فصل: فصل في انشقاق القمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 فصل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على قريش حين استعصت عليه

وذكر البيهقي ها هنا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على قريش حين استعصت عليه بسبع مثل سبع يوسف وأورد ما أخرجاه في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من طريق الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن ابن مسعود‏.‏

قال‏:‏ خمس مضين؛ اللزام والروم، والدخان، والبطشة، والقمر، وفي رواية عن ابن مسعود‏.‏

قال‏:‏ إن قريشاً، لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطئوا عن الإسلام‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأصابتهم سنة حتى فحصت كل شيء، حتى أكلوا الجيف والميتة وحتى أن أحدهم كان يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع‏.‏

ثم دعا فكشف الله عنهم، ثم قرأ عبد الله هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 15‏]‏ قال‏:‏ فعادوا فكفروا فأخروا إلى يوم القيامة - أو قال‏:‏ فأخروا إلى يوم بدر -‏.‏

قال عبد الله‏:‏ إن ذلك لو كان يوم القيامة كان لا يكشف عنهم‏:‏ ‏{‏يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 16‏]‏ قال يوم بدر‏.‏

وفي رواية عنه‏.‏

قال‏:‏ لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس إدباراً‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم سبع كسبع يوسف‏)‏‏)‏ فأخذتهم سنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام‏.‏

فجاءه أبو سفيان وناس من أهل مكة فقالوا‏:‏ يا محمد إنك تزعم أنك بعثت رحمة وأن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم‏.‏

فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث، فأطبقت عليهم سبعاً فشكا الناس كثرة المطر‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم حوالينا ولا علينا‏)‏‏)‏ فانجذب السحاب عن رأسه فسقى الناس حولهم‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 3/134‏)‏‏.‏

قال‏:‏ لقد مضت آية الدخان - وهو الجوع الذي أصابهم - وذلك قوله‏:‏ ‏{‏إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون‏}‏ وآية الروم، والبطشة الكبرى، وانشقاق القمر، وذلك كله يوم بدر‏.‏

قال البيهقي‏:‏ يريد - والله أعلم - البطشة الكبرى والدخان وآية اللزام كلها حصلت ببدر‏.‏

قال‏:‏ وقد أشار البخاري إلى هذه الرواية‏.‏

ثم أورد من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب السختياني، عن عكرمة، عن ابن عباس‏.‏

قال‏:‏ جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغيث من الجوع لأنهم لم يجدوا شيئاً حتى أكلوا العهن، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 76‏]‏‏.‏

قال‏:‏ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فرج الله عنهم‏.‏

ثم قال الحافظ البيهقي‏:‏ وقد روى في قصة أبي سفيان ما دل على أن ذلك بعد الهجرة، ولعله كان مرتين والله أعلم‏.‏

 فصل قصة فارس والروم‏.‏

ثم أورد البيهقي قصة فارس والروم ونزول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 1-6‏]‏‏.‏

ثم روى من طريق سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ كان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أهل أوثان، فذكر ذلك المسلمون لأبي بكر فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏أما أنهم سيظهرون‏)‏‏)‏ فذكر أبو بكر ذلك للمشركين‏.‏

فقالوا‏:‏ اجعل بيننا وبينك أجلاً إن ظهروا كان لك كذا وكذا، وإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا جعلته أداة‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ دون العشر فظهرت الروم بعد ذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/135‏)‏

وقد أوردنا طرق هذا الحديث في التفسير وذكرنا أن المباحث - أي‏:‏ المراهن - لأبي بكر أمية بن خلف وأن الرهن كان على خمس قلايص، وأنه كان إلى مدة، فزاد فيها الصديق عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الرهن‏.‏

وأن غلبة الروم على فارس كان يوم بدر - أو كان يوم الحديبية - فالله أعلم‏.‏

ثم روى من طريق الوليد بن مسلم حدثنا أسيد الكلابي أنه سمع العلاء بن الزبير الكلابي يحدث عن أبيه‏.‏

قال‏:‏ رأيت غلبة فارس الروم، ثم رأيت غلبة الروم فارس، ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم وظهورهم على الشام والعراق، كل ذلك في خمس عشرة سنة‏.‏

 فصل الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس‏.‏

ذكر ابن عساكر أحاديث الإسراء في أوائل البعثة، وأما ابن إسحاق فذكرها في هذا الموطن بعد البعثة بنحو من عشر سنين، وروى البيهقي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري أنه قال‏:‏ أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلى المدينة بسنة‏.‏

قال‏:‏ وكذلك ذكره ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة‏.‏

ثم روى الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن أسباط بن نصر عن إسماعيل السدي‏.‏

أنه قال‏:‏ فرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس ببيت المقدس ليلة أُسري به قبل مهاجره بستة عشر شهراً، فعلى قول السدي يكون الإسراء في شهر ذي القعدة، وعلى قول الزهري وعروة يكون في ربيع الأول‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي شيبة‏:‏ حدثنا عثمان عن سعيد ابن مينا عن جابر وابن عباس‏.‏

قالا‏:‏ ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول‏.‏

وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات، فيه انقطاع‏.‏

وقد اختاره الحافظ عبد الغني بن سرور المقدسي في سيرته وقد أورد حديثاً لا يصح سنده ذكرناه في فضائل شهر رجب أن الإسراء كان ليلة السابع والعشرين من رجب والله أعلم‏.‏

ومن الناس من يزعم أن الإسراء كان أول ليلة جمعة من شهر رجب وهي ليلة الرغائب التي أحدثت فيها الصلاة المشهورة ولا أصل لذلك والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/136‏)‏‏.‏

وينشد بعضهم في ذلك‏:‏

ليلةَ الجمعةِ عُرِّج بالنبي * ليلةَ الجمعةِ أول رجب

وهذا الشعر عليه ركاكة وإنما ذكرناه استشهاداً لمن يقول به‏.‏

وقد ذكرنا الأحاديث الواردة في ذلك مستقصاة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير‏}‏ فلتكتب من هناك على ما هي عليه من الأسانيد والعزو، والكلام عليها ومعها ففيها مقنع وكفاية ولله الحمد والمنة‏.‏

