فصل: سنة تسع ومائتين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة سبع ومائتين

فيها‏:‏ خرج عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب ببلاد عك في اليمن يدعو إلى الرضى من آل محمد، وذلك لما أساء العمال السيرة وظلموا الرعايا، فلما ظهر بايعه الناس‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 283‏)‏

فبعث إليه المأمون دينار بن عبد الله في جيش كثيف ومعه كتاب أمان لعبد الرحمن هذا إن هو سمع وأطاع، فحضروا الموسم ثم ساروا إلى اليمن، وبعثوا بالكتاب إلى عبد الرحمن فسمع وأطاع وجاء حتى وضع يده في يد دينار، فساروا به إلى بغداد، ولبس السواد فيها‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ توفي طاهر بن الحسين بن مصعب نائب العراق وخراسان بكمالها، وجد في فراشه ميتاً بعد ما صلى العشاء الآخرة والتف في الفراش، فاستبطأ أهله خروجه لصلاة الفجر فدخل عليه أخوه وعمه فوجداه ميتاً‏.‏

فلما بلغ موته المأمون قال‏:‏ لليدين وللفم الحمد لله الذي قدمه وأخرنا‏.‏

وذلك أنه بلغه أن طاهراً خطب يوماً ولم يدع للمأمون فوق المنبر، ومع هذا ولى ولده عبد الله مكانه وأضاف إليه زيادة على ما كان ولاه أباه الجزيرة والشام نيابة، فاستخلف على خراسان أخاه طلحة بن طاهر سبع سنين، ثم توفي طلحة فاستقل عبد الله بجميع تلك البلاد، وكان نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم، وكان طاهر بن الحسين هو الذي انتزع بغداد والعراق من يد الأمين وقتله‏.‏

وقد دخل طاهر يوماً على المأمون فسأله حاجة فقضاها له، ثم نظر إليه المأمون واغرورقت عيناه فقال له طاهر‏:‏ ما يبكيك يا أمير المؤمنين ‏؟‏

فلم يخبره، فأعطى طاهر حسيناً الخادم مائتي ألف درهم حتى استعلم له مما بكى أمير المؤمنين فأخبره المأمون وقال‏:‏ لا تخبر به أحداً وإلا أقتلك، إني ذكرت قتله لأخي وما ناله من الإهانة على يدي طاهر، ووالله لا تفوته مني‏.‏

فلما تحقق طاهر ذلك سعى في النقلة من بين يدي المأمون، ولم يزل حتى ولاه خراسان وأطلق له خادماً من خدامه، وعهد المأمون إلى الخادم إن رأى منه شيئاً يريبه أن يسمَّه، ودفع إليه سماً لا يطاق‏.‏

فلما خطب طاهر ولم يدع للمأمون سمَّه الخادم في كامخ فمات من ليلته‏.‏

وقد كان طاهر هذا يقال له‏:‏ ذو اليمينين، وكان أعور بفرد عين‏.‏

فقال فيه عمرو بن نباتة‏:‏

ياذا اليمينين وعين واحدة * نقصان عين ويمين زائدة

واختلف في معنى قوله ذو اليمينين فقيل‏:‏ لأنه ضرب رجلاً بشماله فقدَّه نصفين‏.‏

وقيل‏:‏ لأنه ولي العراق وخراسان‏.‏

وقد كان كريماً ممدحاً يحب الشعراء ويعطيهم الجزيل، ركب يوماً في حراقة فقال فيه شاعر‏:‏

عجبت لحرَّاقة ابن الحسين * لا غرقت كيف لا تغرق

وبحران من فوقها واحد * وآخر من تحتها مطبق

وأعجب من ذلك أعوادها * وقد مسّها كيف لا تورق

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 284‏)‏

فأجازه بثلاثة آلاف دينار‏.‏

وقال‏:‏ إن زدتنا زدناك‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في بعض الرؤساء وقد ركب البحر‏:‏

ولما امتطى البحر ابتهلت تضرعاً * إلى الله يا مجري الرياح بلطفه

جعلت الندا من كفه مثل موجه * فسلَّمه واجعل موجه مثل كفه

مات طاهر بن الحسين هذا يوم السبت لخمس بقين من جمادى الآخرة سنة سبع ومائتين، وكان مولده سنة سبع وخمسين، وكان الذي سار إلى ولده عبد الله إلى الرقة يعزيه في أبيه ويهنيه بولاية تلك البلاد، القاضي يحيى بن أكثم عن أمر المأمون‏.‏

وفيها‏:‏ غلا السعر ببغداد والكوفة والبصرة، حتى بلغ سعر القفيز من الحنطة أربعين درهماً‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس أبو علي بن الرشيد أخو المأمون‏.‏

وفيها توفي‏:‏ بشر بن عمر الزهراني، وجعفر بن عون، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وقراد بن نوح، وكثير بن هشام، ومحمد بن كناسة، ومحمد بن عمر الواقدي، قاضي بغداد، وصاحب السير والمغازي‏.‏

وأبو النضر هاشم بن القاسم، والهيثم بن عدي، صاحب التصانيف‏.‏

يحيى بن زياد بن عبد الله بن منصور

أبو زكريا الكوفي، نزيل بغداد، مولى بني سعد، المشهور بالفراء، شيخ النحاة واللغويين والقراء‏.‏

كان يقال له‏:‏ أمير المؤمنين في النحو‏.‏

وروى الحديث عن حازم بن الحسن البصري، عن مالك بن دينار، عن أنس بن مالك، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان مالك يوم الدين بألف‏)‏‏)‏‏.‏

رواه الخطيب قال‏:‏ وكان ثقةً إماماً‏.‏

وذكر أن المأمون أمره بوضع كتاب في النحو فأملاه وكتبه الناس عنه، وأمر المأمون بكتبه في الخزائن، وأنه كان يؤدب ولديه وليي العهد من بعده، فقام يوماً فابتدراه أيهما يقدم نعليه، فتنازعا في ذلك ثم اصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما نعلاً، فأطلق لهما أبوهما عشرين ألف دينار، وللفراء عشرة آلاف درهم‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 285‏)‏

وقال له‏:‏ لا أعز منك إذ يقدم نعليك ولدا أمير المؤمنين ووليا العهد من بعده‏.‏

وروي أن بشر المريسي أو محمد بن الحسن سأل الفراء عن رجل سها في سجدتي السهو فقال‏:‏ لا شيء عليه‏.‏

قال‏:‏ ولم ‏؟‏

قال‏:‏ لأن أصحابنا قالوا المصغر لا يصغر‏.‏

فقال‏:‏ ما رأيت أن امرأة تلد مثلك‏.‏

والمشهور أن محمداً هو الذي سأله عن ذلك، وكان ابن خالة الفراء‏.‏

وقال أبو بكر من محمد بن يحيى الصولي‏:‏ توفي الفراء سنة سبع ومائتين‏.‏

قال الخطيب‏:‏ كانت وفاته ببغداد‏.‏

وقيل‏:‏ بطريق مكة‏.‏

وقد امتدحوه وأثنوا عليه في مصنفاته‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان ومائتين

فيها‏:‏ ذهب الحسن بن الحسين بن مصعب أخو طاهر فاراً من خراسان إلى كرمان فعصى بها، فسار إليه أحمد بن أبي خالد فحاصره حتى نزل قهراً، فذهب به إلى المأمون فعفا عنه فاستحسن ذلك منه‏.‏

وفيها‏:‏ استعفى محمد بن سماعة من القضاء فأعفاه المأمون وولى مكانه إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة‏.‏

وفيها‏:‏ ولى المأمون محمد بن عبد الرحمن المخزومي القضاء بعسكر المهدي في شهر المحرم، ثم عزله عن قريب وولى مكانه بشر بن سعيد بن الوليد الكندي في شهر ربيع الأول منها‏.‏

فقال المخزومي في ذلك‏:‏

ألا أيها الملك الموحد ربه * قاضيك بشر بن الوليد حمار

ينفي شهادة من يدين بما به * نطق الكتاب وجاءت الأخبار

ويعدُّ عدلاً من يقول بأنه * شيخ تحيط بجسمه الأقطار

وفيها‏:‏ حج بالناس صالح بن هارون الرشيد عن أمر أخيه المأمون‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏ الأسود بن عامر، وسعيد بن عامر، وعبد الله بن بكر، أحد مشايخ الحديث‏.‏

والفضل بن الربيع الحاجب، ومحمد بن مصعب، وموسى بن محمد، الأمين الذي كان قد ولاه العهد من بعده ولقبه‏:‏ بالناطق، فلم يتم له أمره حتى قتل أبوه، وكان ما كان كما تقدم‏.‏

ويحيى بن أبي بكر، ويحيى بن حسان، ويعقوب بن إبراهيم الزهري، ويونس بن محمد، المؤدب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 286‏)‏

 وفاة السيدة نفيسة

وهي‏:‏ نفيسة بنت أبي محمد الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، القرشية الهاشمية، كان أبوها نائباً للمنصور على المدينة النبوية خمس سنين، ثم غضب المنصور عليه فعزله عنها وأخذ منه كل ما كان يملكه وما كان جمعه منها، وأودعه السجن ببغداد‏.‏

فلم يزل به حتى توفي المنصور فأطلقه المهدي وأطلق له كل ما كان أخذ منه، وخرج معه إلى الحج في سنة ثمان وستين ومائة، فلما كان بالحاجر توفي عن خمس وثمانين سنة‏.‏

