فصل: فصل ذكر مخالفة قبائل قريش بني هاشم وعبد المطلب في نصر رسول الله

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 فصل كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي

قال البيهقي في ‏(‏الدلائل‏)‏‏:‏  باب ما جاء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، ثم روى عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس، عن ابن إسحاق قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا كتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي الأصحم عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسوله وأدعوك بدعاية الله فإني أنا رسوله فأسلم تسلم‏.‏

‏{‏يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون‏}‏ فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك‏)‏‏)‏‏.‏

هكذا ذكره البيهقي بعد قصة هجرة الحبشة وفي ذكره ههنا نظر، فإن الظاهر أن هذا الكتاب إنما هو إلى النجاشي الذي كان بعد المسلم صاحب جعفر وأصحابه، وذلك حين كتب إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الله عز وجل قبيل الفتح، كما كتب إلى هرقل عظيم الروم قيصر الشام، وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى صاحب مصر، وإلى النجاشي‏.‏

قال الزهري‏:‏ كانت كتب النبي صلى الله عليه وسلم إليهم واحدة؛ يعني نسخة واحدة، وكلها فيها هذه الآية وهي من سورة آل عمران، وهي مدنية بلا خلاف فإنه من صدر السورة، وقد نزل ثلاث وثمانون آية من أولها في وفد نجران كما قررنا ذلك في التفسير، ولله الحمد والمنة‏.‏

فهذا الكتاب إلى الثاني لا إلى الأول، وقوله فيه إلى النجاشي الأصحم لعل الأصحم مقحم من الراوي بحسب ما فهم، والله أعلم‏.‏

وأنسب من هذا ههنا ما ذكره البيهقي أيضاً عن الحاكم، عن أبي الحسن محمد بن عبد الله الفقيه - بمرو - حدثنا حماد بن أحمد، حدثنا محمد بن حميد، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وكتب معه كتاباً‏:‏

‏(‏‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الملك القدوس المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطاهرة الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخته، كما خلق آدم بيده ونفخه‏.‏

وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني فتؤمن بي وبالذي جاءني، فإني رسول الله وقد بعثت إليك ابن عمي جعفراً، ومعه نفر من المسلمين فإذا جاؤوك فأقرهم ودع التجبر، فإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/105‏)‏‏.‏

فكتب النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله من النجاشي الأصحم بن أبجر، سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته لا إله إلا هو الذي هداني إلى الإسلام، فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت‏.‏

وقد عرفنا ما بعثت به إلينا وقرينا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صادقاً ومصدقاً، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين‏.‏

وقد بعثت إليك يا نبي الله بأربحا بن الأصحم بن أبجر، فإني لا أملك إلا نفسي، وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله فإني أشهد أن ما تقول حق‏)‏‏)‏‏.‏

 فصل ذكر مخالفة قبائل قريش بني هاشم وعبد المطلب في نصر رسول الله

في ذكر مخالفة قبائل قريش بني هاشم وبني عبد المطلب في نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحالفهم فيما بينهم عليهم، على أن لا يبايعوهم ولا يناكحوهم حتى يسلِّموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحصرهم إياهم في شعب أبي طالب مدة طويلة، وكتابتهم بذلك صحيفة ظالمة فاجرة، وما ظهر في ذلك كله من آيات النبوة ودلائل الصدق‏.‏

قال موسى بن عقبة عن الزهري‏:‏ ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، وجمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية‏.‏

فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم، وأمرهم أن يمنعوه ممن أرادوا قتله‏.‏

فاجتمع على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيماناً ويقيناً‏.‏

فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمعوا على ذلك، اجتمع المشركون من قريش، فأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلَّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهوداً ومواثيق لا يقبلوا من بني هاشم صلحاً أبداً، ولا يأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل‏.‏

فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركوا لهم طعاماً يقدم مكة ولا بيعاً إلا بادروهم إليه، فاشتروه

يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/ 106‏)‏

فكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع على فراشه حتى يرى ذلك من أراد به مكراً واغتيالاً له، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو أخوته أو بني عمه فاضطجعوا على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بعض فرشهم فينام عليه‏.‏

فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من بني عبد مناف ومن قصي ورجال من سواهم من قريش قد ولدتهم نساء من بني هاشم، ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم واستخفوا بالحق، واجتمع أمرهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة منه، وبعث الله على صحيفتهم الأرضة فلحست كل ما كان فيها من عهد وميثاق‏.‏

ويقال‏:‏ كانت معلقة في سقف البيت فلم تترك اسما لله فيها إلا لحسته، وبقي ما كان فيها من شرك وظلم وقطيعة رحم، وأطلع الله عز وجل رسوله على الذي صنع بصحيفتهم، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب‏.‏

فقال أبو طالب‏:‏ لا والثواقب ما كذبني، فانطلق يمشي بعصابته من بني عبد المطلب حتى أتى المسجد، وهو حافل من قريش، فلما رأوهم عامدين لجماعتهم أنكروا ذلك، وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء، فأتوهم ليعطوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فتكلم أبو طالب فقال‏:‏ قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم، فأتوا بصحيفتكم التي تعاهدتم عليها فعلَّه أن يكون بيننا وبينكم صلح، وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها، فأتوا بصحيفتهم معجبين بها لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفوعاً إليهم فوضعوها بينهم وقالوا‏:‏ قد آن لكم أن تقبلوا وترجعوا إلى أمر يجمع قومكم؛ فإنما قطع بيننا وبينكم رجل واحد جعلتموه خطراً لهلكة قومكم وعشيرتكم وفسادهم‏.‏

فقال أبو طالب‏:‏ إنما أتيتكم لأعطيكم أمراً لكم فيه نَصَفٌ إن ابن أخي أخبرني - ولم يكذبني - إن الله بريء من هذه الصحيفة التي في أيديكم، ومحا كل اسم هو له فيها، وترك فيها غدركم وقطيعتكم إيانا وتظاهركم علينا بالظلم، فإن كان الحديث الذي قال ابن أخي كما قال فأفيقوا فوالله لا نسلمه أبداً حتى يموت من عندنا آخرنا، وإن كان الذي قال باطلاً دفعناه إليكم فقتلتموه أو استحييتم‏.‏

قالوا‏:‏ قد رضينا بالذي تقول، ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قد أخبر خبرها، فلما رأتها قريش كالذي قال أبو طالب قالوا‏:‏ والله إن كان هذا قط إلا سحر من صاحبكم، فارتكسوا وعادوا بشرِّ ما كانوا عليه من كفرهم، والشدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، والقيام على رهطه بما تعاهدوا عليه‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 3/107‏)‏

فقال‏:‏ أولئك النفر من بني عبد المطلب‏:‏ إن أولى بالكذب والسحر غيرنا فكيف ترون فإنا نعلم إن الذي اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر من أمرنا، ولولا إنكم اجتمعتم على السحر لم تفسد صحيفتكم وهي في أيديكم طمس الله ما كان فيها من اسمه وما كان فيها من بغي تركه أفنحن السحرة أم أنتم‏؟‏

فقال عند ذلك النفر من بني عبد مناف وبني قصي ورجال من قريش ولدتهم نساء من بني هاشم

منهم‏:‏ أبو البختري والمطعم بن عدي وزهير بن أبي أمية بن المغيرة وزمعة بن الأسود وهشام بن عمرو، وكانت الصحيفة عنده وهو - من بني عامر بن لؤي - في رجال من أشرافهم ووجوههم‏:‏ نحن برءاء مما في هذه الصحيفة‏.‏

فقال أبو جهل لعنه الله‏:‏ هذا أمر قضى بليل وأنشأ أبو طالب يقول الشعر في شأن صحيفتهم ويمدح النفر الذين تبرؤا منها ونقضوا ما كان فيها من عهد ويمتدح النجاشي‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وهكذا روى شيخنا أبو عبد الله الحافظ - يعني من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير - يعني كسياق موسى بن عقبة رحمه الله - وقد تقدم عن موسى بن عقبة أنه قال‏:‏ إنما كانت هجرة الحبشة بعد دخولهم إلى الشعب عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم في ذلك فالله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ والأشبه أن أبا طالب إنما قال قصيدته اللامية التي قدمنا ذكرها بعد دخولهم الشعب أيضاً فذكرها ههنا أنسب والله أعلم‏.‏

ثم روى البيهقي من طريق يونس عن محمد بن إسحاق‏.‏ قال‏:‏ لما مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذي بعث به وقامت بنو هاشم وبنو عبد المطلب دونه وأبوا أن يسلموه وهم من خلافه على مثل ما قومهم عليه إلا أنهم اتقوا أن يستذلوا ويسلموا أخاهم لما قارفه من قومه‏.‏