ولنذكر ملخص كلام ابن إسحاق رحمه الله فإنه قال بعد ذكر ما تقدم من الفصول‏:‏ ثم أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى - وهو بيت المقدس من إيلياء - وقد فشا الإسلام بمكة في قريش وفي القبائل كلها‏.‏

قال‏:‏ وكان من الحديث - فيما بلغني - عن مسراه صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن مسعود وأبي سعيد الخدري وعائشة ومعاوية وأم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنهم والحسن بن أبي الحسن وابن شهاب الزهري وقتادة وغيرهم من أهل العلم ما اجتمع في هذا الحديث، كل يحدث عنه بعض ما ذكر لي من أمره‏.‏

وكان في مسراه صلى الله عليه وسلم وما ذكر لي منه بلاء وتمحيص، وأمر من أمر الله وقدرته وسلطانه، فيه عبرة لأولي الألباب، وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق، وكان من أمر الله على يقين، فأسرى به كيف شاء وكما شاء ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم، وقدرته التي يصنع بها ما يريد‏.‏

وكان عبد الله بن مسعود - فيما بلغني - يقول‏:‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق - وهي الدابة التي كانت تحمل عليها الأنبياء قبله، تضع حافرها في موضع منتهى طرفها - فحُمل عليها ثم خرج به صاحبه يرى الآيات فيما بين السماء والأرض حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء قد جمعوا له، فصلى بهم ثم أتى بثلاثة آنية‏:‏ من لبن، وخمر، وماء‏.‏

فذكر أنه شرب إناء اللبن، فقال لي جبريل‏:‏ هديت وهديت أمتك‏.‏

وذكر ابن إسحاق في سياق الحسن البصري مرسلاً‏:‏ أن جبريل أيقظه ثم خرج به إلى باب المسجد الحرام فأركبه البراق وهو دابة أبيض، بين البغل والحمار، وفي فخذيه جناحان يحفز بهما رجليه، يضع حافره في منتهى طرفه، ثم حملني عليه ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته‏.‏

قلت‏:‏ وفي الحديث وهو عن قتادة فيما ذكره ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد ركوب البراق شمس به فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال‏:‏ ألا تستحي يا براق مما تصنع، فوالله ما ركبك عبد لله قبل محمد أكرم عليه منه‏.‏

قال‏:‏ فاستحى حتى أرفض عرقاً ثم قرَّ حتى ركبته‏.‏

قال الحسن في حديثه‏:‏ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى معه جبريل حتى انتهى به إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء فأمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم، ثم ذكر اختياره إناء اللبن على إناء الخمر وقول جبريل له‏:‏ هديت وهديت أمتك وحرمت عليكم الخمر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/137‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فأصبح يخبر قريشاً بذلك فذكر أنه كذبه أكثر الناس وارتدت طائفة بعد إسلامها، وبادر الصديق إلى التصديق وقال‏:‏ إني لأصدقه في خبر السماء بكرة وعشية أفلا أصدقه في بيت المقدس وذكر أن الصديق سأله عن صفة بيت المقدس فذكرها له رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ فيومئذ سمي أبو بكر الصديق‏.‏

قال الحسن‏:‏ وأنزل الله في ذلك‏:‏ ‏{‏وماجعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس‏}‏ الآية‏.‏

وذكر ابن إسحاق فيما بلغه عن أم هانئ‏.‏

أنها قالت‏:‏ ما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من بيتي نام عندي تلك الليلة بعد ما صلى العشاء الآخرة، فلما كان قبيل الفجر أهبنا فلما صلى الصبح وصلينا معه‏.‏

قال يا أم هانئ‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد صليت معكم العشاء الآخرة في هذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم قد صليت الغداة معكم الآن كما ترين‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قام ليخرج فأخذت بطرف ردائه فقلت‏:‏ يا نبي الله لا تحدث بهذا الحديث الناس فيكذبونك ويؤذونك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏والله لأحدثنهموه‏)‏‏)‏ فأخبرهم فكذبوه‏.‏

فقال‏:‏ وآية ذلك أني مررت بعير بني فلان بوادي كذا وكذا، فأنفرهم حس الدابة فندَّلهم بعير فدللتهم عليه وأنا متوجه إلى الشام، ثم أقبلت حتى إذا كنت بضجنان مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياماً ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء فكشفت غطاءه وشربت ما فيه، ثم غطيت عليه كما كان‏.‏

وآية ذلك أن عيرهم تصوب الآن من ثنية التنعيم البيضاء يقدمها جمل أورق عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء‏.‏

قال‏:‏ فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم أول من الجمل الذي وصف لهم، وسألوهم عن الإناء وعن البعير فأخبروهم كما ذكر صلوات الله وسلامه عليه‏.‏

وذكر يونس بن بكير عن أسباط عن إسماعيل السدي أن الشمس كادت أن تغرب قبل أن يقدم ذلك العير، فدعا الله عز وجل فحبسها حتى قدموا كما وصف لهم‏.‏

قال‏:‏ فلم تحتبس الشمس على أحد إلا عليه ذلك اليوم وعلى يوشع بن نون‏.‏ رواه البيهقي‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وأخبرني من لا أتهم عن أبي سعيد قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ لما فرغت مما كان في بيت المقدس أتى بالمعراج ولم أر شيئاً قط أحسن منه، وهو الذي يمد إليه ميتكم عينيه إذا حضر، فأصعدني فيه صاحبي، حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء، يقال له‏:‏ باب الحفظة عليه بريد من الملائكة يقال له‏:‏ إسماعيل، تحت يده اثنا عشر ألف ملك، تحت يد كل ملك منهم اثنا عشر ألف ملك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/138‏)‏

قال‏:‏ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حدث بهذا الحديث ‏{‏وما يعلم جنود ربك إلا هو‏}‏‏.‏

ثم ذكر بقية الحديث وهو مطول جداً وقد سقناه بإسناده ولفظه بكماله في التفسير وتكلمنا عليه فإنه من غرائب الأحاديث وفي إسناده ضعف، وكذا في سياق حديث أم هانئ فإن الثابت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من رواية شريك بن أبي نمر عن أنس أن الإسراء كان من المسجد من عند الحجر وفي سياقه غرابة أيضاً من وجوه قد تكلمنا عليها هناك‏.‏

