فصل: سنة تسع وسبعين ومائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومائة

فيها‏:‏ أخذ الرشيد بولاية العهد من بعده لولده محمد بن زبيدة وسماه‏:‏ الأمين، وعمره إذ ذاك خمس سنين، فقال في ذلك سلم الخاسر‏:‏

قد وفق الله الخليفة إذ بنى * بيت الخلافة للهجان الأزهر

فهو الخليفة عن أبيه وجده * شهدا عليه بمنظر وبمخبر

قد بايع الثقلان في مهد الهدى * لمحمد بن زبيدة ابنة جعفر

وقد كان الرشيد يتوسم النجابة والرجاحة في عبد الله المأمون، ويقول‏:‏ والله إن فيه حزم المنصور، ونسك المهدي، وعزة نفس الهادي، ولو شئت أن أقول الرابعة مني لقلت، وإني لأقدم محمد بن زبيدة وإني لأعلم أنه متبع هواه ولكن لا أستطيع غير ذلك‏.‏

ثم أنشأ يقول‏:‏

لقد بان وجه الرأي لي غير أنني * غلبت على الأمر الذي كان أحزما

وكيف يرد الدر في الضرع بعدما * نوزع حتى صار نهباً مقسما

أخاف التواء الأمر بعد استوائه * وأن ينقض الأمر الذي كان أبرما

وغزا الصائفة عبد الملك بن صالح، في قول الواقدي‏.‏

وحج بالناس الرشيد‏.‏

وفيها‏:‏ سار يحيى بن عبد الله بن حسن إلى الديلم وتحرك هناك‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

شعوانة العابدة الزاهدة

كانت أمة سوداء كثيرة العبادة، روي عنها كلمات حسان، وقد سألها الفضيل بن عياض الدعاء فقالت‏:‏ أما بينك وبينه ما إن دعوته استجاب لك ‏؟‏

فشهق الفضيل ووقع مغشياً عليه‏.‏

وفيها توفي‏:‏

الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي مولاهم

قال ابن خلكان‏:‏ كان مولى قيس بن رفاعة وهو مولى عبد الرحمن بن مسافر الفهمي، كان الليث إمام الديار المصرية بلا مدافعة، وولد بقرقشندة من بلاد مصر سنة أربع وتسعين‏.‏

وكانت وفاته في شعبان من هذه السنة، ونشأ بالديار المصرية‏.‏

وقال ابن خلكان‏:‏ أصله من قلقشندة وضبطه بلامين الثانية متحركة‏.‏

وحكي عن بعضهم أنه كان جيد الذهن، وأنه ولي القضاء بمصر فلم يحمدوا ذهنه بعد ذلك، ولد سنة أربع وعشرين ومائة، وذلك غريب جداً‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/178‏)‏

وذكروا أنه كان يدخله من ملكه في كل سنة خمسة آلاف دينار‏.‏

وقال آخرون‏:‏ كان يدخله من الغلة في كل سنة ثمانون ألف دينار، وما وجبت عليه زكاة، وكان إماماً في الفقه والحديث والعربية‏.‏

قال الشافعي‏:‏ كان الليث أفقه من مالك إلا أنه ضيعه أصحابه‏.‏

وبعث إليه مالك يستهديه شيئاً من العصفر لأجل جهاز ابنته، فبعث إليه بثلاثين حملاً، فاستعمل منه مالك حاجته وباع منه بخمسمائة دينار، وبقيت عنده منه بقية‏.‏

وحج مرة فأهدى له مالك طبقاً فيه رطب فرد الطبق وفيه ألف دينار‏.‏

وكان يهب للرجل من أصحابه من العلماء الألف دينار وما يقارب ذلك‏.‏

وكان يخرج إلى الإسكندرية في البحر هو وأصحابه في مركب ومطبخه في مركب‏.‏

ومناقبه كثيرةٌ جداً‏.‏

وحكى ابن خلكان‏:‏ أنه سمع قائلاً يقول يوم مات الليث‏:‏

ذهب الليث فلا ليث لكم * ومضى العلم غريباً وقبر

فالتفتوا فلم يروا أحداً‏.‏

وفيها توفي‏:‏

المنذر بن عبد الله بن المنذر

القرشي، عرض عليه المهدي أن يلي القضاء ويعطيه من بيت المال مائة ألف درهم، فقال‏:‏ إني عاهدت الله أن لا ألي شيئاً، وأعيذ أمير المؤمنين بالله أن أخيس بعهدي‏.‏

فقال له المهدي‏:‏ الله ‏؟‏

قال‏:‏ الله‏.‏

قال‏:‏ انطلق فقد أعفيتك‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائة

فيها‏:‏ كان ظهور يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب ببلاد الديلم، واتبعه خلق كثير وجم غفير، وقويت شوكته، وارتحل إليه الناس من الكور والأمصار، فانزعج لذلك الرشيد وقلق من أمره، فندب إليه الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك في خمسين ألفاً، وولاه كور الجبل والري وجرجان وطبرستان وقومس وغير ذلك‏.‏

فسار الفضل بن يحيى إلى تلك الناحية في أبهة عظيمة، وكُتُب الرشيد تلحقه مع البرد في كل منزلة، وأنواع التحف والبر، وكَاتَب الرشيد صاحب الديلم ووعده بألف ألف درهم إن هو سهل خروج يحيى إليهم، وكتب الفضل إلى يحيى بن عبد الله يعده ويمنيه ويؤمله ويرجيه، وأنه إن خرج إليه أن يقيم له العذر عند الرشيد‏.‏

فامتنع يحيى أن يخرج إليهم حتى يكتب له الرشيد كتاب أمان بيده‏.‏

فكتب الفضل إلى الرشيد بذلك ففرح الرشيد ووقع منه موقعاً عظيماً‏.‏

وكتب الأمان بيده وأشهد عليه القضاة والفقهاء ومشيخة بني هاشم، منهم‏:‏ عبد الصمد بن علي، وبعث الأمان وأرسل معه جوائز وتحفاً كثيرةً إليهم، ليدفعوا ذلك جميعه إليه‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/179‏)‏

ففعلوا وسلمه إليه فدخلوا به بغداد، وتلقاه الرشيد وأكرمه وأجزل له في العطاء، وخدمه آل برمك خدمة عظيمة، بحيث أن يحيى بن خالد كان يقول‏:‏ خدمته بنفسي وولدي‏.‏

وعظم الفضل عند الرشيد جداً بهذه الفعلة حيث سعى بالصلح بين العباسين والفاطميين، ففي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة بن يحيى ويشكره على صنيعه هذا‏:‏

ظفرت فلا شلت يد برمكية * رتقت بها الفتق الذي بين هاشم

على حين أعيا الراتقين التئامه * فكفوا وقالوا ليس بالمتلائم

فأصبحت قد فازت يداك بخطة * من المجد باق ذكرها في المواسم

وما زال قدح الملك يخرج فائزاً * لكم كلما ضمت قداح المساهم

قالوا‏:‏ ثم إن الرشيد تنكر ليحيى بن عبد الله بن حسن وتغير عليه، ويقال‏:‏ إنه سجنه ثم استحضره وعنده جماعات من الهاشمين، وأحضر الأمان الذي بعث به إليه فسأل الرشيد محمد بن الحسن عن الأمان‏:‏ أصحيح هو ‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

فتغيظ الرشيد عليه‏.‏

وقال أبو البختري‏:‏ ليس هذا الأمان بشيء فأحكم فيه بما شئت، ومزق الأمان‏.‏

وبصق فيه أبو البختري، وأقبل الرشيد على يحيى بن عبد الله فقال‏:‏ هيه هيه، وهو يبتسم تبسم الغضب، وقال‏:‏ إن الناس يزعمون أنا سممناك‏.‏

فقال يحيى‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إن لنا قرابة ورحماً وحقاً، فعلام تعذبني وتحبسني ‏؟‏

فرق له الرشيد، فاعترض بكار بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ لا يغرنك هذا الكلام من هذا، فإنه عاص شاق، وإنما هذا منه مكر وخبث، وقد أفسد علينا مدينتنا وأظهر فيها العصيان‏.‏

فقال له يحيى‏:‏ ومن أنتم عافاكم الله‏؟‏ وإنما هاجر أبوك إلى المدينة بآبائي وآباء هذا‏.‏

ثم قال يحيى‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ لقد جاءني هذا حين قتل أخي محمد بن عبد الله فقال‏:‏ لعن الله قاتله، وأنشدني فيه نحواً من عشرين بيتاً، وقال لي‏:‏ إن تحركت إلى هذا الأمر فأنا من يبايعك، وما يمنعك أن تلحق بالبصرة وأيدينا معك ‏؟‏