فلما فعلت ذلك بنو هاشم وبنو المطلب وعرفت قريش أن لا سبيل إلى محمد، اجتمعوا على أن يكتبوا فيما بينهم على بني هاشم وبني عبد المطلب أن لا يناكحوهم ولا ينكحوا إليهم ولا يبايعوهم ولا يبتاعوا منهم وكتبوا صحيفة في ذلك وعلقوها بالكعبة، ثم عدوا على من أسلم فأوثقوهم وآذوهم واشتد عليهم البلاء وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزالاً شديداً‏.‏

ثم ذكر القصة بطولها في دخولهم شعب أبي طالب وما بلغوا فيه من فتنة الجهد الشديد حتى كان يسمع أصوات صبيانهم يتضاغون من وراء الشعب من الجوع حتى كره عامة قريش ما أصابهم وأظهروا كراهيتهم لصحيفتهم الظالمة، وذكروا أن الله برحمته أرسل على صحيفة قريش الأرضة فلم تدع فيها اسماً هو لله إلا أكلته وبقي فيها الظلم والقطيعة والبهتان، فأخبر الله تعالى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر بذلك عمه أبو طالب ثم ذكر بقية القصة كرواية موسى بن عقبة وأتم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/108‏)‏‏.‏

وقال ابن هشام عن زياد عن محمد بن إسحاق‏:‏ فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلداً أصابوا منه أمناً وقراراً، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم فكان هو وحمزة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعل الإسلام يفشو في القبائل فاجتمعوا وائتمروا على أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني عبد المطلب على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم‏.‏

فلما اجتمعوا لذلك كتبوا في صحيفة ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم، وكان كاتب الصحيفة‏:‏ منصور ابن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ ويقال‏:‏ النضر ابن الحارث، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشل بعض أصابعه‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ كان الذي كتب الصحيفة‏:‏ طلحة بن أبي طلحة العبدوي‏.‏

قلت‏:‏ والمشهور أنه‏:‏ منصور بن عكرمة كما ذكره ابن إسحاق، وهو الذي شلت يده فما كان ينتفع بها وكانت قريش تقول بينها‏:‏ أنظروا إلى منصور بن عكرمة‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وكانت الصحيفة معلقة في جوف الكعبة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو عبد المطلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب إلى قريش فظاهرهم‏.‏

وحدثني حسين بن عبد الله‏:‏ أن أبا لهب لقي هند بنت عتبة بن ربيعة، حين فارق قومه، وظاهر عليهم قريشاً‏.‏

فقال‏:‏ يا ابنة عتبة هل نصرت اللات والعزى وفارقت من فارقها وظاهر عليها ‏؟‏

قالت‏:‏ نعم‏!‏ فجزاك الله خيراً يا أبا عتبة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثت أنه كان يقول - في بعض ما يقول - يعدني محمد أشياء لا أراها يزعم أنها كائنة بعد الموت، فماذا وضع في يدي بعد ذلك، ثم ينفخ في يديه فيقول‏:‏ تباً لكما لا أرى فيكما شيئاً مما يقول محمد‏.‏

فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏تبت يدا أبي لهب وتب‏}‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما اجتمعت على ذلك قريش وصنعوا فيه الذي صنعوا قال أبو طالب‏:‏

ألا أبلِغا عني على ذاتِ بيننا * لؤياً وخُصَّا من لؤي بني كعب

ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً * نبياً كموسى خطَّ في أول الكتب

وأن عليه في العباد محبة * ولا خير ممن خصَّه الله بالحب

‏(‏ج/ص‏:‏ 3/109‏)‏‏.‏

وأن الذي الصقتموا من كتابكم * لكم كائنٌ نحساً كراغيةِ السقب

أفيقوا أفيقوا قبل أن يحُفر الثرى * ويصبح من لم يجن ذنباً كذي الذنب

ولا تتبعوا أمرَ الوشاة وتقطعوا * أواصرنا بعد المودة والقرب

وتستجلبوا حرباً عواناً وربما * أمرَّ على من ذاقه حلب الحرب

فلسنا ورب البيت نسلم أحمداً * لعزَّاء من عض الزمان ولا كرب

ولما تَبِن منا ومنكم سوالفٌ * وأيدٍ أترَّتْ بالقساسية الشهب

بمعتركِ ضيقٍ ترى كسر القنا * به والنسور الطخم يعكفن كالشرب

كأن مجال الخيل في حجراته * ومعمعة الأبطال معركة الحرب

أليس أبونا هاشمٌ شدَّ أزره * وأوصى بنيه بالطِّعان وبالضرب

ولسنا نملُّ الحرب حتى تملنا * ولا نشتكي ما قد ينوب من النكب

ولكننا أهل الحفائظ والنهى * إذا طار أرواحُ الكماةِ من الرعب

قال ابن إسحاق‏:‏ فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً حتى جهدوا ولم يصل إليهم شيء إلا سراً مستخفياً به من أراد صلتهم من قريش، وقد كان أبو أجهل بن هشام - فيما يذكرون - لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، معه غلام يحمل قمحاً يريد به عمته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب فتعلق به وقال‏:‏ أتذهب بالطعام إلى بني هاشم‏؟‏ والله لا تذهب أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة، فجاءه أبو البختري بن هشام بن الحارث بن أسد‏.‏

فقال‏:‏ مالك وله‏.‏

فقال‏:‏ يحمل الطعام إلى بني هاشم‏.‏

فقال له أبو البختري‏:‏ طعام كان لعمته عنده بعثت به إليه أتمنعه أن يأتيها بطعامها‏؟‏ خلِّ سبيل الرجل‏.‏

قال‏:‏ فأبى أبو جهل - لعنه الله - حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لحى بعير فضربه فشجه ووطئه وطئاً شديداً، وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيشمتون بهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً منادياً بأمر الله تعالى لا يتقي فيه أحداً من الناس‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/110‏)‏‏.‏

 المستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم وما ظهر فيهم

فجعلت قريش حين منعه الله منها وقام عمه وقومه من بني هاشم وبني عبد المطلب دونه وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به، يهمزونه ويستهزؤن به ويخاصمونه، وجعل القرآن ينزل في قريش بأحداثهم، وفيمن نصب لعداوته، منهم من سمى لنا، ومنهم من نزل فيه القرآن في عامة من ذكر الله من الكفار‏.‏

فذكر ابن إسحاق أبا لهب ونزول السورة فيه، وأمية بن خلف ونزول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ‏}‏ السورة بكاملها فيه‏.‏

والعاص بن وائل ونزول قوله‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 77‏]‏ فيه‏.‏

وقد تقدم شيء من ذلك‏.‏

وأبا جهل بن هشام وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذي تعبد‏.‏

ونزول قول الله فيه‏:‏ ‏{‏وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 108‏]‏ الآية‏.‏

والنضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة - ومنهم من يقول علقمة بن كلدة قاله السهيلي - وجلوسه بعد النبي صلى الله عليه وسلم في مجالسه حيث يتلو القرآن ويدعو إلى الله، فيتلو عليهم النضر شيئاً من أخبار رستم واسفنديار وما جرى بينهما من الحروب في زمن الفرس، ثم يقول‏:‏ والله ما محمد بأحسن حديثاً مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبها‏.‏

فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 5‏]‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 7‏]‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - يوماً مع الوليد بن المغيرة في المسجد فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم في المجلس، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر فكلَّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه‏.‏

ثم تلا عليه وعليهم‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98 - 100‏]‏‏.‏

ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عبد الله بن الزبعري السهمي حتى جلس‏.‏

فقال الوليد بن المغيرة له‏:‏ والله ما قام والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفاً وما قعد، وقد زعم محمد أنّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3 /111‏)‏‏.‏

فقال عبد الله بن الزبعري‏:‏ أما والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمداً‏:‏ أكل ما نعبد من دون الله حصب جهنم مع من عبده‏؟‏

فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيراً والنصارى تعبد عيسى‏.‏

فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول ابن الزبعري ورأوا أنه قد احتج وخاصم فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده في النار، أنهم إنما يعبدون الشياطين، ومن أمرتهم بعبادته‏)‏‏)‏‏.‏

فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 101-102‏]‏ أي عيسى وعزير ومن عبد من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله تعالى‏.‏

ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26-29‏]‏ والآيات بعدها‏.‏

ونزل في إعجاب المشركين بقول ابن الزبعري‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 57-58‏]‏ وهذا الجدل الذي سلكوه باطل‏.‏

وهم يعلمون ذلك لأنهم قوم عرب ومن لغتهم أن ما لما لا يعقل، فقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ‏}‏ إنما أريد بذلك ما كانوا يعبدونه من الأحجار التي كانت صور أصنام، ولا يتناول ذلك الملائكة الذين زعموا أنهم يعبدونهم في هذه الصور، ولا المسيح، ولا عزيراً، ولا أحداً من الصالحين لأن اللفظ لا يتناولهم لا لفظاً ولا معنى‏.‏