ومنها قوله‏:‏ وذلك قبل أن يوحى إليه، والجواب أن مجيئهم أول مرة كان قبل أن يوحى إليه فكانت تلك الليلة ولم يكن فيها شيء ثم جاءه الملائكة ليلة أخرى ولم يقل في ذلك، وذلك قبل أن يوحى إليه بل جاءه بعد ما أوحي إليه فكان الإسراء قطعاً بعد الإيحاء إما بقليل كما زعمه طائفة، أو بكثير نحو من عشر سنين كما زعمه آخرون وهو الأظهر‏.‏

وغسل صدره تلك الليلة قبل الإسراء غسلاً ثانياً - أو ثالثاً - على قول أنه مطلوب إلى الملأ الأعلى والحضرة الإلهية ثم ركب البراق رفعة له وتعظيماً وتكريماً فلما جاء بيت المقدس ربطه بالحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء ثم دخل بيت المقدس فصلى في قبلته تحية المسجد‏.‏

وأنكر حذيفة رضي الله عنه دخوله إلى بيت المقدس وربطه الدابة وصلاته فيه وهذا غريب، والنص المثبت مقدم على النافي‏.‏

ثم اختلفوا في اجتماعه بالأنبياء وصلاته بهم أكان قبل عروجه إلى السماء كما دل عليه ما تقدم أو بعد نزوله منها كما دل عليه بعض السياقات وهو أنسب كما سنذكره على قولين فالله أعلم‏.‏

وقيل‏:‏ أن صلاته بالأنبياء كانت في السماء، وهكذا تخيره من الآنية اللبن والخمر والماء هل كانت ببيت المقدس كما تقدم أو في السماء كما ثبت في الحديث الصحيح والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من أمر بيت المقدس نصب له المعراج وهو السلم فصعد فيه إلى السماء ولم يكن الصعود على البراق كما قد يتوهمه بعض الناس بل كان البراق مربوطاً على باب مسجد بيت المقدس ليرجع عليه إلى مكة‏.‏

فصعد من سماء إلى سماء في المعراج حتى جاوز السابعة وكلما جاء سماء تلقته منها مقربوها ومن فيها من أكابر الملائكة والأنبياء وذكر أعيان من رآه من المرسلين‏:‏ كآدم في سماء الدنيا، ويحيى وعيسى في الثانية وإدريس في الرابعة، وموسى في السادسة - على الصحيح - وإبراهيم في السابعة مسنداً ظهره إلى البيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة يتعبدون فيه صلاة وطوافاً ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة‏.‏

ثم جاوز مراتبهم كلهم حتى ظهر لمستوى يسمع فيه صريف الأقلام، ورفعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة، ونبقها كقلال هجر، وغشيها عند ذلك أمور عظيمة ألوان متعددة باهرة وركبتها الملائكة مثل الغربان على الشجرة كثرة وفراش من ذهب وغشيها من نور الرب جل جلاله، ورأى هناك جبريل عليه السلام له ستمائة جناح ما بين كل جناحين كما بين السماء والأرض وهو الذي يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى‏}‏ أي‏:‏ ما زاغ يميناً ولا شمالاً ولا ارتفع عن المكان الذي حدَّ له النظر إليه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/139‏)‏

وهذا هو الثبات العظيم والأدب الكريم وهذه الرؤيا الثانية لجبريل عليه السلام على الصفة التي خلقه الله تعالى عليها، كما نقله ابن مسعود وأبو هريرة وأبو ذر وعائشة رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

والأولى هي‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏علَّمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى‏}‏ وكان ذلك بالأبطح، تدلى جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض حتى كان بينه وبينه قاب قوسين أو أدنى، هذا هو الصحيح في التفسير كما دل عليه كلام أكابر الصحابة المتقدم ذكرهم رضي الله عنهم‏.‏

فأما قول شريك عن أنس في حديث الإسراء‏:‏ ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فقد يكون من فهم الراوي فأقحمه في الحديث والله أعلم‏.‏

وإن كان محفوظاً فليس بتفسير للآية الكريمة بل هو شيء آخر غير ما دلت عليه الآية الكريمة والله أعلم‏.‏

وفرض الله سبحانه وتعالى على عبده محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أمته الصلوات ليلتئذ خمسين صلاة في كل يوم وليلة، ثم لم يزل يختلف بين موسى وبين ربه عز وجل حتى وضعها الرب جل جلاله وله الحمد والمنة إلى خمس‏.‏

وقال‏:‏ هي خمس وهي خمسون الحسنة بعشر أمثالها فحصل له التكليم من الرب عز وجل ليلتئذ، وأئمة السنة كالمطبقين على هذا، واخلفوا في الرؤية فقال بعضهم‏:‏ رآه بفؤاده مرتين قاله ابن عباس وطائفة‏:‏ وأطلق ابن عباس وغيره الرؤية وهو محمول على التقييد‏.‏

وممن أطلق الرؤية‏:‏ أبو هريرة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما، وصرح بعضهم بالرؤية بالعينين وأختاره ابن جرير وبالغ فيه وتبعه على ذلك آخرون من المتأخرين‏.‏

وممن نص على الرؤية بعيني رأسه‏:‏ الشيخ أبو الحسن الأشعري فيما نقله السهيلي عنه، واختاره الشيخ أبو زكريا النووي في ‏(‏فتاويه‏)‏‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لم يقع ذلك لحديث أبي ذر في صحيح مسلم‏.‏

قلت يا رسول الله‏:‏ هل رأيت ربك‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏نورٌ أنَّى أراه‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏‏(‏رأيت نوراً‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ ولم يكن رؤية الباقي بالعين الفانية ولهذا قال الله تعالى لموسى فيما روي في بعض الكتب الإلهية‏:‏ ‏(‏‏(‏يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده‏)‏‏)‏‏.‏