وقد روى له النسائي حديثه، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ ‏(‏‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهم محرم‏)‏‏)‏‏.‏

وقد ضعفه ابن معين وابن عدي، ووثقه ابن حبان‏.‏ وذكره الزبير بن بكار وأثنى عليه في رياسته وشهامته‏.‏

والمقصود‏:‏ أن ابنته نفيسة دخلت الديار المصرية مع زوجها المؤتمن إسحاق بن جعفر، فأقامت بها وكانت ذات مال فأحسنت إلى الناس والجذمى والزمنى والمرضى وعموم الناس، وكانت عابدة زاهدة كثيرة الخير‏.‏

ولما ورد الشافعي مصر أحسنت إليه وكان ربما صلى بها في شهر رمضان‏.‏

وحين مات أمرت بجنازته فأدخلت إليها المنزل فصلت عليه‏.‏

ولما توفيت عزم زوجها إسحاق بن جعفر أن ينقلها إلى المدينة النبوية فمنعه أهل مصر من ذلك وسألوه أن يدفنها عندهم، فدفنت في المنزل الذي كانت تسكنه بمحلة كانت تعرف قديماً بدرب السباع بين مصر والقاهرة، وكانت وفاتها في شهر رمضان من هذه السنة فيما ذكره ابن خلكان‏.‏

قال‏:‏ ولأهل مصر فيها اعتقاد‏.‏

قلت‏:‏ وإلى الآن قد بالغ العامة في اعتقادهم فيها وفي غيرها كثيراً جداً، ولا سيما عوام مصر فإنهم يطلقون فيها عبارات بشيعة مجازفة تؤدي إلى الكفر والشرك، وألفاظاً كثيرةً ينبغي أن يعرفوا أنها لا تجوز‏.‏

وربما نسبها بعضهم إلى زين العابدين وليست من سلالته‏.‏

والذي ينبغي أن يعتقد فيها ما يليق بمثلها من النساء الصالحات، وأصل عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتسويه القبور وطمسها، والمغالاة في البشر حرام‏.‏

ومن زعم أنها تفك من الخشب أو أنها تنفع أو تضر بغير مشيئة الله فهو مشرك، رحمها الله وأكرمها‏.‏

 الفضل بن الربيع

ابن يونس بن محمد بن عبد الله بن أبي فروة كيسان مولى عثمان بن عفان، كان الفضل هذا متمكناً من الرشيد، وكان زوال دولة البرامكة على يديه، وقد وزر مرة للرشيد، وكان شديد التشبه بالبرامكة، وكانوا يتشبهون به، فلم يزل يعمل جهده فيهم حتى هلكوا كما تقدم‏.‏

وذكر ابن خلكان أن الفضل هذا دخل يوماً على يحيى بن خالد وابنه جعفر يوقع بين يديه، ومع الفضل عشر قصص فلم يقض له منها واحدة، فجمعهن الفضل بن الربيع وقال‏:‏ ارجعن خائبات خاسئات‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 287‏)‏

ثم نهض وهو يقول‏:‏

عسى وعسى يثني الزمان عنانه * بتصريف حال والزمان عثور

فتقضى لبانات وتشفى حزائز * وتحدث من بعد الأمور أمور

فسمعه الوزير يحيى بن خالد فقال له‏:‏ أقسمت عليك لما رجعت، فأخذ منه القصص فوقع عليها‏.‏

ثم لم يزل يحفر خلفهم حتى تمكن منهم وتولى الوزارة بعدهم، وفي ذلك يقول أبو نواس‏:‏

ما رعى الدهر آل برملك لما * أن رمى ملكهم بأمر فظيع

إن دهراً لم يرع ذمة ليحيى * غير راع ذمام آل الربيع

ثم وزر من بعد الرشيد لابنه الأمين فلما دخل المأمون بغداد اختفى فأرسل له المأمون أماناً فخرج فجاء فدخل على المأمون بعد اختفاء مدة فأمنه، ثم لم يزل خاملاً حتى مات في هذه السنة، وله ثمان وستون سنة‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع ومائتين

فيها‏:‏ حصر عبد الله بن طاهر نصر بن شبث بعد ما حاربه خمس سنين وضيق عليه جداً حتى ألجأه إلى أن طلب منه الأمان، فكتب ابن طاهر إلى المأمون يعلمه بذلك، فأرسل إليه أن يكتب له أماناً عن أمير المؤمنين‏.‏

فكتب له كتاب أمان فنزل فأمر عبد الله بتخريب المدينة التي كان متحصناً بها، وذهب شره‏.‏

وفيها‏:‏ جرت حروب مع بابك الخرَّمي فأسر بابك بعض أمراء الإسلام وأحد مقدمي العساكر، فاشتد ذلك على المسلمين‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس صالح بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وهو والي مكة‏.‏

وفيها‏:‏ توفي ملك الروم ميخائيل بن نقفور جرجس، وكان له عليهم تسع سنين، فملكوا عليهم ابنه توفيل بن ميخائيل‏.‏

وفيها توفي من مشايخ الحديث‏:‏ الحسن بن موسى الأشيب، وأبو علي الحنفي، وحفص بن عبد الله، قاضي نيسابور‏.‏

وعثمان بن عمر بن فارس، ويعلى بن عبيد الطنافسي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 288‏)‏

 ثم دخلت سنة عشر ومائتين

في صفر منها‏:‏ دخل نصر بن شبث بغداد، بعثه عبد الله بن طاهر فدخلها ولم يتلقاه أحد من

الجند بل دخلها وحده، فأنزل في مدينة أبي جعفر ثم حول إلى موضع آخر‏.‏

وفي هذا الشهر‏:‏ ظفر المأمون بجماعة من كبراء من كان بايع إبراهيم بن المهدي فعاقبهم وحبسهم في المطبق، ولما كان ليلة الأحد لثلاث عشرة من ربيع الآخر اجتاز إبراهيم بن المهدي - وكان مختفياً مدة ست سنين وشهوراً متنقباً في زي امرأة ومعه امرأتان - في بعض دروب بغداد في أثناء الليل‏.‏

فقام الحارس فقال‏:‏ إلى أين هذه الساعة‏؟‏ ومن أين ‏؟‏

ثم أراد أن يمسكهن فأعطاه إبراهيم خاتماً كان في يده من ياقوت، فلما نظر إليه استراب وقال‏:‏ إنما هذا خاتم رجل كبير الشأن، فذهب بهن إلى متولي الليل فأمرهن أن يسفرن عن وجوههن، فتمنع إبراهيم فكشفوا عن وجهه فإذا هو هو، فعرفه فذهب به إلى صاحب الجسر فسلمه إليه فرفعه الآخر إلى باب المأمون، فأصبح في دار الخلافة ونقابه على رأسه والملحفة في صدره ليراه الناس، وليعلموا كيف أخذ‏.‏

فأمر المأمون بالاحتفاظ به والاحتراس عليه مدة، ثم أطلقه ورضي عنه‏.‏

هذا وقد صلب جماعة ممن كان سجنهم بسببه لكونهم أرادوا الفتك بالموكلين بالسجن، فصلب منهم أربعة‏.‏

وقد ذكروا أن إبراهيم لما وقف بين يدي المأمون أنبّه على ما كان منه فترقق له عمه إبراهيم كثيراً، وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إن تعاقب فبحقك، وإن تعف فبفضلك‏.‏

فقال‏:‏ بل أعفو يا إبراهيم، إن القدرة تذهب الحفيظة، والندم توبة وبينهما عفو الله عز وجل، وهو أكبر مما تسأله‏.‏

فكبر إبراهيم وسجد شكراً لله عز وجل‏.‏

وقد امتدح إبراهيم بن المهدي ابن أخيه المأمون بقصيدة بالغ فيها، فلما سمعها المأمون قال‏:‏ أقول كما قال يوسف لإخوته‏:‏ ‏{‏لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 92‏]‏‏.‏

وذكر ابن عساكر أن المأمون لما عفا عن عمه إبراهيم أمره أن يغنيه شيئاً فقال‏:‏ إني تركته‏.‏

فأمره فأخذ العود في حجره وقال‏:‏

هذا مقام سرور خربت منازله ودوره * نمت عليه عداته كذاباً فعاقبه أميره

ثم عاد فقال‏:‏

ذهبت من الدنيا وقد ذهبت عني * لوى الدهر بي عنها وولى بها عني

فإن أبك نفسي أبك نفساً عزيزةً * وإن أحتقرها أحتقرها على ضغن

وإني وإن كنت المسيء بعينه * فإني بربي موقن حَسَنُ الظن

عدوت على نفسي فعاد بعفوه * عليَّ فعاد العفو منا على منِّ

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 289‏)‏

فقال المأمون‏:‏ أحسنت يا أمير المؤمنين حقاً‏.‏

فرمى العود من حجره ووثب قائماً فزعاً من هذا الكلام، فقال له المأمون‏:‏ اجلس واسكن مرحباً بك وأهلاً، لم يكن ذلك لشيء تتوهمه، ووالله لا رأيت طول أيامي شيئاً تكرهه‏.‏

ثم أمر له بعشرة آلاف دينار وخلع عليه، ثم أمر له برد جميع ما كان له من الأموال والضياع والدور فردت إليه، وخرج من عنده مكرماً معظماً‏.‏

