فصل: فصل‏:‏ في كيفية إتيان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


الجزء الثالث

 باب كيفية بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم

باب كيف بدأ الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أول شيء أنزل عليه من القرآن العظيم‏.‏

كان ذلك وله صلى الله عليه وسلم من العمر أربعون سنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/5‏)‏

وحكى ابن جرير عن ابن عباس وسعيد بن المسيب‏:‏ أنه كان عمره إذ ذاك ثلاثاً وأربعين سنة‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏

أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح؛ ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء‏.‏

فجاءه الملك فقال‏:‏ اقرأ‏.‏

فقال‏:‏ ما أنا بقارئ‏.‏

قال‏:‏ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني‏.‏

فقال‏:‏ اقرأ‏.‏

فقلت‏:‏ ما أنا بقارئ‏.‏ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني‏.‏

فقال‏:‏ اقرأ‏.‏

فقلت‏:‏ ما أنا بقارئ‏.‏ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد‏.‏

ثم أرسلني فقال‏:‏

{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏سورة العلق‏:‏ 1-5‏]‏‏.‏

فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال‏:‏ زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع‏.‏

فقال لخديجة وأخبرها الخبر‏:‏ لقد خشيت على نفسي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/ 6‏)‏

فقالت خديجة‏:‏ كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق‏.‏

فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، ابن عم خديجة‏.‏

وكان امرأ قد تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي‏.‏

فقالت له خديجة‏:‏ يا ابن عم ‏!‏ اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة‏:‏ يا ابن أخي ماذا ترى‏؟‏ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما أُري‏.‏

فقال له ورقة‏:‏ هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً، إذ يخرجك قومك‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏أو مخرجي هم‏؟‏‏)‏‏)‏

فقال‏:‏ نعم، لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً‏.‏

ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي فترة، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزناً غدا منه مراراً كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه تبدَّى له جبريل فقال‏:‏ يا محمد إنك رسول الله حقاً، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه فيرجع‏.‏ فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا كمثل ذلك‏.‏

قال‏:‏ فإذا أوفى بذروة جبل تبدَّى له جبريل فقال له‏:‏ مثل ذلك‏.‏

هكذا وقع مطولاً في باب التعبير من البخاري‏.‏

قال ابن شهاب‏:‏ وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال - وهو يحدث عن فترة الوحي - فقال في حديثه‏:‏

‏(‏‏(‏بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه فرجعت، فقلت‏:‏ زملوني، زملوني‏.‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ‏}‏ ‏[‏سورة المدثر‏:‏ 1-5‏]‏ فحمي الوحي وتتابع‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ تابعه عبد الله بن يوسف، وأبو صالح، يعني عن الليث، وتابعه هلال بن رداد عن الزهري‏.‏

وقال يونس ومعمر‏:‏ بوادره‏.‏

وهذا الحديث قد رواه الإمام البخاري رحمه الله في كتابه في مواضع منه، وتكلمنا عليه مطولاً في أول شرح البخاري في كتاب بدء الوحي إسنادا ومتناً ولله الحمد والمنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/ 7‏)‏‏.‏

وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث الليث به، ومن طريق يونس ومعمر، عن الزهري كما علقه البخاري عنهما‏.‏

وقد رمزنا في الحواشي على زيادات مسلم ورواياته ولله الحمد، وانتهى سياقه إلى قول ورقة‏:‏ أنصرك نصراً مؤزراً‏.‏

فقول أم المؤمنين عائشة‏:‏ أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، يقوي ما ذكره محمد بن إسحاق بن يسار، عن عبيد بن عمر الليثي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏فجاءني جبريل، وأنا نائم، بنمط من ديباج فيه كتاب فقال‏:‏ اقرأ‏.‏

فقلت‏:‏ ما أقرأ‏؟‏ فغتني، حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني‏)‏‏)‏‏.‏