والخلاف في هذه المسألة مشهور بين السلف والخلف والله أعلم‏.‏

ثم هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس والظاهر أن الأنبياء هبطوا معه تكريماً له وتعظيماً عند رجوعه من الحضرة الإلهية العظيمة كما هي عادة الوافدين لا يجتمعون بأحد قبل الذي طلبوا إليه، ولهذا كان كلما مرَّ على واحد منهم يقول له جبريل - عندما يتقدم ذاك للسلام عليه -‏:‏ هذا فلان فسلم عليه، فلو كان قد اجتمع بهم قبل صعوده لما احتاج إلى تعرف بهم مرة ثانية‏.‏

ومما يدل على ذلك أنه قال‏:‏ فلما حانت الصلاة‏:‏ أممتهم‏.‏

ولم يحن وقت إذ ذاك إلا صلاة الفجر فتقدمهم إماماً بهم عن أمر جبريل فيما يرويه عن ربه عز وجل، فاستفاد بعضهم من هذا أن الإمام الأعظم يقدم في الإمامة على رب المنزل حيث كان بيت المقدس محلتهم ودار إقامتهم‏.‏

ثم خرج منه فركب البراق وعاد إلى مكة فأصبح بها وهو في غاية الثبات والسكينة والوقار‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/140‏)‏‏.‏

وقد عاين في تلك الليلة من الآيات والأمور التي لو رآها - أو بعضها - غيره لأصبح مندهشاً أو طائش العقل، ولكنه صلى الله عليه وسلم أصبح واجماً - أي‏:‏ ساكناً - يخشى إن بدأ فأخبر قومه بما رأى أن يبادروا إلى تكذيبه، فتلطف بإخبارهم أولاً بأنه جاء بيت المقدس في تلك الليلة وذلك أن أبا جهل - لعنه الله - رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام وهو جالس واجم‏.‏

فقال له‏:‏ هل من خبر‏؟‏

فقال‏:‏ نعم ‏!‏

فقال‏:‏ ما هو‏؟‏

فقال‏:‏ إني أسري بي الليلة إلى بيت المقدس‏.‏

قال‏:‏ إلى بيت المقدس ‏!‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ أرأيت إن دعوت قومك لك لتخبرهم أتخبرهم بما أخبرتني به‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

فأراد أبو جهل جمع قريش ليسمعوا منه ذلك وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم ليخبرهم ذلك ويبلغهم‏.‏

فقال أبو جهل‏:‏ هيا معشر قريش وقد اجتمعوا من أنديتهم‏.‏

فقال‏:‏ أخبر قومك بما أخبرتني به‏.‏

فقص عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى وأنه جاء بيت المقدس هذه الليلة وصلى فيه، فمن بين مصفق وبين مصفر تكذيباً له واستبعاداً لخبره وطار الخبر بمكة وجاء الناس إلى أبي بكر رضي الله عنه فأخبروه أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا‏.‏

فقال‏:‏ إنكم تكذبون عليه‏.‏

فقالوا‏:‏ والله إنه ليقوله‏.‏

فقال‏:‏ إن كان قاله فلقد صدق‏.‏

ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله مشركي قريش فسأله عن ذلك فأخبره فاستعلمه عن صفات بيت المقدس ليسمع المشركون ويعلموا صدقه فيما أخبرهم به‏.‏

وفي ‏(‏الصحيح‏)‏ أن المشركين هم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك‏.‏

قال‏:‏ فجعلت أخبرهم عن آياته فالتبس علي بعض الشيء، فجلى الله لي بيت المقدس حتى جعلت أنظر إليه دون دار عقيل وأنعته لهم‏.‏

فقال‏:‏ أما الصفة‏:‏ فقد أصاب‏.‏

وذكر ابن إسحاق ما تقدم من إخباره لهم بمروره بعيرهم وما كان من شربه مائهم، فأقام الله عليهم الحجة واستنارت لهم المحجة، فآمن من آمن على يقين من ربه وكفر من كفر بعد قيام الحجة عليه‏.‏

كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 60‏]‏ أي‏:‏ اختباراً لهم وامتحاناً‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ هي رؤيا عين أُريها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا مذهب جمهور السلف والخلف من أن الإسراء كان ببدنه وروحه صلوات الله وسلامه عليه كما دل على ذلك ظاهر السياقات من ركوبه وصعوده في المعراج وغير ذلك‏.‏

ولهذا قال فقال‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏ والتسبيح إنما يكون عند الآيات العظيمة الخارقة فدلَّ على أنه بالروح والجسد والعبد عبارة عنهما‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/141‏)‏‏.‏

وأيضاً فلو كان مناماً لما بادر كفار قريش إلى التكذيب به والاستبعاد له إذ ليس في ذلك كبير أمر، فدلَّ على أنه أخبرهم بأنه أسري به يقظة لا مناماً‏.‏

وقوله في حديث شريك عن أنس‏:‏ ثم استيقظت فإذا أنا في الحجر معدود في غلطات شريك أو محمول على أن الانتقال من حال إلى حال يسمى يقظة كما سيأتي في حديث عائشة رضي الله عنها حين ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف فكذبوه، قال‏:‏ فرجعت مهموماً فلم استفق إلا بقرن الثعالب‏.‏

وفي حديث أبي أسيد حين جاء بابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحنكه فوضعه على فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتغل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديث مع الناس فرفع أبو أسيد ابنه، ثم استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجد الصبي فسأل عنه فقالوا‏:‏ رفع فسماه المنذر، وهذا الحمل أحسن من التغليط والله أعلم‏.‏

وقد حكى ابن إسحاق فقال‏:‏ حدثني بعض آل أبي بكر عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تقول‏:‏ ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الله أسرى بروحه‏.‏

قال‏:‏ وحدثني يعقوب بن عتبة أن معاوية كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ كانت رؤيا من الله صادقة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلم ينكر ذلك من قولهما لقول الحسن إن هذه الآية نزلت في ذلك‏:‏ ‏{‏وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس‏}‏ وكما قال إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك‏}‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏‏(‏تنام عيني وقلبي يقظان‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فالله أعلم أي ذلك كان، قد جاءه، وعاين فيه ما عاين من أمر الله تعالى، على أي حالة كان نائماً أو يقظاناً كل ذلك حق وصدق‏.‏