قال‏:‏ فتغير وجه الرشيد ووجه الزبيري وأنكر وشرع يحلف بالأيمان المغلظة إنه لكاذب في ذلك، وتحير الرشيد‏.‏

ثم قال ليحيى‏:‏ أتحفظ شيئاً من المرثية ‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏ وأنشده منها جانباً‏.‏

فازداد الزبيري في الإنكار، فقال له يحيى بن عبد الله‏:‏ فقل‏:‏ إن كنت كاذباً فقد برئت من حول الله وقوته، ووكلني الله إلى حولي وقوتي‏.‏

فامتنع من الحلف بذلك، فعزم عليه الرشيد وتغيظ عليه، فحلف بذلك فما كان إلا أن خرج من عند الرشيد فرماه الله بالفالج فمات من ساعته‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/180‏)‏

ويقال‏:‏ إن امرأته غمت وجهه بمخدة فقتله الله‏.‏

ثم إن الرشيد أطلق يحيى بن عبد الله وأطلق له مائة ألف دينار، ويقال‏:‏ إنما حبسه بعض يوم، وقيل‏:‏ ثلاثة أيام‏.‏

وكان جملة ما وصله من المال من الرشيد أربعمائة ألف دينار من بيت المال، وعاش بعد ذلك كله شهراً واحداً ثم مات رحمه الله‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت فتنة عظيمة بالشام بين الننزارية وهم‏:‏ قيس، واليمانية وهم‏:‏ يمن، وهذا كان أول بدو أمر العشيرتين بحوران، وهم‏:‏ قيس ويمن، أعادوا ما كانوا عليه في الجاهلية في هذا الآن، وقتل منهم في هذه السنة بشر كثير‏.‏

وكان على نيابة الشام كلها من جهة الرشيد ابن عمه موسى بن عيسى، وقيل‏:‏ عبد الصمد بن علي، فالله أعلم‏.‏

وكان على نيابة دمشق بخصوصها سندي بن سهل أحد موالي جعفر المنصور، وقد هدم سور دمشق حين ثارت الفتنة خوفاً من أن يتغلب عليها أبو الهيذام المزي رأس القيسية، وقد كان مزي هذا دميم الخلق‏.‏

قال الجاحظ‏:‏ وكان لا يحلف المكاري ولا الملاح ولا الحائك، ويقول‏:‏ القول قولهم، ويستخير الله في الحمال ومعلم الكتاب‏.‏

وقد توفي سنة أربع ومائتين‏.‏

فلما تفاقم الأمر بعث الرشيد من جهته موسى بن يحيى بن خالد ومعه جماعة من القواد ورؤوس الكتاب، فأصلحوا بين الناس وهدأت الفتنة واستقام أمر الرعية، وحملوا جماعات من رؤوس الفتنة إلى الرشيد فرد أمرهم إلى يحيى بن خالد فعفا عنهم وأطلقهم، وفي ذلك يقول بعض الشعراء‏:‏

قد هاجت الشام هيجاً * يشيب رأس وليده

فصب موسى عليها * بخيله وجنوده

فدانت الشام لما * أتى بسنح وحيده

هذا الجواد الذي بـ * ـذِ كل جود بجوده

أعده جود أبيه * يحيى وجود جدوده

فجاد موسى بن يحيى * بطارف وتليده

ونال موسى ذرى المجـ * ـد وهو حشو مهوده

خصصته بمديحي * منثوره وقصيده

‏(‏ج/ص‏:‏ 10 /181‏)‏

من البرامك عوداً * له فأكرم بعوده

حووا على الشعر طراً * خفيفه ومديده

وفيها‏:‏ عزل الرشيد الغطريف بن عطاء عن خراسان وولاها حمزة بن مالك بن الهيثم الخزاعي الملقب‏:‏ بالعروس‏.‏

وفيها‏:‏ ولى الرشيد جعفر بن يحيى بن خالد نيابة مصر، فاستناب عليها جعفر عمر بن مهران، وكان رديء الخلق رديء الشكل زمن الكف أحول، وكان سبب ولايته إياها أن نائبها موسى بن عيسى كان قد عزم على خلع الرشيد، فقال الرشيد‏:‏ والله لأعزلنه ولأولين عليها أحسن الناس‏.‏

فاستدعى عمر بن مهران هذا فولاه عليها عن نائبه جعفر بن يحيى البرمكي‏.‏

فسار إليها على بغل وغلامه أبو درة على بغل آخر، فدخلها كذلك فانتهى إلى مجلس نائبها موسى بن عيسى فجلس في أخريات الناس، فلما انفض الناس أقبل عليه موسى بن عيسى وهو لا يعرف من هو، فقال‏:‏ ألك حاجة يا شيخ ‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏ أصلح الله الأمير‏.‏

ثم دفع الكتب إليه فلما قرأها قال‏:‏ أنت عمر بن مهران ‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قال‏:‏ لعن الله فرعون حين قال‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 51‏]‏‏.‏

ثم سلم إليه العمل وارتحل منها، وأقبل عمر بن مهران على عمله، وكان لا يقبل شيئاً من الهدايا إلا ما كان ذهباً أو فضة أو قماشاً، ثم يكتب على كل هدية اسم مهديها، ثم يطالب بالخراج ويلح في طلبه عليهم، وكان بعضهم يماطله به، فأقسم لا يماطله أحد إلا فعل به وفعل‏.‏

فجمع من ذلك شيئاً كثيراً، وكان يبعث ما جمعه إلى بغداد، ومن ماطله بعثه إلى بغداد، فتأدب الناس معه‏.‏

ثم جاءهم القسط الثاني فعجز كثير منهم عن الأداء فجعل يستحضر ما كانوا أدوه إليه من الهدايا، فإن كان نقداً أداه عنهم، وإن كان براً باعه وأداه عنهم‏.‏

وقال لهم‏:‏ إني إنما ادخرت هذا لكم إلى وقت حاجتكم‏.‏

ثم أكمل استخراج جميع الخراج بديار مصر ولم يفعل ذلك أحد من قبله، ثم انصرف عنها لأنه كان قد شرط على الرشيد أنه إذا مهد البلاد وجبى الخراج، فذاك إذنه في الانصراف‏.‏

ولم يكن معه بالديار المصرية جيش ولا غيره سوى مولاه أبو درة وحاجبه، وهو منفذ أموره‏.‏

وفيها‏:‏ غزا الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك ففتح حصناً‏.‏

وفيها‏:‏ حجت زبيدة زوجة الرشيد ومعها أخوها، وكان أمير الحج سليمان بن أبي جعفر المنصور عم الرشيد‏.‏

 وفيها توفي‏:‏

إبراهيم بن صالح

ابن علي بن عبد الله بن عباس، كان أميراً على مصر، توفي في شعبان‏.‏

وإبراهيم بن هرمة

كان شاعراً، وهو‏:‏ إبراهيم بن علي بن سلمة بن عامر بن هرمة، أبو إسحاق الفهري المدني، وفد على المنصور في وفد أهل المدينة حين استوفدهم عليه، فجلسوا إلى سترٍ دون المنصور، يرى الناس من ورائه ولا يرونه، وأبو الخصيب الحاجب واقف يقول‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ هذا فلان الخطيب، فيأمره فيخطب، ويقول‏:‏ هذا فلان الشاعر فيأمره فينشد‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/182‏)‏

حتى كان من آخرهم ابن هرمة هذا، فسمعته يقول‏:‏ لا مرحباً ولا أهلاً ولا أنعم الله بك عيناً‏.‏

قال‏:‏ فقلت‏:‏ هلكت‏.‏

ثم استنشدني فأنشدته قصيدتي التي أقول فيها‏:‏

سرى ثوبه عند الصبا المتجابل * وقرب للبين الخليط المزايل

حتى انتهيت إلى قولي‏:‏

فأما الذي أمنته يأمن الردى * وأما الذي حاولت بالثكل ثاكل

قال‏:‏ فأمر برفع الحجاب فإذا وجهه كأنه فلقة قمر، فاستنشدني بقية القصيدة وأمر لي بالقرب بين يديه، والجلوس إليه، ثم قال‏:‏ ويحك يا إبراهيم ‏!‏ لولا ذنوب بلغتني عنك لفضلتك على أصحابك‏.‏

فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ كل ذنب بلغك عني لم تعف عنه فأنا مقر به‏.‏

قال‏:‏ فتناول المخصرة فضربني بها ضربتين وأمر لي بعشرة آلاف وخلعة وعفا عني وألحقني بنظرائي‏.‏

