويه، وصنف كتباً كثيرةً، منها‏:‏ كتاب في معاني القرآن، وكتاب الأوسط في النحو، وغير ذلك، وله كتاب في العروض زاد فيه بحر الخبب على الخيل‏.‏

وسمي الأخفش لصغر عينيه وضعف بصره، وكان أيضاً أدلغ، وهو الذي لا يضم شفتيه على أسنانه، كان أولاً يقال له‏:‏ الأخفش الصغير بالنسبة إلى الأخفش الكبير‏:‏ أبي الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد الهجري، شيخ سيبويه وأبي عبيدة، فلما ظهر علي بن سليمان ولقب بالأخفش أيضاً صار سعيد بن مسعدة هو الأوسط، والهجري الأكبر، وعلي بن سليمان الأصغر‏.‏

وكانت وفاته في هذه السنة، وقيل‏:‏ سنة إحدى وعشرين ومائتين‏.‏

الجرمي النحوي

وهو صالح بن إسحاق، البصري، قدم بغداد وناظر بها الفراء، وكان قد أخذ النحو عن‏:‏ أبي عبيدة، وأبي زيد، والأصمعي‏.‏

وصنف كتباً منها‏:‏ الفرخ - يعني‏:‏ فرخ كتاب سيبويه -‏.‏

وكان فقيهاً فاضلاً نحوياً بارعاً عالماً باللغة، حافظاً لها، ديِّناً ورعاً، حسن المذهب، صحيح الاعتقاد، وروى الحديث‏.‏

ذكره ابن خلكان، وروى عنه المبرد، وذكره أبو نعيم في تاريخ أصبهان‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائتين

في شعبان منها توفي الأفشين في الحبس فأمر به المعتصم فصلب ثم أحرق وذري رماده في دجله واحتيط على أمواله وحواصله فوجدوا فيها أصناماً مكللةً بذهب وجواهر، وكتباً في فضل دين المجوس، وأشياء كثيرة كان يتهم بها، تدل على كفره وزندقته، وتحقق بسببها ما ذكر عنه من الانتماء إلى دين آبائه المجوس‏.‏

وحج بالناس فيها محمد بن داود‏.‏

 وفيها توفي‏:‏

إسحاق القروي، وإسماعيل بن أبي أوس، ومحمد بن داود، صاحب التفسير، وغسان بن الربيع، ويحيى بن يحيى التميمي، شيخ مسلم بن الحجاج، ومحمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 323‏)‏

وأبو دلف العجلي

عيسى بن إدريس بن معقل بن عمير بن شيخ بن معاوية بن خزاعي بن عبد العزيز بن دلف بن جشم بن قيس بن سعد بن عجل بن لحيم، الأمير، أبو دلف العجلي، أحد قواد المأمون والمعتصم وإليه ينسب الأمير أبو نصر بن ماكولا، صاحب كتاب الإكمال‏.‏

وكان القاضي جلال الدين خطيب دمشق القزويني يزعم أنه من سلالته، ويذكر نسبه إليه‏.‏

وكان أبو دلف هذا كريماً جواداً ممدحاً، قد قصده الشعراء من كل أوب، وكان أبو تمام الطائي من جملة من يغشاه ويستمنح نداه، وكانت لديه فضيلة في الأدب والغناء، وصنف كتباً منها‏:‏ سياسة الملوك، ومنها‏:‏ في الصيد، والبزاة، وفي السلاح، وغير ذلك‏.‏

وما أحسن ما قال فيه بكر بن النطاع الشاعر‏:‏

يا طالباً للكيمياء وعلمه * مدح ابن عيسى الكيمياء الأعظم

لو لم يكن في الأرض إلا درهم * ومدحته لأتاك ذاك الدرهم

فيقال‏:‏ إنه أعطاه على ذلك عشرة آلاف درهم‏.‏

وكان شجاعاً فاتكاً، وكان يستدين ويعطي، وكان أبوه قد شرع في بناء مدينة الكرخ فمات ولم يتمها فأتمها أبو دلف، وكان فيه تشيع‏.‏