قلت‏:‏ وقد توقف ابن إسحاق في ذلك وجوَّز كلاً من الأمرين من حيث الجملة، ولكن الذي لا يشك فيه ولا يتمارى أنه كان يقظاناً لا محالة لما تقدم وليس مقتضى كلام عائشة رضي الله عنها أن جسده صلى الله عليه وسلم ما فقد، وإنما كان الإسراء بروحه أن يكون مناماً كما فهمه ابن إسحاق، بل قد يكون وقع الإسراء بروحه حقيقة وهو يقظان لا نائم وركب البراق وجاء بيت المقدس وصعد السموات وعاين ما عاين حقيقة ويقظة لا مناماً‏.‏

لعل هذا مراد عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، ومراد من تابعها على ذلك، لا ما فهمه ابن إسحاق من أنهم أرادوا بذلك المنام والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/142‏)‏‏.‏

تنبيه‏:‏ ونحن لا ننكر وقوع منام قبل الإسراء طبق ما وقع بعد ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وقد تقدم مثل ذلك في حديث بدء الوحي أنه رأى مثل ما وقع له يقظة مناماً قبله ليكون ذلك من باب الإرهاص والتوطئة والتثبت والإيناس والله أعلم‏.‏

ثم قد اختلف العلماء في أن الإسراء والمعراج هل كانا في ليلة واحدة أو كل في ليلة على حدة ‏؟‏

فمنهم من يزعم أن‏:‏ الإسراء في اليقظة، والمعراج‏:‏ في المنام‏.‏

وقد حكى المهلب بن أبي صفرة في شرحه البخاري عن طائفة أنهم ذهبوا إلى أن‏:‏ الإسراء مرتين مرة بروحه مناماً، ومرة ببدنه وروحه يقظة‏.‏

وقد حكاه الحافظ أبو القاسم السهيلي عن شيخه أبي بكر بن العربي الفقيه‏.‏

قال السهيلي‏:‏ وهذا القول يجمع الأحاديث فإن في حديث شريك عن أنس وذلك فيما يرى قلبه وتنام عيناه ولا ينام قلبه‏.‏

وقال في آخره‏:‏ ثم استيقظت فإذا أنا في الحجر وهذا منام، ودلَّ غيره على اليقظة، ومنهم من يدعي تعدد الإسراء في اليقظة أيضاً حتى قال بعضهم‏:‏ إنها أربع إسراءات‏.‏

وزعم بعضهم‏:‏ أن بعضها كان بالمدينة، وقد حاول الشيخ شهاب الدين أبو شامة رحمه الله أن يوفق بين اختلاف ما وقع في روايات حديث الإسراء بالجمع المتعدد فجعل ثلاث إسراءات، مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط على البراق، ومرة من مكة إلى السماء على البراق أيضاً لحديث حذيفة، ومرة من مكة إلى بيت المقدس ثم إلى السموات‏.‏

فنقول‏:‏ إن كان إنما حمله على القول بهذه الثلاث اختلاف الروايات فقد اختلف لفظ الحديث في ذلك على أكثر من هذه الثلاث صفات ومن أراد الوقوف على ذلك فلينظر فيما جمعناه مستقصياً في كتابنا التفسير عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً‏}‏ وإن كان إنما حمله أن التقسيم انحصر في ثلاث صفات بالنسبة إلى بيت المقدس وإلى السموات فلا يلزم من الحصر العقلي والوقوع كذلك في الخارج إلا بدليل والله أعلم‏.‏

والعجب أن الإمام أبا عبد الله البخاري رحمه الله ذكر الإسراء بعد ذكره موت أبي طالب فوافق ابن إسحاق في ذكره المعراج في أواخر الأمر، وخالفه في ذكره بعد موت أبي طالب، وابن إسحاق أخَّر ذكر موت أبي طالب على الإسراء، فالله أعلم أي ذلك كان‏.‏

والمقصود أن البخاري فرَّق بين الإسراء وبين المعراج فبوب لكل واحد منهما باباً على حدة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/143‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ باب حديث الإسراء وقول الله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً‏}‏‏.‏

حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال‏:‏ سمعت جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لما كذبتني قريش كنت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أحدثهم عن آياته وأنا أنظر إليه‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث الزهري عن أبي سلمة عن جابر به‏.‏

ورواه مسلم والنسائي والترمذي من حديث عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ باب حديث المعراج‏:‏ حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة أن النبي صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بينما أنا في الحطيم - وربما قال في الحجر - مضجعاً إذ أتاني آت‏)‏‏)‏

فقال‏:‏ وسمعته يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏فشق ما بين هذه إلى هذه‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت للجارود وهو إلى جنبي ما يعني به‏.‏

قال‏:‏ من نقرة نحره إلى شعرته، وسمعته يقول‏:‏ من قصه إلى شعرته‏.‏

‏(‏‏(‏فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيماناً، فغسل قلبي ثم حشي ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض‏)‏‏)‏‏.‏

فقال الجارود‏:‏ وهو البراق يا أبا حمزة‏؟‏

قال أنس‏:‏ نعم ‏!‏‏:‏ ‏(‏‏(‏يضع خطوه عند أقصى طرفه، فحملت عليه، فانطلق بي جبرائيل حتى أتى السماء الدنيا، فاستفتح‏.‏

قيل‏:‏ من هذا‏؟‏

قال‏:‏ جبرائيل‏.‏

قيل‏:‏ ومن معك‏؟‏

قال‏:‏ محمد‏.‏

قيل‏:‏ وقد أرسل إليه‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قيل‏:‏ مرحباً به فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم‏.‏

فقال‏:‏ هذا أبوك آدم، فسلِّم عليه فسلمت عليه فردَّ السلام‏.‏

ثم قال‏:‏ مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح‏.‏

ثم صعد بي إلى السماء الثانية فاستفتح‏.‏

قيل‏:‏ من هذا‏؟‏

قال‏:‏ جبرائيل‏.‏

قيل‏:‏ ومن معك‏؟‏

قال‏:‏ محمد‏.‏

قيل‏:‏ وقد أرسل إليه‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قيل‏:‏ مرحباً به فنعم المجيء جاء‏.‏

