فصل: غزوة تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله عليه السلام‏.‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 قصة مسجد الضرار

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 106-110‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/27‏)‏

وقد تكلَّمنا على تفسير ما يتعلق بهذه الآيات الكريمة في كتابنا التَّفسير بما فيه كفاية ولله الحمد‏.‏

وذكر ابن إسحاق كيفية بناء هذا المسجد الظَّالم أهله، وكيفية أمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بخرابه مرجعه من تبوك قبل دخوله المدينة، ومضمون ذلك أنَّ طائفة من المنافقين بنوا صورة مسجد قريباً من مسجد قباء، وأرادوا أن يصلي لهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فيه حتَّى يروج لهم ما أرادوه من الفساد، والكفر والعناد، فعصم الله رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم من الصَّلاة فيه، وذلك أنَّه كان على جناح سفر إلى تبوك‏.‏

فلمَّا رجع منها فنزل بذي أوان - مكان بينه وبين المدينة ساعة - نزل عليه الوحي في شأن هذا المسجد، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ‏}‏ الآية‏.‏

أما قوله‏:‏ ‏{‏ضراراً‏}‏ فلأنَّهم أرادوا مضاهاة مسجد قباء‏.‏

‏{‏وكفراً‏}‏ بالله لا للإيمان به‏.‏

‏{‏وتفريقاً‏}‏ للجماعة عن مسجد قباء‏.‏

‏{‏وإرصاداً‏}‏ لمن حارب الله ورسوله من قبل، وهو أبو عامر الرَّاهب الفاسق قبَّحه الله، وذلك أنَّه لما دعاه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الإسلام، فأبى عليه؛ ذهب إلى مكة فاستنفرهم، فجاؤا عام أحد فكان من أمرهم ما قدمناه، فلمَّا لم ينهض أمره ذهب إلى ملك الرُّوم قيصر ليستنصره على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وكان أبو عامر على دين هرقل ممن تنصَّر معهم من العرب، وكان يكتب إلى إخوانه الذين نافقوا يعدهم ويمنيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً، فكانت مكاتباته ورسله تفد إليهم كل حين، فبنوا هذا المسجد في الصّورة الظَّاهرة، وباطنه دار حرب ومقر لمن يفد من عند أبي عامر الرَّاهب، ومجمع لمن هو على طريقتهم من المنافقين‏.‏

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ‏}‏‏.‏

ثمَّ قال‏:‏ ‏{‏وَلَيَحْلِفُنَّ‏}‏ أي‏:‏ الذين بنوه‏.‏

{‏إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى‏}‏ أي‏:‏ غنماً أردنا ببنائه الخير‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏‏.‏

ثمَّ قال الله تعالى إلى رسوله‏:‏ ‏{‏لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً‏}‏‏.‏

فنهاه عن القيام فيه لئلا يقرر أمره، ثمَّ أمره وحثَّه على القيام في المسجد الذي أسس على التَّقوى من أول يوم، وهو مسجد قباء لما دلَّ عليه السِّياق، والأحاديث الواردة في الثَّناء على تطهير أهله مشيرة إليه‏.‏

وما ثبت في صحيح مسلم من أنَّه مسجد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لا ينافي ما تقدَّم لأنَّه إذا كان مسجد قباء أسس على التَّقوى من أول يوم، فمسجد الرَّسول أولى بذلك، وأحرى وأثبت في الفضل منه وأقوى‏.‏

وقد أشبعنا القول في ذلك في التَّفسير ولله الحمد‏.‏

والمقصود أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لما نزل بذي أوان، دعا مالك بن الدخشم، ومعن بن عدي - أو أخاه عاصم بن عدي رضي الله عنهما فأمرهما أن يذهبا إلى هذا المسجد الظَّالم أهله، فيحرقاه بالنَّار، فذهبا فحرقاه بالنَّار، وتفرَّق عنه أهله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/28‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان الذين بنوه اثني عشر رجلاً‏:‏ وهم خذام بن خالد - وفي جنب داره - كان بناء هذا المسجد - وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وأبو حبيبة ابن الأزعر، وعبَّاد بن حنيف - أخو سهل بن حنيف -، وجارية بن عامر، وابناه مجمع وزيد، ونبتل بن الحارث، وبخرج - وهو إلى بني ضبيعة -، وبجاد بن عثمان - وهو من بني ضبيعة -، ووديعة بن ثابت - وهو إلى بني أمية-‏.‏

قلت‏:‏ وفي غزوة تبوك هذه صلَّى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خلف عبد الرحمن بن عوف صلاة الفجر أدرك معه الركعة الثَّانية منها، وذلك أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ذهب يتوضأ، ومعه المغيرة بن شعبة فأبطأ على النَّاس، فأقيمت الصَّلاة، فتقدَّم عبد الرحمن بن عوف، فلمَّا سلَّم النَّاس أعظموا ما وقع‏.‏

فقال لهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أحسنتم وأصبتم‏)‏‏)‏‏.‏

وذلك فيما رواه البخاري رحمه الله قائلاً‏:‏ حدَّثنا‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدَّثنا أحمد بن محمد، حدَّثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا حميد الطَّويل عن أنس بن مالك أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم‏)‏‏)‏‏.‏

فقالوا‏:‏ يا رسول الله وهم بالمدينة‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وهم بالمدينة حبسهم العذر‏)‏‏)‏‏.‏

تفرَّد به من هذا الوجه‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدَّثنا خالد بن مخلد، حدَّثني عمرو بن يحيى عن العبَّاس بن سهل بن سعد، عن أبي حميد، قال‏:‏ أقبلنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من غزوة تبوك حتَّى إذا أشرفنا على المدينة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذه طابة، وهذا أُحد جبل يحبنا ونحبه‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم من حديث سليمان بن بلال به نحوه‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدَّثنا عبد الله بن محمد، حدَّثنا سفيان عن الزُّهري، عن السَّائب بن يزيد قال‏:‏ أذكر أنِّي خرجت مع الصِّبيان نتلقى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى ثنية الوداع مقدمه من غزوة تبوك‏.‏

ورواه أبو داود والتِّرمذي من حديث سفيان بن عيينة به‏.‏

وقال التِّرمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أخبرنا أبو عمرو ابن مطر، سمعت أبا خليفة يقول‏:‏ سمعت ابن عائشة يقول‏:‏ لما قدم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المدينة جعل النِّساء والصِّبيان والولائد يقلن‏:‏

طَلَعَ البَدْرُ عَلَيْنَا * مِنْ ثَنِيَّاتِ الوَدَاعْ

وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا * مَا دَعَا للهِ دَاعْ

قال البيهقي‏:‏ وهذا يذكره علماؤنا عند مقدمة المدينة من مكة، لا إنَّه لما قدم المدينة من ثنيات الوداع، عند مقدمة من تبوك، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/29‏)‏

فذكرناه ها هنا أيضاً‏.‏

قال البخاري رحمه الله حديث كعب بن مالك رضي الله عنه‏:‏ حدَّثنا يحيى بن بكير، حدَّثنا اللَّيث عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أنَّ عبد الله بن كعب بن مالك - وكان قائد كعب من بنيه حين عمي - قال‏:‏

سمعت كعب بن مالك يحدِّث حين تخلَّف عن قصة تبوك‏.‏

قال كعب‏:‏ لم أتخلَّف عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أنِّي كنت تخلَّفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحداً تخلَّف عنها، إنما خرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يريد عير قريش حتَّى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ليلة العقبة حتَّى تواثبنا على الإسلام، وما أحب أنَّ لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أَذكر في النَّاس منها كان من خبري أنِّي لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلَّفت عنه في تلك الغزوة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط، حتَّى جمعتهما في تلك الغزاة، ولم يكن رسول الله يريد غزوة إلا ورى بغيرها، حتَّى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله في حرٍّ شديد، واستقبل سفر بعيداً وعَدداً وعُداداً كثيراً، فجلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهَّبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الدِّيوان -‏.‏