وكان من جملة ما نقم المنصور عليه قوله‏:‏

ومهما ألام على حبهم * فإني أحب بني فاطمة

بني بنت من جاء بالمحكما * ت وبالدين وبالسنة القائمة

فلست أبالي بحبي لهم * سواهم من النعم السائمة

قال الأخفش‏:‏ قال لنا ثعلب‏:‏ قال الأصمعي‏:‏ ختمت الشعراء بابن هرمة‏.‏

ذكر وفاته في هذه السنة أبو الفرج بن الجوزي‏.‏

وفيها‏:‏ توفي الجراح بن مليح والد وكيع بن الجراح، وسعيد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن جميل أبو عبد الله المديني، ولي قضاء بغداد سبعة عشر سنة لعسكر المهدي، وثقه ابن معين وغيره‏.‏

وفيها توفي‏:‏

صالح بن بشير المري

أحد العباد والزهاد، كان كثير البكاء، وكان يعظ فيحضر مجلسه سفيان الثوري وغيره من العلماء‏.‏

ويقول سفيان‏:‏ هذا نذير قوم‏.‏

وقد استدعاه المهدي ليحضر عنده فجاء إليه راكباً على حمار فدناه من بساط الخليفة وهو راكب فأمر الخليفة ابنيه - وليي العهد من بعده موسى الهادي وهارون الرشيد - أن يقوما إليه لينزلاه عن دابته، فابتدراه فأنزلاه، فأقبل صالح على نفسه فقال‏:‏ لقد خبت وخسرت إن أنا داهنت ولم أصدع بالحق في هذا اليوم، وفي هذا المقام‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/183‏)‏

ثم جلس إلى المهدي فوعظه موعظة بليغة حتى أبكاه، ثم قال له‏:‏ اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خصم من خالفه في أمته، ومن كان محمد خصمه كان الله خصمه، فأعد لمخاصمة الله ومخاصمة رسوله حججاً تضمن لك النجاة، وإلا فاستسلم للهلكة، واعلم أن أبطأ الصرعى نهضة صريع هوى بدعته، واعلم أن الله قاهر فوق عباده، وأن أثبت الناس قدماً آخذهم بكتاب الله وسنة رسوله، وكلام طويل‏.‏

فبكى المهدي وأمر بكتابة ذلك الكلام في دواوينه‏.‏

وفيها‏:‏ توفي عبد الملك بن محمد بن محمد بن أبي بكر، عمرو بن حزم قدم قاضياً بالعراق‏.‏

وفرج بن فضالة التنوخي الحمصي، كان على بيت المال ببغداد في خلافة الرشيد، فتوفي في هذه السنة، وكان مولده سنة ثمان وثمانين فمات وله ثمان وثمانون سنة‏.‏

ومن مناقبه أن المنصور دخل يوماً إلى قصر الذهب فقام الناس إلا فرج بن فضالة فقال له وقد غضب عليه‏:‏ لم لم تقم ‏؟‏

قال‏:‏ خفت أن يسألني الله عن ذلك ويسألك لم رضيت بذلك، وقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم القيام للناس‏.‏

قال‏:‏ فبكى المنصور وقربه وقضى حوائجه‏.‏

والمسيب بن زهير بن عمرو، أبو سلمة الضبي، كان والي الشرطة ببغداد في أيام المنصور والمهدي والرشيد، وولي خراسان مرة للمهدي‏.‏

عاش ستاً وتسعين سنة‏.‏

والوضاح بن عبد الله، أبو عوانة السري مولاهم، كان من أئمة المشايخ في الرواية‏.‏

توفي في هذه السنة وقد جاوز الثمانين‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائة

فيها‏:‏ عزل الرشيد جعفر البرمكي عن مصر وولى عليها إسحاق بن سليمان، وعزل حمزة بن مالك عن خراسان وولى عليها الفضل بن يحيى البرمكي مضافاً إلى ما كان بيده من الأعمال بالري وسجستان وغير ذلك‏.‏

وذكر الواقدي‏:‏ أنه أصاب الناس ريح شديدة وظلمة في أواخر المحرم من هذه السنة، وكذلك في أواخر صفر منها‏.‏

وفيها حج بالناس‏:‏ الرشيد‏.‏

 وفيها توفي‏:‏

شريك بن عبد الله

القاضي الكوفي النخعي، سمع أبا إسحاق وغير واحد، وكان مشكوراً في حكمه وتنفيذ الأحكام، وكان لا يجلس للحكم حتى يتغدى ثم يخرج ورقة من خفه فينظر فيها ثم يأمر بتقديم الخصومة إليه، فحرص بعض أصحابه على قراءة ما في تلك الورقة فإذا فيها‏:‏ يا شريك بن عبد الله ‏!‏ اذكر الصراط وحدته، يا شريك بن عبد الله ‏!‏ اذكر الموقف بين يدي الله عز وجل‏.‏

كانت وفاته يوم السبت مستهل ذي القعدة منها‏.‏

وفيها توفي‏:‏ عبد الواحد بن زيد، ومحمد بن مسلم وموسى بن أعين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/184‏)‏

 ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائة

فيها‏:‏ وثبت طائفة من الحوفية من قيس وقضاعة على عامل مصر إسحاق بن سليمان فقاتلوه وجرت فتنة عظيمة فبعث الرشيد هرثمة بن أعين نائب فلسطين في خلق من الأمراء مدداً لإسحاق، فقاتلوهم حتى أذعنوا بالطاعة وأدّوا ما عليهم من الخراج والوظائف، واستمر هرثمة نائباً على مصر نحواً من شهر عوضاً عن إسحاق بن سليمان، ثم عزله الرشيد عنها وولى عليها عبد الملك بن صالح‏.‏

وفيها‏:‏ وثبت طائفة من أهل إفريقية فقتلوا الفضل بن روح بن حاتم وأخرجوا من كان بها من آل المهلب، فبعث إليهم الرشيد هرثمة فرجعوا إلى الطاعة على يديه‏.‏

وفيها‏:‏ فوض الرشيد أمور الخلافة كلها إلى يحيى بن خالد بن برمك‏.‏

وفيها‏:‏ خرج الوليد بن طريف بالجزيرة وحكم بها وقتل خلقاً من أهلها، ثم مضى منها إلى أرمينية فكان من أمره ما سنذكره‏.‏

وفيها‏:‏ سار الفضل بن يحيى إلى خراسان فأحسن السيرة فيها وبنى فيها الربط والمساجد، وغزا ما وراء النهر، واتخذ بها جنداً من العجم سماهم العباسية، وجعل ولاءهم له، وكانوا نحواً من خمسمائة ألف، وبعث منهم نحواً من عشرين ألفاً إلى بغداد، فكانوا يعرفونه بها بالكرمينية، وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة‏:‏

ما الفضل إلا شهاب لا أفول له * عند الحروب إذا ما تأفل الشهب

حام على ملك قوم غرٌّ سهمهم * من الوراثة في أيديهم سبب

أمست يد لبني ساق الحجيج بها * كتائب ما لها في غيرهم أرب

كتائب لبني العباس قد عرفت * ما ألّف الفضل منها العجم والعرب

أثبت خمس مئين في عدادهم * من الألوف التي أحصت لها الكتب

يقارعون عن القوم الذين هم * أولى بأحمد في الفرقان إن نسبوا

إن الجواد بن يحيى الفضل لا ورق * يبقى على جود كفيه ولا ذهب

ما مر يوم له مذ شد مئزره * إلا تمول أقوام بما يهب

كم غاية في الندى والبأس أحرزها * للطالبين مداها دونها تعب

يعطي النهى حين لا يعطي الجواد ولا * ينبو إذا سلت الهندية القضب

ولا الرضى والرضى لله غايته * إلى سوى الحق يدعوه ولا الغضب

وقد فاض عرفك حتى ما يعادله * غيث ولا بحر له حدب

وكان قد أنشده قبل خروجه إلى خراسان‏:‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/185‏)‏

ألم تر أن الجود من يد آدم * تحدر حتى صار في راحة الفضل

إذا ما أبو العباس سحت سماؤه * فيا لك من هطل ويا لك من وبل

وقال فيه أيضاً‏:‏

إذا أم طفل راعها جوع طفلها * دعته باسم الفضل فاعتصم الطفل

ليحيى بك الإسلام إنك عزه * وإنك من قوم صغيرهم كهل

قال‏:‏ فأمر له بمائة ألف درهم‏.‏ ذكره ابن جرير‏.‏

وقال سلم الخاسر فيهم أيضاً‏:‏

وكيف تخاف من بؤس بدار * يجاورها البرامكة البحور

وقوم منهم الفضل بن يحيى * نفير ما يوازنه نفير

له يومان يوم ندى وبأس * كأن الدهر بينهما أسير

إذا ما البرمكي غدا ابن عشر * فهمته أمير أو وزير

وقد اتفق للفضل في هذه السفرة إلى خرسان أشياء غريبة، وفتح بلاداً كثيرةً، منها‏:‏ كابل، وما وراء النهر، وقهر ملك الترك وكان ممتنعاً، وأطلق أموالاً جزيلةً جداً، ثم أقفل راجعاً إلى بغداد، فلما اقترب منها خرج الرشيد ووجوه الناس إليه، وقدم عليه الشعراء والخطباء وأكابر الناس، فجعل يطلق الألف ألف، والخمسمائة ألف ونحوها، وأنفذ في ذلك من الأحوال شيئاً كثيراً لا يمكن حصره إلا بتعب وكلفة، وقد دخل عليه بعض الشعراء والبدر موضوعة بين يديه وهي تفرق على الناس فقال‏:‏