وذكر نحو حديث عائشة سواء، فكان هذا كالتوطئة لما يأتي بعده من اليقظة، وقد جاء مصرحاً بهذا في مغازي موسى بن عقبة، عن الزهري، أنه رأى ذلك في المنام، ثم جاءه الملك في اليقظة‏.‏

وقد قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتابه ‏(‏دلائل النبوة‏)‏‏:‏ حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جناب بن الحارث، حدثنا عبد الله بن الأجلح، عن إبراهيم، عن علقمة بن قيس قال‏:‏ إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام، حتى تهدأ قلوبهم، ثم ينزل الوحي بعد‏.‏

وهذا من قبل علقمة بن قيس نفسه‏.‏ وهو كلام حسن يؤيده ما قبله، ويؤيده ما بعده‏.‏

 عمره صلى الله عليه وسلم وقت بعثته وتاريخها

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن أبي عدي، عن داود بن أبي هند، عن عامر الشعبي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل القرآن، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة، عشراً بمكة وعشراً بالمدينة‏.‏ فمات وهو ابن ثلاث وستين سنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/ 8‏)‏‏.‏

فهذا إسناد صحيح إلى الشعبي، وهو يقتضي أن إسرافيل قرن معه بعد الأربعين ثلاث سنين ثم جاءه جبريل‏.‏

وأما الشيخ شهاب الدين أبو شامة فإنه قد قال‏:‏ وحديث عائشة لا ينافي هذا، فإنه يجوز أن يكون أول أمره الرؤيا‏.‏

ثم وكل به إسرافيل في تلك المدة التي كان يخلو فيها بحراء، فكان يلقي إليه الكلمة بسرعة ولا يقيم معه تدريجاً له وتمريناً إلى أن جاءه جبريل، فعلَّمه بعدما غطه ثلاث مرات، فحكت عائشة ما جرى له مع جبريل ولم تحك ما جرى له مع إسرافيل اختصاراً للحديث، أو لم تكن وقفت على قصة إسرافيل‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى بن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين، فمكث بمكة عشراً، وبالمدينة عشراً‏.‏

ومات وهو ابن ثلاث وستين، وهكذا روى يحيى بن سعيد، وسعيد بن المسيب‏.‏

ثم روى أحمد، عن غندر، ويزيد بن هارون، كلاهما عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال‏:‏ بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأُنزل عليه القرآن، وهو ابن أربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشر سنين‏.‏ ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أنبأنا عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس، قال‏:‏ أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة سنة‏:‏ سبع سنين يرى الضوء، ويسمع الصوت، وثماني سنين يوحى إليه، وأقام بالمدينة عشر سنين‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى عجائب قبل بعثته فمن ذلك‏:‏

ما في صحيح مسلم‏:‏ عن جابر بن سمرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلِّم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن‏)‏‏)‏‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الخلاء والانفراد عن قومه، لما يراهم عليه من الضلال المبين، من عبادة الأوثان، والسجود للأصنام، وقويت محبته للخلوة عند مقاربة إيحاء الله إليه صلوات الله وسلامه عليه‏.‏ ‏(‏ج/ ص‏:‏ 3/ 9‏)‏‏.‏

وقد ذكر محمد بن إسحاق، عن عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن حارثة - قال‏:‏ وكان واعية - عن بعض أهل العلم قال‏:‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى حراء في كل عام شهراً من السنة يتنسك فيه‏.‏ وكان من نسك قريش في الجاهلية، يطعم من جاءه من المساكين حتى إذا انصرف من مجاورته وقضائه لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة‏.‏

وهكذا روي عن وهب بن كيسان أنه سمع عبيد بن عمير يحدث عبد الله بن الزبير مثل ذلك، وهذا يدل على أن هذا كان من عادة المتعبدين في قريش، أنهم يجاورون في حراء للعبادة، ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المشهورة‏:‏