قال كعب‏:‏ فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظنَّ أن يستخفي له ما لم ينزل فيه وحي الله، وغزا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تلك الغزوة حين طابت الثِّمار والظِّلال، وتجهَّز رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم والمسلمون معه فطفقت أغدو لكي أتجهَّز معهم، فأرجع ولم أقض شيئاً‏.‏

فأقول في نفسي‏:‏ أنا قادر عليه فلم يزل يتمادى بي حتَّى اشتد بالنَّاس الجد، فأصبح رسول الله والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئاً‏.‏

فقلت‏:‏ أتجهز بعد يوم أو يومين ثمَّ ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهَّز، فرجعت ولم أقض شيئاً، ثمَّ غدوت، ثمَّ رجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل بي حتَّى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن ارتحل فأدركهم - وليتني فعلت - فلم يُقدَّر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في النَّاس بعد خروج رسول الله فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه النِّفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضُّعفاء، ولم يذكرني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حتَّى بلغ تبوك‏.‏

فقال وهو جالس في القوم بتبوك‏:‏ ‏(‏‏(‏ما فعل كعب‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال رجل من بني سلمة‏:‏ يا رسول الله حبسه براده ونظره في عطفيه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/30‏)‏

فقال معاذ بن جبل‏:‏ بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً‏.‏

فسكت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

قال كعب بن مالك قال‏:‏ فلمَّا بلغني أنَّه توجَّه قافلاً حضرني همِّي، وطفقت أتذكَّر الكذب، وأقول بماذا أخرج غداً من سخطه، واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي‏.‏

فلمَّا قيل إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد أظل قادماً زاح عني الباطل، وعرفت أنِّي لن أخرج منه أبداً بشيء من كذب، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قادماً، فكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثمَّ جلس للنَّاس، فلمَّا فعل ذلك جاء المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكَّل سرائرهم إلى الله عز وجل، فجئته فلمَّا سلَّمت عليه تبسَّم تبسم المغضب‏.‏

ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏تعال‏)‏‏)‏‏.‏

فجئت أمشي حتَّى جلست بين يديه‏.‏

فقال لي‏:‏ ‏(‏‏(‏ما خلَّفك‏؟‏ ألم تكن قد ابتعت ظهرك‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ بلى وإنِّي والله لو جلست عند غيرك من أهل الدُّنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر - ولقد أعطيت جدلاً - ولكنِّي والله لقد علمت لئن حدَّثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنِّي ليوشكنَّ الله أن يسخطك عليّ، ولئن حدَّثتك حديث صدق تجد عليّ فيه إنِّي لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، ووالله ما كنت قط أقوى ولا أيسر منِّي حين تخلَّفت عنك‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أمَّا هذا فقد صدق، فقم حتَّى يقضي الله فيك‏)‏‏)‏‏.‏

فقمت، فثار رجال من بني سلمة فاتَّبعوني‏.‏

فقالوا لي‏:‏ والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بما اعتذر إليه المخلَّفون، وقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لك فوالله ما زالوا يؤنبونني حتَّى ههمت أن أرجع فأكذِّب نفسي‏.‏

ثمَّ قلت لهم‏:‏ هل لقي هذا معي أحد‏؟‏

قالوا‏:‏ نعم رجلان قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك‏.‏

فقلت‏:‏ من هما‏؟‏

قالوا‏:‏ مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي‏.‏

فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً لي فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما‏.‏

ونهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المسلمين عن كلامنا أيُّها الثَّلاثة من بين من تخلَّف‏.‏

فاجتنبنا النَّاس وتغيروا لنا حتَّى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأمَّا أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصَّلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأسلِّم عليه، وهو في مجلسه بعد الصَّلاة، وأقول في نفسي هل حرَّك شفتيه بردِّ السَّلام عليّ أم لا، ثمَّ أصلي قريباً منه فأسارقه النَّظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إليّ، وإذا التفت نحوه أعرض عني حتَّى إذا طال علي ذلك من جفوة النَّاس مشيت حتَّى تسورت جدار حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي وأحبّ النَّاس إليّ - فسلَّمت عليه، فوالله ما ردَّ عليّ السَّلام‏.‏

فقلت‏:‏ يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلِّمني أحبّ الله ورسوله‏؟‏

فسكت، فعدت له فنشدته، فسكت، فعدت له فنشدته‏.‏

فقال‏:‏ الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتولَّيت حتَّى تسورت الجدار‏.‏

قال‏:‏ وبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشَّام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول‏:‏ من يدلّني على كعب بن مالك‏؟‏

فطفق النَّاس يشيرون له، حتَّى إذا جاءني دفع إليّ كتاباً من ملك غسَّان في سرقة من حرير‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/31‏)‏

فإذا فيه‏:‏ أمَّا بعد فإنَّه قد بلغني أنَّ صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيعة فالحق بنا نواسيك‏.‏

فقلت لما قرأتها‏:‏ وهذا أيضاً من البلاء، فتيممت بها التَّنور، فسجرته بها، فأقمنا على ذلك حتَّى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يأتيني‏.‏

فقال‏:‏ رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك‏.‏

فقلت‏:‏ أطلقها أم ماذا أفعل‏؟‏

قال‏:‏ لا بل اعتزلها، ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبيَّ بمثل ذلك‏.‏

فقلت لامرأتي‏:‏ إلحقي بأهلك فكوني عندهم حتَّى يقضي الله في هذا الأمر‏.‏

قال كعب‏:‏ فجاءت امرأة هلال بن أمية إلى رسول الله‏.‏

فقالت‏:‏ يا رسول الله إنَّ هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا ولكن لا يقربك‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ إنَّه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا‏.‏

فقال لي بعض أهلي‏:‏ لو استأذنت رسول الله في امرأتك، كما استأذن هلال ابن أمية أن تخدمه‏.‏

فقلت‏:‏ والله لا أستأذن فيها رسول الله، وما يدريني ما يقول رسول الله إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب‏.‏

قال‏:‏ فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتَّى كملت خمسون ليلة من حين نهى رسول الله عن كلامنا، فلمَّا صلَّيت الفجر صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عز وجل، قد ضاقت عليّ نفسي، وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته‏:‏ يا كعب أبشر، فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء فرج، وآذن رسول الله للنَّاس بتوبة الله علينا حين صلَّى صلاة الفجر، فذهب النَّاس يباشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إليّ فرساً، وسعى ساع من أسلم، فأوفى على الجبل، فكان الصَّوت أسرع من الفرس، فلمَّا جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فتلقاني النَّاس فوجاً فوجاً يهنئوني بالتَّوبة‏.‏

يقولون‏:‏ ليهنك توبة الله عليك‏.‏

قال كعب‏:‏ حتَّى دخلت المسجد فإذا برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم جالس حوله النَّاس، فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتَّى صافحني وهنأني، والله ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة‏.‏

قال كعب‏:‏ فلمَّا سلَّمت على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يبرق وجهه من السرور‏:‏ ‏(‏‏(‏أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا بل من عند الله‏)‏‏)‏‏.‏

وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا سرّ استنار وجهه حتَّى كأنَّه قطعة قمر، وكنَّا نعرف ذلك منه‏.‏

فلمَّا جلست بين يديه قلت‏:‏ يا رسول الله إنَّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/32‏)‏

قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ فإني أمسك سهمي الذي بخيبر‏.‏

وقلت‏:‏ يا رسول الله إنَّ الله إنَّما نجَّاني بالصِّدق، وإنَّ من توبتي ألا أتحدَّث إلا صدقاً ما بقيت، فوالله ما أعلم أحداً من المسلمين - أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله أحسن مما أبلاني، ما شهدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى يومي هذا كذباً، وإنِّي لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت، وأنزل الله على رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏{‏لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ‏}‏، إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ‏}‏‏.‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 117-119‏]‏‏.‏

فوالله ما أنعم الله عليَّ من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام، أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا‏.‏

فإن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شرّ ما قال لأحد‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ‏}‏‏.‏

إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ‏}‏‏.‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 95-96‏]‏‏.‏

قال كعب‏:‏ وكنَّا تخلَّفنا أيُّها الثَّلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله، حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله أمرنا حتَّى قضى الله فيه‏.‏

فبذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا‏}‏‏.‏

ليس الذي ذكر الله مما خلّفنا من الغزو، وإنَّما هو تخليفه إيانا، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه، فقبل منهم‏.‏

وهذا رواه مسلم من طريق الزُّهري بنحوه‏.‏

وهكذا رواه محمد بن إسحاق عن الزُّهري مثل سياق البخاري‏.‏

وقد سقناه في التَّفسير من مسند الإمام أحمد، وفيه زيادات يسيرة، ولله الحمد والمنَّة‏.‏

 ذكر أقوام تخلَّفوا من العصاة غير هؤلاء‏:‏

قال علي بن طلحة الوالبي عن ابن عبَّاس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 102‏]‏‏.‏

قال‏:‏ كانوا عشرة رهط تخلَّفوا عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في غزوة تبوك، فلمَّا حضروا رجوعه أوسق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد‏.‏

فلمَّا مرَّ بهم رسول الله قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من هؤلاء‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ أبا لبابة، وأصحاب له تخلَّفوا عنك حتَّى تطلقهم، وتعذرهم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وأنا أقسم بالله لا أطلقهم، ولا أعذرهم حتَّى يكون الله عزَّ وجل هو الذي يطلقهم، رغبوا عني، وتخلَّفوا عن الغزو مع المسلمين‏)‏‏)‏‏.‏

فلمَّا أن بلغهم ذلك قالوا‏:‏ ونحن لا نطلق أنفسنا حتَّى يكون الله هو الذي يطلقنا‏.‏

فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ‏}‏ الآية‏.‏

و‏{‏عسى‏}‏ من الله واجب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/33‏)‏

فلمَّا أنزلت أرسل إليهم رسول الله فأطلقهم وعذرهم‏.‏

فجاؤا بأموالهم وقالوا‏:‏ يا رسول الله هذه أموالنا، فتصدَّق بها عنا، واستغفر لنا‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما أُمرت أن آخذ أموالكم‏)‏‏)‏‏.‏

فأنزل الله‏:‏ ‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏‏.‏

إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ‏}‏‏.‏

وهم الذين لم يربطوا أنفسهم بالسَّواري، فأرجئوا حتَّى نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏الَّذِينَ خُلِّفُوا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 117-188‏]‏ إلى آخرها‏.‏

وكذا رواه عطية بن سعيد العوفي عن ابن عبَّاس بنحوه‏.‏

وقد ذكر سعيد بن المسيب، ومجاهد، ومحمد بن إسحاق قصة أبي لبابة، وما كان من أمره يوم بني قريظة، وربَطَ نفسه حتَّى تيْبَ عليه، ثمَّ إنَّه تخلَّف عن غزوة تبوك فربط نفسه أيضاً، حتَّى تاب الله عليه، وأراد أن ينخلع من ماله كله صدقة‏.‏

فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏

‏(‏‏(‏يكفيك من ذلك الثّلث‏)‏‏)‏‏.‏

قال مجاهد وابن إسحاق‏:‏ فيه نزل ‏{‏وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ‏}‏ الآية‏.‏

قال سعيد بن المسيب‏:‏ ثمَّ لم ير منه بعد ذلك في الإسلام إلا خيراً رضي الله عنه وأرضاه‏.‏

قلت‏:‏ ولعلَّ هؤلاء الثَّلاثة لم يذكروا معه بقية أصحابه، واقتصروا على أنَّه كان كالزَّعيم لهم، كما دلَّ عليه سياق ابن عبَّاس، والله أعلم‏.‏

وروى الحافظ البيهقي من طريق أبي أحمد الزّبيري، عن سفيان الثَّوري، عن سليمة بن كهيل، عن عياض بن عياض، عن أبيه، عن ابن مسعود قال‏:‏ خطبنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏

‏(‏‏(‏إنَّ منكم منافقين، فمن سميت فليقم، قم يا فلان، قم يا فلان، قم يا فلان‏)‏‏)‏‏.‏

حتَّى عدَّ ستة وثلاثين‏.‏

ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ فيكم - أو إنَّ منكم منافقين- فسلوا الله العافية‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فمرَّ عمر برجل متقنع، وقد كان بينه وبينه معرفة، فقال‏:‏ ما شأنك‏؟‏

فأخبره بما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال‏:‏ بعداً لك سائر اليوم‏.‏

قلت‏:‏ كان المتخلِّفون عن غزوة تبوك أربعة أقسام‏:‏

مأمورون مأجورون‏:‏ كعلي ابن أبي طالب، ومحمد بن مسلمة، وابن أم مكتوم‏.‏

ومعذورون‏:‏ وهم الضعفاء، والمرضى‏.‏

والمقلُّون‏:‏ وهم البكَّاؤن‏.‏

وعصاة مذنبون‏:‏ وهم الثلاثة‏:‏ أبو لبابة، وأصحابه المذكورون‏.‏

وآخرون ملومون مذمومون‏:‏ وهم المنافقون‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/34‏)‏

 ما كان من الحوادث بعد منصرفه من تبوك

قال الحافظ البيهقي‏:‏ حدَّثنا أبو عبد الله الحافظ إملاء، أخبرنا أبو العبَّاس محمد بن يعقوب، حدَّثنا أبو البختري عبد الله بن شاكر، حدَّثنا زكريا بن يحيى، حدَّثنا عمّ أبي زخر بن حصن، عن جده حميد بن منهب قال‏:‏

سمعت جدي خريم بن أوس بن حارثة بن لام يقول‏:‏ هاجرت إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم منصرفه من تبوك، فسمعت العبَّاس بن عبد المطلب يقول‏:‏ يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك ‏!‏‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏قل لا يفضض الله فاك‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏

مِنْ قَبْلِهَا طِبْتُ في الظِلالِ وَفي * مُسْتَودَعِ حَيْثُ يُخْصَفُ الوَرَقُ

ثُمَّ هَبَطْتُ البِلادَ لا بَشَر * أَنْتَ وَلا نُطْفَةٌ وَلا عَلَقُ

بَلْ نَطَفَة تَرْكَبُ السَفِينَ وَقَدْ * أَلْجَمَ نَسْرَاً وأهلَهُ الغَرَقُ

تنقَل مِنْ صَالِبِ إلَى رَحِمٍ * إذَا مضَى عَالم بَدَا طَبَقُ

حتَّى احْتَوى بَيْتَكَ المُهَيْمِنْ مِنْ * خَنْدَفٍ عَلْيَاءَ تَحتَها النُطَقُ

وَأنتَ لَمَّا وُلدْتَ أشْرَقت الأَرْ * ض فَضَاءتْ بِنُورِكَ الأَفُقُ

فَنَحْنُ في ذَلِكَ الضِّياءِ وَفي النُّ * ورِ وُسَبْلُ الرَشَادِ يَخْتَرِقُ

ورواه البيهقي من طريق أخرى عن أبي السَّكن زكريا بن يحيى الطائي، وهو في جزء له مروي عنه‏.‏

قال البيهقي وزاد‏:‏ ثمَّ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏هذه الحيرة البيضاء رفعت لي، وهذه الشّيماء بنت نفيلة الأزديّة على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ يا رسول الله إن نحن دخلنا الحيرة فوجدتها كما تصف فهي لي‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هي لك‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ثمَّ كانت الردة، فما ارتدَّ أحد من طيّء، وكنَّا نقاتل من يلينا من العرب على الإسلام، فكنَّا نقاتل قيساً وفيها عيينة بن حصن، وكنَّا نقاتل بني أسد وفيهم طلحة بن خويلد‏.‏

وكان خالد بن الوليد يمدحنا وكان فيما قال فينا‏:‏

جزى الله عَنَّا طَيْئاً في دِيارِهَا * بِمُعْتَرَكِ الأَبْطَالِ خَيْرَ جَزَاءِ

هُمُوا أَهْلُ رَاياتِ السَماحَةِ والنَّدَى * إِذا مَا الصَبا أَلوت بِكُّلِ خَبَاءِ