كفى الله بالفضل بن يحيى بن خالد * وجود يديه بخل كل بخيل

فأمر له بمال جزيل‏.‏

وغزا الصائفة في هذه السنة‏:‏ معاوية بن زفير بن عاصم‏.‏

وغزا الشاتية‏:‏ سليمان بن راشد‏.‏

وحج بالناس فيها‏:‏ محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس نائب مكة‏.‏

وفيها توفي‏:‏ جعفر بن سليمان، وعنتر بن القاسم، وعبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، القاضي ببغداد، وصلى عليه الرشيد ودفن بها، وقد قيل‏:‏ إنه مات في التي قبلها، فالله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/186‏)‏

 ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائة

فيها‏:‏ كان قدوم الفضل بن يحيى من خراسان وقد استخلف عليها عمر بن جميل، فولى الرشيد عليها منصور بن يزيد بن منصور الحميري‏.‏

وفيها‏:‏ عزل الرشيد خالد بن برمك عن الحجوبة وردها إلى الفضل بن ربيع‏.‏

وفيها‏:‏ خرج بخراسان حمزة بن أترك السجستاني، وكان من أمره ما سيأتي طرف منه‏.‏

وفيها‏:‏ رجع الوليد بن طريف الشاري إلى الجزيرة واشتدت شوكته وكثر أتباعه، فبعث إليه الرشيد يزيد بن مزيد الشيباني فراوغه حتى قتله وتفرق أصحابه، فقالت الفارعة في أخيها الوليد بن طريف ترثيه‏:‏

أيا شجر الخابور مالك مورقاً * كأنك لم تجزع على ابن طريف

فتى لا يحبُّ الزاد إلا من التقى * ولا المال إلا من قنا وسيوف

وفيها‏:‏ خرج الرشيد معتمراً من بغداد شكراً لله عز وجل، فلما قضى عمرته أقام بالمدينة حتى حج بالناس في هذه السنة، فمشى من مكة إلى منى ثم إلى عرفات، وشهد المشاهد والمشاعر كلها ماشياً، ثم انصرف إلى بغداد على طريق البصرة‏.‏

 وفيها توفي‏:‏

إسماعيل بن محمد

ابن يزيد بن ربيعة، أبو هاشم الحميري، الملقب‏:‏ بالسيد، كان من الشعراء المشهورين المبرزين فيه، ولكنه كان رافضياً خبيثاً، وشيعياً غثيثاً، وكان ممن يشرب الخمر ويقول بالرجعة - أي‏:‏ بالدور -‏.‏

قال يوماً لرجل‏:‏ أقرضني ديناراً ولك عندي مائة دينار إذا رجعنا إلى الدنيا‏.‏

فقال له الرجل‏:‏ إني أخشى أن تعود كلباً أو خنزيراً فيذهب ديناري‏.‏

وكان قبحه الله يسب الصحابة في شعره‏.‏

قال الأصمعي‏:‏ ولولا ذلك ما قدمت عليه أحداً في طبقته، ولا سيما الشيخين وابنيهما‏.‏

وقد أورد ابن الجوزي شيئاً من شعره في ذلك كرهت أن أذكره لبشاعته وشناعته، وقد أسود وجهه عند الموت وأصابه كرب شديد جداً‏.‏

ولما مات لم يدفنوه لسبه الصحابة رضي الله عنهم‏.‏

وفيها توفي‏:‏

حماد بن زيد

أحد أئمة الحديث‏.‏

وخالد بن عبد الله، أحد الصلحاء، كان من سادات المسلمين، اشترى نفسه من الله أربع مرات‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/187‏)‏

ومالك بن أنس الإمام، والهقل بن زياد، صاحب الأوزاعي، وأبو الأحوص‏.‏

وكلهم قد ذكرناهم في التكميل‏.‏

والإمام مالك

هو أشهرهم وهو أحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة، فهو‏:‏ مالك بن أنس بن مالك بن عامر بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيلان بن حشد بن عمرو بن الحارث، وهو ذو أصبح الحميري، أبو عبد الله المدني إمام دار الهجرة في زمانه‏.‏

روى مالك عن‏:‏ غير واحد من التابعين، وحدث عنه خلق من الأئمة، منهم‏:‏ السفيانان، وشعبة، وابن المبارك، والأوزاعي، وابن مهدي، وابن جريج، والليث، والشافعي، والزهري شيخه، ويحيى بن سعيد الأنصاري وهو شيخه، ويحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن يحيى الأندلسي، ويحيى بن يحيى النيسابوري‏.‏

قال البخاري‏:‏ أصح الأسانيد مالك، عن نافع، عن ابن عمر‏.‏

وقال سفيان بن عيينة‏:‏ ما كان أشد انتقاده للرجال‏.‏

وقال يحيى بن معين‏:‏ كل من روى عن مالك فهو ثقة، إلا أبا أمية‏.‏

وقال غير واحد‏:‏ هو أثبت أصحاب نافع والزهري‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ إذا جاء الحديث فمالك النجم‏.‏

وقال‏:‏ من أراد الحديث فهو عيال على مالك‏.‏

ومناقبه كثيرة جداً، وثناء الأئمة عليه أكثر من أن يحصر في هذا المكان‏.‏

قال أبو مصعب‏:‏ سمعت مالكاً، يقول‏:‏ ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك‏.‏

وكان إذا أراد أن يحدث تنظف وتطيب وسرح لحيته ولبس أحسن ثيابه، وكان يلبس حسناً‏.‏

وكان نقش خاتمه‏:‏ حسبي الله ونعم الوكيل، وكان إذا دخل منزله قال‏:‏ ما شاء الله ولا قوة إلا بالله‏.‏

وكان منزله مبسوطاً بأنواع المفارش‏.‏

ومن وقت خروج محمد بن عبد الله بن حسن لزم مالك بيته فلم يكن يأتي أحداً لا لعزاء ولا لهناء، ولا يخرج لجمعة ولا لجماعة، ويقول‏:‏ ما كل ما يعلم يقال، وليس كل أحد يقدر على الاعتذار‏.‏

ولما احتضر قال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، ثم جعل يقول‏:‏ لله الأمر من قبل ومن بعد، ثم قبض في ليلة أربعة عشر من صفر‏.‏

وقيل‏:‏ من ربيع الأول من هذه السنة، وله خمس وثمانون سنة‏.‏

قال الواقدي‏:‏ بلغ سبعين سنة ودفن بالبقيع‏.‏

وقد روى الترمذي، عن سفيان بن عيينة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏‏(‏يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أحداً أعلم من عالم المدينة‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ هذا حديث حسن‏.‏

وقد روي عن ابن عيينة، أنه قال‏:‏ هو مالك بن أنس‏.‏ وكذا قال عبد الرزاق‏.‏

وعن ابن عيينة رواية‏:‏ أنه عبد العزيز بن عبد الله العمري‏.‏

وقد ترجمه ابن خلكان في الوفيات فأطنب وأتى بفوائد جمة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 188‏)‏

 ثم دخلت سنة ثمانين ومائة

فيها‏:‏ هاجت الفتنة بالشام بن النزارية واليمنية، فانزعج الرشيد لذلك فندب جعفر البرمكي إلى الشام في جماعة من الأمراء والجنود، فدخل الشام فانقاد الناس له ولم يدع جعفر بالشام فرساً ولا سيفاً ولا رمحاً إلا استلبه من الناس، وأطفأ الله به نار تلك الفتنة‏.‏

وفي ذلك يقول بعض الشعراء‏:‏

لقد أوقدت بالشام نيران فتنة * فهذا أوان الشام تخمد نارها

إذا جاش موج البحر من آل برمك * عليها خبت شهبانها وشرارها

رماها أمير المؤمنين بجعفر * وفيه تلافى صدعها وانكسارها

رماها بميمون النقيبة ماجد * تراضى به قحطانها ونزارها

ثم كرَّ جعفر راجعاً إلى بغداد بعد ما استخلف على الشام عيسى العكي، ولما قدم على الرشيد أكرمه وقربه وأدناه، وشرع جعفر يذكر كثرة وحشته له في الشام، ويحمد الله الذي منَّ عليه برجوعه إلى أمير المؤمنين ورؤيته وجهه‏.‏