وكان يقول‏:‏ من لم يكن متغالياً في التشيع فهو ولد زنا‏.‏

فقال له ابنه دلف‏:‏ لست على مذهبك يا أبت ‏.‏

فقال‏:‏ والله لقد وطئت أمك قبل أن أشتريها، فهذا من ذاك‏.‏

وقد ذكر ابن خلكان أن ولده رأى في المنام بعد وفاة أبيه أن آتياً أتاه فقال‏:‏ أجب الأمير ‏!‏

قال‏:‏ فقمت معه فأدخلني داراً وحشة وعرة سوداء الحيطان مغلقة السقوف والأبواب‏.‏

ثم أصعدني في درج منها ثم أدخلني غرفة، وإذا في حيطانها أثر النيران، وفي أرضها أثر الرماد، وإذا بأبي فيها وهو عريان واضع رأسه بين ركبتيه‏.‏

فقال لي كالمستفهم‏:‏ أدلف ‏؟‏

فقلت‏:‏ دلف‏.‏

فأنشأ يقول‏:‏

أبلغنْ أهلنا ولا تخف عنهم * ما لقينا في البرزخ الخناق

قد سئلنا عن كل ما قد فعلنا * فارحموا وحشتي وما قد ألاقي

ثم قال‏:‏ أفهمت ‏؟‏

قلت‏:‏ نعم ‏!‏

ثم أنشأ يقول‏:‏

فلو أنا إذا متنا تركنا * لكان الموت راحة كل حي

ولكنا إذا متنا بعثنا * ونسأل بعده عن كل شيء

ثم قال‏:‏ أفهمت ‏؟‏

قلت‏:‏ نعم ‏!‏ وانتبهت‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 324‏)‏

 ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائتين

فيها‏:‏ خرج رجل من أهل الثغور بالشام يقال له‏:‏ أبو حرب المبرقع اليماني، فخلع الطاعة ودعا إلى نفسه‏.‏

وكان سبب خروجه أن رجلاً من الجند أراد أن ينزل في منزله عند امرأته في غيبته فمانعته المرأة فضربها الجندي في يدها فأثرت الضربة في معصمها‏.‏

فلما جاء بعلها أبو حرب أخبرته فذهب إلى الجندي وهو غافل فقتله ثم تحصن في رؤوس الجبال وهو مبرقع، فإذا جاء أحد دعاه إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويذم من السلطان، فاتبعه على ذلك خلق كثير من الحراثين وغيرهم، وقالوا‏:‏ هذا هو السفياني المذكور أنه يملك الشام‏.‏

فاستفحل أمره جداً، واتبعه نحو من مائة ألف مقاتل، فبعث إليه المعتصم وهو في مرض موته جيشاً نحواً من مائة ألف مقاتل، فلما قدم أمير المعتصم بمن معه وجدهم أمة كثيرة وطائفة كبيرة، وقد اجتمعوا حول أبي حرب فخشي أن يواقعه والحالة هذه، فانتظر إلى أيام حرث الأراضي فتفرق عنه الناس إلى أراضيهم، وبقي في شرذمة قليلة، فناهضه فأسره وتفرق عنه أصحابه، وحمله أمير السرية وهو رجاء بن أيوب حتى قدم به على المعتصم، فلامه المعتصم في تأخره عن مناجزته أول ما قدم الشام‏.‏

فقال‏:‏ كان معه مائة ألف أو يزيدون، فلم أزل أطاوله حتى أمكن الله منه، فشكره على ذلك‏.‏

 وهذه ترجمته

هو أمير المؤمنين، أبو إسحاق، محمد المعتصم بن هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور، العباسي، يقال له‏:‏ المثمن لأنه‏:‏

ثامن ولد العباس‏.‏

وأنه ثامن الخلفاء من ذريته‏.‏

ومنها‏:‏ أنه فتح ثمان فتوحات‏.‏

ومنها‏:‏ أنه أقام في الخلافة ثماني سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام، وقيل‏:‏ ويومين‏.‏

وأنه ولد سنة ثمانين ومائة في شعبان وهو الشهر الثامن من السنة‏.‏

وأنه توفي وله من العمر ثمانية وأربعون سنة‏.‏

ومنها‏:‏ أنه خلَّف ثمانية بنين وثماني بنات‏.‏

ومنها‏:‏ أنه دخل بغداد من الشام في مستهل رمضان سنة ثمان عشرة ومائتين بعد استكمال ثمانية أشهر من السنة بعد موت أخيه المأمون‏.‏