هُمُوا ضَرَبُوا قَيْساً عَلى الدِّينِ بَعْدَما * أَجَابُوا مُنَادِي ظُلْمَةِ وَعَماءِ

قال‏:‏ ثمَّ سار خالد إلى مسيلمة الكذَّاب، فسرنا معه، فلمَّا فرغنا من مسيلمة أقبلنا إلى ناحية البصرة، فلقينا هرمز بكاظمة في جيش هو أكبر من جمعنا، ولم يكن أحد من العجم أعدى للعرب والإسلام من هرمز، فخرج إليه خالد ودعاه إلى البراز، فبرز له فقتله خالد، وكتب بخبره إلى الصِّديق فنفله سلبه، فبلغت قلنسوة هرمز مائة ألف درهم، وكانت الفرس إذا شرف فيها الرَّجل جعلت قلنسوته بمائة ألف درهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/35‏)‏

قال‏:‏ ثمَّ قفلنا على طريق ألطف إلى الحيرة، فأول من تلقَّانا حين دخلناها الشَّيماء بنت نفيلة كما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود، فتعلَّقت بها‏.‏

وقلت‏:‏ هذه وهبها لي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فدعاني خالد عليها بالبينة، فأتيته بها، وكانت البينة محمد بن مسلمة، ومحمد بن بشير الأنصاري، فسلَّمها لي، فنزل إليَّ أخوها عبد المسيح يريد الصّلح‏.‏

فقال‏:‏ بعينها‏.‏

فقلت‏:‏ لا أنقصها والله عن عشرة مائة درهم، فأعطاني ألف درهم وسلَّمتها إليه‏.‏

فقيل‏:‏ لو قلت مائة ألف لدفعها إليك‏.‏

فقلت‏:‏ ما كنت أحسب أنَّ عدداً أكثر من عشر مائة‏.‏

 قدوم وفد ثقيف على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في رمضان من سنة تسع

تقدَّم أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لما ارتحل عن ثقيف سئل أن يدعو عليهم، فدعا لهم بالهداية‏.‏

وقد تقدَّم أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين أسلم مالك بن عوف النَّضري أنعم عليه وأعطاه وجعله أميراً على من أسلم من قومه، فكان يغزو بلاد ثقيف ويضيق عليهم حتَّى ألجأهم إلى الدُّخول في الإسلام‏.‏

وتقدَّم أيضاً فيما رواه أبو داود عن صخر بن العيلة الأحمسي، أنَّه لم يزل بثقيف حتَّى أنزلهم من حصنهم على حكم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأَقبل بهم إلى المدينة النَّبوية بإذن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم له في ذلك‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ وقدم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المدينة من تبوك في رمضان، وقدم عليه في ذلك الشَّهر وفد من ثقيف، وكان من حديثهم أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لما انصرف عنهم اتبع أثره عروة بن مسعود حتَّى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة فأسلم، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام‏.‏

فقال له رسول الله - كما يتحدَّث قومه -‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّهم قاتلوك‏)‏‏)‏‏.‏

وعرف رسول الله أنَّ فيهم نخوة الامتناع للذي كان منهم‏.‏

فقال عروة‏:‏ يا رسول الله أنا أحبّ إليهم من أبكارهم، وكان فيهم كذلك محبباً مطاعاً، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه لمنزلته فيهم، فلمَّا أشرف على علية له وقد دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه، رموه بالنُّبل من كل وجه فأصابه سهم فقتله، فتزعم بنو مالك أنَّه قتله رجل منهم يقال له‏:‏ أوس بن عوف - أخو بني سالم بن مالك - ويزعم الأحلاف أنَّه قتله رجل منهم من بني عتاب يقال له‏:‏ وهب بن جابر‏.‏

فقيل لعروة‏:‏ ما ترى في دينك‏؟‏

قال‏:‏ كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إليَّ، فليس فَّي إلا ما في الشُّهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم‏.‏

فزعموا أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال فيه‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ مثله في قومه كمثل صاحب يس في قومه‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/36‏)‏

وهكذا ذكر موسى بن عقبة قصة عروة، ولكن زعم أنَّ ذلك كان بعد حجة أبي بكر الصِّديق‏.‏

وتابعه أبو بكر البيهقي في ذلك، وهذا بعيد‏.‏

والصَّحيح أنَّ ذلك قبل حجة أبي بكر، كما ذكره ابن إسحاق، والله أعلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثمَّ أقامت ثقيف بعد قتل عروة شهراً، ثمَّ إنَّهم ائتمروا بينهم، رأوا أنَّه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب، وقد بايعوا وأسلموا، فائتمروا فيما بينهم وذلك عن رأي عمرو بن أمية - أخي بني علاج - فائتمروا بينهم، ثمَّ أجمعوا على أن يرسلوا رجلاً منهم، فأرسلوا عبد ياليل بن عمرو بن عمير، ومعه اثنان من الأحلاف، وثلاثة من بني مالك، وهم‏:‏ الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب، وشرحبيل بن غيلان بن سلمة بن معتب، وعثمان ابن أبي العاص، وأوس بن عوف - أخو بني سالم -، ونمير بن خرشة بن ربيعة‏.‏

وقال موسى بن عقبة‏:‏ كانوا بضعة عشر رجلاً فيهم‏:‏ كنانة بن عبد ياليل - وهو رئيسهم -، وفيهم‏:‏ عثمان ابن أبي العاص - وهو أصغر الوفد -‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلمَّا دنوا من المدينة ونزلوا قناة؛ ألفوا المغيرة بن شعبة يرعى في نوبته ركاب أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فلمَّا رآهم ذهب يشتدّ ليبشِّر رسول الله بقدومهم، فلقيه أبو بكر الصِّديق فأخبره عن ركب ثقيف أن قدموا يريدون البيعة والإسلام إن شرط لهم رسول الله شروطاً، ويكتبوا كتاباً في قومهم‏.‏

فقال أبو بكر للمغيرة‏:‏ أقسمت عليك لا تسبقني إلى رسول الله حتَّى أكون أنا أحدِّثه، ففعل المغيرة، فدخل أبو بكر فأخبر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بقدومهم‏.‏

ثمَّ خرج المغيرة إلى أصحابه فروح الظهر معهم، وعلمهم كيف يحيُّون رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلم يفعلوا إلا بتحيَّة الجاهلية‏.‏

ولما قدموا على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ضربت عليهم قبّة في المسجد، وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله، فكان إذا جاءهم بطعام من عنده لم يأكلوا منه حتَّى يأكل خال ابن سعيد قبلهم، وهو الذي كتب لهم كتابهم‏.‏

قال‏:‏ وكان مما اشترطوا على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يدع لهم الطَّاغية ثلاث سنين، فما برحوا يسألونه سنة سنة، ويأبى عليهم، حتَّى سألوه شهراً واحداً بعد مقدمهم ليتألفوا سفهاءهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمى، إلا أن يبعث معهم أبا سفيان بن حرب، والمغيرة ليهدماها، وسألوه مع ذلك أن لا يصلوا، وأن لا يكسروا أصنامهم بأيديهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أمَّا كسر أصنامكم بأيديكم فسنعفيكم من ذلك، وأما الصَّلاة فلا خير في دين لا صلاة فيه‏)‏‏)‏‏.‏

فقالوا‏:‏ سنؤتيكها وإن كانت دناءة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/37‏)‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا عفَّان، ثنا محمد بن مسلمة عن حميد، عن الحسن، عن عثمان ابن أبي العاص أنَّ وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأنزلهم المسجد ليكون أرقّ لقلوبهم، فاشترطوا على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن لاتحشروا، ولا يعشروا، ولا يجبوا، ولا يستعمل عليهم غيرهم‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لكم أن لا تحشروا، ولا تجبوا، ولا يستعمل عليكم غيركم، ولا خير في دين لا ركوع فيه‏)‏‏)‏‏.‏