عرس بوران

وفي رمضان منها‏:‏ بنى المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل‏.‏

وقيل‏:‏ إنه خرج في رمضان إلى معسكر الحسن بن سهل بفم الصلح، وكان الحسن قد عوفي من مرضه، فنزل المأمون عنده بمن معه من وجوه الأمراء والرؤساء وأكابر بني هاشم، فدخل ببوران في شوال من هذه السنة في ليلة عظيمة وقد أشعلت بين يديه شموع العنبر، ونثر على رأسه الدر والجوهر، فوق حصر منسوجة بالذهب الأحمر‏.‏

وكان عدد الجوهر منه ألف درة، فأمر به فجمع في صينية من ذهب كان الجوهر فيها فقالوا‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إنا نثرناه لتتلقطه الجواري‏.‏

فقال‏:‏ لا أنا أعوضهن من ذلك‏.‏

فجمع كله، فلما جاءت العروس ومعها جدتها زبيدة أم أخيه الأمين - من جملة من جاء معها - فأجلست إلى جانبه فصب في حجرها ذلك الجوهر‏.‏

وقال‏:‏ هذا نحلة مني إليك وسلي حاجتك، فأطرقت حياء‏.‏

فقالت جدتها‏:‏ كلمي سيدك وسليه حاجتك فقد أمرك‏.‏

فقالت‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ أسألك أن ترضى عن عمك إبراهيم بن المهدي، وأن ترده إلى منزلته التي كان فيها‏.‏

فقال‏:‏ نعم ‏!‏

قالت‏:‏ وأم جعفر - تعني‏:‏ زبيدة - تأذن لها في الحج‏.‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

فخلعت عليها زبيدة بذلتها الأميرية، وأطلقت له قرية مقورة‏.‏

وأما والد العروس الحسن بن سهل فإنه كتب أسماء قراه وضياعه وأملاكه في رقاع ونثرها على الأمراء ووجوه الناس، فمن وقعت بيده رقعة في قرية منها بعث إلى القرية التي فيها نوابه فسلمها إليه ملكاً خالصاً‏.‏

وأنفق على المأمون ومن كان معه من الجيش في مدة إقامته عنده سبعة عشر يوماً ما يعادل خمسين ألف ألف درهم‏.‏

ولما أراد المأمون الانصراف من عنده أطلق له عشرة آلاف ألف درهم، وأقطعه البلد الذي هو نازل بها، وهو إقليم فم الصلح مضافاً إلى ما بيده من الإقطاعات‏.‏

ورجع المأمون إلى بغداد في أواخر شوال من هذه السنة‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ ركب عبد الله بن طاهر إلى مصر فاستنقذها بأمر المأمون من يد عبيد الله بن السري بن الحكم المتغلب عليها، واستعادها منه بعد حروب يطول ذكرها‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ أبو عمرو الشيباني، اللغوي، واسمه‏:‏ إسحاق بن مراد، ومروان بن محمد الطاطري، ويحيى بن إسحاق، والله سبحانه أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 290‏)‏

 ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائتين

فيها توفي‏:‏ أبو الجواب، وطلق بن غنام، وعبد الرازق بن همام الصنعاني، صاحب المصنف والمسند، وعبد الله بن صالح العجلي‏.‏

 أبو العتاهية الشاعر المشهور

واسمه‏:‏ إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان، أصله من الحجاز، وقد كان تعشق جارية للمهدي اسمها‏:‏ عتبة، وقد طلبها منه غير مرة فإذا سمح له بها لم ترده الجارية، وتقول للخليفة‏:‏ أتعطيني لرجل ذميم الخلق كان يبيع الجرار ‏؟‏

فكان يكثر التغزل فيها، وشاع أمره واشتهر بها، وكان المهدي يفهم ذلك منه‏.‏

واتفق في بعض الأحيان أن المهدي استدعى الشعراء إلى مجلسه وكان فيهم أبو العتاهية وبشار بن برد الأعمى، فسمع صوت أبي العتاهية‏.‏

فقال بشار لجليسه‏:‏ أثَّم ههنا أبو العتاهية ‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

فانطلق يذكر قصيدته فيها التي أولها‏:‏

ألا ما لسيدتي مالها * أدلَّت فأجملَ إدلاها

فقال بشار لجليسه‏:‏ ما رأيت أجسر من هذا‏.‏

حتى انتهى أبو العتاهية إلى قوله‏:‏

أتته الخلافة منقادة * إليه تجررُ أذيالها

فلم تك تصلح إلا له * ولم يك يصلح إلا لها

ولو رامها أحد غيره * لزلزلت الأرض زلزالها

ولو لم تطعه بنات القلوب * لما قبل الله أعمالها

فقال بشار لجليسه‏:‏ انظروا أطار الخليفة عن فراشه أم لا ‏؟‏

قال‏:‏ فوالله ما خرج أحد من الشعراء يومئذ بجائزة غيره‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ اجتمع أبو العتاهية بأبي نواس - وكان في طبقته وطبقة بشار - فقال أبو العتاهية لأبي نواس‏:‏ كم تعمل في اليوم من الشعر ‏؟‏

قال‏:‏ بيتاً أو بيتين‏.‏

فقال‏:‏ لكني أعمل المائة والمائتين‏.‏

فقال أبو نواس‏:‏ لعلك تعمل مثل قولك‏:‏

يا عتب مالي ولك * يا ليتني لم أرك

ولو عملت أنا مثل هذا لعملت الألف والألفين وأنا أعمل مثل قولي‏:‏

من كف ذات حر في زيَّ ذي ذكرٍ * لها محبان لوطيٌّ وزنَّاء

ولو أردت مثلي لأعجزك الدهر‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 291‏)‏

قال ابن خلكان‏:‏ ومن لطيف شعر أبي العتاهية‏:‏

إني صبوت إليك حـ * ـتى صرت من فرط التصابي

يجد الجليس إذا دنا * ريح التصابي في ثيابي

وكان مولده سنة ثلاثين ومائة‏.‏

وتوفي يوم الاثنين ثالث جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة‏.‏

وقيل‏:‏ ثلاث عشرة ومائتين‏.‏

وأوصى أن يكتب على قبره ببغداد‏:‏

إن عيشاً يكون آخره المو * ت لعيش معجل التنغيص

 ثم دخلت سنة ثنتي عشرة ومائتين

فيها‏:‏ وجه المأمون محمد بن حميد الطوسي على طريق الموصل لمحاربة بابك الخرَّمي في أرض أذربيجان، فأخذ جماعة من الملتفين عليه فبعث بهم إلى المأمون‏.‏

وفي ربيع الأول‏:‏ أظهر المأمون في الناس بدعتين فظيعتين إحداهما أطم من الأخرى، وهي‏:‏ القول بخلق القرآن، والثانية‏:‏ تفضيل علي بن أبي طالب على الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد أخطأ في كل منهما خطأً كبيراً فاحشاً، وأثم إثما عظيماً‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس عبد الله بن عبيد الله بن العباس العباسي‏.‏

وفيها توفي‏:‏ أسد بن موسى، الذي يقال له‏:‏ أسد السنة، والحسن بن جعفر، وأبو عاصم النبيل، واسمه‏:‏ الضحاك بن مخلد، وأبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج، الشامي الدمشقي، ومحمد بن يونس الفريابي، شيخ البخاري‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائتين

فيها‏:‏ ثار رجلان‏:‏ عبد السلام وابن جليس فخلعا المأمون واستحوذا على الديار المصرية، وتابعهما طائفة من القيسية واليمانية، فولى المأمون أخاه أبا إسحاق نيابة الشام، وولى ابنه العباس نيابة الجزيرة والثغور والعواصم، وأطلق لكل منهما ولعبد الله بن طاهر ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، فلم ير يوم أكثر إطلاقاً منه، أطلق فيه لهؤلاء الأمراء الثلاثة ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 292‏)‏

وفيها‏:‏ ولي السند غسان بن عباد‏.‏

وحج بالناس أمير السنة الماضية‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ عبد الله بن داود الجريني، وعبد الله بن يزيد المقري المصري، وعبد الله بن موسى العبسي، وعمرو بن أبي سلمة الدمشقي‏.‏

وحكى ابن خلكان أن بعضهم قال‏:‏ وفيها توفي‏:‏ إبراهيم بن ماهان الموصلي النديم، وأبو العتاهية، وأبو عمرو الشيباني النحوي، في يوم واحد ببغداد، ولكنه صحح أن إبراهيم النديم توفي سنة ثمان وثمانين ومائة‏.‏

قال السهيلي‏:‏ وفيها توفي‏:‏ عبد الملك بن هشام، راوي السيرة عن ابن إسحاق، حكاه ابن خلكان عنه‏.‏

والصحيح أنه توفي سنة ثمان عشرة ومائتين، كما نص عليه أبو سعيد بن يونس في تاريخ مصر‏.‏

 العكوك الشاعر

أبو الحسن بن علي بن جبلة الخراساني، يلقب‏:‏ بالعكوك، وكان من الموالي‏.‏

ولد أعمى، وقيل‏:‏ بل أصابه جدري وهو ابن سبع سنين، وكان أسود أبرص، وكان شاعراً مطبقاً فصيحاً بليغاً، وقد أثنى عليه في شعره الجاحظ فمن بعده‏.‏