وفيها‏:‏ ولى الرشيد جعفراً خراسان وسجستان فاستعمل على ذلك محمد بن الحسن بن قحطبة، ثم عزل الرشيد جعفراً عن خراسان بعد عشرين ليلة‏.‏

وفيها‏:‏ هدم الرشيد سور الموصل بسبب كثرة الخوارج، وجعل الرشيد جعفراً على الحرس، ونزل الرشيد الرقة واستوطنها واستناب على بغداد ابنه الأمين محمداً وولاه العراقين، وعزل هرثمة عن إفريقية واستدعاه إلى بغداد فاستنابه جعفر على الحرس‏.‏

وفيها‏:‏ كانت بمصر زلزلة شديدة سقط منها رأس منارة الإسكندرية‏.‏

وفيها‏:‏ خرج بالجزيرة خراشة الشيباني فقتله مسلم بن بكار بن مسلم العقيلي‏.‏

وفيها‏:‏ ظهرت طائفة بجرجان يقال لها‏:‏ المحمرة لبسوا الحمرة واتبعوا رجلاً، يقال له‏:‏ عمرو بن محمد العمركي، وكان ينسب إلى الزندقة، فبعث الرشيد يأمر بقتله فقتل وأطفأ الله نارهم في ذلك الوقت‏.‏

وفيها‏:‏ غزا الصائفة زفر بن عاصم‏.‏

وحج بالناس موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وفاة جماعة من الأعيان‏:‏

إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري

قارئ أهل المدينة، ومؤدب علي بن المهدي ببغداد‏.‏

وقد مات‏:‏

علي بن المهدي، في هذه السنة أيضاً، وقد ولي إمارة الحج غير مرة، وكان أسن من الرشيد بشهور‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/189‏)‏

حسان بن أبي سنان

ابن أبي أوفى بن عوف التنوخي الأنباري، ولد سنة ستين، ورأى أنس بن مالك ودعا له فجاء من نسله قضاة ووزراء وصلحاء، وأدرك الدولتين الأموية والعباسية‏.‏

وكان نصرانياً فأسلم وحسن إسلامه، وكان يكتب بالعربية والفارسية والسريانية، وكان يعرِّب الكتب بين يدي ربيعة لما ولاه السفاح الأنبار‏.‏

 وفيها توفي‏:‏

عبد الوارث بن سعيد البيروتي

أحد الثقات‏.‏

وعافية بن يزيد

ابن قيس القاضي للمهدي على جانب بغداد الشرقي، هو‏:‏ ابن علاثة، وكانا يحكمان بجامع الرصافة‏.‏

وكان عافية عابداً زاهداً ورعاً، دخل يوماً على المهدي في وقت الظهيرة فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين اعفني‏.‏

فقال له المهدي‏:‏ ولم أعفيك‏؟‏ هل اعترض عليك أحد من الأمراء ‏؟‏

فقال له‏:‏ لا ‏!‏ ولكن كان بين اثنين خصومة عندي فعمد أحدهما إلى رطب السكر - وكأنه سمع أني أحبه - فأهدى إلي منه طبقاً لا يصلح إلا لأمير المؤمنين، فرددته عليه، فلما أصبحنا وجلسنا إلى الحكومة، لم يستويا عندي في قلبي ولا نظري، بل مال قلبي إلى المهدي منهما، هذا مع أني لم أقبل منه ما أهداه فكيف لو قبلت منه‏؟‏ فأعفني عفا الله عنك فأعفاه‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ كنت عند الرشيد يوماً وعنده عافية وقد أحضره لأن قوماً استعدوا عليه إلى الرشيد، فجعل الرشيد يوقفه على ما قيل عنه وهو يجيب عما يسأله‏.‏

وطال المجلس فعطس الخليفة فشمته الناس ولم يشمته عافية، فقال له الرشيد‏:‏ لم لم تشمتني مع الناس ‏؟‏

فقال‏:‏ لأنك لم تحمد الله، واحتج بالحديث في ذلك‏.‏

فقال له الرشيد‏:‏ ارجع لعملك فوالله ما كنت لتفعل ما قيل عنك، وأنت لم تسامحني في عطسة لم أحمد الله فيها‏.‏

ثم رده رداً جميلاً إلى ولايته‏.‏

وفيها توفي‏:‏

سيبويه

إمام النحاة، واسمه‏:‏ عمرو بن عثمان بن قنبر، أبو بشر، المعروف‏:‏ بسيبويه، مولى بني الحارث بن كعب‏.‏

وقيل‏:‏ مولى آل الربيع بن زياد‏.‏

وإنما سمي سيبويه لأن أمه كانت ترقصه وتقول له ذلك، ومعنى سيبويه‏:‏ رائحة التفاح، وقد كان في ابتداء أمره يصحب أهل الحديث والفقهاء، وكان يستملي على حماد بن سلمة، فلحن يوماً فرد عليه قوله فأنف من ذلك، فلزم الخليل بن أحمد فبرع في النحو، ودخل بغداد وناظر الكسائي‏.‏

وكان سيبويه شاباً حسناً جميلاً نظيفاً، وقد تعلق من كل علم بسبب، وضرب مع كل أهل أدب بسهم مع حداثة سنه‏.‏

وقد صنف في النحو كتاباً لا يلحق شأوه، وشرحه أئمة النحاة بعده فانغمروا في لجج بحره، واستخرجوا من درره، ولم يبلغوا إلى قعره‏.‏

وقد زعم ثعلب أنه لم ينفرد بتصنيفه، بل ساعده جماعة في تصنيفه نحواً من أربعين نفساً هو أحدهم، وهو أصول الخليل، فادعاه سيبويه إلى نفسه‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/190‏)‏

وقد استبعد ذلك السيرافي في كتاب طبقات النحاة‏.‏

قال‏:‏ وقد أخذ سيبويه اللغات عن أبي الخطاب، والأخفش، وغيرهما‏.‏

وكان سيبويه يقول‏:‏ سعيد بن أبي العروبة، والعروبة يوم الجمعة‏.‏

وكان يقول‏:‏ من قال عروبة فقد أخطأ‏.‏

فذكر ذلك ليونس فقال‏:‏ أصاب لله دره‏.‏

وقد ارتحل إلى خراسان ليحظى عند طلحة بن طاهر فإنه كان يحب النحو فمرض هناك مرضه الذي توفي فيه فتمثل عند الموت‏:‏

يؤمل دنيا لتبقى له * فمات المؤمل قبل الأمل

يربي فسيلاً ليبقى له * فعاش الفسيل ومات الرجل

ويقال‏:‏ إنه لما احتضر وضع رأسه في حجر أخيه فدمعت عين أخيه فاستفاق فرآه يبكي فقال‏:‏

وكنا جميعاً فرَّق الدهر بيننا * إلى الأمد الأقصى فمن يأمن الدهرا

قال الخطيب البغدادي‏:‏ يقال‏:‏ إنه توفي وعمره ثنتان وثلاثون سنة‏.‏

وفيها توفيت‏:‏

عفيرة العابدة

كانت طويلة الحزن كثيرة البكاء‏.‏

قدم قريب لها من سفر فجعلت تبكي، فقيل لها في ذلك فقالت‏:‏ لقد ذكرني قدوم هذا الفتى يوم القدوم على الله، فمسرور ومثبور‏.‏

وفيها مات‏:‏

مسلم بن خالد الزنجي

شيخ الشافعي، كان من أهل مكة، ولقد تكلموا فيه لسوء حفظه‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ومائة

فيها‏:‏ غزا الرشيد بلاد الروم فافتتح حصناً يقال له‏:‏ الصفصاف، فقال في ذلك مروان بن أبي حفصة‏:‏

إن أمير المؤمنين المنصفا * قد ترك الصفصاف قاعاً صفصفا

وفيها‏:‏ غزا عبد الملك بن صالح بلاد الروم فبلغ أنقرة وافتتح مطمورة‏.‏

وفيها‏:‏ تغلبت المحمرة على جرجان‏.‏

وفيها‏:‏ أمر الرشيد أن يكتب في صدور الرسائل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الثناء على الله عز وجل‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس الرشيد وتعجل بالنفر، وسأله يحيى بن خالد أن يعفيه من الولاية فأعفاه وأقام يحيى بمكة‏.‏

وفيها توفي‏:‏

الحسن بن قحطبة

أحد أكابر الأمراء‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/191‏)‏

وحمزة بن مالك، ولي إمرة خراسان في أيام الرشيد‏.‏

وخلف بن خليفة، شيخ الحسن بن عرفة، عن مائة سنة‏.‏

وعبد الله بن المبارك

أبو عبد الرحمن المروزي، كان أبوه تركياً مولى لرجل من التجار من بني حنظلة من أهل همذان، وكان ابن المبارك إذا قدمها أحسن إلى ولد مولاهم، وكانت أمه خوارزمية‏.‏