ففتح فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة‏.‏

قال‏:‏ هذا يحيى وعيسى فسلِّم عليهما فسلمت عليهما فردا‏.‏

ثم قالا‏:‏ مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح‏.‏

ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح جبرائيل‏.‏

قيل‏:‏ من هذا‏؟‏

قال‏:‏ جبرائيل‏.‏

قال‏:‏ ومن معك‏؟‏

قال‏:‏ محمد‏.‏

قيل‏:‏ وقد أرسل إليه‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قيل‏:‏ مرحباً به فنعم المجيء جاء‏.‏

ففتح فلما خلصت إذا يوسف قال‏:‏ هذا يوسف فسلِّم عليه، فسلمت عليه فرد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/144‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح‏.‏

ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح‏.‏

قيل‏:‏ من هذا ‏؟‏

قال‏:‏ جبرائيل‏.‏

قال‏:‏ ومن معك‏؟‏

قال‏:‏ محمد‏.‏

قيل‏:‏ وقد أرسل إليه‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قيل‏:‏ مرحباً به فنعم المجيء جاء‏.‏

فلما خلصت إذا إدريس، قال‏:‏ هذا إدريس فسلِّم عليه فسلمت فرد‏.‏

ثم قال‏:‏ مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح‏.‏

ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح‏.‏

قيل‏:‏ من هذا‏؟‏

قال‏:‏ جبرائيل‏.‏

قيل‏:‏ ومن معك‏؟‏

قال‏:‏ محمد‏.‏

قيل‏:‏ وقد أرسل إليه‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قيل‏:‏ مرحباً به فنعم المجيء جاء‏.‏

فلما خلصت إذا هارون قال‏:‏ هذا هارون فسلِّم عليه فسلمت عليه فرد‏.‏

ثم قال‏:‏ مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح‏.‏

ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح‏.‏

فقيل‏:‏ من هذا‏؟‏

قال‏:‏ جبرائيل‏.‏

قيل‏:‏ ومن معك‏؟‏

قال‏:‏ محمد‏.‏

قيل‏:‏ وقد أرسل إليه‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قيل‏:‏ مرحباً به فنعم المجيء جاء‏.‏

فلما خلصت إذا موسى قال‏:‏ هذا موسى فسلِّم عليه، فسلمت عليه فرد‏.‏

ثم قال‏:‏ مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح‏.‏

فلما تجاوزت بكى، فقيل له‏:‏ ما يبكيك‏؟‏

قال‏:‏ أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر من يدخلها من أمتي‏.‏

ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبرائيل‏.‏

قيل‏:‏ من هذا‏؟‏

قال‏:‏ جبرائيل‏.‏

قيل‏:‏ ومن معك‏؟‏

قال‏:‏ محمد‏.‏

قيل‏:‏ وقد بعث إليه‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قيل‏:‏ مرحباً به فنعم المجيء جاء‏.‏

فلما خلصت إذا إبراهيم قال‏:‏ هذا أبوك إبراهيم فسلِّم عليه، فسلمت عليه فرد السلام‏.‏

ثم قال‏:‏ مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح‏.‏

ثم رفعت إلى سدرة المنتهى وإذا أربعة أنهار؛ نهران ظاهران، ونهران باطنان‏.‏

فقلت‏:‏ ما هذا يا جبرائيل‏؟‏

قال‏:‏ أما الباطنان‏:‏ فنهران في الجنة، وأما الظاهران‏:‏ فالنيل والفرات‏.‏

ثم رفع لي البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن‏.‏

قال‏:‏ هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك‏.‏

ثم فرض عليَّ الصلوات خمسون صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى فقال‏:‏ بما أمرت‏؟‏

قال‏:‏ أمرت بخمسين صلاة كل يوم‏.‏

قال‏:‏ إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة؛ فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشراً‏.‏

فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشراً‏.‏

فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشراً‏.‏

فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم‏.‏

فرجعت إلى موسى فقال‏:‏ بم أمرت‏؟‏

فقلت‏:‏ بخمس صلوات كل يوم‏.‏

قال‏:‏ إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك‏.‏

قال‏:‏ سألت ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم‏.‏

قال‏:‏ فلما جاوزت ناداني مناد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي‏)‏‏)‏‏.‏

هكذا روى البخاري هذا الحديث ههنا‏.‏

وقد رواه في مواضع أخر من ‏(‏صحيحه‏)‏ ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن قتادة عن أنس بن مالك بن صعصعة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/145‏)‏‏.‏

ورويناه من حديث أنس بن مالك عن أبي بن كعب‏.‏

ومن حديث أنس عن أبي ذر‏.‏

ومن طرق كثيرة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد ذكرنا ذلك مستقصى بطرقه وألفاظه في التفسير، ولم يقع في هذا السياق ذكر بيت المقدس، وكان بعض الرواة يحذف بعض الخبر للعلم به، أو ينساه أو يذكر ما هو الأهم عنده، أو يبسط تارة فيسوقه كله، وتارة يحذف عن مخاطبه بما هو الأنفع عنده‏.‏

ومن جعل كل رواية إسراد على حدة كما تقدم عن بعضهم فقد أبعد جداً‏.‏

وذلك أن كل السياقات فيها السلام على الأنبياء، وفي كل منها يعرفه بهم، وفي كلها يفرض عليه الصلوات‏.‏

فكيف يمكن أن يدعي تعدد ذلك‏؟‏ هذا في غاية البعد والاستحالة والله أعلم‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا الحميدي حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 60‏]‏ قال‏:‏ هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس، والشجرة الملعونة في القرآن، قال‏:‏ هي شجرة الزقوم‏.‏

 فصل نزول فرضية الصلاة صبيحة الإسراء‏.‏

ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من صبيحة ليلة الإسراء جاءه جبرائيل عند الزوال فبين له كيفية الصلاة وأوقاتها، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فاجتمعوا وصلى به جبرائيل في ذلك اليوم إلى الغد، والمسلمون يأتمون بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقتدي بجبرائيل كما جاء في الحديث عن ابن عباس وجابر‏:‏ ‏(‏‏(‏أمني جبرائيل عند البيت مرتين‏)‏‏)‏‏.‏

فبيـَّن له الوقتين الأول والآخر فهما وما بينهما الوقت الموسع، ولم يذكر توسعة في وقت المغرب‏.‏