قالوا‏:‏ وكان أمياً لا يحسن الكتابة، وكان سبب ذلك أنه كان يتردد معه إلى الكتاب غلام فمات الغلام فقال له أبوه الرشيد‏:‏ ما فعل غلامك ‏؟‏

قال‏:‏ مات فاستراح من الكتاب‏.‏

فقال الرشيد‏:‏ وقد بلغ منك كراهة الكتاب إلى أن تجعل الموت راحة منه‏؟‏ والله يا بني لا تذهب بعد اليوم إلى الكتاب‏.‏

فتركوه فكان أمياً، وقيل‏:‏ بل كان يكتب كتابة ضعيفة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 325‏)‏

وقد أسند الخطيب من طريقه عن آبائه حديثين منكرين أحدهما‏:‏ في ذم بني أمية ومدح بني العباس من الخلفاء، والثاني‏:‏ في النهي عن الحجامة يوم الخميس‏.‏

وذكر بسنده عن المعتصم أن ملك الروم كتب إليه كتاباً يتهدده فيه فقال للكاتب‏:‏ اكتب‏:‏ قد قرأت كتابك وفهمت خطابك والجواب ما ترى لا ما تسمع، وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار‏.‏

قال الخطيب‏:‏ غزا المعتصم بلاد الروم في سنة ثلاث وعشرين ومائتين، فأنكى نكاية عظيمة في العدو، وفتح عمورية، وقتل من أهلها ثلاثين ألفاً، وسبى مثلهم، وكان في سبيه ستون بطريقاً، وطرح النار في عمورية في سائر نواحيها فأحرقها، وجاء بنائبها إلى العراق، وجاء ببابها أيضاً معه، وهو منصوب حتى الآن على أحد أبواب دار الخلافة مما يلي المسجد الجامع في القصر‏.‏

وروي عن أحمد بن أبي داؤد القاضي أنه قال‏:‏ ربما أخرج المعتصم ساعده إلي وقال لي‏:‏ عض يا أبا عبد الله بكل ما تقدر عليه‏.‏

فأقول‏:‏ إنه لا تطيب نفسي يا أمير المؤمنين أن أعض ساعدك‏.‏

فيقول‏:‏ إنه لا يضرني‏.‏

فأكدم بكل ما أقدر عليه فلا يؤثر ذلك في يده‏.‏

ومرَّ يوماً في خلافة أخيه بمخيم الجند فإذا امرأة تقول‏:‏ ابني ابني‏.‏

فقال لها‏:‏ ما شأنك ‏؟‏

فقالت‏:‏ ابني أخذه صاحب هذه الخيمة‏.‏

فجاء إليه المعتصم فقال له‏:‏ أطلق هذا الصبي، فامتنع عليه فقبض على جسده بيده فسمع صوت عظامه من تحت يده، ثم أرسله فسقط ميتاً وأمر بإخراج الصبي إلى أمه‏.‏

ولما ولي الخلافة كان شهماً وله همة عالية في الحرب، ومهابة عظيمة في القلوب، وإنما كانت نهمته في الإنفاق في الحرب لا في البناء ولا في غيره‏.‏

وقال أحمد أبي داؤد‏:‏ تصدق المعتصم على يدي ووهب ما قيمته مائة ألف ألف درهم‏.‏

وقال غيره‏:‏ كان المعتصم إذا غضب لا يبالي من قتل ولا ما فعل‏.‏

وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي‏:‏ دخلت يوماً على المعتصم وعنده قيِّنة له تغنيه‏.‏

فقال لي‏:‏ كيف تراها ‏؟‏

فقلت له‏:‏ أراها تقهره بحذق، وتجتله برفق، ولا تخرج من شيء إلا إلى أحسن منه، وفي صوتها قطع شذور، أحسن من نظم الدر على النحور‏.‏

فقال‏:‏ والله لصفتك لها أحسن منها ومن غنائها‏.‏

ثم قال لابنه هارون الواثق ولي عهده من بعده‏:‏ اسمع هذا الكلام‏.‏

وقد استخدم المعتصم من الأتراك خلقاً عظيماً كان له من المماليك الترك قريب من عشرين ألفاً، وملك من آلات الحرب والدواب ما لم يتفق لغيره‏.‏

ولما حضرته الوفاة جعل يقول‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ لو علمت أن عمري قصير ما فعلت‏.‏