ولد لثمان عشرة ومائة‏.‏

وسمع‏:‏ إسماعيل بن خالد، والأعمش، وهشام بن عروة، وحميد الطويل، وغيرهم من أئمة التابعين‏.‏

وحدث عنه خلائق من الناس‏.‏

وكان موصوفاً بالحفظ والفقه والعربية والزهد والكرم والشجاعة والشعر، له التصانيف الحسان، والشعر الحسن المتضمن حكماً جمة، وكان كثير الغزو والحج، وكان له رأس مال نحو أربعمائة ألف يدور يتجر به في البلدان، فحيث اجتمع بعالم أحسن إليه، وكان يربو كسبه في كل سنة على مائة ألف ينفقها كلها في أهل العبادة والزهد والعلم، وربما أنفق من رأس ماله‏.‏

قال سفيان بن عيينة‏:‏ نظرت في أمره وأمر الصحابة فما رأيتهم يفضلون عليه إلا في صحبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال إسماعيل بن عياش‏:‏ ما على وجه الأرض مثله، وما أعلم خصلة من الخير إلا وقد جعلها الله في ابن المبارك، ولقد حدثني أصحابي أنهم صحبوه من مصر إلى مكة فكان يطعمهم الخبيص وهو الدهر صائم‏.‏

وقدم مرة الرقة وبها هارون الرشيد، فلما دخلها احتفل الناس به وازدحم الناس حوله، فأشرفت أم ولد للرشيد من قصر هناك فقالت‏:‏ ما للناس ‏؟‏

فقيل لها‏:‏ قدم رجل من علماء خراسان يقال له‏:‏ عبد الله بن المبارك فانجفل الناس إليه‏.‏

فقالت المرأة‏:‏ هذا هو الملك، لا ملك هارون الرشيد الذي يجمع الناس عليه بالسوط والعصا والرغبة والرهبة‏.‏

وخرج مرة إلى الحج فاجتاز ببعض البلاد فمات طائر معهم فأمر بإلقائه على مزبلة هناك، وسار أصحابه أمامه وتخلف هو وراءهم، فلما مر بالمزبلة إذا جارية قد خرجت من دار قريبة منها فأخذت ذلك الطائر الميت ثم لفته ثم أسرعت به إلى الدار، فجاء فسألها عن أمرها وأخذها الميتة، فقالت‏:‏ أنا وأخي هنا ليس لنا شيء إلا هذا الإزار، وليس لنا قوت إلا ما يلقى على هذه المزبلة، وقد حلت لنا الميتة منذ أيام، وكان أبونا له مال فظلم وأخذ ماله وقتل‏.‏

فأمر ابن المبارك برد الأحمال وقال لوكيله‏:‏ كم معك من النفقة ‏؟‏

قال‏:‏ ألف دينار‏.‏

فقال‏:‏ عدَّ منها عشرين ديناراً تكفينا إلى مرو وأعطها الباقي، فهذا أفضل من حجنا في هذا العام، ثم رجع‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/192‏)‏

وكان إذا عزم على الحج يقول لأصحابه‏:‏ من عزم منكم في هذا العام على الحج فليأتني بنفقته حتى أكون أنا أنفق عليه، فكان يأخذ منهم نفقاتهم ويكتب على كل صرة اسم صاحبها ويجمها في صندوق‏.‏

ثم يخرج بهم في أوسع ما يكون من النفقات والركوب، وحسن الخلق والتيسير عليهم، فإذا قضوا حجتهم فيقول لهم‏:‏ هل أوصاكم أهلوكم بهدية ‏؟‏

فيشتري لكل واحد منهم ما وصاه أهله من الهدايا المكية واليمنية وغيرها، فاذا جاؤوا إلى المدينة اشترى لهم منها الهدايا المدنية‏.‏

فإذا رجعوا إلى بلادهم بعث من أثناء الطريق إلى بيوتهم فأصلحت وبيضت أبوابها ورمم شعثها، فإذا وصلوا إلى البلد عمل وليمة بعد قدومهم ودعاهم فأكلوا وكساهم، ثم دعا بذلك الصندوق ففتحه وأخرج منه تلك الصرر ثم يقسم عليهم أن يأخذ كل واحد نفقته التي عليها اسمه، فيأخذونها وينصرفون إلى منازلهم وهم شاكرون ناشرون لواء الثناء الجميل‏.‏

وكانت سفرته تحمل على بعير وحدها، وفيها من أنواع المأكول من اللحم والدجاج والحلوى وغير ذلك، ثم يطعم الناس وهو الدهر صائم في الحر الشديد‏.‏

وسأله مرة سائل فأعطاه درهماً، فقال له بعض أصحابه‏:‏ إن هؤلاء يأكلون الشواء والفالودج، وقد كان يكفيه قطعة‏.‏

فقال‏:‏ والله ما ظننت أنه يأكل إلا البقل والخبز، فأما إذا كان يأكل الفالوذج والشواء فإنه لا يكفيه درهم‏.‏

ثم أمر بعض غلمانه فقال‏:‏ رده وادفع إليه عشرة دراهم‏.‏

وفضائله ومناقبه كثيرة جداً‏.‏

قال أبو عمر بن عبد البر‏:‏ أجمع العلماء على قبوله وجلالته وإمامته وعدله‏.‏

توفي عبد الله بن المبارك بهيت في هذه السنة في رمضانها عن ثلاث وستين سنة‏.‏

ومفضل بن فضالة

ولي قضاء مصر مرتين، وكان ديِّناً ثقةً، فسأل الله أن يذهب عنه الأمل فأذهبه، فكان بعد ذلك لا يهنئه العيش ولا شيء من الدنيا، فسأل الله أن يرده عليه فرده فرجع إلى حاله‏.‏

ويعقوب التائب

العابد الكوفي‏.‏

قال علي بن الموفق‏:‏ عن منصور بن عمار‏:‏ خرجت ذات ليلة وأنا أظن أني قد أصبحت، فإذا عليِّ ليل، فجلست إلى باب صغير وإذا شاب يبكي وهو يقول‏:‏ وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتك مخالفتك ولكن سولت لي نفسي، وغلبتني شقوتي، وغرني سترك المرخي عليَّ، فالآن من عذابك من يستنقذني‏؟‏ وبحبل من اتصل إن أنت قطعت حبلك عني ‏؟‏

واسوأتاه على ما مضى من أيامي في معصية ربي، يا ويلي كم أتوب وكم أعود، قد حان لي أن أستحي من ربي عز وجل‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/193‏)‏

قال منصور‏:‏ فقلت‏:‏ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 6‏]‏‏.‏

قال‏:‏ فسمعت صوتاً واضطراباً شديداً فذهبت لحاجتي، فلما رجعت مررت بذلك الباب فإذا جنازة موضوعة، فسألت عنه فإذا ذاك الفتى قد مات من هذه الآية‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين ومائة

فيها‏:‏ أخذ الرشيد لولده عبد الله المأمون ولاية العهد من بعد أخيه محمد الأمين بن زبيدة، وذلك بالرقة بعد مرجعه من الحج، وضم ابنه المأمون إلى جعفر بن يحيى البرمكي وبعثه إلى بغداد ومعه جماعة من أهل الرشيد خدمة له، وولاه خراسان وما يتصل بها، وسماه‏:‏ المأمون‏.‏

وفيها‏:‏ رجع يحيى بن خالد البرمكي من مجاورته بمكة إلى بغداد‏.‏

وفيها‏:‏ غزا الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح فبلغ مدينة أصحاب الكهف‏.‏

وفيها‏:‏ سملت الروم عيني ملكهم قسطنطين بن اليون وملكوا عليهم أمه ريني وتقلب أغسطه‏.‏

وحج بالناس موسى بن عيسى بن العباس‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

إسماعيل بن عياش الحمصي، أحد المشاهير من أئمة الشاميين، وفيه كلام‏.‏

ومروان بن أبي حفصة، الشاعر المشهور المشكور، كان يمدح الخلفاء والبرامكة‏.‏

ومعن بن زائدة

حصل من الأموال شيئاً كثيراً جداً، وكان مع ذلك من أبخل الناس، لا يكاد يأكل اللحم من بخله، ولا يشعل في بيته سراجاً، ولا يلبس من الثياب إلا الكرباسي والفرو الغليظ، وكان رفيقه سلم الخاسر إذا ركب إلى دار الخلافة يأتي على بردون وعليه حلَّة تساوي ألف دينار، والطيب ينفح من ثيابه، ويأتي هو في شر حالة وأسوئها‏.‏

وخرج يوماً إلى المهدي فقالت امرأة من أهله‏:‏ إن أطلق لك الخليفة شيئاً فاجعل لي منه شيئاً‏.‏