فهم يعلمون أن ما ضربوه بعيسى ابن مريم من المثل جدل باطل كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ‏}‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنْ هُوَ‏}‏ أي عيسى ‏{‏إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ‏}‏ أي بنبوتنا ‏{‏وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ أي دليلاً على تمام قدرتنا على ما نشاء حيث خلقناه من أنثى بلا ذكر، وقد خلقنا حواء من ذكر بلا أنثى، وخلقنا آدم لا من هذا ولا من هذا، وخلقنا سائر بني آدم من ذكر وأنثى كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ‏}‏ أي أمارة ودليلاً على قدرتنا الباهرة ‏{‏وَرَحْمَةً مِنَّا‏}‏ نرحم بها من نشاء‏.‏

وذكر ابن إسحاق‏:‏ الأخنس بن شريق ونزول قوله تعالى فيه‏:‏ ‏{‏وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ‏}‏ ‏[‏نون‏:‏ 10‏]‏ الآيات، وذكر الوليد بن المغيرة حيث قال‏:‏ أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها، ويترك أبو مسعود عمرو بن عمرو الثقفي سيد ثقيف فنحن عظيما القريتين‏.‏

ونزول قوله فيه‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ والتي بعدها‏.‏

وذكر أبي بن خلف حين قال لعقبة بن أبي معيط‏:‏ ألم يبلغني أنك جالست محمداً‏؟‏ وسمعت منه وجهي من وجهك حرام أن أكلمك - وأستغلظ من اليمين - إن أنت جلست إليه أو سمعت منه إلا أن تتفل في وجهه ففعل ذلك عدو الله عقبة - لعنه الله -‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/112‏)‏‏.‏

فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 27-28‏]‏ والتي بعدها‏.‏

قال ومشى أبي بن خلف بعظم بال قد أرم‏.‏

فقال‏:‏ يا محمد أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرم، ثم فته بيده ثم نفخه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال‏:‏ نعم‏!‏ أنا أقول ذلك، يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا ثم يدخلك النار‏.‏

وأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 78-79‏]‏ إلى آخر السورة‏.‏

قال‏:‏ واعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني وهو يطوف عند باب الكعبة - الأسود بن المطلب، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل وكانوا ذوي أسنان في قومهم‏.‏

فقالوا‏:‏ يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر‏.‏

فأنزل الله فيهم‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏ إلى آخرها‏.‏

ولما سمع أبو جهل بشجرة الزقوم‏.‏

قال‏:‏ أتدرون ما الزقوم‏؟‏ هو تمر يضرب بالزبد ثم قال‏:‏ هلموا فلنتزقم فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 43-44‏]‏‏.‏

قال‏:‏ ووقف الوليد بن المغيرة فكلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمه وقد طمع في إسلامه فمر به ابن أم مكتوم - عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة - الأعمى فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يستقرئه القرآن، فشق ذلك عليه حتى أضجره‏.‏

وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد، وما طمع فيه من إسلامه، فلما أكثر عليه انصرف عنه عابساً، وتركه فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏عبس وتولى أن جاءه الأعمى‏}‏ إلى قوله ‏{‏مرفوعة مطهرة‏}‏ وقد قيل‏:‏ إن الذي كان يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه ابن أم مكتوم أمية بن خلف فالله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3 /113‏)‏‏.‏

ثم ذكر ابن إسحاق من عاد من مهاجرة الحبشة إلى مكة وذلك حين بلغهم إسلام أهل مكة وكان النقل ليس بصحيح، ولكن كان له سبب، وهو ما ثبت في ‏(‏الصحيح‏)‏ وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ جلس يوماً مع المشركين، وأنزل الله عليه‏:‏ ‏{‏والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم‏}‏ يقرؤها عليهم حتى ختمها وسجد‏.‏

فسجد من هناك من المسلمين والمشركين والجن والإنس، وكان لذلك سبب ذكره كثير من المفسرين عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52‏]‏‏.‏

وذكروا قصة الغرانيق وقد أحببنا الإضراب عن ذكرها صفحاً لئلا يسمعها من لا يضعها على مواضيعها، إلا أن أصل القصة في ‏(‏الصحيح‏)‏‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس‏.‏

قال‏:‏ سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس انفرد به البخاري دون مسلم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت الأسود عن عبد الله‏.‏

قال‏:‏ قرأ النبي صلى الله عليه وسلم والنجم بمكة، فسجد فيها وسجد من معه غير شيخ أخذ كفاً من حصا - أو تراب - فرفعه إلى جبهته وقال‏:‏ يكفيني هذا، فرأيته بعد قتل كافراً، ورواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث شعبة‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إبراهيم حدثنا رباح عن معمر عن ابن طاووس عن عكرمة بن خالد عن جعفر بن المطلب بن أبي وداعة عن أبيه‏.‏

قال‏:‏ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة النجم، فسجد وسجد من عنده، فرفعت رأسي وأبيت أن أسجد ولم يكن أسلم يومئذ المطلب، فكان بعد ذلك لا يسمع أحداً يقرأها إلا سجد معه‏.‏

وقد رواه النسائي عن عبد الملك بن عبد الحميد عن أحمد بن حنبل به‏.‏

وقد يجمع بين هذا والذي قبله بأن هذا سجد ولكنه رفع رأسه استكباراً، وذلك الشيخ الذي استثناه ابن مسعود لم يسجد بالكلية والله أعلم‏.‏

والمقصود أن الناقل لما رأى المشركين قد سجدوا متابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقد أنهم قد أسلموا واصطلحوا معه ولم يبق نزاع بينهم، فطار الخبر بذلك وانتشر حتى بلغ مهاجرة الحبشة بها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/114‏)‏‏.‏

فظنوا صحة ذلك فأقبل منهم طائفة طامعين بذلك، وثبتت جماعة وكلاهما محسن مصيب فيما فعل فذكر ابن إسحاق أسماء من رجع منهم؛ عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو وعبد الله بن جحش بن رئاب، وعتبة بن غزوان، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وسويبط بن سعد بن حرملة‏.‏

وطليب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف والمقداد بن عمرو، وعبد الله بن مسعود، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية ابن المغيرة، وشماس بن عثمان، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة - وقد حبسا بمكة حتى مضت بدراً وأحداً والخندق - وعمار بن ياسر - وهو ممن شك فيه أخرج إلى الحبشة أم لا -‏.‏

ومعتب ابن عوف، وعثمان بن مظعون، وابنه السائب، وأخواه قدامة وعبد الله ابنا مظعون، وخنيس بن حذافة، وهشام بن العاص بن وائل - وقد حبس بمكة إلى بعد الخندق - وعامر بن ربيعة، وامرأته ليلى بنت أبي حثمة‏.‏

وعبد الله بن مخرمة، وعبد الله بن سهيل بن عمرو - وقد حبس حتى كان يوم بدر فانحاز إلى المسلمين فشهد معهم بدراً - وأبو سبرة بن أبي رهم، وامرأته أم كلثوم بنت سهيل، والسكران بن عمرو بن عبد شمس، وامرأته سودة بنت زمعة - وقد مات بمكة قبل الهجرة وخلف على امرأته رسول الله صلى الله عليه وسلم - وسعد بن خولة، وأبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن الحارث بن زهير وسهيل بن بيضاء، وعمرو بن أبي سرح فجميعهم ثلاثة وثلاثون رجلاً رضي الله عنهم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ وقالت عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أريت دار هجرتكم أريت سبخة ذات نخل بين لابتين‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/115‏)‏‏.‏

فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر إلى الحبشة إلى المدينة‏.‏

وفيه‏:‏ عن أبي موسى وأسماء رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم حديث أبي موسى وهو في ‏(‏الصحيحين‏)‏، وسيأتي حديث أسماء بنت عميس بعد فتح خيبر حين قدم من كان تأخر من مهاجرة الحبشة إن شاء الله وبه الثقة‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا يحيى بن حماد، حدثنا أبو عوانة، عن سليمان عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله‏.‏

قال‏:‏ كنا نسلِّم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا، فقلنا يا رسول الله‏:‏ إنا كنا نسلم عليك فترد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي لم ترد علينا ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن في الصلاة شغلاً‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى البخاري أيضاً ومسلم وأبو داود والنسائي من طرق أخر عن سليمان بن مهران عن الأعمش به، وهو يقوي تأويل من تأول حديث زيد بن أرقم الثابت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل قوله‏:‏ ‏{‏وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام‏.‏

على أن المراد جنس الصحابة، فإن زيداً أنصاري مدني، وتحريم الكلام في الصلاة ثبت بمكة، فتعين الحمل على ما تقدم‏.‏