وثورٍ ومَن أرْسَى ثبيراً مَكانه * وراقٍ ليرقى في حِراءَ ونازِلِ

هكذا صوبه على رواية هذا البيت كما ذكره السهيلي، وأبو شامة، وشيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي رحمهم الله، وقد تصحف على بعض الرواة فقال فيه‏:‏ وراق ليرقى في حر ونازل - وهذا ركيك ومخالف للصواب والله أعلم‏.‏

وحراء‏:‏ يقصر ويمدّ ويصرف ويمنع، وهو جبل بأعلى مكة على ثلاثة أميال منها عن يسار المارّ إلى منى، له قلة مشرفة على الكعبة منحنية، والغار في تلك الحنية، وما أحسن ما قال رؤبة بن العجاج‏:‏

فَلا وربِّ الآمِناتِ القُطَّن * وربِّ رُكنٍ من حِراءَ مُنْحني

وقوله في الحديث‏:‏ والتحنث التعبد، تفسير بالمعنى، وإلا فحقيقة التحنث من حنث البِنْيَة فيما قاله السهيلي الدخول في الحنث، ولكن سمعت ألفاظ قليلة في اللغة معناها الخروج من ذلك الشيء‏.‏

كحنث‏:‏ أي خرج من الحنث، وتحوب، وتحرج، وتأثم، وتهجد هو ترك الهجود وهو‏:‏ النوم للصلاة، وتنجس وتقذر، أوردها أبو شامة‏.‏

وقد سئل ابن الأعرابي عن قوله يتحنث أي يتعبد‏.‏ فقال‏:‏ لا أعرف هذا إنما هو يتحنف من الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ والعرب تقول التحنث والتحنف يبدلون الفاء من الثاء، كما قالوا‏:‏ جدف وجذف كما قال رؤبة بن العجاج‏.‏ ‏(‏ج/ ص‏:‏ 3/10‏)‏‏.‏

لو كان أحجاري مع الأحذاف *

يريد الأجداث‏.‏ قال ابن هشام‏:‏ وحدثني أبو عبيدة أن العرب تقول‏:‏ فُمَّ في موضع ثمَّ‏.‏

قلت‏:‏ ومن ذلك قول بعض المفسرين وفومها أن المراد ثومها‏.‏

وقد اختلف العلماء في تعبده عليه السلام قبل البعثة هل كان على شرع أم لا‏؟‏ وما ذلك الشرع‏؟‏ فقيل‏:‏ شرع نوح، وقيل‏:‏ شرع إبراهيم، وهو الأشبه الأقوى‏.‏ وقيل‏:‏ موسى، وقيل‏:‏ عيسى، وقيل‏:‏ كل ما ثبت أنه شرع عنده اتبعه، وعمل به‏.‏

ولبسط هذه الأقوال ومناسباتها مواضع أخر في أصول الفقه‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ حتى فجئه الحق وهو بغار حراء‏:‏ أي جاء بغتة على غير موعد كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ‏}‏ الآية ‏[‏سورة القصص‏:‏ 86‏]‏‏.‏

وقد كان نزول صدر هذه السورة الكريمة وهي‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏سورة العلق‏:‏ 1-5‏]‏‏.‏

وهي أول ما نزل من القرآن كما قررنا ذلك في التفسير، وكما سيأتي أيضاً في يوم الاثنين كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ سئل عن صوم يوم الاثنين‏؟‏ فقال‏:‏

‏(‏‏(‏ذاك يوم ولدت فيه، ويوم أنزل عليّ فيه‏)‏‏)‏

وقال ابن عباس‏:‏ ولد نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ونبئ يوم الاثنين‏.‏

وهكذا قال عبيد بن عمير، وأبو جعفر الباقر، وغير واحد من العلماء‏:‏ أنه عليه الصلاة والسلام أوحي إليه يوم الاثنين، وهذا ما لا خلاف فيه بينهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3 /11‏)‏

ثم قيل‏:‏ كان ذلك في شهر ربيع الأول، كما تقدم عن ابن عباس وجابر، أنه ولد عليه السلام، في الثاني عشر من ربيع الأول يوم الاثنين، وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء، والمشهور أنه بعث عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان، كما نصَّ على ذلك عبيد بن عمير، ومحمد بن إسحاق، وغيرهما‏.‏