وقال‏:‏ إني أحدث هذا الخلق، وجعل يقول‏:‏ ذهبت الحيل فلاحيلة‏.‏

وروي عنه أنه قال في مرض موته‏:‏ اللهم إني أخافك من قِبَلي ولا أخافك من قِبَلك، وأرجوك من قِبَلك ولا أرجوك من قِبَلي‏.‏

كانت وفاته بسر من رأى في يوم الخميس ضحى لسبعة عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من هذه السنة - أعني‏:‏ سنة سبع وعشرين ومائتين -‏.‏

وكان مولده يوم الاثنين لعشر خلون من شعبان سنة ثمانين ومائة‏.‏

وولي الخلافة في رجب سنة ثمان عشرة ومائتين‏.‏

وكان أبيض أصهب اللحية طويلاً مربوعاً مشرب اللون، أمه أم ولد اسمها‏:‏ ماردة‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/326‏)‏

وهو أحد أولاد ستة من أولاد الرشيد، كل منهم اسمه‏:‏ محمد، وهم‏:‏ أبو إسحاق محمد المعتصم، وأبو العباس محمد الأمين، وأبو عيسى محمد، وأبو أحمد، وأبو يعقوب، وأبو أيوب‏.‏

قاله هشام بن الكلبي‏:‏ وقد ولي الخلافة بعده ولده هارون الواثق‏.‏

وقد ذكر ابن جرير أن وزيره محمد بن عبد الملك بن الزيات رثاه فقال‏:‏

قد فلتُ إذ غيبوك واصطفقت * عليك أيدي التراب والطين

اذهب فنعم الحفيظ كنت على الـ * ـدنيا ونعم الظهير للدين

لا جبر الله أمة فقدت * مثلك إلا بمثل هارون

وقال مروان بن أبي الجنوب - وهو‏:‏ ابن أخي حفصة -‏:‏

أبو إسحاق مات ضحى فمتنا * وأمسينا بهارون حيينا

لئن جاء الخميس بما كرهنا * لقد جاء الخميس بما هوينا

خلافة هارون الواثق بن المعتصم

بويع له بالخلافة قبل موت أبيه يوم الأربعاء لثمان خلون من ربيع الأول من هذه السنة - أعني‏:‏ سنة سبع وعشرين ومائتين - ويكنى‏:‏ أبا جعفر، وأمه أم ولد رومية يقال لها‏:‏ قراطيس، وقد خرجت في هذه السنة قاصدة الحج فماتت بالحيرة ودفنت بالكوفة في دار داود بن عيسى، وذلك لأربع خلون من ذي القعدة من هذه السنة‏.‏

وكان الذي أقام للناس الحج فيها جعفر بن المعتصم‏.‏

وفيها‏:‏ توفي ملك الروم توفيل بن ميخائيل، وكانت مدة ملكه ثنتي عشرة سنة، فملكت الروم بعده امرأته‏:‏ تدورة‏.‏

وكان ابنها ميخائيل بن توفيل صغيراً‏.‏

 وفيها توفي‏:‏

 بشر الحافي الزاهد المشهور

وهو بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال بن ماهان بن عبد الله، المروزي، أبو نصر، الزاهد المعروف‏:‏ بالحافي، نزل بغداد‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وكان اسم جده‏:‏ عبد الله الغيور، أسلم على يدي علي بن أبي طالب‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/327‏)‏

قلت‏:‏ وكان مولده ببغداد سنة خمسين ومائة، وسمع بها شيئاً كثيراً من‏:‏ حماد بن زيد، وعبد الله بن المبارك، وابن مهدي، ومالك، وأبي بكر بن عياش، وغيرهم‏.‏

وعنه جماعة منهم‏:‏ أبو خيثمة، وزهير بن حرب، وسري السقطي، والعباس بن عبد العظيم، ومحمد بن حاتم‏.‏

قال محمد بن سعيد‏:‏ سمع بشراً كثيراً ثم اشتغل بالعبادة واعتزل الناس ولم يحدث‏.‏

وقد أثنى عليه غير واحد من الأئمة في عبادته وزهادته وورعه ونسكه وتقشفه‏.‏

قال الإمام أحمد يوم بلغه موته‏:‏ لم يكن له نظير إلا عامر بن عبد قيس، ولو تزوج لتم أمره‏.‏