وقال عثمان ابن أبي العاص‏:‏ يا رسول الله علِّمني القرآن، واجعلني إمام قومي‏.‏

وقد رواه أبو داود من حديث أبي داود الطَّيالسيّ، عن حمَّاد بن سلمة، عن حميد به‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ حدَّثنا الحسن بن الصباح، ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدَّثني إبراهيم بن عقيل بن منبه، عن وهب، سألت جابراً عن شأن ثقيف إذ بايعت‏.‏

قال‏:‏ اشترطت على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن لا صدقة عليها، ولا جهاد‏.‏

وأنَّه سمع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول بعد ذلك‏:‏ ‏(‏‏(‏سيتصدَّقون، ويجاهدون إذا أسلموا‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلمَّا أسلموا وكتب لهم كتابهم، أمَّرَ عليهم عثمان ابن أبي العاص وكان أحدثهم سنَّاً‏.‏

لأنَّ الصِّديق قال‏:‏ يا رسول الله إنِّي رأيت هذا الغلام من أحرصهم على التَّفقه في الإسلام، وتعلُّم القرآن‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/38‏)‏

وذكر موسى بن عقبة أنَّ وفدهم كانوا إذا أتوا رسول الله خلَّفوا عثمان ابن أبي العاص في رحالهم، فإذا رجعوا وسط النَّهار جاء هو إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فسأله عن العلم، فاستقرأه القرآن، فإن وجده نائماً ذهب إلى أبي بكر الصِّديق، فلم يزل دأبه حتَّى فقه في الإسلام، وأحبَّه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حبَّاً شديداً‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ حدَّثني سعيد ابن أبي هند، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عثمان ابن أبي العاص قال‏:‏ كان من آخر ما عهد إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين بعثني إلى ثقيف قال‏:‏

‏(‏‏(‏يا عثمان تجوَّز في الصَّلاة، وأقدر النَّاس بأضعفهم فإنَّ فيهم الكبير، والصَّغير، والضَّعيف، وذا الحاجة‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا عفَّان، حدَّثنا حماد بن سلمة، أخبرنا سعيد الجريري عن أبي العلاء، عن مطرف، عن عثمان ابن أبي العاص قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله اجعلني إمام قومي‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنت إمامهم، فاقتد بأضعفهم، واتَّخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً‏)‏‏)‏‏.‏

رواه أبو داود، والتِّرمذي من حديث حمَّاد بن سلمة به‏.‏

ورواه ابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة عن إسماعيل بن علية، عن محمد بن إسحاق كما تقدَّم‏.‏

وروى أحمد عن عفَّان، عن وهب، وعن معاوية بن عمرو، عن زائدة كلاهما، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن داود ابن أبي عاصم، عن عثمان ابن أبي العاص أنَّ آخر ما فارقه رسول الله حين استعمله على الطَّائف، أن قال‏:‏

‏(‏‏(‏إذا صلَّيت بقوم فخفِّف بهم‏)‏‏)‏‏.‏

حتَّى وقَّت لي‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏ وأشباهها من القرآن‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدَّثنا محمد بن جعفر، حدَّثنا شعبة عن عمرو بن مرة، سمعت سعيد بن المسيب قال‏:‏ حدَّث عثمان ابن أبي العاص قال‏:‏ آخر ما عهد إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن قال‏:‏

‏(‏‏(‏إذا أممت قوماً فخفِّف بهم الصَّلاة‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم، عن محمد بن مثنى، وبندار كلاهما، عن محمد بن جعفر، عن عبد ربه‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدَّثنا أبو أحمد الزُّبيري، ثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى الطَّائفي عن عبد الله بن الحكم أنَّه سمع عثمان ابن أبي العاص يقول‏:‏

استعملني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على الطَّائف، فكان آخر ما عهد إليَّ أن قال‏:‏

‏(‏‏(‏خفِّف عن النَّاس الصَّلاة‏)‏‏)‏‏.‏

تفرَّد به من هذا الوجه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/39‏)‏

وقال أحمد‏:‏ حدَّثنا يحيى بن سعيد، أخبرنا عمرو بن عثمان، حدَّثني موسى - هو‏:‏ ابن طلحة - أنَّ عثمان ابن أبي العاص حدَّثه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أمره أن يؤمَّ قومه‏.‏

ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أمَّ قوماً فليخفِّف بهم، فإنَّ فيهم الضَّعيف، والكبير، وذا الحاجة، فإذا صلَّى وحده فليصلِّ كيف شاء‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم من حديث عمرو بن عثمان به‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدَّثنا محمد بن جعفر، حدَّثنا شعبة، عن النُّعمان بن سالم، سمعت أَشياخاً من ثقيف قالوا‏:‏ حدَّثنا عثمان ابن أبي العاص أنَّه قال‏:‏

قال لي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ‏(‏‏(‏وأمَّ قومك، وإذا أممت قوماً، فخفِّف بهم الصَّلاة، فإنَّه يقوم فيها الصَّغير، والكبير، والضَّعيف، والمريض، وذو الحاجة‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدَّثنا إبراهيم بن إسماعيل، عن الجريريّ، عن أبي العلاء بن الشَّخير أنَّ عثمان قال‏:‏ يا رسول الله حال الشَّيطان بيني وبين صلاتي وقراءتي‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ذاك شيطان يقال له‏:‏ خنرب، فإذا أنت حسَسْته فتعوَّذ بالله منه، وأتفل عن يسارك ثلاثاً‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ففعلت ذلك، فأذهبه الله عنِّي‏.‏

ورواه مسلم من حديث سعيد الجريريّ به‏.‏

وروى مالك، وأحمد، ومسلم، وأهل السُّنن من طرق عن نافع بن جبير بن مطعم، عن عثمان ابن أبي العاص أنَّه شكى إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وجعاً يجده في جسده‏.‏

فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏ضع يدك على الذي يألم من جسدك وقل‏:‏ بسم الله ثلاثاً، وقل‏:‏ سبع مرات أعوذ بعزَّة الله وقدرته من شرِّ ما أجد وأحاذر‏)‏‏)‏‏.‏

وفي بعض الرِّوايات ففعلت ذلك، فأذهب الله ما كان بي، فلم أزل آمر به أهلي وغيرهم‏.‏

وقال أبو عبد الله ابن ماجه‏:‏ حدَّثنا محمد بن يسار، ثنا محمد ابن عبد الله الأنصاري، حدَّثني عيينة بن عبد الرَّحمن وهو - ابن جوشن -، حدَّثني أبي عن عثمان ابن أبي العاص قال‏:‏ لمَّا استعملني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على الطَّائف، جعل يعرض لي شيء في صلاتي حتَّى ما أدري ما أصلِّي، فلمَّا رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏

‏(‏‏(‏ابن أبي العاص‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ نعم يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما جاء بك‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ يا رسول الله عرض لي شيءٌ في صلاتي، حتَّى ما أدري ما أصلِّي‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ذاك الشَّيطان، أُدن‏)‏‏)‏‏.‏

فدنوت منه، فجلست على صدور قدمي‏.‏

قال‏:‏ فضرب صدري بيده، وتفل في فمي‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أخرج عدوَّ الله‏)‏‏)‏ فعل ذلك ثلاث مرات‏.‏

ثمَّ قال ‏(‏‏(‏الحق بعملك‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقال عثمان‏:‏ فلعمري ما أحسبه خالطني بعد‏.‏

تفرَّد به ابن ماجه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدَّثني عيسى بن عبد الله عن عطية بن سفيان بن ربيعة الثَّقفي، عن بعض وفدهم‏.‏

قال‏:‏ كان بلال يأتينا حين أسلمنا، وصمنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ما بقي من شهر رمضان بفطورنا، وسحورنا، فيأتينا بالسّحور‏.‏

فإنَّا لنقول‏:‏ إنَّا لنرى الفجر قد طلع‏؟‏

فيقول‏:‏ قد تركت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يتسحَّر لتأخير السُّحور، ويأتينا بفطرنا وإنَّا لنقول‏:‏ ما نرى الشَّمس ذهبت كلها بعد‏.‏