وقد ثبت ذلك في حديث أبي موسى، وبريدة، وعبد الله بن عمرو، وكلها في ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ وموضع بسط ذلك في كتابنا ‏(‏الأحكام‏)‏ ولله الحمد‏.‏

فأما ما ثبت في ‏(‏صحيح البخاري‏)‏ عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت‏:‏ ‏(‏‏(‏فرضت الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر‏)‏‏)‏‏.‏

وكذا رواه الأوزاعي عن الزهري، ورواه الشعبي عن مسروق عنها وهذا مشكل من جهة أن عائشة كانت تتم الصلاة في السفر وكذا عثمان بن عفان وقد تكلمنا على ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 101‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/146‏)‏‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وقد ذهب الحسن البصري إلى أن صلاة الحضر أول ما فرضت أربعاً كما ذكره مرسلاً من صلاته عليه السلام صبيحة الإسراء‏:‏ الظهر أربعاً، والعصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً يجهر في الأوليين، والعشاء أربعاً يجهر في الأوليين، والصبح ركعتين يجهر فيهما‏.‏

قلت‏:‏ فلعل عائشة أرادت أن الصلاة كانت قبل الإسراء تكون ركعتين ركعتين، ثم لما فرضت الخمس فرضت حضراً على ما هي عليه، ورخص في السفر أن يصلى ركعتين كما كان الأمر عليه قديماً وعلى هذا لا يبقى إشكال بالكلية والله أعلم‏.‏

 فصل في انشقاق القمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وجعل الله له آية على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الهدى ودين الحق حيث كان ذلك وقت إشارته الكريمة، قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز‏:‏ ‏{‏اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 1-3‏]‏‏.‏

وقد أجمع المسلمون على وقوع ذلك في زمنه عليه الصلاة والسلام، وجاءت بذلك الأحاديث المتواترة من طرق متعددة تفيد القطع عند من أحاط بها ونظر فيها‏.‏

ونحن نذكر من ذلك ما تيسر إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان‏.‏

وقد تقصينا ذلك في كتابنا التفسير فذكرنا الطرق والألفاظ محررة، ونحن نشير ههنا إلى أطراف من طرقها ونعزوها إلى الكتب المشهورة بحول الله وقوته‏.‏

وذلك مروي عن أنس بن مالك، وجبير بن مطعم، وحذيفة، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

أما أنس فقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال‏:‏ سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية فانشق القمر بمكة مرتين‏.‏

فقال‏:‏ ‏{‏اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 1‏]‏‏.‏

ورواه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به وهذا من مرسلات الصحابة‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 3/147‏)‏‏.‏

والظاهر أنه تلقاه عن الجم الغفير من الصحابة، أو عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن الجميع، وقد روى البخاري ومسلم هذا الحديث من طريق شيبان‏.‏

زاد البخاري وسعيد بن أبي عروبة، وزاد مسلم وشعبة ثلاثتهم عن قتادة عن أنس‏:‏ أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما، لفظ البخاري‏.‏

وأما جبير بن مطعم فقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سليمان بن كثير، عن حصين ابن عبد الرحمن عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال‏:‏ انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين، فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل‏.‏

فقالوا‏:‏ سحرنا محمد ‏!‏

فقالوا‏:‏ إن كان سحرنا؛ فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم‏.‏

تفرد به أحمد‏.‏

وهكذا رواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل وغيره عن حصين به‏.‏

وقد رواه البيهقي من طريق إبراهيم بن طهمان، وهشيم كلاهما عن حصين بن عبد الرحمن، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه عن جده به فزاد رجلاً في الإسناد‏.‏

وأما حذيفة بن اليمان‏:‏ فروى أبو نعيم في ‏(‏الدلائل‏)‏ من طريق عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي‏.‏

قال‏:‏ خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال‏:‏ ‏{‏اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 1‏]‏‏.‏ ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغداً السباق‏.‏

فلما كانت الجمعة الثانية انطلقت مع أبي إلى الجمعة فحمد الله وقال مثله وزاد ألا وإن السابق من سبق إلى الجمعة، فلما كنا في الطريق قلت لأبي‏:‏ ما يعني بقوله - غداً السباق - قال‏:‏ من سبق إلى الجنة‏.‏

وأما ابن عباس فقال البخاري‏:‏ حدثنا يحيى بن بكير حدثنا بكر عن جعفر بن ربيعة، عن عراك بن مالك، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال‏:‏ إن القمر انشق في زمان النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ورواه البخاري أيضاً ومسلم من حديث بكر - وهو ابن مضر - عن جعفر قوله‏:‏ ‏{‏اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 1-2‏]‏‏.‏

قال‏:‏ قد مضى ذلك كان قبل الهجرة انشق القمر حتى رأوا شقيه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/148‏)‏‏.‏

وهكذا رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه وهو من مرسلاته‏.‏

وقال الحافظ أبو نعيم‏:‏ حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا بكر بن سهيل، حدثنا عبد الغني بن سعيد، حدثنا موسى بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، وعن مقاتل عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏اقتربت الساعة وانشق القمر‏}‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم‏:‏ الوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل، والعاص بن هشام، والأسود ابن عبد يغوث، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وزمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث، ونظراؤهم كثير فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن كنت صادقاً فشق لنا القمر فرقتين نصفاً على أبي قبيس ونصفاً على قعيقعان‏.‏

فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن فعلت تؤمنوا‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ نعم‏!‏ وكانت ليلة بدر، فسأل الله عز وجل أن يعطيه ما سألوا، فأمسى القمر وقد سلب نصفاً على أبي قبيس ونصفاً على قعيقعان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي يا أبا سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن الأرقم اشهدوا‏.‏

ثم قال أبو نعيم‏:‏ وحدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا الحسن بن العباس الرازي عن الهيثم بن العمان، حدثنا إسماعيل بن زياد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال‏:‏ انتهى أهل مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ هل من آية نعرف بها أنك رسول الله‏؟‏

فهبط جبرائيل فقال يا محمد‏:‏ قل لأهل مكة أن يحتفلوا هذه الليلة فسيروا آية إن انتفعوا بها‏.‏

فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالة جبرائيل فخرجوا ليلة الشق ليلة أربع عشرة فانشق القمر نصفين نصفاً على الصفا ونصفاً على المروة فنظروا، ثم قالوا بأبصارهم فمسحوها، ثم أعادوا النظر فنظروا، ثم مسحوا أعينهم ثم نظروا فقالوا‏:‏ يا محمد ما هذا إلا سحر واهب، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏اقتربت الساعة وانشق القمر‏}‏‏.‏

ثم روى الضحاك عن ابن عباس قال‏:‏ جاءت أحبار اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ أرنا آية حتى نؤمن بها، فسأل ربه فأراهم القمر قد انشق بجزئين؛ أحدهما على الصفا والآخر على المروة، قدر ما بين العصر إلى الليل ينظرون إليه ثم غاب‏.‏

فقالوا‏:‏ هذا سحر مفترى‏.‏

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا أحمد بن عمرو الرزاز، حدثنا محمد بن يحيى القطعي، حدثنا محمد بن بكر، حدثنا ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ سحر القمر فنزلت‏:‏ ‏{‏اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا هذا سحر مستمر‏}‏‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 3/149‏)‏‏.‏

وهذا إسناد جيد وفيه أنه‏:‏ كسف تلك الليلة فلعله حصل له انشقاق في ليلة كسوفه، ولهذا خفي أمره على كثير من أهل الأرض، ومع هذا قد شوهد ذلك في كثير من بقاع الأرض‏.‏

ويقال‏:‏ إنه أرخ ذلك في بعض بلاد الهند، وبني بناء تلك الليلة وأرخ بليلة انشقاق القمر‏.‏

وأما ابن عمر‏:‏ فقال الحافظ البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي قالا‏:‏ حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا وهب بن جرير، عن شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد به‏.‏

قال مسلم‏:‏ كرواية مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏

وأما عبد الله بن مسعود فقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود قال‏:‏ انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين حتى نظروا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اشهدوا‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا أخرجاه من حديث سفيان - وهو ابن عيينة - به‏.‏

ومن حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن عبد الله بن سمرة، عن ابن مسعود قال‏:‏ انشق القمر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اشهدوا‏)‏‏)‏‏.‏

وذهبت فرقة نحو الجبل‏.‏ لفظ البخاري‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ وقال أبو الضحاك، عن مسروق، عن عبد الله - بمكة - وتابعه محمد بن مسلم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله رضي الله عنه‏.‏

وقد أسند أبو داود الطيالسي حديث أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت قريش‏:‏ هذا سحر ابن أبي كبشة‏.‏

فقالوا‏:‏ انظروا ما يأتيكم به السفار‏؟‏ فإن محمداً لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم‏.‏

قال‏:‏ فجاء السفار فقالوا ذلك‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا هشيم، حدثنا مغيرة، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله قال‏:‏ انشق القمر بمكة حتى صار فرقتين، فقال كفار قريش لأهل مكة‏:‏ هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة، انظروا السفار فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به‏.‏

قال فسئل السفار قال - وقدموا من كل وجهة - فقالوا رأينا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/150‏)‏‏.‏

وهكذا رواه أبو نعيم‏:‏ من حديث جابر، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا مؤمل، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله - وهو ابن مسعود - قال‏:‏ انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت الجبل بين فرجتي القمر‏.‏

وهكذا رواه ابن جرير‏:‏ من حديث أسباط، عن سماك به‏.‏

وقال الحافظ أبو نعيم‏:‏ حدثنا أبو بكر الطلحي، حدثنا أبو حصين محمد بن الحسين الوادعي، حدثنا يحيى الحماني، حدثنا يزيد، عن عطاء، عن سماك، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال‏:‏ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى وانشق القمر حتى صار فرقتين فرقة خلف الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اشهدوا اشهدوا‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أبو نعيم‏:‏ حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا جعفر بن محمد القلانسي، حدثنا آدم بن أبي إياس، ثنا الليث بن سعد، حدثنا هشام بن سعد، عن عتبة، عن عبد الله بن عتبة، عن ابن مسعود قال‏:‏ انشق القمر ونحن بمكة، فلقد رأيت أحد شقيه على الجبل الذي بمنى ونحن بمكة‏.‏

وحدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو بكر بن أبي عاصم، حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال‏:‏ انشق القمر بمكة فرأيته فرقتين‏.‏

ثم روى من حديث علي بن سعيد بن مسروق، حدثنا موسى بن عمير، عن منصور بن المعتمر، عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ رأيت القمر والله منشقاً باثنتين بينهما حراء‏.‏

وروى أبو نعيم من طريق السدي الصغير، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال‏:‏ انشق القمر فلقتين فلقة ذهبت، وفلقة بقيت‏.‏

قال ابن مسعود‏:‏ لقد رأيت جبل حراء بين فلقتي القمر، فذهب فلقة، فتعجب أهل مكة من ذلك وقالوا‏:‏ هذا سحر مصنوع سيذهب‏.‏

وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد قال‏:‏ انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر‏:‏ ‏(‏‏(‏فاشهد يا أبا بكر‏)‏‏)‏‏.‏

وقال المشركون‏:‏ سحر القمر حتى انشق‏.‏

فهذه طرق متعددة قوية الأسانيد تفيد القطع لمن تأملها، وعرف عدالة رجالها، وما يذكره بعض القصَّاص من أن القمر سقط إلى الأرض حتى دخل في كم النبي صلى الله عليه وسلم وخرج من الكم الآخر فلا أصل له، وهو كذب مفترى ليس بصحيح‏.‏

والقمر حين انشق لم يزايل السماء، غير أنه حين أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم انشق عن إشارته فصار فرقتين، فسارت واحدة حتى صارت من وراء حراء، ونظروا إلى الجبل بين هذه وهذه كما أخبر بذلك ابن مسعود أنه شاهد ذلك‏.‏

وما وقع في رواية أنس في ‏(‏مسند أحمد‏)‏‏:‏ فانشق القمر بمكة مرتين فيه نظر، والظاهر أنه أراد فرقتين، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/151‏)‏‏.‏