قال‏:‏ ما رأيت بدوياً ولا حضرياً أحسن إنشاء منه‏.‏

فمن ذلك قوله‏:‏

بأبي من زارني متكتماً * حذراً من كل شيء جزعا

زائراً ثم عليه حسنه * كيف يخفي الليل بدراً طلعا

رصد الخلوة حتى أمكنت * ورعى السامر حتى هجعا

ركب الأهوال في زورته * ثم ما سلَّم حتى رجعا

وهو القائل في أبي دلف القاسم بن عيسى العجلي‏:‏

إنما الدنيا أبو دلفٍ * بين مغزاه ومحتضره

فإذا ولَّى أبو دلف * ولَّت الدنيا على أثره

كلُّ من في الأرض من عرب * بين باديه إلى حضره

يرتجيه نيل مكرمة * يأتسيها يوم مفتخره

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 293‏)‏

ولما بلغ المأمون هذه الأبيات - وهي قصيدة طويلة - عارض فيها أبا نواس فتطلبه المأمون فهرب منه ثم أحضر بين يديه فقال له‏:‏ ويحك ‏!‏ فضلت القاسم بن عيسى علينا‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ أنتم أهل بيت اصطفاكم الله من بين عباده، وآتاكم ملكاً عظيماً، وإنما فضلته على أشكاله وأقرانه‏.‏

فقال‏:‏ والله ما أبقيت أحداً حيث تقول‏:‏

كلُّ من في الأرض من عرب * بين باديه إلى حضره

ومع هذا فلا أستحل قتلك بهذا، ولكن بشركك وكفرك حيث تقول في عبد ذليل‏:‏

أنت الذي تنزل الأيام منزلها * وتنقل الدهر من حال إلى حال

وما مددت مدى طرف إلى أحد * إلا قضيت بأرزاق وآجال

ذاك الله يفعله، أخرجوا لسانه من قفاه‏.‏ فأخرجوا لسانه في هذه السنة فمات‏.‏

وقد امتدح حميد بن عبد الحميد الطوسي‏:‏

إنما الدنيا حميد *

وأياديه جسام *

فإذا ولَّى حميد *

فعلى الدنيا السلام *

ولما مات حميد هذا رثاه أبو العتاهية بقوله‏:‏

أبا غانم أما ذراك فواسع * وقبرك معمور الجوانب محكم

وما ينفع المقبور عمران قبره * إذا كان فيه جسمه يتهدم

وقد أورد ابن خلكان لعكوك هذا أشعاراً جيدةً تركناها اختصاراً‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائتين

في يوم السبت لخمس بقين من ربيع الأول منها‏:‏ التقى محمد بن حميد وبابك الخرَّمي لعنه الله، فقتل الخرَّمي خلقاً كثيراً من جيشه، وقتله أيضاً وانهزم بقية أصحاب ابن حميد‏.‏

فبعث المأمون إسحاق بن إبراهيم ويحيى بن أكثم إلى عبد الله بن طاهر يخيرانه بين خراسان ونيابة الجبال وأذربيجان وأرمينية ومحاربة بابك، فاختار المقام بخراسان لكثرة احتياجها إلى الضبط، وللخوف من ظهور الخوارج‏.‏

وفيها‏:‏ دخل أبو إسحاق بن الرشيد الديار المصرية فانتزعها من يد عبد السلام وابن جليس وقتلهما‏.‏

وفيها‏:‏ خرج رجل يقال له‏:‏ بلال الضبابي، فبعث إليه المأمون ابنه العباس في جماعة من الأمراء فقتلوا بلالاً ورجعوا إلى بغداد‏.‏

وفيها‏:‏ ولى المأمون علي بن هشام الجبل وقم وأصبهان وأذربيجان‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس إسحاق بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ أحمد بن خالد الموهبي‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 294‏)‏

 أحمد بن يوسف بن القاسم بن صبيح

أبو جعفر الكاتب، ولي ديوان الرسائل للمأمون‏.‏

ترجمه ابن عساكر وأورد من شعره قوله‏:‏

قد يرزق المرء من غير حيلة صدرت * ويصرف الرزق عن ذي الحيلة الداهي

ما مسني من غنى يوماً ولا عدم * إلا وقولي عليه الحمد لله

وله أيضاً‏:‏

إذا قلت في شيء نعم فأتمه * فإن نعم دين على الحر واجب

وإلا فقل لا تستريح بها * لئلا يقول الناس إنك كاذب

وله‏:‏

إذا المرء أفشى سره بلسانه * فلام عليه غيره فهو أحمق

إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه * فصدر الذي يستودع السر أضيق

وحسن بن محمد المروزي، شيخ الإمام أحمد‏.‏

وعبد الله بن الحكم المصري، ومعاوية بن عمر‏.‏

 أبو محمد عبد الله بن أعين بن ليث بن رافع المصري

أحد من قرأ الموطأ على مالك وتفقه بمذهبه، وكان معظماً ببلاد مصر، وله بها ثروة وأموال وافرة‏.‏

وحين قدم الشافعي مصر أعطاه ألف دينار، وجمع له من أصحابه ألفي دينار، وأجرى عليه‏.‏

وهو‏:‏ والد محمد بن عبد الله بن الحكم الذي صحب الشافعي‏.‏

ولما توفي في هذه السنة دفن إلى جانب قبر الشافعي‏.‏

ولما توفي ابنه عبد الرحمن دفن إلى جانب قبر أبيه من القبلة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ فهي ثلاثة أقبر الشافعي شاميها، وهما قبلته‏.‏ رحمهم الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 295‏)‏

 ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائتين

في أواخر المحرم منها‏:‏ ركب المأمون في العساكر من بغداد قاصداً بلاد الروم لغزوهم‏.‏

واستخلف على بغداد وأعمالها إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فلما كان بتكريت تلقاه محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب من المدينة النبوية، فأذن له المأمون في الدخول على ابنته أم الفضل بنت المأمون‏.‏

وكان معقود العقد عليها في حياة أبيه علي بن موسى، فدخل بها، وأخذها معه إلى بلاد الحجاز‏.‏

وتلقاه أخوه أبو إسحاق بن الرشيد من الديار المصرية قبل وصوله إلى الموصل‏.‏

وسار المأمون في جحافل كثيرة إلى بلاد طرسوس فدخلها في جمادى الأولى، وفتح حصناً هناك عنوة وأمر بهدمه، ثم رجع إلى دمشق فنزلها وعمر دير مرات بسفح قيسون، وأقام بدمشق مدة‏.‏

وحج بالناس فيها عبد الله بن عبيد الله بن العباس العباسي‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ أبو زيد الأنصاري، ومحمد بن المبارك الصوري، وقبيصة بن عقبة، وعلي بن الحسن بن شقيق، ومكي بن إبراهيم‏.‏

 أبو زيد الأنصاري

فهو‏:‏ سعيد بن أوس بن ثابت، البصري اللغوي، أحد الثقات الأثبات، ويقال‏:‏ إنه كان يرى ليلة القدر‏.‏

قال أبو عثمان المازني‏:‏ رأيت الأصمعي جاء إلى أبي زيد الأنصاري وقبّل رأسه وجلس بين يديه وقال‏:‏ أنت رئيسنا وسيدنا منذ خمسين سنة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وله مصنفات كثيرة، منها‏:‏ خلق الإنسان، وكتاب الإبل، وكتاب المياه، وكتاب الفرس والترس، وغير ذلك‏.‏

توفي في هذه السنة، وقيل‏:‏ في التي قبلها أو التي بعدها، وقد جاوز التسعين، وقيل‏:‏ إنه قارب المائة‏.‏

وأما أبو سليمان فقد قدمنا ترجمته‏.‏

 ثم دخلت سنة ست عشرة ومائتين

فيها‏:‏ عدا ملك الروم وهو‏:‏ توفيل بن ميخائيل على جماعة من المسلمين فقتلهم في أرض طرسوس نحواً من ألف وستمائة إنسان‏.‏

وكتب إلى المأمون فبدأ بنفسه، فلما قرأ المأمون كتابه نهض من فوره إلى بلاد الروم عوداً على بدء وصحبته أخوه أبو إسحاق بن الرشيد نائب الشام ومصر، فافتتح بلداناً كثيرةً صلحاً وعنوةً، وافتتح أخوه ثلاثين حصناً‏.‏

وبعث يحيى بن أكثم في سرية إلى طوانة فافتتح بلاداً كثيرةً وأسر خلقاً وحرق حصوناً عدةً، ثم عاد إلى العسكر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 296‏)‏

وأقام المأمون ببلاد الروم من نصف جمادى الآخرة إلى نصف شعبان، ثم عاد إلى دمشق وقد وثب رجل يقال له‏:‏ عبدوس الفهري في شعبان من هذه السنة ببلاد مصر، فتغلب على نواب أبي إسحاق بن الرشيد واتبعه خلق كثير‏.‏

فركب المأمون من دمشق يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من ذي الحجة إلى الديار المصرية، فكان من أمره ما سنذكره‏.‏

وفيها‏:‏ كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد يأمره أن يأمر الناس بالتكبير عقيب الصلوات الخمس، فكان أول ما بدئ بذلك في جامع بغداد والرصافة يوم الجمعة لأربع عشر ليلة خلت من رمضان، وذلك أنهم كانوا إذا قضوا الصلاة قام الناس قياماً فكبروا ثلاث تكبيرات، ثم استمروا على ذلك في بقية الصلوات‏.‏