وفي رواية عنه أنه قال‏:‏ ما ترك بعده مثله‏.‏

وقال إبراهيم الحربي‏:‏ ما أخرجت بغداد أتم عقلاً منه، ولا أحفظ للسانه منه، ما عرف له غيبة لمسلم، وكان في كل شعرة منه عقل، ولو قسم عقله على أهل بغداد لصاروا عقلاء وما نقص من عقله شيء‏.‏

وذكر غير واحد أن بشراً كان شاطراً في بدء أمره، وأن سبب توبته أنه وجد رقعة فيها اسم الله عز وجل في أتون حمام فرفعها ورفع طرفه إلى السماء وقال‏:‏ سيدي اسمك ههنا ملقى يداس ‏!‏

ثم ذهب إلى عطار فاشترى بدرهم غالية وضمخ تلك الرقعة منها ووضعها حيث لا تنال، فأحيى الله قلبه وألهمه رشده وصار إلى ما صار إليه من العبادة والزهادة‏.‏

من كلامه‏:‏ من أحب الدنيا فليتهيأ للذل‏.‏

وكان بشر يأكل الخبز وحده، فقيل له‏:‏ أما لك أدم ‏؟‏

فقال‏:‏ بلى ‏!‏ أذكر العافية فأجعلها أدماً‏.‏

وكان لا يلبس نعلاً بل يمشي حافياً، فجاء يوماً إلى باب فطرقه فقيل‏:‏ من ذا ‏؟‏

فقال‏:‏ بشر الحافي‏.‏

فقالت له جارية صغيرة‏:‏ لو اشترى نعلاً بدرهم لذهب عنه اسم الحافي‏.‏

قالوا‏:‏ وكان سبب تركه النعل أنه جاء مرة إلى حذّاء فطلب منه شراكاً لنعله فقال‏:‏ ما أكثر كلفتكم يا فقراء على الناس ‏؟‏‏!‏

فطرح النعل من يده وخلع الأخرى من رجله وحلف لا يلبس نعلاً أبداً‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وكانت وفاته يوم عاشوراء‏.‏

وقيل‏:‏ في رمضان ببغداد‏.‏

وقيل‏:‏ بمرو‏.‏

قلت‏:‏ الصحيح ببغداد في هذه السنة‏.‏

وقيل‏:‏ في سنة ست وعشرين‏.‏

والأول أصح، والله أعلم‏.‏

وحين مات اجتمع في جنازته أهل بغداد عن بكرة أبيهم، فأخرج بعد صلاة الفجر فلم يستقر في قبره إلا بعد العتمة‏.‏

وكان علي المدائني وغيره من أئمة الحديث يصيح بأعلا صوته في الجنازة‏:‏ هذا والله شرف الدنيا قبل شرف الآخرة‏.‏

وقد روي أن الجن كانت تنوح عليه في بيته الذي كان يسكنه‏.‏

وقد رآه بعضهم في المنام فقال‏:‏ ما فعل الله بك ‏؟‏

فقال‏:‏ غفر لي ولكل من أحبني إلى يوم القيامة‏.‏

وذكر الخطيب أنه كان له أخوات ثلاث وهن‏:‏ مخة، ومضغة، وزبدة‏.‏

وكلهن عابدات زاهدات مثله، وأشد ورعاً أيضاً‏.‏

ذهبت إحداهن إلى الإمام أحمد بن حنبل فقالت‏:‏ إني ربما طفئ السراج وأنا أغزل على ضوء القمر فهل عليَّ عند البيع أن أميز هذا من هذا ‏؟‏

فقال‏:‏ إن كان بينهما فرق فميزي للمشتري‏.‏

وقالت له مرة إحداهن‏:‏ ربما تمرُّ بنا مشاعل بني طاهر في الليل ونحن نغزل فنغزل الطاق والطاقين والطاقات فخلصني من ذلك‏.‏

فأمرها أن تتصدق بذلك الغزل كله لما اشتبه عليها من معرفة ذلك المقدار‏.‏

وسألته عن أنين المريض‏:‏ أفيه شكوى ‏؟‏

قال‏:‏ لا ‏!‏ إنما هو شكوى إلى الله عز وجل‏.‏

ثم خرجت فقال لابنه عبد الله‏:‏ يا بني ‏!‏ اذهب خلفها فاعلم لي من هذه المرأة ‏؟‏

قال عبد الله‏:‏ فذهبت وراءها فإذا هي قد دخلت دار بشر، وإذا هي أخته مخة‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/328‏)‏