قال ابن إسحاق مستدلاً على ذلك بما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏‏.‏

فقيل في عشره‏.‏

وروى الواقدي بسنده عن أبي جعفر الباقر أنه قال‏:‏ كان ابتداء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، وقيل في الرابع والعشرين منه‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عمران أبو العوام، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة بن الأسقع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان‏)‏‏)‏‏.‏

وروى ابن مردويه في ‏(‏تفسيره‏)‏ عن جابر بن عبد الله مرفوعاً نحوه، ولهذا ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، إلى أن ليلة القدر ليلة أربع وعشرين‏.‏

وأما قول جبريل‏:‏ اقرأ‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما أنا بقارئ‏)‏‏)‏ فالصحيح أن قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏ما أنا بقارئ‏)‏‏)‏ نفي‏:‏ أي لست ممن يحسن القراءة‏.‏

وممن رجحه النووي، وقبله الشيخ أبو شامة، ومن قال‏:‏ إنها استفهامية فقوله بعيد؛ لأن الباء لا تزاد في الإثبات‏.‏

ويؤيد الأول رواية أبي نعيم من حديث المعتمر بن سليمان، عن أبيه‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو خائف يرعد - ‏(‏‏(‏ما قرأت كتاباً قط، ولا أحسنه، وما أكتب، وما أقرأ‏)‏‏)‏ فأخذه جبريل فغتَّه غتاً شديداً‏.‏ ثم تركه‏.‏

فقال له‏:‏ اقرأ‏.‏

فقال محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما أرى شيئاً أقرأه، و ما أقرأ، وما أكتب‏)‏‏)‏‏.‏

يروى ‏"‏فغطني‏"‏ كما في ‏(‏الصحيحين‏)‏، و‏"‏غتني‏"‏، ويروى ‏"‏قد غتني‏"‏‏:‏ أي خنقني حتى بلغ مني الجهد، يروى بضم الجيم، وفتحها، وبالنصب، وبالرفع، وفعل به ذلك ثلاثاً‏.‏

قال أبو سليمان الخطابي‏:‏ وإنما فعل ذلك به ليبلو صبره، ويحسن تأديبه، فيرتاض لاحتمال ما كلفه به من أعباء النبوة، ولذلك كان يعتريه مثل حال المحموم، وتأخذه الرحضاء‏:‏ أي البهر والعرق‏.‏

وقال غيره‏:‏ إنما فعل ذلك لأمور‏:‏

منها‏:‏ أن يستيقظ لعظمة ما يلقى إليه بعد هذا الصنيع المشق على النفوس‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً‏}‏ ‏[‏سورة المزمل‏:‏ 5‏]‏‏.‏

ولهذا كان عليه الصلاة والسلام إذا جاءه الوحي يحمرُّ وجهه، ويغطّ كما يغطّ البكر من الإبل، ويتفصد جبينه عرقاً في اليوم الشديد البرد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/12‏)‏

وقوله فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة يرجف فؤاده‏.‏

وفي رواية‏:‏ بوادره، جمع بادرة‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ وهي لحمة بين المنكب والعنق‏.‏

وقال غيره‏:‏ هو عروق تضطرب عند الفزع، وفي بعض الروايات ترجف بآدله واحدتها بادلة‏.‏ وقيل‏:‏ بادل، وهو ما بين العنق والترقوة، وقيل‏:‏ أصل الثدي، وقيل‏:‏ لحم الثديين، وقيل‏:‏ غير ذلك‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏زملوني، زملوني‏)‏‏)‏ فلما ذهب عنه الروع قال لخديجة‏:‏ ‏(‏‏(‏مالي‏؟‏ أي شيء عرض لي‏؟‏‏)‏‏)‏ وأخبرها ما كان من الأمر‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد خشيت على نفسي‏)‏‏)‏‏.‏ وذلك لأنه شاهد أمراً لم يعهده قبل ذلك‏.‏ ولا كان في خلده‏.‏ ولهذا قالت خديجة‏:‏ ابشر، كلا والله لا يخزيك الله أبداً‏.‏