وأما ذكره الآية وهي مدنية فمشكل ولعله اعتقد أنها المحرمة لذلك وإنما كان المحرم له غيرها معها والله أعلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان ممن دخل منهم بجوار؛ فيمن سمي لنا‏:‏ عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة، وأبو سلمة بن عبد الأسد في جوار خاله أبي طالب، فإن أمه برة بنت عبد المطلب‏.‏

فأما عثمان بن مظعون فإن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف حدثني عمن حدثه عن عثمان‏.‏

قال‏:‏ لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء، وهو يروح ويغدو في أمان من الوليد بن المغيرة قال‏:‏ والله إن غدوي ورواحي في جوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يصيبني لنقص كثير في نفسي، فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له‏:‏ يا أبا عبد شمس وفت ذمتك، وقد رددت إليك جوارك‏.‏

قال له‏:‏ لم يا ابن أخي‏؟‏ لعله آذاك أحد من قومي‏.‏

فقال‏:‏ لا، ولكني أرضى بجوار الله عز وجل، ولا أريد أن أستجير بغيره‏.‏

قال‏:‏ فانطلق إلى المسجد فاردد عليَّ جواري علانية كما أجرتك علانية‏.‏

قال‏:‏ فانطلقنا فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد بن المغيرة‏:‏ هذا عثمان قد جاء يرد علي جواري‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/116‏)‏‏.‏

قال‏:‏ صدق، قد وجدته وفيَّاً كريم الجوار، ولكني قد أحببت أن لا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره‏.‏

ثم انصرف عثمان رضي الله عنه ولبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر في مجلس من قريش ينشدهم، فجلس معهم عثمان فقال لبيد‏:‏

ألا كل شيء ما خلا الله باطل *

فقال عثمان‏:‏ صدقت‏.‏

فقال لبيد‏:‏

وكل نعيم لا محالة زائل *

فقال عثمان‏:‏ كذبت، نعيم الجنة لا يزول‏.‏

فقال لبيد‏:‏ يا معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم‏؟‏

فقال رجل من القوم‏:‏ إن هذا سفيه في سفهاء معه، قد فارقوا ديننا فلا تجدن في نفسك من قوله، فردَّ عليه عثمان حتى شري أمرهما، فقام إليه ذلك الرجل ولطم عينه فخضرها والوليد ابن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان‏.‏

فقال‏:‏ والله يا ابن أخي إن كانت عينك عما أصابها لغنية، ولقد كنت في ذمة منيعة‏.‏

قال‏:‏ يقول عثمان‏:‏ بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله، وإني لفي جوار من هو أعزُّ منك وأقدر يا أبا عبد شمس‏.‏

فقال له الوليد‏:‏ هلم يا ابن أخي إلى جوارك فعد‏.‏

قال‏:‏ لا‏!‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وأما أبو سلمة بن عبد الأسد، فحدثني أبي إسحاق بن يسار، عن سلمة بن عبد الله بن عمر أبي سلمة أنه حدثه‏:‏ أن أبا سلمة لما استجار بأبي طالب، مشى إليه رجال من بني مخزوم، فقالوا له‏:‏ يا أبا طالب هذا منعت منا ابن أخيك محمداً، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا‏؟‏

قال‏:‏ إنه استجار بي، وهو ابن أختي وإن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي، فقام أبو لهب‏.‏

فقال‏:‏ يا معشر قريش والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ، ما تزالون تتواثبون عليه في جواره من بين قومه، والله لتنتهن أو لنقومن معه في كل ما قام فيه، حتى يبلغ ما أراد‏.‏

قالوا‏:‏ بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة‏.‏

وكان لهم ولياً وناصراً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبقوا على ذلك فطمع فيه أبو طالب حين سمعه يقول ما يقول، ورجا أن يقوم معه في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو طالب يحرض أبا لهب على نصرته ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

إن امرءاً أبو عتيبة عمه * لفي روضة ما أن يُسامُ المظالما

أقول له، وأين منه نصيحتي * أبا معتبِ ثبت سوادك قائما

‏(‏ج/ص‏:‏ 3/117‏)‏‏.‏

ولا تقبلنَّ الدهر ما عشتَ خطة * تسب بها إمَّا هبطت المواسما

وولِّ سبيل العجزِ غيرك منهم * فإنك لم تخلق على العجز لازما

وحارب فإن الحرب نصف ولن ترى * أخا الحرب يعطى الخسف حتى يسالما

وكيف ولم يجنوا عليك عظيمة * ولم يخذلوك غانماً أو مغارما

جزى الله عنا عبد شمسٍ ونوفلاً * وتيماً ومخزوماً عقوقاً ومأثما

بتفريقهم من بعدِ ودٍّ وألفةٍ * جماعتنا كيما ينالوا المحارما

كذبتم وبيت الله نبزى محمداً * ولما تروا يوماً لدى الشعب قائما

قال ابن هشام‏:‏ وبقي منها بيت تركناه‏.‏

 عزم الصديق على الهجرة إلى الحبشة

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - كما حدثني محمد بن مسلم ابن شهابالزهري عن عروة عن عائشة، حين ضاقت عليه مكة وأصابه فيها الأذى، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما رأى، استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فأذن له، فخرج أبو بكر رضي الله عنه مهاجراً، حتى إذا سار من مكة يوماً - أو يومين - لقيه ابن الدغنة أخو بني الحارث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة وهو يومئذ سيد الأحابيش‏.‏

قال الواقدي‏:‏ اسمه الحارث بن يزيد أحد بني بكر من عبد مناة بن كنانة‏.‏

وقال السهيلي‏:‏ اسمه مالك‏.‏

فقال‏:‏ إلى أين يا أبا بكر‏؟‏

قال‏:‏ أخرجني قومي وآذوني وضيقوا علي‏.‏

قال‏:‏ ولم‏؟‏ فوالله إنك لتزين العشيرة، وتعين على النوائب، وتفعل المعروف وتكسب المعدوم، ارجع فإنك في جواري‏.‏

فرجع معه حتى إذا دخل مكة قام معه ابن الدغنة فقال‏:‏ يا معشر قريش، إني قد أجرت ابن أبي قحافة فلا يعرض له أحد إلا بخير‏.‏

قال‏:‏ فكفوا عنه‏.‏

قالت‏:‏ وكان لأبي بكر مسجد عند باب داره في بني جمح فكان يصلي فيه، وكان رجلاً رقيقاً إذا قرأ القرآن استبكى قالت‏:‏ فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء يعجبون لما يرون من هيئته، قالت‏:‏ فمشى رجال من قريش إلى ابن الدغنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/118‏)‏‏.‏

فقالوا له‏:‏ يا ابن الدغنة إنك لم تجر هذا الرجل ليؤذينا، إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرق وكانت له هيئة ونحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفائنا أن يفتنهم فأته فمره بأن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء

قالت‏:‏ فمشى ابن الدغنة إليه فقال له‏:‏ يا أبا بكر، إني لم أجرك لتؤذي قومك‏.‏

وقد كرهوا مكانك الذي أنت به، وتأذوا بذلك منك، فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت‏.‏

قال‏:‏ أو أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله‏.‏

قال‏:‏ فأردد علي جواري‏.‏

قال‏:‏ قد رددته عليك‏.‏

قال‏:‏ فقام ابن الدغنة فقال‏:‏ يا معشر قريش، إن ابن أبي قحافة قد رد علي جواري فشأنكم بصاحبكم‏.‏

وقد روى الإمام البخاري هذا الحديث متفرداً به وفيه زيادة حسنة‏.‏

فقال‏:‏ حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، قال ابن شهاب‏:‏ فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت‏:‏ لم أعقل أبواي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية‏.‏

فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد، لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال‏:‏ أين تريد يا أبا بكر‏؟‏

فقال أبو بكر‏:‏ أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي‏.‏

فقال ابن الدغنة‏:‏ فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج مثله، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار فارجع، فاعبد ربك ببلدك‏.‏

فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، وطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم‏:‏ إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق‏؟‏ فلم يكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة‏:‏ مر أبا بكر فليعبد ربه في داره ويصلِّ فيها وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا‏.‏

فقال ابن الدغنة‏:‏ ذلك لأبي بكر فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره‏.‏

ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره وبرزوكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/119‏)‏‏.‏

وكان أبو بكر رجلاً بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم‏.‏

فقالوا له‏:‏ إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجداً بفناء داره، فأعلن في الصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتتن أبناؤنا ونساؤنا فإنه فإن أحب على أن يقتصر أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد عليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان‏.‏

قالت عائشة‏:‏ فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال‏:‏ قد علمت الذي قد عاقدت عليه قريش فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترد إلى ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له‏.‏