وروى الخطيب أيضاً عن زبدة قالت‏:‏ جاء ليلة أخي بشر فدخل برجله في الدار وبقيت الأخرى خارج الدار، فاستمر كذلك ليلته حتى أصبح‏.‏

فقيل له‏:‏ فيم تفكرت ليلتك ‏؟‏

فقال‏:‏ تفكرت في بشر النصراني، وبشر اليهودي، وبشر المجوسي، وفي نفسي، لأن اسمي بشر، فقلت في نفسي‏:‏ ما الذي سبق لي من الله حتى خصني بالإسلام من بينهم‏؟‏ فتفكرت في فضل الله عليَّ وحمدته أن هداني للإسلام، وجعلني ممن خصه به، وألبسني لباس أحبابه‏.‏

وقد ترجمه ابن عساكر فأطنب وأطيب وأطال من غير ملال، وقد ذكر له أشعاراً حسنة، وذكر أنه كان يتمثل بهذه الأبيات‏:‏

تعاف القذى في الماء لا تستطيعه * وتكرع من حوض الذنوب فتشرب

وتؤثر من أكل الطعام ألذه * ولا تذكر المختار من أين يكسب

وترقد يا مسكين فوق نمارق * وفي حشوها نار عليك تلهب

فحتى متى لا تستفيق جهالة * وأنت ابن سبعين بدينك تلعب

وممن توفي فيها‏:‏

 أحمد بن يونس‏.‏

وإسماعيل بن عمرو البجلي‏.‏

وسعيد بن منصور، صاحب السنن المشهورة، التي لا يشاركه فيها إلا القليل‏.‏

ومحمد بن الصباح، الدولابي، ولهن سنن أيضاً‏.‏

 وأبو الوليد الطيالسي‏.‏

وأبو الهذيل العلاف، المتكلم المعتزلي، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائتين

في رمضان منها‏:‏ خلع الواثق على أشناس الأمير، وتوَّجه وألبسه وشاحين من جوهر‏.‏

وحج بالناس فيها محمد بن داود الأمير‏.‏

وغلا السعر على الناس في طريق مكة جداً، وأصابهم حر شديد وهم بعرفة، ثم أعقبه برد شديد ومطر عظيم، كل ذلك في ساعة واحدة، ونزل عليهم وهم بمنى مطر لم ير مثله، وسقطت قطعة من الجبل عند جمرة العقبة فقتلت جماعة من الحجاج‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/329‏)‏

قال ابن جرير‏:‏ وفيها مات‏:‏ أبو الحسن المدائني، أحد أئمة هذا الشأن، في منزل إسحاق بن إبراهيم الموصلي‏.‏

وحبيب بن أوس الطائي، أبو تمام الشاعر‏.‏

قلت‏:‏ أما أبو الحسن المدائني فاسمه‏:‏ علي بن المدائني، أحد أئمة هذا الشأن، وإمام الأخباريين في زمانه، وقد قدمنا ذكر وفاته قبل هذه السنة‏.‏ وأما‏:‏

أبو تمام الطائي الشاعر

صاحب الحماسة التي جمعها في فضل النساء بهمدان في دار وزيرها‏.‏

فهو حبيب بن أوس بن الحارث بن قيس بن الأشج بن يحيى، أبو تمام الطائي، الشاعر الأديب‏.‏

ونقل الخطيب عن محمد بن يحيى الصولي أنه حكى عن بعض الناس أنهم قالوا‏:‏ أبو تمام حبيب بن تدرس النصراني، فسماه أبوه‏:‏ حبيب أوس بدل تدرس‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وأصله من قرية جاسم من عمل الجيدور بالقرب من طبرية، وكان بدمشق يعمل عند حائك، ثم سار به إلى مصر في شبيبته‏.‏

وابن خلكان أخذ ذلك من تاريخ ابن عساكر، وقد ترجم له أبو تمام ترجمة حسنة‏.‏

قال الخطيب‏:‏ وهو شامي الأصل، وكان بمصر في حداثته يسقي الماء في المسجد الجامع، ثم جالس بعض الأدباء فأخذ عنهم وكان فطناً فهماً، وكان يحب الشعر فلم يزل يعانيه حتى قال الشعر فأجاد‏.‏