فيقول‏:‏ ما جئتكم حتَّى أكل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثمَّ يضع يده في الجفنة فيلقم منها‏.‏‏(‏ج/ص‏:‏ 5/40‏)‏

وروى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه من حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى الطَّائفيّ عن عثمان بن عبد الله بن أوس، عن جدِّه أوس بن حذيفة قال‏:‏ قدمنا على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في وفد ثقيف قال‏:‏ فنزلت الأحلاف على المغيرة بن شعبة، وأنزل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بني مالك في قبّة له، كلّ ليلة يأتينا بعد العشاء يحدِّثنا قائماً على رجليه، حتَّى يراوح بين رجليه من طول القيام، فأكثر ما يحدّثنا ما لقي من قومه من قريش ثمَّ يقول‏:‏

‏(‏‏(‏لا آسى وكنَّا مستضعفين مستذلّين بمكة، فلمَّا خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب بيننا وبينهم، ندال عليهم، ويدالون علينا‏)‏‏)‏‏.‏

فلما كانت ليلة أبطأ عنا الوقت الذي كان يأتينا فيه فقلنا‏:‏ لقد أبطأت علينا الليلة‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّه طرئ علي جزئي من القرآن، فكرهت أن أجيء حتَّى أتمه‏)‏‏)‏‏.‏

قال أوس‏:‏ سألت أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كيف يجزئون القرآن‏؟‏

فقالوا‏:‏ ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشر، وثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده‏.‏

لفظ أبو داود، قال ابن إسحاق‏:‏ فلمَّا فرغوا من أمرهم، وتوجهوا إلى بلادهم راجعين، بعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم معهم أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة في هدم الطاغية، فخرجا مع القوم حتَّى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة أن يقدِّم أبا سفيان، فأبى ذلك عليه أبو سفيان وقال‏:‏ أدخل أنت على قومك، وأقام أبو سفيان بماله بذي الهدم، فلما دخل المغيرة علاها يضربها بالمعول، وقام قومه بني معتب دونه خشية أن يرمي أو يصاب كما أصيب عروة بن مسعود‏.‏

قال‏:‏ وخرج نساء ثقيف حسراً يبكين عليها، ويقلن‏:‏

لِنَبْكِيَنَّ دُفَّاعْ * أَسْلَمَها الرِضَاعْ، لَمْ يُحْسِنُوا المَصَاعْ

قال ابن إسحاق‏:‏ ويقول أبو سفيان والمغيرة يضربها بالفاس‏:‏ وآهاً لك، وآهاً لك، فلما هدمها المغيرة، وأخذ مالها، وحليها، أرسل إلى أبي سفيان فقال‏:‏ إنَّ رسول الله قد أمرنا أن نقضي عن عروة بن مسعود، وأخيه الأسود بن مسعود، والد قارب بن الأسود دَينهما من مال الطاغية، يقضي ذلك عنهما‏.‏

قلت‏:‏ كان الأسود قد مات مشركاً، ولكن أمر رسول الله بذلك تأليفاً وإكراماً لولده قارب بن الأسود رضي الله عنه‏.‏

وذكر موسى بن عقبة أن وفد ثقيف كانوا بضعة عشر رجلاً، فلمَّا قدموا، أنزلهم رسول الله المسجد ليسمعوا القرآن، فسألوه عن الربا، والزنا، والخمر، فحرَّم عليهم ذلك كله‏.‏

فسألوه عن الربة ما هو صانع بها‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اهدموها‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ هيهات لو تعلم الربة أنك تريد أن تهدمها قتلت أهلها‏.‏

فقال عمر بن الخطاب‏:‏ ويحك يا ابن عبد ياليل ما أجهلك، إنَّما الربة حجر‏.‏

فقالوا‏:‏ إنَّا لم نأتك يا ابن الخطاب، ثم قالوا يا رسول الله‏:‏ تولَّ أنت هدمها، أما نحن فإنا لن نهدمها أبداً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/41‏)‏

فقال‏:‏ سأبعث إليكم من يكفيكم هدمها، فكاتبوه على ذلك، واستأذنوه أن يسبقوا رسله إليهم، فلمَّا جاءوا قومهم، تلقوهم فسألوهم ما وراءكم، فأظهروا الحزن وأنهم إنما جاءوا من عند رجل فظ غليظ قد ظهر بالسيف بحكم ما يريد وقد دوخ العرب، قد حرَّم الربا، والزنا، والخمر، وأمر بهدم الربة، فنفرت ثقيف وقالوا‏:‏ لا نطيع لهذا أبداً قال‏:‏ فتأهَّبوا للقتال، وأعدّوا السِّلاح، فمكثوا على ذلك يومين أو ثلاثة، ثم ألقى الله في قلوبهم الرُّعب فرجعوا، وأنابوا، وقالوا‏:‏ ارجعوا إليه فشارطوه على ذلك، وصالحوه عليه‏.‏

قالوا‏:‏ فإنَّا قد فعلنا ذلك، ووجدناه أتقى النَّاس، وأوفاهم وأرحمهم، وأصدقهم، وقد بورك لنا ولكم في مسيرنا إليه، وفيما قاضيناه فافهموا القضية، واقبلوا عافية الله‏.‏

قالوا‏:‏ فلم كتمتمونا هذا أولاً‏؟‏

قالوا‏:‏ أردنا أن ينزع الله من قلوبكم نخوة الشَّيطان فأسلموا مكانهم، ومكثوا أياماً، ثم قدم عليهم رسل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد أمَّر عليهم خالد بن الوليد، وفيهم المغيرة بن شعبة، فعمدوا إلى اللات، وقد استكفت ثقيف رجالها، ونساءها، والصبيان، حتَّى خرج العواتق من الحجال، ولا يرى عامة ثقيف أنها مهدومة، ويظنون أنها ممتنعة، فقام المغيرة بن شعبة فأخذ الكرزين يعني المعول وقال لأصحابه‏:‏ والله لأضحكنَّكم من ثقيف، فضرب بالكرزين، ثم سقط يركض برجله، فارتجَّ أهل الطائف بصيحة واحدة، وفرحوا‏.‏

وقالوا‏:‏ أبعد الله المغيرة قتلته الربة، وقالوا لأولئك‏:‏ من شاء منكم فليقترب، فقام المغيرة فقال‏:‏ والله يا معشر ثقيف إنما هي لكاع حجارة ومدر، فاقبلوا عافية الله واعبدوه، ثم إنه ضرب الباب فكسره، ثم علا سورها وعلا الرجال معه، فما زالوا يهدمونها حجراً حجراً، حتَّى سووها بالأرض، وجعل سادنها يقول‏:‏ ليغضبنَّ الأساس فليخسفن بهم، فلما سمع المغيرة قال لخالد‏:‏ دعني أحفر أساسها، فحفروه حتَّى أخرجوا ترابها، وجمعوا ماءها، وبناءها، وبهتت عند ذلك ثقيف، ثم رجعوا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقسَّم أموالها من يومه، وحمدوا الله تعالى على اعتزاز دينه، ونصرة رسوله‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان كتاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الذي كتب لهم‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النَّبيّ رسول الله إلى المؤمنين‏:‏ إن عضاه وج وصيده لا يعضده من وجد يفعل شيئاً من ذلك فإنَّه يجلد وتنزع ثيابه، وإن تعدى ذلك فإنَّه يؤخذ فيبلغ به النَّبيّ محمداً وإنَّ هذا أمر النَّبيّ محمد‏.‏

وكتب خالد بن سعيد بأمر الرسول محمد بن عبد الله، فلا يتعداه أحد فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/42‏)‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الله بن الحارث من أهل مكة مخزومي - حدثني محمد ابن عبد الله بن إنسان -وأثنى عليه خيراً - عن أبيه، عن عروة بن الزبير قال‏:‏ أقبلنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من ليَّة، حتَّى إذا كنا عند السدرة، وقف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في طرف القرن حذوها فاستقبل محبساً ببصره يعني‏:‏ وادياً ووقف حتَّى اتفق النَّاس كلهم، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ صيد وج وعضاهه حرم محرم لله‏)‏‏)‏‏.‏