وهذه بدعة أحدثها المأمون أيضاً بلا مستند ولا دليل ولا معتمد، فإن هذا لم يفعله قبله أحد، ولكن ثبت في الصحيح عن ابن عباس أن رفع الصوت بالذكر كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلم حين ينصرف الناس من المكتوبة، وقد استحب هذا طائفة من العلماء كابن حزم وغيره‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ المذاهب الأربعة على عدم استحبابه‏.‏

قال النووي‏:‏ وقد روي عن الشافعي أنه قال‏:‏ إنما كان ذلك ليعلم الناس أن الذكر بعد الصلوات مشروع، فلما علم ذلك لم يبق للجهر معنى‏.‏

وهذا كما روي عن ابن عباس أنه كان يجهر في الفاتحة في صلاة الجنازة ليعلم الناس أنها سنة، ولهذا نظائر، والله أعلم‏.‏

وأما هذه البدعة التي أمر بها المأمون فإنها بدعة محدثة لم يعمل بها أحد من السلف‏.‏

وفيها‏:‏ وقع برد شديد جداً‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس الذي حج بهم في العام الماضي، وقيل‏:‏ غيره، والله أعلم‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ حبان بن هلال، وعبد الملك بن قريب الأصمعي، صاحب اللغة والنحو والشعر وغير ذلك، ومحمد بن بكار بن هلال، وهوذة بن خليفة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 297‏)‏

 زبيدة امرأة الرشيد وابنة عمه

وهي‏:‏ ابنة جعفر أم العزيز الملقبة‏:‏ زبيدة بنت جعفر بن المنصور، العباسية الهاشمية القرشية، كانت أحب الناس إلى الرشيد، وكانت ذات حسن باهر وجمال طاهر، وكان له معها من الحظايا والجواري والزوجات غيرها كثيراً كما ذكرنا ذلك في ترجمته، وإنما لقبت زبيدة لأن جدها أبا جعفر المنصور كان يلاعبها ويرقصها وهي صغيرة ويقول‏:‏ إنما أنت زبيدة، لبياضها، فغلب ذلك عليها فلا تعرف إلا به، وأصل اسمها‏:‏ أم العزيز‏.‏

وكان لها من الجمال والمال والخير والديانة والصدقة والبر شيء كثير‏.‏

وروى الخطيب أنها حجت فبلغت نفقتها في ستين يوماً أربعة وخمسين ألف ألف درهم‏.‏

ولما هنأت المأمون بالخلافة قالت‏:‏ هنأت نفسي بها عنك قبل أن أراك، ولئن كنت فقدت ابناً خليفة لقد عوضت ابنا خليفة لم ألده، وما خسر من اعتاض مثلك، ولا ثكلت أم ملأت يدها منك، وأنا أسأل الله أجراً على ما أخذ، وإمتاعاً بما عوض‏.‏

توفيت ببغداد في جمادى الأولى سنة ست عشرة ومائتين‏.‏

ثم قال الخطيب‏:‏ حدثني الحسين بن محمد الخلال لفظاً، قال‏:‏ وحدث أبا الفتح القواس، قال ثنا صدقة بن هبيرة الموصلي، ثنا محمد بن عبد الله الواسطي، قال‏:‏ قال عبد الله بن المبارك‏:‏ رأيت زبيدة في المنام فقلت‏:‏ ما فعل الله بك ‏؟‏

فقالت‏:‏ غفر لي في أول معول ضرب في طريق مكة‏.‏

قلت‏:‏ فما هذه الصفرة ‏؟‏

قالت‏:‏ دفن بين ظهرانينا رجل يقال له‏:‏ بشر المريسي زفرت عليه جهنم زفرة فاقشعر لها جسدي فهذه الصفرة من تلك الزفرة‏.‏

وذكر ابن خلكان أنه كان لها مائة جارية كلهن يحفظن القرآن العظيم، غير من قرأ منه ما قدر له وغير من لم يقرأ، وكان يسمع لهن في القصر دوي كدوي النحل، وكان ورد كل واحدة عشر القرآن‏.‏

وورد أنها رؤيت في المنام فسئلت عما كانت تصنعه من المعروف والصدقات وما عملته في طريق الحج فقالت‏:‏ ذهب ثواب ذلك كله إلى أهله، وما نفعنا إلا ركعات كنت أركعهن في السحر‏.‏

وفيها‏:‏ جرت حوادث وأمور يطول ذكرها‏.‏

 ثم دخلت سنة سبعة عشرة ومائتين

في المحرم منها‏:‏ دخل المأمون مصر وظفر بعبدوس الفهري فأمر فضربت عنقه، ثم كر راجعاً إلى الشام‏.‏

وفيها‏:‏ ركب المأمون إلى بلاد الروم أيضاً فحاصر لؤلؤة مائة يوم، ثم ارتحل عنها واستخلف على حصارها عجيفاً فخدعته الروم فأسروه، فأقام في أيديهم ثمانية أيام، ثم انفلت منهم واستمر محاصراً لهم، فجاء ملك الروم بنفسه فأحاط بجيشه من ورائه، فبلغ المأمون فسار إليه، فلما أحس توفيل بقدومه هرب وبعث وزيره صنغل فسأله الأمان والمصالحة، لكنه بدأ بنفسه قبل المأمون فرد عليه المأمون كتاباً بليغاً مضمونه التقريع والتوبيخ‏:‏ وإني إنما أقبل منك الدخول في الحنيفة وإلا فالسيف والقتل والسلام على من اتبع الهدى‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي‏.‏

وفيها توفي‏:‏ الحجاج بن منهال، وشريح بن النعمان، وموسى بن داود، الضبي، والله سبحانه أعلم‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/298‏)‏

 ثم دخلت سنة ثمان عشرة ومائتين

في أول يوم من جمادى الأولى‏:‏ وجه المأمون ابنه العباس إلى بلاد الروم لبناء الطونة وتجديد عمارتها‏.‏

وبعث إلى سائر الأقاليم في تجهيز الفعلة من كل بلد إليها، من مصر والشام والعراق، فاجتمع عليها خلق كثير، وأمره أن يجعلها ميلاً في ميل، وأن يجعل سورها ثلاث فراسخ، وأن يجعل لها ثلاثة أبواب‏.‏

 ذكر أول المحنة والفتنة

في هذه السنة‏:‏ كتب المأمون إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يمتحن القضاة والمحدثين بالقول بخلق القرآن، وأن يرسل إليه جماعة منهم، وكتب إليه يستحثه في كتاب مطول، وكتب غيره قد سردها ابن جرير كلها‏.‏

ومضمونها الاحتجاج على أن القرآن محدث وكل محدث مخلوق، وهذا احتجاج لا يوافقه عليه كثير من المتكلمين فضلاً عن المحدثين، فإن القائلين بأن الله تعالى تقوم به الأفعال الاختيارية لا يقولون بأن فعله تعالى القائم بذاته المقدسة مخلوق، بل لم يكن مخلوقاً، بل يقولون هو محدث وليس بمخلوق، بل هو كلام الله القائم بذاته المقدسة، وما كان قائماً بذاته لا يكون مخلوقاً‏.‏

وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 11‏]‏‏.‏

فالأمر بالسجود صدر منه بعد خلق آدم، فالكلام القائم بالذات ليس مخلوقاً، وهذا له موضع آخر‏.‏

وقد صنف البخاري كتاباً في هذا المعنى سماه‏:‏ خلق أفعال العباد‏.‏

والمقصود أن كتاب المأمون لما ورد بغداد قرئ على الناس، وقد عين المأمون جماعة من المحدثين ليحضرهم إليه، وهم‏:‏ محمد بن سعد كاتب الواقدي، وأبو مسلم المستملي، ويزيد بن هارون، ويحيى بن معين، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وإسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد بن الدورقي‏.‏

فبعث بهم إلى المأمون إلى الرقة فامتحنهم بخلق القرآن فأجابوه إلى ذلك وأظهروا موافقته وهم كارهون، فردهم إلى بغداد وأمر بإشهار أمرهم بين الفقهاء، ففعل إسحاق ذلك‏.‏

وأحضر خلقاً من مشايخ الحديث والفقهاء وأئمة المساجد وغيرهم، فدعاهم إلى ذلك عن أمر المأمون، وذكر لهم موافقة أولئك المحدثين له على ذلك، فأجابوا بمثل جواب أولئك موافقة لهم، ووقعت بين الناس فتنة عظيمة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/299‏)‏

ثم كتب المأمون إلى إسحاق أيضاً بكتاب ثان يستدل به على القول بخلق القرآن بشبه من الدلائل أيضاً لا تحقيق تحتها ولا حاصل لها، بل هي من المتشابه وأورد من القرآن آيات هي حجة عليه‏.‏

أورد ابن جرير ذلك كله‏.‏

وأمر نائبه أن يقرأ ذلك على الناس وأن يدعوهم إليه وإلى القول بخلق القرآن‏.‏

فأحضر أبو إسحاق جماعة من الأئمة وهم‏:‏ أحمد بن حنبل، وقتيبة، وأبو حيان الزيادي، وبشر بن الوليد الكندي، وعلي بن أبي مقاتل، وسعدويه الواسطي، وعلي بن الجعد، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وابن الهرش، وابن علية الأكبر، ويحيى بن عبد الحميد العمري‏.‏