فقال أبو بكر‏:‏ فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل‏.‏

ثم ذكر تمام الحديث في هجرة أبي بكر رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي مبسوطاً‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال‏:‏ لقيه - يعني أبا بكر الصديق - حين خرج من جوار ابن الدغنة - سفيه من سفهاء قريش وهو عامد إلى الكعبة فحثا على رأسه تراباً، فمرَّ بأبي بكر الوليد بن المغيرة - أو العاص بن وائل - فقال له أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ ألا ترى ما يصنع هذا السفيه‏؟‏

فقال‏:‏ أنت فعلت ذلك بنفسك‏.‏

قال‏:‏ وهو يقول أي رب ما أحلمك‏.‏

أي رب ما أحلمك‏.‏

أي رب ما أحلمك‏.‏

 فصل

كل هذه القصص ذكرها ابن إسحاق معترضاً بها بين تعاقد قريش على بني هاشم وبني المطلب وكتابتهم عليهم الصحيفة الظالمة وحصرهم إياهم في الشعب، وبين نقض الصحيفة وما كان من أمرها‏:‏ وهي أمور مناسبة لهذا الوقت، ولهذا قال الشافعي رحمه الله‏:‏ من أراد المغازي فهو عيال على ابن إسحاق‏.‏ نقض الصحيفة

قال ابن إسحاق‏:‏ هذا وبنو هاشم وبنو المطلب في منزلهم الذي تعاقدت فيه قريش عليهم في الصحيفة التي كتبوها، ثم أنه قام في نقض تلك الصحيفة نفر من قريش، ولم يبل فيها أحداً أحسن من بلاء هشام بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن حبيب بن نصر بن جذيمةبن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، وذلك أنه كان ابن أخي نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه، وكان هشام لبني هاشم واصلاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/120‏)‏‏.‏

وكان ذا شرف في قومه، فكان - فيما بلغني - يأتي بالبعير، وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب ليلاً قد أوقره طعاماً، حتى إذا بلغ به فم الشعب خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبيه، فدخل الشعب عليهم ثم يأتي به قد أوقره بزاً فيفعل به مثل ذلك، ثم أنه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب‏.‏

فقال‏:‏ يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث علمت لا يباعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم ‏؟‏أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم، ما أجابك إليه أبداً‏.‏

قال‏:‏ ويحك يا هشام ‏!‏ فماذا أصنع‏؟‏ إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها حتى أنقضها‏.‏

قال‏:‏ قد وجدت رجلاً، قال من هو‏؟‏

قال‏:‏ أنا‏.‏

قال له زهير‏:‏ أبغنا ثالثاً، فذهب إلى المطعم بن عدي

فقال له‏:‏ يا مطعم، أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه، أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعاً، قال‏:‏ ويحك فماذا أصنع‏؟‏ إنما أنا رجل واحد، قال‏:‏ قد وجدت لك ثانياً‏.‏

قال‏:‏ من‏؟‏ قال أنا‏.‏

قال‏:‏ أبغنا ثالثاً‏.‏

قال‏:‏ قد فعلت‏.‏

قال‏:‏ من هو‏؟‏

قال‏:‏ زهير بن أبي أمية‏.‏

قال‏:‏ أبغنا رابعاً، فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال لهنحو ما قال للمطعم بن عدي‏.‏

فقال‏:‏ وهل تجد أحداً يعين على هذا‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قال‏:‏ من هو‏؟‏

قال‏:‏ زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا معك‏.‏

قال‏:‏ أبغنا خامساً‏.‏

فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه، وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له‏:‏ وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد‏؟‏

قال‏:‏ نعم ثم سمى القوم‏.‏

فاتعدوا خطم الحجون ليلاً بأعلا مكة فاجتمعوا هنالك، وأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها‏.‏

وقال زهير‏:‏ أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم‏.‏

فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية عليه حلة فطاف بالبيت سبعاً ثم أقبل على الناس‏.‏

فقال‏:‏ يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة‏.‏

قال أبو جهل‏:‏ - وكان في ناحية المسجد - والله لا تشق‏.‏

قال‏:‏ زمعة بن الأسود أنت والله أكذب، ما رضينا كتابها حين كتبت‏.‏

قال أبو البختري‏:‏ صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها، ولا نقر به‏.‏

قال المطعم بن عدي‏:‏ صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها، ومما كتب فيها‏.‏

قال هشام بن عمرو نحواً من ذلك‏.‏

قال أبو جهل‏:‏ هذا أمر قد قضي بليلٍ، تشور فيه بغير هذا المكان، قال‏:‏ وأبو طالب جالس في ناحية المسجد وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا باسمك اللهم، وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة، فشلت يده فيما يزعمون‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 3/121‏)‏‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وذكر بعض أهل العلم‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عم إن الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش، فلم تدع فيها اسماً هو لله إلا أثبتته فيها، ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ أربك أخبرك بهذا ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏!‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فوالله ما يدخل عليك أحد‏.‏

ثم خرج إلى قريش فقال‏:‏ يا معشر قريش، إن ابن أخي قد أخبرني بكذا وكذا، فهلم صحيفتكم، فإن كانت كما قال فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عنها، وإن كان كاذباً دفعت إليكم ابن أخي‏.‏

فقال القوم‏:‏ قد رضينا فتعاقدوا على ذلك، ثم نظروا فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فزادهم ذلك شراً، فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما مزقت وبطل ما فيها، قال أبو طالب، فيما كان من أمر أولئك القوم الذين قاموا في نقض الصحيفة يمدحهم‏:‏

ألا هل أتى بحريَّنا صنع ربنا * على نأيهم والله بالناس أروَدُ

فيخبرهم أن الصحيفة مزِّقت * وأن كل ما لم يرضه الله مفسد

تراوحها إفك وسحر مجمَّع * ولم يلف سحراً آخرَ الدهر يصعد

تداعى لها من ليس فيها بقرقرٍ * فطائرها في رأسها يتردد

وكانت كفاء وقعة باثيمةٍ * ليقطع منها ساعدٌ ومقلد

ويظعن أهل المكَّتين فيهربوا * فرائصهم من خشية الشر تُرعد

ويترك حراثٌ يقلب أمره * أيتهم فيها عند ذلك وينجد

وتصعد بين الأخشبين كتيبة * لها حدج سهم وقوس ومرهد

فمن ينش من حضّار مكةَ عزةً * فعزتنا في بطن مكة أتلد

نشأنا بها والناس فيها قلائل * فلم ننفكك نزدادُ خيراً ونحمد

‏(‏ج/ص‏:‏ 3/122‏)‏‏.‏

ونطعم حتى يترك الناس فضلهم * إذا جعلت أيدي المفيضين ترعد

جزى الله رهطاً بالحجون تجمعوا * على ملأٍ يهدي لحزمٍ ويرشد

قعوداً لذي حطم الحجون كأنهم * مقاولةٌ بل هم أعز وأمجد

أعان عليها كل صقر كأنه * إذا ما مشى في رفرف الدرع أحرد

جريءٌ على جل الخطوب كأنه * شهاب بكفي قابسٍ يتوقد

من الأكرمين من لؤي بن غالب * إذا سيم خسفاً وجهه يتربد

طويلُ النجاد خارجٌ نصف ساقه * على وجهه يسقي الغمام ويسعد

عظيم الرماد سيدٌ وابن سيد * يحضُّ على مقري الضيوف ويحشد

ويبني لأبناءِ العشيرة صالحاً * إذا نحن طفنا في البلاد ويمهد

ألظَّ بهذا الصلح كل مبرأ * عظيم اللواء أمره ثم يحمد

قضوا ما قضوا في ليلهم ثم أصبحوا * على مهلٍ وسائر الناس رقد

هم رجعوا سهل بن بيضاء راضياً * وسُرَّ أبو بكر بها ومحمد

متى شرك الأقوام في حل أمرنا * وكنا قديماً قبلها نتودد

وكنا قديماً لا نقر ظلامة * وندرك ما شئنا ولا نتشدد

فيالَ قصي هل لكم في نفوسكم * وهل لكم فيما يجيء به غد

فإني وإياكم كما قال قائلٌ * لديك البيان لو تكلمت أسود

قال السهيلي‏:‏ أسود اسم جبل قتل به قتيل ولم يعرف قاتله

فقال أولياء المقتول‏:‏ لديك البيان لو تكلمت أسود أي يا أسود لو تكلمت لأبنت لنا عمن قتله‏.‏

ثم ذكر ابن إسحاق شعر حسان يمدح المطعم بن عدي وهشام بن عمرو لقيامهما في نقض الصحيفة الظالمة الفاجرة الغاشمة‏.‏

وقد ذكر الأموي ههنا أشعاراً كثيرة اكتفينا بما أورده ابن إسحاق‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ سألت محمد بن صالح وعبد الرحمن بن عبد العزيز متى خرج بنو هاشم من الشعب‏؟‏