فقال‏:‏ إن أعطاني مائة ألف درهم فلك درهم‏.‏

فأعطاه ستين ألفاً فأعطاها أربعة دوانيق‏.‏

توفي ببغداد في هذه السنة، ودفن في مقبرة نصر بن مالك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/194‏)‏

والقاضي أبو يوسف

واسمه يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد بن حسنة، وهي أمه، وأبوه بجير بن معاوية، استصغر يوم أحد، وأبو يوسف كان أكبر أصحاب أبي حنيفة‏.‏

روى الحديث عن‏:‏ الأعمش، وهمام بن عروة، ومحمد بن إسحاق، ويحيى بن سعيد، وغيرهم‏.‏

وعنه‏:‏ محمد بن الحسن، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين‏.‏

قال علي بن الجعد‏:‏ سمعته يقول‏:‏ توفي أبي وأنا صغير فأسلمتني أمي إلى قصار، فكنت أمرُّ على حلقة أبي حنيفة فأجلس فيها، فكانت أمي تتبعني فتأخذ بيدي من الحلقة وتذهب بي إلى القصار، ثم كنت أخالفها في ذلك وأذهب إلى أبي حنيفة، فلما طال ذلك عليها قالت لأبي حنيفة‏:‏ إن هذا صبي يتيم ليس له شيء إلا ما أطعمه من مغزلي، وإنك قد أفسدته علي‏.‏

فقال لها‏:‏ اسكتي يا رعناء، هاهوذا يتعلم العلم وسيأكل الفالوذج بدهن الفستق في صحون الفيروزج‏.‏

فقالت له‏:‏ إنك شيخ قد خرفت‏.‏

قال أبو يوسف‏:‏ فلما وليت القضاء - وكان أول من ولاه القضاء الهادي، وهو أول من لقب قاضي القضاة، وكان يقال له‏:‏ قاضي قضاة الدنيا، لأنه كان يستنيب في سائر الأقاليم التي يحكم فيها الخليفة -‏.‏

قال أبو يوسف‏:‏ فبينا أنا ذات يوم عند الرشيد إذ أتي بفالوذج في صحن فيروزج فقال لي‏:‏ كل من هذا، فإنه لا يصنع لنا في كل وقت‏.‏

وقلت‏:‏ وما هذا يا أمير المؤمنين ‏؟‏

فقال‏:‏ هذا الفالوذج‏.‏

قال‏:‏ فتبسمت، فقال‏:‏ مالك تتبسم ‏؟‏

فقلت‏:‏ لاشيء أبقى الله أمير المؤمنين‏.‏

فقال‏:‏ لتخبرني‏.‏

فقصصت عليه القصة فقال‏:‏ إن العلم ينفع ويرفع في الدنيا والآخرة‏.‏

ثم قال‏:‏ رحم الله أبا حنيفة، فلقد كان ينظر بعين عقله ما لا ينظر بعين رأسه‏.‏

وكان أبو حنيفة يقول عن أبي يوسف‏:‏ إنه أعلم أصحابه‏.‏

وقال المزني‏:‏ كان أبو يوسف أتبعهم للحديث‏.‏

وقال ابن المديني‏:‏ كان صدوقاً‏.‏

وقال ابن معين‏:‏ كان ثقة‏.‏

وقال أبو زرعة‏:‏ كان سليماً من التجهم‏.‏

وقال بشار الخفاف‏:‏ سمعت أبا يوسف، يقول‏:‏ من قال‏:‏ القرآن مخلوق، فحرام كلامه، وفرض مباينته، ولا يجوز السلام ولا رده عليه‏.‏

ومن كلامه الذي ينبغي كتابته بماء الذهب قوله‏:‏ من طلب المال بالكيما، أفلس، ومن تتبع غرائب الحديث كذب، ومن طلب العلم بالكلام تزندق‏.‏

ولما تناظر هو ومالك بالمدينة بحضرة الرشيد في مسألة الصاع وزكاة الخضروات احتج مالك بما استدعى به من تلك الصيعان المنقولة عن آبائهم وأسلافهم، وبأنه لم يكن الخضروات يخرج فيها شيء في زمن الخلفاء الراشدين‏.‏

فقال أبو يوسف‏:‏ لو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت‏.‏ وهذا إنصاف منه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/195‏)‏

وقد كان يحضر في مجلس حكمه العلماء على طبقاتهم، حتى إن أحمد بن حنبل كان شاباً وكان يحضر مجلسه في أثناء الناس فيتناظرون ويتباحثون، وهو مع ذلك يحكم ويصنف أيضاً‏.‏

وقال‏:‏ وليت هذا الحكم وأرجو الله أن لا يسألني عن جور ولا ميل إلى أحد، إلا يوماً واحداً جاءني رجل فذكر أن له بستاناً وأنه في يد أمير المؤمنين، فدخلت إلى أمير المؤمنين فأعلمته فقال‏:‏ البستان لي اشتراه لي المهدي‏.‏

فقلت‏:‏ إن رأى أمير المؤمنين أن يحضره لأسمع دعواه‏.‏

فأحضره فادعى بالبستان فقلت‏:‏ ما تقول يا أمير المؤمنين ‏؟‏

فقال‏:‏ هو بستاني‏.‏

فقلت للرجل‏:‏ قد سمعت ما أجاب‏.‏

فقال الرجل‏:‏ يحلف‏.‏

فقلت‏:‏ أتحلف يا أمير المؤمنين ‏؟‏

فقال‏:‏ لا‏.‏

فقلت‏:‏ سأعرض عليك اليمين ثلاثاً فإن حلفت وإلا حكمت عليك يا أمير المؤمنين‏.‏

فعرضتها عليه ثلاثاً فامتنع فحكمت بالبستان للمدعي‏.‏

قال‏:‏ فكنت في أثناء الخصومة أود أن ينفصل ولم يمكني أن أجلس الرجل مع الخليفة‏.‏

وبعث القاضي أبو يوسف في تسليم البستان إلى الرجل‏.‏

وروى المعافى بن زكريا الجريري، عن محمد بن أبي الأزهر، عن حماد بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن بشر بن الوليد، عن أبي يوسف، قال‏:‏ بينا أنا ذات ليلة قد نمت في الفراش، إذا رسول الخليفة يطرق الباب، فخرجت منزعجاً فقال‏:‏ أمير المؤمنين يدعوك‏.‏

فذهبت فإذا هو جالس ومعه عيسى بن جعفر، فقال لي الرشيد‏:‏ إن هذا قد طلبت منه جارية يهبنيها فلم يفعل، أو يبعنيها، وإني أشهدك إن لم يجبني إلى ذلك قتلته‏.‏

فقلت لعيسى‏:‏ لم لم تفعل ‏؟‏

فقال‏:‏ إني حالف بالطلاق والعتاق وصدقة مالي كله أن لا أبيعها ولا أهبها‏.‏

فقال لي الرشيد‏:‏ فهل له من مخلص ‏؟‏

فقلت‏:‏ نعم، يبيعك نصفها ويهبك نصفها‏.‏

فوهبه النصف وباعه النصف بمائة ألف دينار‏.‏

فقبل منه ذلك وأحضرت الجارية، فلما رآها الرشيد قال‏:‏ هل لي من سبيل عليها الليلة ‏؟‏

قلت‏:‏ إنها مملوكة ولا بد من استبرائها، إلا أن تعتقها وتتزوجها فإن الحرة لا تستبرأ‏.‏

قال‏:‏ فأعتقها وتزوجها منه بعشرين ألف دينار، وأمر لي بمائتي ألف درهم وعشرين تختا من ثياب، وأرسلت إلى الجارية بعشرة آلاف دينار‏.‏

قال يحيى بن معين‏:‏ كنت عند أبي يوسف فجاءته هدية من ثياب ديبقي وطيب وفانيل ندٍّ وغير ذلك، فذاكرني رجل في إسناد حديث‏:‏ ‏(‏‏(‏من أهديت له هدية وعنده قوم جلوس فهم شركاؤه‏)‏‏)‏‏.‏

فقال أبو يوسف‏:‏ إنما ذاك في الأقط والتمر والزبيب، ولم تكن الهدايا في ذلك الوقت ما ترون، يا غلام ارفع هذا إلى الخزائن، ولم يعطهم منها شيئاً‏.‏

وقال بشر بن غياث المريسي‏:‏ سمعت أبا يوسف، يقول‏:‏ صحبت أبا حنيفة سبع عشرة سنة ثم انصبت على الدنيا سبع عشرة سنة، وما أظن أجلي إلا أن اقترب‏.‏

فما مكث بعد ذلك إلا شهوراً حتى مات‏.‏

وقد مات أبو يوسف في ربيع الأول من هذه السنة عن سبع وستين سنة، ومكث في القضاء بعده ولده يوسف‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/196‏)‏