وشيخ آخر من سلالة عمر كان قاضياً على الرقة، وأبو نصر التمار، وأبو معمر القطيعي، ومحمد بن حاتم بن ميمون، ومحمد بن نوح الجنديسابوري المضروب، وابن الفرخان، والنضر بن شميل، وأبو علي بن عاصم، وأبو العوام البارد، وأبو شجاع، وعبد الرحمن بن إسحاق، وجماعة‏.‏

فلما دخلوا على أبي إسحاق قرأ عليهم كتاب المأمون، فلما فهموه قال لبشر بن الوليد‏:‏ ما تقول في القرآن ‏؟‏

فقال‏:‏ هو كلام الله‏.‏

قال‏:‏ ليس عن هذا أسألك، وإنما أسألك أهو مخلوق ‏؟‏

قال‏:‏ ليس بخالق‏.‏

قال‏:‏ ولا عن هذا أسألك‏.‏

فقال‏:‏ ما أحسن غير هذا‏.‏ وصمم على ذلك‏.‏

فقال‏:‏ تشهد أن لا إله إلا الله أحداً فرداً لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء ولا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه ‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

فقال للكاتب‏:‏ اكتب بما قال‏.‏ فكتب‏.‏

ثم امتحنهم رجلاً رجلاً فأكثرهم امتنع من القول بخلق القرآن، فكان إذا امتنع الرجل منهم امتحنه بالرقعة التي وافق عليها بشر بن الوليد الكندي، من أنه يقال‏:‏ لا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه ‏؟‏

فيقول‏:‏ نعم ‏!‏ كما قال بشر‏.‏

ولما انتهت النوبة إلى امتحان أحمد بن حنبل فقال له‏:‏ أتقول إن القرآن مخلوق ‏؟‏

فقال‏:‏ القرآن كلام الله لا أزيد على هذا‏.‏

فقال له‏:‏ ما تقول في هذه الرقعة ‏؟‏

فقال‏:‏ أقول‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏‏.‏

فقال رجل من المعتزلة‏:‏ إنه يقول سميع بإذن بصير بعين‏.‏

فقال له إسحاق‏:‏ ما أردت بقولك سميع بصير ‏؟‏

فقال‏:‏ أردت منها ما أراده الله منها، وهو كما وصف نفسه ولا أزيد على ذلك‏.‏

فكتب جوابات القوم رجلاً رجلاً وبعث بها إلى المأمون‏.‏

وكان من الحاضرين من أجاب إلى القول بخلق القرآن مصانعةً مكرهاً لأنهم كانوا يعزلون من لا يجيب عن وظائفه، وإن كان له رزق على بيت المال قطع، وإن كان مفتياً منع من الإفتاء، وإن كان شيخ حديث ردع عن الإسماع والأداء‏.‏

ووقعت فتنة صماء ومحنة شنعاء وداهية دهياء، فلا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/300‏)‏

 فصل

فلما وصلت جوابات القوم إلى المأمون بعث إلى نائبه يمدحه على ذلك ويرد على كل فرد فرد ما قال في كتاب أرسله‏.‏

وأمر نائبه أن يمتحنهم أيضاً فمن أجاب منهم شهر أمره في الناس، ومن لم يجب منهم فابعثه إلى عسكر أمير المؤمنين مقيداً محتفظاً به حتى يصل إلى أمير المؤمنين فيرى فيه رأيه، ومن رأيه أن يضرب عنق من لم يقل بقوله‏.‏

فعند ذلك عقد النائب ببغداد مجلساً آخر وأحضر أولئك وفيهم إبراهيم بن المهدي، وكان صاحباً لبشر بن الوليد الكندي، وقد نص المأمون على قتلهما إن لم يجيبا على الفور، فلما امتحنهم إسحاق أجابوا كلهم مكرهين متأولين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 106‏]‏ الآية‏.‏

إلا أربعة وهم‏:‏ أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، والحسن بن حماد سجاده، وعبيد الله بن عمر القواريري‏.‏

فقيَّدهم وأرصدهم ليبعث بهم إلى المأمون، ثم استدعى بهم في اليوم الثاني فامتحنهم فأجاب سجاده إلى القول بذلك فأطلق‏.‏

ثم امتحنهم في اليوم الثالث فأجاب القواريري إلى ذلك فأطلق قيده‏.‏

وأخرَّ أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح الجنديسابوري لأنهما أصرا على الامتناع من القول بذلك، فأكد قيودهما وجمعهما في الحديد وبعث بهما إلى الخليفة وهو بطرسوس، وكتب كتاباً بإرسالهما إليه‏.‏

فسارا مقيدين في محارة على جمل متعادلين رضي الله عنهما‏.‏

وجعل الإمام أحمد يدعو الله عز وجل أن لا يجمع بينهما وبين المأمون، وأن لا يرياه ولا يراهما‏.‏

ثم جاء كتاب المأمون إلى نائبه أنه قد بلغني أن القوم إنما أجابوا مكرهين متأولين قوله تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان‏)‏‏)‏ ‏[‏النحل‏:‏ 106‏]‏ الآية‏.‏

وقد أخطأوا في تأويلهم ذلك خطأً كبيراً، فأرسلهم كلهم إلى أمير المؤمنين‏.‏

فاستدعاهم إسحاق وألزمهم بالمسير إلى طرسوس فساروا إليها، فلما كانوا ببعض الطريق بلغهم موت المأمون فردوا إلى الرقة، ثم أذن لهم بالرجوع إلى بغداد‏.‏

وكان أحمد بن حنبل وابن نوح قد سبقا الناس، ولكن لم يجتمعا به‏.‏

بل أهلكه الله قبل وصولهما إليه، واستجاب الله سبحانه دعاء عبده ووليه الإمام أحمد بن حنبل، فلم يريا المأمون ولا رآهما، بل ردوا إلى بغداد‏.‏

وسيأتي تمام ما وقع لهم من الأمر الفظيع في أول ولاية المعتصم بن الرشيد، وتمام باقي الكلام على ذلك في ترجمة الإمام أحمد عند ذكر وفاته في سنة إحدى وأربعين ومائتين، وبالله المستعان‏.‏

 عبد الله المأمون

هو‏:‏ عبد الله المأمون بن هارون الرشيد، العباسي القرشي الهاشمي، أبو جعفر، أمير المؤمنين، وأمه أم ولد يقال لها‏:‏ مراجل الباذغيسية، وكان مولده في ربيع الأول سنة سبعين ومائة ليلة توفي عمه الهادي، وولي أبوه هارون الرشيد، وكان ذلك ليلة الجمعة كما تقدم‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ روى الحديث عن‏:‏ أبيه، وهاشم بن بشر، وأبي معاوية الضرير، ويوسف بن قحطبة، وعباد بن العوام، وإسماعيل بن علية، وحجاج بن محمد الأعور‏.‏

وروى عنه‏:‏ أبو حذيفة إسحاق بن بشر، - وهو أسن منه - ويحيى بن أكثم القاضي، وابنه الفضل بن المأمون، ومعمر بن شبيب، وأبو يوسف القاضي، وجعفر بن أبي عثمان الطيالسي، وأحمد بن الحارث الشعبي - أو اليزيدي -، وعمرو بن مسعدة، وعبد الله بن طاهر بن الحسين، ومحمد بن إبراهيم السلمي، ودعبل بن علي الخزاعي‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/301‏)‏

قال‏:‏ وقدم دمشق مرات وأقام بها مدة‏.‏

ثم روى ابن عساكر، من طريق أبي القاسم البغوي، حدثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي، قال‏:‏ سمعت المأمون في الشماسية وقد أجرى الحلبة فجعل ينظر إلى كثرة الناس، فقال ليحيى بن أكثم‏:‏ أما ترى كثرة الناس ‏؟‏

قال‏:‏ حدثنا يوسف بن عطية، عن ثابت، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله‏)‏‏)‏‏.‏

ومن حديث أبي بكر المنايحي، عن الحسين بن أحمد المالكي، عن يحيى بن أكثم القاضي، عن المأمون، عن هشيم، عن منصور، عن الحسن، عن أبي بكرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الحياء من الإيمان‏)‏‏)‏‏.‏

ومن حديث جعفر بن أبي عثمان الطيالسي، أنه صلى العصر يوم عرفة خلف المأمون بالرصافة، فلما سلم كبر الناس فجعل يقول‏:‏ لا يا غوغاء لا يا غوغاء، غداً التكبير سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم‏.‏

فلما كان الغد صعد المنبر فكبر ثم قال‏:‏ أنبأ هشيم بن بشير، ثنا ابن شبرمة، عن الشعبي، عن البراء بن عازب، عن أبي بردة بن دينار، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من ذبح قبل أن يصلي فإنما هو لحم قدمه لأهله، ومن ذبح بعد أن يصلي الغداة فقد أصاب السنة‏)‏‏)‏‏.‏

الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلا، اللهم أصلحني واستصلحني وأصلح على يدي‏.‏

تولى المأمون الخلافة في المحرم لخمس بقين منه بعد مقتل أخيه سنة ثمان وتسعين ومائة، واستمر في الخلافة عشرين سنة وخمسة أشهر‏.‏

وقد كان فيه تشيع واعتزال وجهل بالسنة الصحيحة، وقد بايع في سنة إحدى ومائتين بولاية العهد من بعده لعلي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وخلع السواد ولبس الخضرة كما تقدم، فأعظم ذلك العباسيون من البغاددة وغيرهم، وخلعوا المأمون وولوا عليهم إبراهيم بن المهدي‏.‏