قالا‏:‏ في السنة العاشرة - يعني من البعثة - قبل الهجرة بثلاث سنين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/123‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وفي هذه السنة بعد خروجهم توفي أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى‏.‏

 فصل ذكر عداوة قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتنفير أحياء العرب والقادمين إلى مكة‏.‏

وقد ذكر محمد بن إسحاق - رحمه الله - بعد إبطال الصحيفة قصصاً كثيرة تتضمن نصب عداوة قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنفير أحياء العرب والقادمين إلى مكة لحج أو عمرة أو غير ذلك منه، وإظهار الله المعجزات على يديه دلالة على صدقه فيما جاءهم به من البينات والهدى، وتكذيبنا لهم فيما يرمونه من البغي والعدوان والمكر والخداع، ويرمونه من الجنون والسحر والكهانة والتقول، والله غالب على أمره‏.‏

فذكر قصة الطفيل بن عمرو الدوسي مرسلة، وكان سيداً مطاعاً شريفاً في دوس، وكان قد قدم مكة فاجتمع به أشراف قريش وحذروه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهوه أن يجتمع به أو يسمع كلامه، قال‏:‏ فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئاً ولا أكلمه، حتى حشوت أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفاً فرقاً من أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه‏.‏

قال‏:‏ فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة، قال‏:‏ فقمت منه قريباً فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، قال‏:‏ فسمعت كلاماً حسناً، قال‏:‏ فقلت في نفسي واثكل أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول‏!‏ فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته‏.‏

قال‏:‏ فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته فاتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه

فقلت‏:‏ يا محمد، إن قومك قالوا لي كذا وكذا - الذي قالوا -‏.‏

قال‏:‏ فوالله ما برحوا بي يخوفونني أمرك حتى سددت أذنيّ بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعني قولك، فسمعت قولاً حسناً، فاعرض عليَّ أمرك‏.‏

قال‏:‏ فعرض عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام وتلا عليَّ القرآن، فلا والله ما سمعت قولاً قط أحسن منه، ولا أمراً أعدل منه‏.‏

قال‏:‏ فأسلمت وشهدت شهادة الحق‏.‏

وقلت‏:‏ يا نبي الله إني امرؤ مطاع في قومي، وإني راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عوناً عليهم فيما أدعوهم إليه‏.‏

قال‏:‏ فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اجعل له آية‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر، وقع بين عيني نور مثل المصباح‏.‏

قال‏:‏ فقلت‏:‏ اللهم في غير وجهي، فإني أخشى أن يظنوا بها مثلة وقعت في وجهي لفراقي دينهم‏.‏

قال‏:‏ فتحول فوقع في رأس سوطي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/124‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فجعل الحاضرون يتراؤن ذلك النور في رأس سوطي كالقنديل المعلق، وأنا أتهبط عليهم من الثنية، حتى جئتهم فأصبحت فيهم، فلما نزلت أتاني أبي - وكان شيخاً كبيراً -‏.‏

فقلت‏:‏ إليك عني يا أبة فلست منك ولست مني‏.‏

قال‏:‏ ولم يا بني‏؟‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ أي بني فدينك ديني‏.‏

فقلت‏:‏ فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك، ثم ائتني حتى أعلمك مما علمت‏.‏

قال‏:‏ فذهب فاغتسل وطهر ثيابه، ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم‏.‏

قال‏:‏ ثم أتتني صاحبتي‏.‏

فقلت‏:‏ إليك عني، فلست منك ولست مني‏.‏

قالت‏:‏ ولم‏؟‏ بأبي أنت وأمي‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ قد فرق بيني وبينك الإسلام، وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

قالت‏:‏ فديني دينك‏.‏

قال‏:‏ فقلت‏:‏ فاذهبي إلى حمى ذي الشرى فتطهري منه، وكان ذو الشرى صنماً لدوس وكان الحمى حمى حموه حوله به وشل من ماء يهبط من جبل‏.‏

قالت‏:‏ بأبي أنت وأمي أتخشى على الصبية من ذي الشرى شيئاً‏؟‏

قلت‏:‏ لا، أنا ضامن لذلك‏.‏

قال‏:‏ فذهبت فاغتسلت ثم جاءت فعرضت عليها الإسلام فأسلمت، ثم دعوت دوساً إلى الإسلام فأبطؤا عليّ، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة‏.‏

فقلت له‏:‏ يا رسول الله‏:‏ إنه قد غلبني على دوس الزنا فادع الله عليهم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اهد دوساً، ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق، ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أسلم معي من قومي ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر حتى نزلت المدينة بسبعين - أو ثمانين بيتاً - من دوس فلحقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين‏.‏

ثم لم أزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه مكة‏.‏

فقلت يا رسول الله‏:‏ ابعثني إلى ذي الكفين، صنم عمرو بن حممة حتى أحرقه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فخرج إليه فجعل الطفيل وهو يوقد عليه النار يقول‏:‏

ياذا الكفين لست من عبادكا * ميلادنا أقدم من ميلادكا

إني حشوت النار في فؤادكا

قال‏:‏ ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان معه بالمدينة حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فلما أرتدت العرب خرج الطفيل مع المسلمين فسار معهم حتى فرغوا من طليحة ومن أرض نجد كلها، ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة ومعه ابنه عمرو بن الطفيل‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/125‏)‏‏.‏

فرأى رؤيا وهو متوجه إلى اليمامة فقال لأصحابه‏:‏ إني قد رأيت رؤيا فاعبروها لي، رأيت أن رأسي حلق، وأنه خرج من فمي طائر، وأنه لقيتني امرأة فأدخلتني في فرجها وأرى ابني يطلبني طلباً حثيثاً ثم رأيته حبس عني ‏؟‏

قالوا‏:‏ خيراً‏.‏

قال‏:‏ أما أنا والله فقد أولتها‏.‏

قالوا‏:‏ ماذا‏؟‏

قال‏:‏ أما حلق رأسي‏:‏ فوضعه، وأما الطائر الذي خرج منه‏:‏ فروحي، وأما المرأة التي أدخلتني في فرجها‏:‏ فالأرض تحفر لي فأغيب فيها، وأما طلب ابني إياي ثم حبسه عني‏:‏ فإني أراه سيجتهد أن يصيبه ما أصابني‏.‏

فقتل رحمه الله تعالى شهيداً باليمامة، وجرح ابنه جراحة شديدة، ثم استبل منها ثم قتل عام اليرموك زمن عمر شهيداً رحمه الله‏.‏

هكذا ذكر محمد بن إسحاق قصة الطفيل بن عمرو مرسلة بلا إسناد، ولخبره شاهد في الحديث الصحيح‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وكيع، حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال‏:‏ لما قدم الطفيل وأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إن دوساً قد استعصت قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اهد دوساً وائت بهم‏)‏‏)‏ رواه البخاري عن أبي نعيم عن سفيان الثوري‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد، أنبأنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه‏.‏

قال‏:‏ قدم الطفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه‏.‏

فقالوا‏:‏ يا رسول الله إن دوساً قد عصت وأبت فادع الله عليها‏.‏

قال أبو هريرة‏:‏ فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقلت‏:‏ هلكت دوس‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اهد دوساً، وائت بهم‏)‏‏)‏، إسناد جيد ولم يخرجوه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن حجاج الصواف عن أبي الزبير عن جابر‏:‏ أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله هل لك في حصن حصين ومنعة‏؟‏ - قال‏:‏ حصن كان لدوس في الجاهلية - فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي ذخر الله للأنصار‏.‏

فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه فاجتووا المدينة فمرض فجزع فأخذ مشاقص فقطع بها براجمه فشخبت يداه فما رقأ الدم حتى مات‏.‏

فرآه الطفيل بن عمرو في منامه في هيئة حسنة، ورآه مغطياً يديه‏.‏

فقال له‏:‏ ما صنع ربك بك‏؟‏

فقال‏:‏ غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم

قال‏:‏ فما لي أراك مغطياً يديك‏؟‏

قال‏:‏ قيل لي لن يصلح منك ما أفسدت‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/126‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم وليديه فاغفر‏)‏‏)‏‏.‏

رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم كلاهما عن سليمان بن حرب به‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما الجمع بين هذا الحديث وبين ما ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من طريق الحسن عن جندب قال‏:‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع، فأخذ سكيناً فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات، فقال الله عز وجل‏:‏ عبدي بادرني بنفسه فحرمت عليه الجنة‏)‏‏)‏‏.‏

فالجواب من وجوه؛ أحدها‏:‏ أنه قد يكون ذاك مشركاً وهذا مؤمن، ويكون قد جعل هذا الصنيع سبباً مستقلاً في دخوله النار وإن كان شركه مستقلاً إلا أنه نبه على هذا لتعتبر أمته‏.‏