وذلك قبل نزوله الطائف، وحصاره ثقيفاً‏.‏

وقد رواه أبو داود من حديث محمد بن عبد الله بن إنسان الطائفي‏.‏

وقد ذكره ابن حبان في ثقاته‏.‏

وقال ابن معين‏:‏ ليس به بأس، تكلم فيه بعضهم‏.‏

وقد ضعَّف أحمد والبخاري وغيرهما هذا الحديث، وصحَّحه الشَّافعي وقال بمقتضاه، والله أعلم‏.‏

 موت عبد الله بن أُبي قبَّحه الله

قال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني الزُّهري عن عروة، عن أسامة بن زيد قال‏:‏ دخل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على عبد الله بن أبي يعوده في مرضه الذي مات فيه، فلمَّا عرف فيه الموت قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ‏(‏‏(‏أما والله إن كنت لأنهاك عن حب يهود‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ قد أبغضهم أسعد بن زرارة فمه‏؟‏

وقال الواقدي‏:‏ مرض عبد الله بن أُبي في ليال بقين من شوال، ومات في ذي القعدة، وكان مرضه عشرين ليلة، فكان رسول الله يعوده فيها، فلما كان اليوم الذي مات فيه دخل عليه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يجود بنفسه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد نهيتك عن حب يهود‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ قد أبغضهم أسعد بن زرارة فما نفعه‏؟‏

ثم قال‏:‏ يا رسول الله ليس هذا الحين عتاب هو الموت، فاحضر غسلي، وأعطني قميصك الذي يلي جلدك فكفنيّ فيه، وصلِّ علي، واستغفر لي، ففعل ذلك به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وروى البيهقيّ من حديث سالم بن عجلان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس نحواً مما ذكره الواقدي، فالله أعلم‏.‏

وقد قال إسحاق بن راهويه‏:‏ قلت لأبي أسامة‏:‏ أحدَّثكم عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ لمَّا توفي عبد الله بن أبي ابن سلول، جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وسأله أن يعطيه قميصه ليكفِّنه فيه، فأعطاه ثم سأله أن يصلِّي عليه، فقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي عليه، فقام عمر بن الخطاب فأخذ بثوبه فقال‏:‏ يا رسول الله تصلِّي عليه وقد نهاك الله عنه‏؟‏

فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ ربي خيرني فقال‏:‏ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم وسأزيد على السبعين‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ إنَّه منافق أتصلي عليه‏؟‏

فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏‏.‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 84‏]‏‏.‏

فأقرَّ به أبو أسامة وقال‏:‏ نعم‏!‏

وأخرجاه في الصحيحين من حديث أبي أسامة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/43‏)‏

وفي رواية للبخاري وغيره، قال عمر‏:‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله تصلي عليه وقد قال في يوم كذا وكذا، وقال في يوم كذا كذا وكذا‏!‏‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏دعني يا عمر فإني بين خيرتين ولو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت‏)‏‏)‏‏.‏

ثم صلَّى عليه، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ‏}‏ الآية‏.‏

قال عمر‏:‏ فعجبت من جرأتي على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، والله ورسوله أعلم‏.‏

وقال سفيان بن عيينة‏:‏ عن عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول‏:‏ أتى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قبر عبد الله بن أبي بعد ما أدخل حفرته، فأمر به فأُخرج، فوضعه على ركبتيه، أو فخذيه، ونفث عليه من ريقه، وألبسه قميصه، فالله أعلم‏.‏

وفي صحيح البخاري بهذا الإسناد مثله، وعنده أنَّه إنمَّا ألبسه قميصه مكافأة لما كان كسى العبَّاس قميصاً حين قدم المدينة، فلم يجدوا قميصاً يصلح له إلا قميص عبد الله بن أُبي‏.‏

وقد ذكر البيهقي ها هنا قصة ثعلبة بن حاطب وكيف افتتن بكثرة المال، ومنعه الصدقة، وقد حررَّنا ذلك في التفسير عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 75‏]‏ الآية‏.‏

 فصل غزوة تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله عليه السلام‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكانت غزوة تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه يعدد أيَّام الأنصار مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ويذكر مواطنهم معه في أيام غزوه، قال ابن هشام‏:‏ وتروى لابنه عبد الرحمن بن حسان‏:‏

أَلَسْتَ خَيرَ مُعِدٍّ كُلِّهَا نَفَراً * وَمَعْشَراً إن همُوُا عُمَّوا وإن حُصِلُوا

قَوْمٌ همُوُا شَهدُوا بَدْراً بِأَجمَعِهِمْ * مَعَ الرسولِ فَمَا أَلوّا وَمَا خَذَلوا

وبَايَعُوهُ فَلَمْ يَنَكُث بِهِ أَحَد * مِنْهُمْ وَلمَ يك في إِيمَانِهِ دَخَلُ

وَيَوْمَ صَبَّحَهُمْ في الشِعْبِ مَنِ أُحُدٍ * ضَرْبٌ رَصِينْ كَحَرِّ النَّارِ مُشْتَعِلُ

وَيَومَ ذِي قَردٍ يَوْمَ استَثارَ بِهِم * عَلى الجِيَادِ فَما خَانُوا وَمَا نَكَلُوا

وَذا العشيرة جَاسُوها بخيلِهِم * مَع الرَّسول عليها البيض والأسلُ

وَيوم ودان أَجلوا أهلَهُ رَقصاً * بالخيلِ حتَّى نهَانا الحُزْنُ والجَبل

‏(‏ج/ص‏:‏ 5/44‏)‏

وَليلةٌ طلبوا فيها عدوهُمُ * لله والله يجْزيهمْ بما عَملوا

وَليلة بحنينٍ جَالدوا معه * فيها يعلّهِم في الحَرْبِ إذ نهِلُوا

وَغزوَةُ يومَ نجْدٍ ثم كان لهم * مع الرَّسولِ بها الأسلاب والنفلُ

وغَزوة القاعِ فرَّقنا العدو به * كما يفرق دون المشْرَبِ الرُّسل

وَيومَ بويعَ كانوا أهل بيعتِهِ * على الجلاد فآسُوة وما عدَلُوا

وَغزوَةُ الفَتْحِ كانوا في سريتِهِ * مرابطينَ فما طاشُوا وما عَجَلوا

وَيومَ خَيْبرَ كانوا في كتيبتِهِ * يمشون كلهم مستبسِلٌ بَطَلُ

بالبيض نَرْعَشُ في الإيمانِ عَاريةُ * تَعوجُ بالضَّرب أحياناً وَتعتدِلُ

وَيومَ سارَ رَسول اللهِ محتَسِباً * إلى تَبوك وهم راياتُهُ الأول

وسَاسة الحَربِ إِنْ حَرب بدتْ لهم * حتَّى بَدا لهم الإقبالُ والقَفْلُ

أولئِكَ القَوم أنصارُ النَّبيّ وَهم * قومي أصير إليهم حين أتَّصِل

مَاتُوا كِراماً وَلم تنكث عهودهُم * وقتلهم في سبيلِ اللهِ إذْ قتلُوا

 ذكر بعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أبا بكر الصديق أميراً على الحج سنة تسع ونزول سورة براءة

قال ابن إسحاق بعد ذكره وفود أهل الطائف إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في رمضان، كما تقدم بيانه مبسوطاً قال‏:‏ أقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بقية شهر رمضان، وشوالا، وذا القعدة ثم بعث أبا بكر أميراً على الحج من سنة تسع ليقيم للمسلمين حجهم، وأهل الشرك على منازلهم من حجهم لم يصدوا بعد عن البيت، ومنهم من له عهد مؤقت إلى أمد، فلما خرج أبو بكر رضي الله عنه بمن معه من المسلمين وفصل عن البيت، أنزل الله عز وجل هذه الآيات من أول سورة التوبة‏:‏ ‏{‏بَرَاءةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ‏}‏ إلى آخر القصة‏.‏