وشاع ذكره وبلغ المعتصم خبره فحمله إليه وهو بسر من رأى، فعمل فيه قصائد فأجازه وقدمه على شعراء وقته، قدم بغداد فجالس الأدباء وعاشر العلماء، وكان موصوفاً بالظرف وحسن الأخلاق‏.‏

وقد روى عنه أحمد بن أبي طاهر أخباراً بسنده‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ كان يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة للعرب غير القصائد والمقاطيع وغير ذلك‏.‏

وكان يقال‏:‏ في طيء ثلاثة‏:‏ حاتم في كرمه، وداود الطائي في زهده، وأبو تمام في شعره‏.‏

وقد كان الشعراء في زمانه جماعة فمن مشاهيرهم‏:‏ أبو الشيص، ودعبل، وابن أبي قيس، وكان أبو تمام من خيارهم ديناً وأدباً وأخلاقاً‏.‏

ومن رقيق شعره قوله‏:‏

يا حليف الندى ويا معدن الجود * ويا خير من حويت القريضا

ليت حماك بي وكان لك الأجـ * ـر فلا تشتكي وكنت المريضا

وقد ذكر الخطيب، عن إبراهيم بن محمد بن عرفة‏:‏ أن أبا تمام توفي في سنة إحدى وثلاثين ومائتين وكذا قال ابن جرير‏.‏

وحكي عن بعضهم أنه توفي في سنة إحدى وثلاثين، وقيل‏:‏ سنة ثنتين وثلاثين فالله أعلم‏.‏

وكانت وفاته بالموصل، وبنيت على قبره قبة، وقد رثاه الوزير محمد بن عبد الملك الزيات فقال‏:‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/330‏)‏

نبأٌ أتى من أعظم الأنباء * لما ألمَّ مقلقل الأحشاء

قالوا حبيب قد ثوى فأجبتهم * ناشدتكم لا تجعلوه الطائي

وقال غيره‏:‏

فجع القريض بخاتم الشعراء *وغدير روضتها حبيب الطائي

ماتا معاً فتجاورا في حفرة * وكذاك كنا قبل في الأحياء

وقد جمع الصولي شعر أبي تمام على حروف المعجم‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وقد امتدح أحمد بن المعتصم ويقال ابن المأمون بقصيدته التي يقول فيها‏:‏

إقدام عمرو في سماحة حاتم * في حلم أحنف في ذكاء إياس

فقال له بعض الحاضرين‏:‏ أتقول هذا لأمير المؤمنين وهو أكبر قدراً من هؤلاء‏؟‏ فإنك ما زدت على أن شبهته بأجلاف من العرب البوادي‏.‏

فأطرق إطراقة ثم رفع رأسه فقال‏:‏

لا تنكروا ضربي له من دونه * مثلاً شروداً في الندى والباس

فالله قد ضرب الأقل لنوره * مثلاً من المشكاة والنبراس

قال‏:‏ فلما أخذوا القصيدة لم يجدوا فيها هذين البيتين، وإنما قالهما ارتجالاً‏.‏

قال‏:‏ ولم يعش بعد هذا إلا قليلاً حتى مات‏.‏

وقيل‏:‏ إن الخليفة أعطاه الموصل لما مدحه بهذه القصيدة، فأقام بها أربعين يوماً ثم مات‏.‏

وليس هذا بصحيح، ولا أصل له، وإن كان قد لهج به بعض الناس كالزمخشري وغيره‏.‏

وقد أورد له ابن عساكر أشياء من شعره مثل قوله‏:‏

ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا * هلكن إذاً من جهلهن البهائم

ولم يجتمع شرق وغرب لقاصد * ولا المجد في كف امرئ والدراهم

ومنه قوله‏:‏

وما أنا بالغيران من دون غرسه * إذا أنا لم أصبح غيوراً على العلم

طبيب فؤادي مذ ثلاثين حجةً * ومذهب همي والمفرج للغم

 وفيها توفي‏:‏ أبو نصر الفارابي، والعبسي، وأبو الجهم، ومسدد، وداود بن عمرو الضبي، ويحيى بن عبد الحميد الحماني‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/331‏)‏