الثاني‏:‏ قد يكون هذاك عالماً بالتحريم وهذا غير عالم لحداثة عهده بالإسلام‏.‏

الثالث‏:‏ قد يكون ذاك فعله مستحلاً له وهذا لم يكن مستحلاً بل مخطئاً‏.‏

الرابع‏:‏ قد يكون أراد ذاك بصنيعه المذكور أن يقتل نفسه بخلاف هذا فإنه يجوز أنه لم يقصد قتل نفسه وإنما أراد غير ذلك‏.‏

الخامس‏:‏ قد يكون هذاك قليل الحسنات فلم تقاوم كبر ذنبه المذكور فدخل النار، وهذا قد يكون كثير الحسنات فقاومت الذنب فلم يلج النار بل غفر له بالهجرة إلى نبيه صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولكن بقي الشين في يده فقط وحسنت هيئة سائره فغطى الشين منه فلما رآه الطفيل بن عمرو مغطياً يديه قال له‏:‏ مالك‏؟‏

قال‏:‏ قيل لي لن يصلح منك ما أفسدت‏.‏

فلما قصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم وليديه فاغفر‏)‏‏)‏ أي‏:‏ فأصلح منها ما كان فاسداً‏.‏

والمحقق أن الله استجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب الطفيل بن عمرو‏.‏

 قصة أعشى بن قيس

قال ابن هشام‏:‏ حدثني خلاد بن قرة بن خالد السدوسي وغيره من مشايخ بكر بن وائل عن أهل العلم أن أعشى بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الإسلام، فقال يمدح النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا * وبتَّ كما بات السليم مسهَّدا

وما ذاك من عشق النساء وإنما * تناسيت قبل اليوم خلَّة مهْددا

ولكن أرى الدهر الذي هو خائن * إذا أصلحت كفَّاي عاد فأفسدا

كهولاً وشبَّاناً فقدتُ وثروةً * فلله هذا الدهر كي ترددا

وما زلت أبغي المال مذ أنا يافع * وليداً وكهلاً حين شبْتُ وأمردا

‏(‏ج/ص‏:‏ 3/127‏)‏‏.‏

وأبتذل العيس المراقيل تعتلي * مسافة ما بين النجير فصرخدا

ألا أيهذا السائلي أين يمَّمت * فإن لها في أهل يثرب موعدا

فإن تسألي عني فيا ربَّ سائل * حفيّ عن الأعشى به حيث أصعدا

أجدتُ برجليها النجاد وراجعت * يداها خنافاً ليِّناً غير أحردا

وفيها إذا ما هجَّرتْ عجرفيّةٌ * إذا خلت حرباء الظهيرة أصيدا

وآليت لا آوي لها من كلالةٍ * ولا من حفى حتى تلاقي محمدا

متى ما تناخي عند باب ابن هاشم * تراحي وتلقي من فواضله ندى

نبي يرى ما لا ترون وذكره * أغار لعمري في البلاد وأنجدا

له صدقات ما تغبُّ ونائل * فليس عطاء اليوم مانعه غدا

أجدَّك لم تسمع وصاة محمدٍ * نبي الإله حيث أوصى وأشهدا

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى * ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على أن لا تكون كمثله * فترصد للأمر الذي كان أرصدا

فإياك والميتات لا تقربنَّها * ولا تأخذن سهماً حديداً لتقصدا

وذا النصب المنصوب لا تنسكنَّه * ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا

ولا تقربنَّ جارة كان سرها * عليك حراماً فانكحن أو تأبدا

وذا الرحم القربى فلا تقطعنَّه * لعاقبة ولا الأسير المقيدا

وسبِّح على حين العشية والضحى * ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا

ولا تسخرن من بائسٍ ذي ضرارة * ولا تحسبنَّ المال للمرء مخلدا

قال ابن هشام‏:‏ فلما كان بمكة - أو قريب منها - اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنه جاء يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم‏.‏

فقال له‏:‏ يا أبا بصير إنه يحرم الزنا‏.‏

فقال الأعشى‏:‏ والله إن ذلك لأمر مالي فيه من أرب‏.‏

فقال‏:‏ يا أبا بصير إنه يحرم الخمر‏.‏

فقال الأعشى‏:‏ أما هذه فوالله إن في نفسي منها العلالات، ولكني منصرف فأتروى منها عامي هذا، ثم آته فأسلم فانصرف فمات في عامه ذلك ولم يعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

هكذا أورد ابن هشام هذه القصة ههنا وهو كثير المؤاخذات لمحمد بن إسحاق رحمه الله، وهذا مما يؤاخذ به ابن هشام رحمه الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/128‏)‏‏.‏

فإن الخمر إنما حرمت بالمدينة بعد وقعة بني النضير كما سيأتي بيانه فالظاهر أن عزم الأعشى على القدوم للإسلام إنما كان بعد الهجرة وفي شعره ما يدل على ذلك وهو قوله‏:‏

ألا أيها ذا السائلي أين يممت * فإن لها في أهل يثرب موعدا

وكان الأنسب والأليق بابن هشام أن يؤخر ذكر هذه القصة إلى ما بعد الهجرة ولا يوردها هاهنا والله أعلم‏.‏

قال السهيلي‏:‏ وهذه غفلة من ابن هشام ومن تابعه فإن الناس مجمعون على أن الخمر لم ينزل تحريمها إلا في المدينة بعد أحد‏.‏

وقد قال‏:‏ وقيل إن القائل للأعشى هو أبو جهل بن هشام في دار عتبة بن ربيعة‏.‏

وذكر أبو عبيدة أن القائل له ذلك‏:‏ هو عامر بن الطفيل في بلاد قيس وهو مقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ وقوله ثم آته فأسلم لا يخرجه عن كفره بلا خلاف والله أعلم‏.‏

ثم ذكر ابن إسحاق هاهنا قصة الأراشي وكيف استعدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي جهل في ثمن الجمل الذي ابتاعه منه، وكيف أذل الله أبا جهل وأرغم أنفه حتى أعطاه ثمنه في الساعة الراهنة وقد قدَّمنا ذلك في ابتداء الوحي وما كان من أذية المشركين عند ذلك‏.‏

 قصة مصارعة ركانة وكيف أراه صلى الله عليه وسلم الشجرة التي دعاها فأقبلت‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني أبي إسحاق بن يسار قال‏:‏ وكان ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف أشد قريشاً فخلا يوماً برسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض شعاب مكة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا ركانة ألا تتقي الله وتقبل ما أدعوك إليه‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ إني لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك‏.‏

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أفرأيت إن صرعتك أتعلم أن ما أقول حق‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فقم حتى أصارعك‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقام ركانة إليه فصارعه فلما بطش به رسول الله صلى الله عليه وسلم أضجعه لا يملك من نفسه شيئاً ثم قال‏:‏ عد يا محمد فعاد فصرعه‏.‏

فقال‏:‏ يا محمد والله إن هذا للعجب، أتصرعني‏؟‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏وأعجب من ذلك إن شئت أريكه إن اتقيت الله واتبعت أمري‏)‏‏)‏‏؟‏

قال‏:‏ وما هو‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فادعها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/129‏)‏‏.‏

فدعاها فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال لها‏:‏ ارجعي إلى مكانك فرجعت إلى مكانها‏.‏

قال‏:‏ فذهب ركانة إلى قومه فقال‏:‏ يا بني عبد مناف ساحروا صاحبكم أهل الأرض فوالله ما رأيت أسحر منه قط، ثم أخبرهم بالذي رأى والذي صنع‏.‏

هكذا روى ابن إسحاق هذه القصة مرسلةً بهذا البيان‏.‏

وقد روى أبو داود والترمذي من حديث أبي الحسن العسقلاني عن أبي جعفر بن محمد بن ركانة عن أبيه‏.‏

أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم قال الترمذي‏:‏ غريب ولا نعرف أبا الحسن ولا ابن ركانة‏.‏

قلت‏:‏ وقد روى أبو بكر الشافعي بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أن يزيد بن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، كل مرة على مائة من الغنم فلما كان في الثالثة قال‏:‏ يا محمد ما وضع ظهري إلى الأرض أحد قبلك، وما كان أحد أبغض إلي منك‏.‏

وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وردَّ عليه غنمه‏.‏

وأما قصة دعائه الشجرة فأقبلت فسيأتي في كتاب ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ بعد السيرة من طرق جيدة صحيحة في مرات متعددة إن شاء الله وبه الثقة‏.‏