ثم شرع ابن إسحاق يتكلَّم على هذه الآيات، وقد بسطنا الكلام عليها في التفسير ولله الحمد والمنة‏.‏

والمقصود أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعث علياً رضي الله عنه بعد أبي بكر الصديق ليكون معه، ويتولى علي بنفسه إبلاغ البراءة إلى المشركين نيابة عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لكونه ابن عمه من عصبته‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال‏:‏ لما نزلت براءة على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقد كان بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليقيم للناس الحج، قيل له‏:‏ يا رسول الله لو بعثت بها إلى أبي بكر‏.‏

فقال ‏(‏‏(‏لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي‏)‏‏)‏، ثم دعا علي ابن أبي طالب فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذِّن في النَّاس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى ألا إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله عهد فهو له إلى مدته‏)‏‏)‏‏.‏

فخرج علي ابن أبي طالب على ناقة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم العضباء حتَّى أدرك أبا بكر الصديق، فلما رآه أبو بكر قال‏:‏ أمير أو مأمور‏؟‏

فقال‏:‏ بل مأمور‏.‏

ثم مضيا فأقام أبو بكر للناس الحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية، حتَّى إذا كان يوم النحر قام علي ابن أبي طالب فأذَّن في النَّاس بالذي أمره به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أجل أربعة أشهر من يوم أذن فيهم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم، وبلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة إلا أحد كان له عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عهد فهو له إلى مدته، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان، ثم قدما على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وهذا مرسل من هذا الوجه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/45‏)‏

وقد قال البخاري باب حج أبي بكر رضي الله عنه بالنَّاس سنة تسع‏:‏ حدثنا سليمان بن داود أبو الربيع، حدثنا فليح عن الزُّهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمَّره عليها النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قبل حجة الوداع في رهط يؤذن في النَّاس أن لا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوفن في البيت عريان‏.‏

وقال البخاري في موضع آخر‏:‏ حدَّثنا عبد الله بن يوسف، ثنا الليث، حدثني عقيل عن ابن شهاب، أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال‏:‏ بعثني أبو بكر الصديق في تلك الحجة في المؤذنين، بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان‏.‏

قال حميد‏:‏ ثم أردف النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعلي فأمره أن يؤذن ببراءة‏.‏

قال أبو هريرة‏:‏ فأذَّن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة أن لا يحجَّ بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان‏.‏

وقال البخاري في كتاب الجهاد‏:‏ حدَّثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب عن الزُّهري، أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال‏:‏ بعثني أبو بكر الصديق فيمن يؤذن يوم النحر بمنى؛ لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ويوم الحج الأكبر يوم النحر، وإنما قيل‏:‏ الأكبر من أجل قول النَّاس العمرة الحج الأصغر، فنبذ أبو بكر إلى النَّاس في ذلك العام، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مشرك‏.‏

ورواه مسلم من طريق الزُّهري به نحوه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا محمد بن جعفر، حدًثنا شعبة عن مغيرة، عن الشعبي، عن محرز ابن أبي هريرة، عن أبيه قال‏:‏ كنت مع علي ابن أبي طالب حين بعثه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ ما كنتم تنادون‏؟‏

قالوا‏:‏ كنا ننادي أنه لا يدخل الجنَّة إلا مؤمن، ولا يطوف في البيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عهد فإنَّ أجله أو أمده إلى أربعة أشهر، فإذا مضت الأربعة أشهر فإنَّ الله بريء من المشركين ورسوله، ولا يحجّ هذا البيت بعد العام مشرك‏.‏

قال‏:‏ فكنت أنادي حتَّى صحل صوتي‏.‏

وهذا إسناد جيد، لكن فيه نكارة من جهة قول الراوي‏:‏ إن من كان له عهد فأجله إلى أربعة أشهر‏.‏

وقد ذهب إلى هذا ذاهبون، ولكن الصَّحيح‏:‏ أن من كان له عهد فأجله إلى أمده بالغا ما بلغ، ولو زاد على أربعة أشهر، ومن ليس له أمد بالكلية فله تأجيل أربعة أشهر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/46‏)‏

بقي قسم ثالث، وهو من له أمد يتناهى إلى أقل من أربعة أشهر من يوم التأجيل، وهذا يحتمل أن يلتحق بالأول فيكون أجله إلى مدَّته وإن قل، ويحتمل أن يقال‏:‏ إنه يؤجَّل إلى أربعة أشهر، لأنه أولى ممن ليس له عهد بالكلية، والله تعالى أعلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا عفَّان، ثنا حماد عن سماك، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعث براءة مع أبي بكر، فلما بلغ ذا الحليفة قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي‏)‏‏)‏‏.‏

فبعث بها مع علي ابن أبي طالب‏.‏

وقد رواه التِّرمذي من حديث حماد بن سلمة وقال‏:‏ حسن غريب من حديث أنس‏.‏

وقد روى عبد الله بن أحمد عن لوين، عن محمد بن جابر، عن سماك، عن حلس، عن علي أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لمَّا أردف أبا بكر بعلي فأخذ منه الكتاب بالجحفة، رجع أبو بكر فقال‏:‏ يا رسول الله نزل فيَّ شيء‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا، ولكنَّ جبريل جاءني فقال‏:‏ لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا ضعيف الإسناد، ومتنه فيه نكارة، والله أعلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا سفيان عن أبي إسحاق، عن زيد بن بثيع رجل من همدان قال‏:‏ سألنا علياً بأي شيء بعثت يوم بعثه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مع أبي بكر في الحجة‏؟‏

قال‏:‏ بأربع‏:‏ لا يدخل الجنَّة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته، ولا يحجّ المشركون بعد عامهم هذا‏.‏

وهكذا رواه التِّرمذي من حديث سفيان - هو‏:‏ ابن عيينة - عن أبي إسحاق السبيعي، عن زيد بن بثيع، عن علي به‏.‏

وقال‏:‏ حسن صحيح‏.‏

ثم قال‏:‏ وقد رواه شعبة عن أبي إسحاق فقال‏:‏ عن زيد بن أثيل‏.‏

ورواه الثوري عن أبي إسحاق، عن بعض أصحابه عن علي‏.‏

قلت‏:‏ ورواه ابن جرير من حديث معمر عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدَّثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أخبرنا أبو زرعة وهب الله بن راشد، أخبرنا حيوة بن شريح، أخبرنا ابن صخر أنه سمع أبا معاوية البجلي من أهل الكوفة يقول‏:‏ سمعت أبا الصهباء البكري وهو يقول‏:‏ سألت علي ابن أبي طالب عن يوم الحج الأكبر‏.‏

فقال‏:‏ إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعث أبا بكر ابن أبي قحافة يقيم للناس الحج، وبعثني معه بأربعين آية من براءة حتَّى أتى عرفة فخطب النَّاس يوم عرفة فلما قضى خطبته، التفت إلي فقال‏:‏ قم يا علي فأدِّ رسالة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من براءة، ثم صدرنا فأتينا منى فرميت الجمرة، ونحرت البدنة، ثم حلقت رأسي، وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا حضوراً كلهم خطبة أبي بكر رضي الله عنه يوم عرفة، فطفت أتتبع بها الفساطيط أقرؤها عليهم‏.‏

قال علي‏:‏ فمن ثم أخال حسبتم أنه يوم النحر، ألا وهو يوم عرفة‏.‏

وقد تقصينا الكلام على هذا المقام في التفسير وذكرنا أسانيد الأحاديث، والآثار في ذلك مبسوطاً بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/47‏)‏

قال الواقدي‏:‏ وقد كان خرج مع أبي بكر من المدينة ثلثمائة من الصحابة، منهم‏:‏ عبد الرحمن بن عوف، وخرج أبو بكر معه بخمس بدنات، وبعث معه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعشرين بدنة، ثم أردفه بعلي فلحقه بالعرج فنادى ببراءة أمام الموسم‏.‏