ثم ظفر المأمون بهم واستقام له الحال في الخلافة، وكان على مذهب الاعتزال لأنه اجتمع بجماعة منهم بشر بن غياث المريسي فخدعوه وأخذ عنهم هذا المذهب الباطل‏.‏

وكان يحب العلم ولم يكن له بصيرة نافذة فيه، فدخل عليه بسبب ذلك الداخل، وراج عنده الباطل، ودعا إليه وحمل الناس عليه قهراً، وذلك في آخر أيامه وانقضاء دولته‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/302‏)‏

وقال ابن أبي الدنيا‏:‏ كان المأمون أبيض ربعة حسن الوجه قد وخطه الشيب يعلوه صفرة أعين، طويل اللحية رقيقها ضيق الجبين، على خده خال‏.‏

أمه أم ولد يقال لها‏:‏ مراجل‏.‏

وروى الخطيب، عن القاسم بن محمد بن عباد، قال‏:‏ لم يحفظ القرآن أحد من الخلفاء غير عثمان بن عفان والمأمون، وهذا غريب جداً لا يوافق عليه، فقد كان يحفظ القرآن عدة من الخلفاء‏.‏

قالوا‏:‏ وقد كان المأمون يتلو في شهر رمضان ثلاثاً وثلاثين ختمة، وجلس يوماً لإملاء الحديث فاجتمع حوله القاضي يحيى بن أكثم وجماعة فأملى عليهم من حفظه ثلاثين حديثاً‏.‏

وكانت له بصيرة بعلوم متعددة، فقهاً وطباً وشعراً وفرائض وكلاماً ونحواً وغريبه، وغريب حديث، وعلم النجوم، وإليه ينسب الزيج المأموني، وقد اختبر مقدار الدرجة في وطئه سنجار فاختلف عمله وعمل الأوائل من الفقهاء‏.‏

وروى ابن عساكر أن المأمون جلس يوماً للناس وفي مجلسه الأمراء والعلماء، فجاءت امرأة تتظلم إليه فذكرت أن أخاها توفي وترك ستمائة دينار، فلم يحصل لها سوى دينار واحد‏.‏

فقال لها المأمون على البديهة‏:‏ قد وصل إليك حقك، كان أخاك قد ترك بنتين وأماً وزوجة واثني عشر أخاً وأختاً واحدةً وهي أنت‏.‏

قالت‏:‏ نعم ‏!‏ يا أمير المؤمنين‏.‏

فقال‏:‏ للبنتين الثلثان أربعمائة دينار، وللأم السدس مائة دينار، وللزوجة الثمن خمسة وسبعون ديناراً، بقي خمسة وعشرون ديناراً لكل أخ ديناران ديناران، ولك دينار واحد‏.‏

فعجب العلماء من فطنته وحدة ذهنه وسرعة جوابه‏.‏

وقد رويت هذه الحكاية عن علي بن أبي طالب‏.‏

ودخل بعض الشعراء على المأمون وقد قال فيه بيتاً من الشعر يراه عظيماً، فلما أنشده إياه لم يقع منه موقعاً طائلاً، فخرج من عنده محروماً، فلقيه شاعر آخر فقال له‏:‏ ألا أعجبك ‏!‏ أنشدت المأمون هذا البيت فلم يرفع به رأساً‏.‏

فقال‏:‏ وما هو ‏؟‏

قال‏:‏ قلت فيه‏:‏

أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلاً * بالدين والناس بالدنيا مشاغيل

فقال له الشاعر الآخر‏:‏ ما زدت على أن جعلته عجوزاً في محرابها‏.‏

فهلا قلت كما قال جرير في عبد العزيز بن مروان‏:‏

فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه * ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله

وقال المأمون يوماً لبعض جلسائه‏:‏ بيتان اثنان لاثنين ما يلحق بهما أحد، قول أبي نواس‏:‏

إذا اختبر الدنيا لبيب تكشفت * له عن عدو في لباس صديق

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/303‏)‏

وقول شريح‏:‏

تهون على الدنيا الملامة إنه * حريص على استصلاحها من يلومها

قال المأمون‏:‏ وقد ألجأني الزحام يوماً وأنا في الموكب حتى خالطت السوقة فرأيت رجلاً في دكان عليه أثواب خلْقة، فنظر إليّ نظر من يرحمني أو من يتعجب من أمري فقال‏:‏

أرى كل مغرور تمنِّيه نفسه * إذا ما مضى عام سلامة قابل

وقال يحيى بن أكثم سمعت المأمون يوم عيد خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وصلى على الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ عباد الله ‏!‏ عظم أمر الدارين وارتفع جزاء العالمين، وطالت مدة الفريقين، فوالله إنه للجد لا اللعب، وإنه للحق لا الكذب، وما هو إلا الموت والبعث، والحساب والفصل، والميزان والصراط، ثم العقاب أو الثواب، فمن نجا يومئذ فقد فاز، ومن هوى يومئذ فقد خاب، الخير كله في الجنة، والشر كله في النار‏.‏

وروى ابن عساكر، من طريق النضر بن شميل، قال‏:‏ دخلت على المأمون فقال‏:‏ كيف أصبحت يا نضر ‏؟‏

فقلت‏:‏ بخير يا أمير المؤمنين‏.‏

فقال‏:‏ ما الإرجاء ‏؟‏

فقلت‏:‏ دين يوافق الملوك يصيبون به من دنياهم وينقصون به من دينهم‏.‏

قال‏:‏ صدقت‏.‏

ثم قال‏:‏ يا نضر ‏!‏ أتدري ما قلت في صبيحة هذا اليوم ‏؟‏

قلت‏:‏ إني لمن علم الغيب لبعيد‏.‏

فقال‏:‏ قلت أبياتاً وهي‏:‏

أصبح ديني الذي أدين به * ولست منه الغداة معتذرا

حبَ عليّ بعد النبي ولا * أشتم صدِّيقاً ولا عمرا

ثم ابن عفان في الجنان مع الـ* أبرار ذاك القتيل مصطبرا

ألا ولا أشتم الزبير ولا * طلحة إن قال قائل غدرا

وعائش الأم لست أشتمها * من يفتريها فنحن منه برا

وهذا المذهب ثاني مراتب الشيعة وفيه تفضيل علي على الصحابة‏.‏

وقد قال جماعة من السلف والدارقطني‏:‏ من فضل علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار - يعني‏:‏ في اجتهادهم ثلاثة أيام ثم اتفقوا على عثمان وتقديمه على علي بعد مقتل عمر -‏.‏

وبعد ذلك ست عشرة مرتبة في التشيع، على ما ذكره صاحب كتاب البلاغ الأكبر، والناموس الأعظم، وهو كتاب ينتهي به إلى أكفر الكفر‏.‏

وقد روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال‏:‏ لا أوتى بأحد فضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفتري‏.‏

وتواتر عنه أنه قال‏:‏ خير الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر‏.‏

فقد خالف المأمون الصحابة كلهم حتى علي بن أبي طالب‏.‏

وقد أضاف المأمون إلى بدعته هذه التي أزرى فيها على المهاجرين والأنصار، البدعة الأخرى والطامة الكبرى وهي‏:‏ القول بخلق القرآن مع ما فيه من الانهماك على تعاطي المسكر وغير ذلك من الأفعال التي تعدد فيها المنكر‏.‏

ولكن كان فيه شهامة عظيمة وقوة جسيمة في القتال وحصار الأعداء ومصابرة الروم وحصرهم، وقتل رجالهم وسبي نسائهم، وكان يقول‏:‏ كان لعمر بن عبد العزيز وعبد الملك حجَّاب وأنا بنفسي‏.‏

وكان يتحرى العدل ويتولى بنفسه الحكم بين الناس والفصل‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/304‏)‏

جاءته امرأة ضعيفة قد تظلمت على ابنه العباس وهو قائم على رأسه، فأمر الحاجب فأخذه بيده فأجلسه معها بين يديه، فادَّعت عليه بأنه أخذ ضيعة لها واستحوذ عليها، فتناظرا ساعة فجعل صوتها يعلو على صوته، فزجرها بعض الحاضرين، فقال له المأمون‏:‏ اسكت فإن الحق أنطقها والباطل أسكته‏.‏

ثم حكم لها بحقها وأغرم ابنه لها عشرة آلاف درهم‏.‏

وكتب إلى بعض الأمراء‏:‏ ليس المروءة أن يكون بيتك من ذهب وفضة وغريمك عار، وجارك طاوٍ و الفقير جائع‏.‏

ووقف رجل بين يديه فقال له المأمون‏:‏ والله لأقتلنك‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ تأنَّ علي فإن الرفق نصف العفو‏.‏

فقال‏:‏ ويلك ويحك ‏!‏ قد حلفت لأقتلنك‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنك إن تلق الله حانثاً خير من أن تلقاه قاتلاً‏.‏

فعفا عنه‏.‏

وكان يقول‏:‏ ليت أهل الجرائم يعرفون أن مذهبي العفو حتى يذهب الخوف عنهم ويدخل السرور إلى قلوبهم‏.‏