وقد كان نائبه على الجانب الشرقي من بغداد‏.‏

ومن زعم من الرواة أن الشافعي اجتمع بأبي يوسف كما يقوله عبد الله بن محمد البلوي الكذاب في الرحلة التي ساقها الشافعي فقد أخطأ في ذلك، إنما ورد الشافعي بغداد في أول قدمة قدمها إليها في سنة أربع وثمانين، وإنما اجتمع الشافعي بمحمد بن الحسن الشيباني فأحسن إليه وأقبل عليه، ولم يكن بينهما شنآن كما يذكره بعض من لا خبره له في هذا الشأن، والله أعلم‏.‏

وفيها توفي‏:‏

يعقوب بن داوود بن طهمان

أبو عبد الله، مولى عبد الله بن حازم السلمي، استوزره المهدي وحظي عنده جداً، وسلم إليه أزمة الأمور، ثم لما أمر بقتل ذلك العلوي كما تقدم فأطلقه ونمت عليه تلك الجارية سجنه المهدي في بئر وبنيت عليه قبة، ونبت شعره حتى صار مثل شعور الأنعام، وعمي، ويقال‏:‏ بل غشي بصره، ومكث نحواً من خمسة عشر سنة في ذلك البئر لا يرى ضوءاً ولا يسمع صوتاً إلا في أوقات الصلوات يعلمونه بذلك، ويدلى إليه في كل يوم رغيف وكوز ماء، فمكث كذلك حتى انقضت أيام المهدي وأيام الهادي وصدر من أيام الرشيد‏.‏

قال يعقوب‏:‏ فأتاني آت في منامي فقال‏:‏

عسى الكرب الذي أمسيت فيه * يكون وراءه فرج قريب

فيأمن خائف ويفك عانٍ * ويأتي أهله النائي الغريب

فلما أصبحت نوديت فظننت أني أعلم بوقت الصلاة، ودلي إلي حبل وقيل لي‏:‏ اربط هذا الحبل في وسطك، فأخرجوني، فلما نظرت إلى الضياء لم أبصر شيئاً، وأوقفت بين يدي الخليفة فقيل لي‏:‏ سلم على أمير المؤمنين، فظننته المهدي فسلمت عليه باسمه‏.‏

فقال‏:‏ لست به‏.‏

فقلت‏:‏ الهادي ‏؟‏

فقال‏:‏ لست به‏.‏

فقلت‏:‏ السلام عليك يا أمير المؤمنين الرشيد‏.‏

فقال‏:‏ نعم‏.‏

ثم قال‏:‏ والله إنه لم يشفع فيك عندي أحد، ولكني البارحة حملت جارية لي صغيرة على عنقي فذكرت حملك إياي على عنقك فرحمت ما أنت فيه من الضيق فأخرجتك‏.‏

ثم أنعم عليه وأحسن إليه‏.‏

فغار منه يحيى بن خالد بن برمك، وخشي أن يعيده إلى منزلته التي كان عليها أيام المهدي، وفهم ذلك يعقوب فاستأذن الرشيد في الذهاب إلى مكة فأذن له، فكان بها حتى مات في هذه السنة رحمه الله‏.‏

وقال‏:‏ يخشى يحيى أن أرجع إلى الولايات، لا والله ما كنت لأفعل أبداً، ولو رددت إلى مكاني‏.‏

وفيها توفي‏:‏

يزيد بن زريع

أبو معاوية، شيخ الإمام أحمد بن حنبل في الحديث، كان ثقةً عالماً عابداً ورعاً، توفي أبوه وكان والي البصرة وترك من المال خمسمائة درهم، فلم يأخذ منها يزيد درهماً واحداً، وكان يعمل الخوص بيده ويقتات منه هو وعياله‏.‏

توفي بالبصرة في هذه السنة‏.‏

وقيل‏:‏ قبل ذلك، فالله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/197‏)‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائة

فيها‏:‏ خرجت الخزر على الناس من ثلمة أرمينية فعاثوا في تلك البلاد فساداً، وسبوا من المسلمين وأهل الذمة نحواً من مائة ألف وقتلوا بشراً كثيراً، وانهزم نائب أرمينية سعيد بن مسلم، فأرسل الرشيد إليهم خازم بن خزيمة ويزيد بن مزيد في جيوش كثيرة كثيفة، فأصلحوا ما فسد في تلك البلاد‏.‏

وحج بالناس العباس بن موسى الهادي‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

علي بن الفضيل بن عياض

في حياة أبيه، كان كثير العبادة والورع والخوف والخشية‏.‏

ومحمد بن صبيح

أبو العباس، مولى بني عجل المذكر‏.‏

ويعرف‏:‏ بابن السماك‏.‏

روى عن‏:‏ إسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، والثوري، وهشام بن عروة، وغيرهم‏.‏

ودخل يوماً على الرشيد فقال‏:‏ إن لك بين يدي الله موقفاً فانظر أين منصرفك، إلى الجنة أم النار ‏؟‏

فبكى الرشيد حتى كاد يموت‏.‏

وموسى بن جعفر

ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو الحسن الهاشمي، ويقال له‏:‏ الكاظم، ولد سنة ثمان أو تسع وعشرين ومائة‏.‏

وكان كثير العبادة والمروءة، إذا بلغه عن أحد أنه يؤذيه أرسل إليه بالذهب والتحف‏.‏

ولد له من الذكور والإناث أربعون نسمة‏.‏

وأهدى له مرة عبدٌ عصيدة فاشتراه واشترى المزرعة التي هو فيها بألف دينار وأعتقه، ووهب المزرعة له‏.‏

وقد استدعاه المهدي إلى بغداد فحبسه، فلما كان في بعض الليالي رأى المهدي علي بن أبي طالب وهو يقول له‏:‏ يا محمد، ‏{‏فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 22‏]‏‏.‏

فاستيقظ مذعوراً وأمر به فأخرج من السجن ليلاً، فأجلسه معه وعانقه وأقبل عليه، وأخذ عليه العهد أن لا يخرج عليه ولا على أحد من أولاده، فقال‏:‏ والله ما هذا من شأني ولا حدثت فيه نفسي‏.‏

فقال‏:‏ صدقت‏.‏

وأمر له بثلاثة آلاف دينار، وأمر به فردَّ إلى المدينة، فما أصبح الصباح إلا وهو على الطريق، فلم يزل بالمدنية حتى كانت خلافة الرشيد فحج، فلما دخل ليسلم على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه موسى بن جعفر الكاظم، فقال الرشيد‏:‏ السلام عليك يا رسول الله يا ابن عم‏.‏

فقال موسى‏:‏ السلام عليك يا أبت‏.‏

فقال الرشيد‏:‏ هذا هو الفخر يا أبا الحسين‏.‏

ثم لم يزل ذلك في نفسه حتى استدعاه في سنة تسع وستين وسجنه فأطال سجنه، فكتب إليه موسى رسالة يقول فيها‏:‏ أما بعد يا أمير المؤمنين، إنه لم ينقض عني يوم من البلاء إلا انقضى عنك يوم من الرخاء، حتى يفضي بنا ذلك إلى يوم يخسر فيه المبطلون‏.‏

توفي لخمس بقين من رجب من هذه السنة ببغداد، وقبره هناك مشهور‏.‏

وفيها توفي‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/198‏)‏

هاشم بن بشير بن أبي حازم

القاسم بن دينار، أبو معاوية السلمي الواسطي، كان أبوه طباخاً للحجاج بن يوسف الثقفي، ثم كان بعد ذلك يبيع الكوامخ، وكان يمنع ابنه من طلب العلم ليساعده على شغله، فأبى إلا أن يسمع الحديث‏.‏

فاتفق أن هاشماً مرض فجاءه أبو شيبة قاضي واسط عائداً له ومعه خلق من الناس، فلما رآه بشير فرح بذلك وقال‏:‏ يا بني ‏!‏ أبلغ من أمرك أن جاء القاضي إلى منزلي‏؟‏ لا أمنعك بعد هذا اليوم من طلب الحديث‏.‏

كان هاشم من سادات العلماء، وحدث عنه‏:‏ مالك، وشعبة، والثوري، وأحمد بن حنبل، وخلق غير هؤلاء‏.‏

وكان من الصلحاء العباد، ومكث يصلي الصبح بوضوء العشاء قبل أن يموت بعشر سنين‏.‏

ويحيى بن زكريا

ابن أبي زائدة، قاضي المدائن، كان من الأئمة الثقات‏.‏

ويونس بن حبيب

أحد النحاة النجباء، أخذ النحو عن‏:‏ أبي عمرو بن العلاء وغيره‏.‏

وأخذ عنه‏:‏ الكسائي، والفراء، وقد كانت له حلقة بالبصرة ينتابها أهل العلم والأدب والفصحاء من الحاضرين والغرباء‏.‏

توفي في هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة‏.‏