وقد تقدم عن أبي الأشدين أنه صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم ذكر ابن إسحاق قصة قدوم النصارى من أهل الحبشة نحواً من عشرين راكباً إلى مكة فأسلموا عن آخرهم، وقد تقدم ذلك بعد قصة النجاشي ولله الحمد والمنة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في المسجد، يجلس إليه المستضعفون من أصحابه‏:‏ خباب، وعمار، وأبو فكيهة، يسار، مولى صفوان بن أمية، وصهيب، وأشباههم من المسلمين‏.‏

هزئت بهم قريش وقال بعضهم لبعض‏:‏ هؤلاء أصحابه كما ترون، أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا بالهدى ودين الحق لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقنا هؤلاء إليه، وما خصهم الله به دوننا‏.‏

فأنزل الله عز وجل فيهم‏:‏ ‏{‏وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ * وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 52-54‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/130‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني يقال له‏:‏ جبر، عبد لبنى الحضرمي، وكانوا يقولون والله ما يعلم محمداً كثيرا مما يأتي به إلاجبر، فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 103‏]‏‏.‏

ثم ذكر نزول ‏(‏سورة الكوثر‏)‏ في العاص بن وائل حين قال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه أبتر أي‏:‏ لا عقب له فإذا مات انقطع ذكره‏.‏

فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ‏}‏ أي‏:‏ المقطوع الذكر بعده، ولو خلف ألوفاً من النسل والذرية وليس الذكر والصيت ولسان صدق بكثرة الأولاد والأنسال والعقب، وقد تكلمنا على هذه السورة في التفسير ولله الحمد‏.‏

وقد روي عن أبي جعفر الباقر‏:‏ أن العاص بن وائل إنما قال ذلك حين مات القاسم بن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد بلغ أن يركب الدابة ويسير على النجيبة‏.‏

ثم ذكر نزول قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر‏}‏ وذلك بسبب قول أبي بن خلف وزمعة بن الأسود والعاص ابن وائل والنضر بن الحارث‏:‏ لولا أنزل عليك ملك يكلم الناس عنك‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا بالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وأبي جهل ابن هشام فهمزوه واستهزؤا به، فغاظه ذلك فأنزل الله تعالى في ذلك من أمرهم‏:‏ ‏{‏ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤن‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد استهزئ برسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين‏}‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا كفيناك المستهزئين‏}‏‏.‏

قال سفيان‏:‏ عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏

قال‏:‏ المستهزؤن‏:‏ الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث الزهري، والأسود بن المطلب أبو زمعة، والحارث بن عيطل، والعاص بن وائل السهمي‏.‏

فأتاه جبريل فشكاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراه الوليد أبا عمرو بن المغيرة فأشار جبريل إلى أنمله وقال‏:‏ كفيته‏.‏

ثم أراه الأسود بن المطلب فأومأ إلى عنقه وقال‏:‏ كفيته‏.‏

ثم أراه الأسود بن عبد يغوث فأومأ إلى رأسه وقال‏:‏ كفيته‏.‏

ثم أراه الحارث بن عيطل فأومأ إلى بطنه وقال‏:‏ كفيته‏.‏

ومر به العاص بن وائل فأومأ إلى أخمصه وقال‏:‏ كفيته‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/131‏)‏‏.‏

فأما الوليد‏:‏ فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلاً له فأصاب أنمله فقطعها، وأما الأسود بن عبد يغوث‏:‏ فخرج في رأسه قروح فمات منها، وأما الأسود بن المطلب‏:‏ فعمي‏.‏

وكان سبب ذلك أنه نزل تحت سمرة فجعل يقول‏:‏ يا بني ألا تدفعون عني قد قتلت فجعلوا يقولون‏:‏ ما نرى شيئاً‏.‏

وجعل يقول‏:‏ يا بني ألا تمنعون عني قد هلكت، ها هو ذا الطعن بالشوك في عيني‏.‏

فجعلوا يقولون‏:‏ ما نرى شيئاً فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه‏.‏

وأما الحارث بن عيطل‏:‏ فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منها‏.‏

وأما العاص بن وائل‏:‏ فبينما هو كذلك يوماً إذ دخل في رأسه شبرقة حتى امتلأت منها فمات منها‏.‏

وقال غيره في هذا الحديث‏:‏ فركب إلى الطائف على حمار فربض به على شبرقة - يعني شوكة - فدخلت في أخمص قدمه شوكة فقتلته‏.‏

رواه البيهقي بنحو من هذا السياق‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ وكان عظماء المستهزئين كما حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير خمسة نفر‏.‏

وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم؛ الأسود بن المطلب أبو زمعة دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم أعم بصره وأثكله ولده‏)‏‏)‏‏.‏

والأسود بن عبد يغوث، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والحارث بن الطلاطلة‏.‏

وذكر أن الله تعالى أنزل فيهم‏:‏ ‏{‏فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 94‏]‏‏.‏

وذكر أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يطوفون بالبيت، فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، فمرَّ به الأسود ابن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمي‏.‏

ومرَّ به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى باطنه فمات منه حبنا‏.‏

ومرَّ به الوليد بن المغيرة فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعبه كان أصابه قبل ذلك بسنين من مروره برجل يريش نبلاً له من خزاعة فتعلق سهم بإزاره فخدشه خدشاً يسيراً، فانتقض بعد ذلك فمات‏.‏

ومرَّ به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله فخرج على حمار له يريد الطائف فربض به على شبرقة فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته‏.‏

ومر به الحارث بن الطلاطل فأشار إلى رأسه فامتحض قيحاً فقتله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/132‏)‏‏.‏

ثم ذكر ابن إسحاق‏:‏ أن الوليد بن المغيرة لما حضره الموت أوصى بنيه الثلاثة وهم‏:‏ خالد وهشام والوليد‏.‏

فقال لهم‏:‏ أي بني، أوصيكم بثلاث، دمي في خزاعة فلا تطلوه، والله إني لأعلم أنهم منه براء ولكني أخشى أن تسبوا به بعد اليوم، ورباي في ثقيف، فلا تدعوه حتى تأخذوه، وعقري عند أبي أزيهر الدوسي فلا يفوتنكم به‏.‏

وكان أبو أزيهر قد زوج الوليد بنتاً له ثم أمسكها عنه فلم يدخلها عليه حتى مات، وكان قد قبض عقرها منه - وهو صداقها -‏.‏

فلما مات الوليد وثبت بنو مخزوم على خزاعة يلتمسون منهم عقل الوليد، وقالوا‏:‏ إنما قتله سهم صاحبكم، فأبت عليهم خزاعة ذلك حتى تقاولوا أشعاراً وغلظ بينهم الأمر‏.‏

ثم أعطتهم خزاعة بعض العقل واصطلحوا وتحاجزوا‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم عدا هشام بن الوليد على أبي أزيهر وهو بسوق ذي المجاز فقتله، وكان شريفاً في قومه وكانت ابنته تحت أبي سفيان - وذلك بعد بدر - فعمد يزيد بن أبي سفيان فجمع الناس لبني مخزوم وكان أبوه غائباً، فلما جاء أبو سفيان غاظه ما صنع ابنه يزيد فلامه على ذلك وضربه وودى أبا أزيهر وقال لابنه‏:‏ أعمدت إلى أن تقتل قريش بعضها بعضاً في رجل من دوس ‏؟‏

وكتب حسان بن ثابت قصيدة له يحض أبا سفيان في دم أبي أزيهر، فقال‏:‏ بئس ما ظن حسان أن يقتل بعضنا بعضاً وقد ذهب أشرافنا يوم بدر‏.‏

ولما أسلم خالد بن الوليد وشهد الطائف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله في ربا أبيه من أهل الطائف ‏؟‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فذكر لي بعض أهل العلم‏:‏ إن هؤلاء الآيات نزلن في ذلك‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 278‏]‏ وما بعدها‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ولم يكن في بني أزيهر ثأر نعلمه حتى حجر الإسلام بين الناس، إلا أن ضرار بن الخطاب بن مرداس الأسلمي خرج في نفر من قريش إلى أرض دوس فنزلوا على امرأة يقال لها أم غيلان مولاة لدوس، وكانت تمشط النساء وتجهز العرائس، فأرادت دوس قتلهم بأبي أزيهر فقامت دونه أم غيلان ونسوة كن معها حتى منعتهم‏.‏

قال السهيلي‏:‏ يقال إنها أدخلته بين درعها وبدنها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/133‏)‏

قال ابن هشام‏:‏ فلما كانت أيام عمر بن الخطاب أتته أم غيلان وهي ترى أن ضراراً أخوه‏.‏

فقال لها عمر‏:‏ لست بأخيه إلا في الإسلام، وقد عرفت منتك عليه فأعطاها على أنها بنت سبيل‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وكان ضرار بن الخطاب لحق عمر بن الخطاب يوم أحد فجعل يضربه بعرض الرمح ويقول‏:‏ انج يا ابن الخطاب لا أقتلك فكان عمر يعرفها له بعد الإسلام رضي الله عنهما‏.‏