وركب يوماً في حراقة فسمع ملاحاً يقول لأصحابه‏:‏ ترون هذا المأمون ينبل في عيني وقد قتل أخاه الأمين - يقول ذلك وهو لا يشعر بمكان المأمون - فجعل المأمون يتبسم ويقول‏:‏ كيف ترون الحيلة حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل القدر ‏؟‏

وحضر عند المأمون هدبة بن خالد ليتغدى عنده فلما رفعت المائدة جعل هدبة يلتقط ما تناثر منها من اللباب وغيره‏.‏

فقال له المأمون‏:‏ أما شبعت يا شيخ ‏؟‏

فقال‏:‏ بلى، حدثني حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أكل ما تحت مائدته أمن من الفقر‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأمر له المأمون بألف دينار‏.‏

وروى ابن عساكر أن المأمون قال يوماً لمحمد بن عباد بن المهلب‏:‏ يا أبا عبد الله ‏!‏ قد أعطيتك ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف، وأعطيك ديناراً‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إن منع الموجود سوء ظن بالمعبود‏.‏

فقال‏:‏ أحسنت يا أبا عبد الله ‏!‏ أعطوه ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف‏.‏

ولما أراد المأمون أن يدخل ببوران بنت الحسن بن سهل جعل الناس يهدون لأبيها الأشياء النفيسة، وكان من جملة من يعتز به رجل من الأدباء‏.‏

فأهدى إليه مزوداً فيه ملح طيب، ومزوداً فيه أشنان جيد، وكتب إليه‏:‏ إني كرهت أن تطوى صحيفة أهل البر ولا أذكر فيها، فوجهت إليك بالمبتدأ به ليمنه وبركته، وبالمختوم به لطيبه ونظافته‏.‏

وكتب إليه‏:‏

بضاعتي تقصر عن همتي * وهمّتي تقصر عن مالي

فالملح والأشنان يا سيدي * أحسن ما يهديه أمثالي

قال‏:‏ فدخل بها الحسن بن سهل على المأمون فأعجبه ذلك وأمر بالمزودين ففرغا وملئا دنانير وبعث بهما إلى ذلك الأديب‏.‏

وولد للمأمون ابنه جعفر فدخل عليه الناس يهنئونه بصنوف التهاني، ودخل بعض الشعراء فقال يهنيه بولده‏:‏

مدّ لك الله الحياة مدّا * حتى ترى ابنك هذا جدا

ثم يفدّى ما تفدّى * كأنه أنت إذا تبدَّى

أشبه منك قامةً وقداً * مؤزّراً بمجده مردّا

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/305‏)‏

قال‏:‏ فأمر له بعشرة آلاف درهم‏.‏

وقدم عليه وهو بدمشق مال جزيل بعد ما كان قد أفلس وشكى إلى أخيه المعتصم ذلك، فوردت عليه خزائن من خراسان ثلاثون ألف ألف درهم، فخرج يستعرضها وقد زينت الجمال والأحمال، ومعه يحيى بن أكثم القاضي، فلما دخلت البلد قال‏:‏ ليس من المروءة أن نحوز نحن هذا كله والناس ينظرون‏.‏

ثم فرق منه أربعة وعشرين ألف ألف درهم ورجله في الركاب لم ينزل عن فرسه‏.‏

ومن لطيف شعره‏:‏

لساني كتوم لأسراركم * ودمعي نموم لسرّي مذيع

فلولا دموعي كتمت الهوى * ولولا الهوى لم تكن لي دموع

بعث خادماً ليلة من الليالي ليأتيه بجارية فأطال الخادم عندها المكث، وتمنعت الجارية من المجيء إليه حتى يأتي إليها المأمون بنفسه، فأنشأ المأمون يقول‏:‏

بعثتك مشتاقاً ففزت بنظرة * وأغفلتني حتى أسأت بك الظنّا

فناجيت من أهوى وكنت مباعداً * فياليت شعري عن دنّوك ما أغنى

وردّدت طرفاً في محاسن وجهها * ومتّعت باستسماع نغمتها أذنا

أرى أثراً منه بعينيك بيّنا * لقد سرقت عيناك من عينها حسنا

ولما ابتدع المأمون ما ابتدع من التشيع والاعتزال، فرح بذلك بشر المريسي - وكان بشر هذا شيخ المأمون - فأنشأ يقول‏:‏

قد قال مأموننا وسيدنا * قولاً له في الكتب تصديق

إن علياً أعني أبا حسن ٍ* أفضل من قد أقلت النّوق

بعد نبي الهدى وإن لنا * أعمالنا، والقرآن مخلوق

فأجابه بعض الشعراء من أهل السنة‏:‏

يا أيها الناس لا قول ولا عمل * لمن يقول‏:‏ كلام الله مخلوق

ما قال ذاك أبو بكر ولا عمر * ولا النبي ولم يذكره صديق

ولم يقل ذاك إلا كل مبتدعٍ * على الرسول وعند الله زنديق

بشر أراد به إمحاق دينهم * لأن دينهم والله ممحوق

يا قوم أصبح عقل من خليفتكم * مقيداً وهو في الأغلال موثوق

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/306‏)‏

وقد سأل بشر بن المأمون أن يطلب قائل هذا فيؤدبه على ذلك، فقال‏:‏ ويحك ‏!‏

لو كان فقيهاً لأدبته ولكنه شاعر فلست أعرض له‏.‏

ولما تجهز المأمون للغزو في آخر سفرة سافرها إلى طرسوس استدعى بجارية كان يحبها وقد اشتراها في آخر عمره، فضمها إليه فبكت الجارية وقالت‏:‏ قتلتني يا أمير المؤمنين بسفرك، ثم أنشأت تقول‏:‏

سأدعوك دعوة المضطّر رباً * يثيب على الدّعاء ويستجيب

لعل الله أن يكفيك حرباً * ويجمعنا كما تهوى القلوب

فضمها إليه، وأنشأ يقول متمثلاً‏:‏

فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها * وإذ هي تذري الدمع منها الأنامل

صبيحة قالت في العتاب قتلتني * وقتلي بما قالت هناك تحاول

ثم أمر مسروراً الخادم بالإحسان إليها والاحتفاط عليها حتى يرجع، ثم قال‏:‏ نحن كما قال الأخطل‏:‏

قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم * دون النساء ولو باتت بأطهار

ثم ودعها وسار فمرضت الجارية في غيبته هذه، ومات المأمون أيضاً في غيبته هذه، فلما جاء نعيه إليها تنفست الصعداء وحضرتها الوفاة، وأنشأت تقول وهي في السياق‏:‏

إن الزمان سقانا من مرارته * بعد الحلاوة كاسات فأروانا

أبدى لنا تارةً منه فأضحكنا * ثم انثنى تارةً أخرى فأبكانا

إنا إلى الله فيما لا يزال بنا * من القضاء ومن تلوين دنيانا

دنيا تراها ترينا من تصرفها * ما لا يدوم مصافاةً وأحزانا

ونحن فيها كأنا لا يزالينا * للعيش أحيا وما يبكون موتانا

كانت وفاة المأمون بطرسوس في يوم الخميس وقت الظهر، وقيل‏:‏ بعد العصر، لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب من سنة ثماني عشرة ومائتين، وله من العمر نحو من ثمان وأربعين سنة، وكانت مدة خلافته عشرين سنة وأشهراً‏.‏

وصلى عليه أخوه المعتصم وهو ولي العهد من بعده، ودفن بطرسوس في دار خاقان الخادم‏.‏

وقيل‏:‏ كانت وفاته يوم الثلاثاء‏.‏

وقيل‏:‏ يوم الأربعاء لثمان بقين من هذه السنة‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/307‏)‏

وقيل‏:‏ إنه مات خارج طرسوس بأربع مراحل فحمل إليها فدفن بها‏.‏

وقيل‏:‏ إنه نقل إلى أذنة في رمضان فدفن بها، فالله أعلم‏.‏

وقد قال أبو سعيد المخزومي‏:‏

هل رأيت النجوم أغنت عن المأ * مون شيئاً أو ملكه المأسوس

خلّفوه بعرصتي طرسوس * مثل ما خلفوا أباه بطوس

وقد كان أوصى إلى أخيه المعتصم وكتب وصيته بحضرته وبحضرة ابنه العباس وجماعة القضاة والأمراء والوزراء والكتاب‏.‏

وفيها‏:‏ القول بخلق القرآن ولم يتب من ذلك بل مات عليه وانقطع عمله وهو على ذلك لم يرجع عنه ولم يتب منه، وأوصى أن يكبر عليه الذي يصلى عليه خمساً، وأوصى المعتصم بتقوى الله عز وجل والرفق بالرعية، وأوصاه أن يعتقد ما كان يعتقده أخوه المأمون في القرآن، وأن يدعو الناس إلى ذلك، وأوصاه بعبد الله بن طاهر، وأحمد بن إبراهيم، وأحمد ابن أبي داود‏.‏

وقال‏:‏ شاوره في أمورك ولا تفارقه، وإياك ويحيى بن أكثم أن تصحبه، ثم نهاه عنه وذمه وقال‏:‏ خانني ونفَّر الناس عني ففارقته غير راض عنه‏.‏

ثم أوصاه بالعلويين خيراً، أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وأن يواصلهم بصلاتهم في كل سنة‏.‏

وقد ذكر ابن جرير للمأمون ترجمة حافلة أورد فيها أشياء كثيرة لم يذكرها ابن عساكر مع كثرة ما يورده، وفوق كل ذي علم عليم‏.‏