قيل‏:‏ من الخزي، وقيل‏:‏ من الحزن، وهذا لعلمها بما أجرى الله به جميل العوائد في خلقه أن من كان متصفاً بصفات الخير لا يخزى في الدنيا، ولا في الآخرة، ثم ذكرت له من صفاته الجليلة ما كان من سجاياه الحسنة‏.‏

فقالت‏:‏ إنك لتصل الرحم، وتصدُق الحديث - وقد كان مشهوراً بذلك صلوات الله وسلامه عليه عند الموافق والمفارق - وتحمل الكلّ‏.‏ أي عن غيرك تعطي صاحب العيلة ما يريحه من ثقل مؤنة عياله‏.‏

وتكسب المعدوم‏:‏ أي تسبق إلى فعل الخير فتبادر إلى إعطاء الفقير فتكسب حسنته قبل غيرك، ويسمى الفقير معدوماً؛ لأن حياته ناقصة‏.‏ فوجوده وعدمه سواء كما قال بعضهم‏:‏

ليسَ من ماتَ فاستراحَ بميتٍ * إنما الميتُ ميِّتُ الأحياء

وقال أبو الحسن التهامي، فيما نقله عنه القاضي عياض في شرح مسلم‏:‏

عدَّ ذا الفقر ميتاً وكساهُ * كفناً بالياً ومأواه قـبرا

وقال الخطابي‏:‏ الصواب وتكسب المعدم، أي‏:‏ تبذل إليه، أو يكون تلبس العدم بعطيته مالاً يعيش به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/13‏)‏‏.‏

واختار شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي أن المراد بالمعدوم ههنا المال المعطى‏:‏ أي يعطى المال لمن هو عادمه‏.‏

ومن قال إن المراد أنك تكسب باتجارك المال المعدوم، أو النفيس القليل النظير، فقد أبعد النجعة، وأغرق في النزع، وتكلف ما ليس له به علم، فإن مثل هذا لا يمدح به غالباً، وقد ضعَّف هذا القول عياض، والنووي وغيرهما، والله أعلم‏.‏

وتقري الضيف‏:‏ أي تكرمه في تقديم قراه، وإحسان مأواه‏.‏

وتعين على نوائب الحق، ويروي الخير‏:‏ أي إذا وقعت نائبة لأحد في خير أعنت فيها، وقمت مع صاحبها حتى يجد سداداً من عيش أو قواماً من عيش‏.‏

وقوله‏:‏ ثم أخذتْه فانطلقت به إلى ابن عمها ورقة ابن نوفل، وكان شيخاً كبيراً قد عمي‏.‏

وقد قدَّمنا طرفاً من خبره مع ذكر زيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله‏.‏

وأنه كان ممن تنصر في الجاهلية، ففارقهم وارتحل إلى الشام، هو وزيد بن عمرو، وعثمان بن الحويرث، وعبيد الله بن جحش، فتنصروا كلهم؛ لأنهم وجدوه أقرب الأديان إذ ذاك إلى الحق، إلا زيد بن عمرو بن نفيل؛ فإنه رأى فيه دخلاً، وتخبيطاً، وتبديلاً، وتحريفاً، وتأويلاً، فأبت فطرته الدخول فيه أيضاً‏.‏

وبشروه الأحبار والرهبان بوجود نبي، قد أزف زمانه، واقترب أوانه، فرجع يتطلب ذلك، واستمر على فطرته، وتوحيده‏.‏

لكن اخترمته المنية قبل البعثة المحمدية‏.‏ وأدركها ورقة بن نوفل، وكان يتوسمها في رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قدمنا بما كانت خديجة تنعته له وتصفه له، وما هو منطوٍ عليه من الصفات الطاهرة الجميلة، وما ظهر عليه من الدلائل، والآيات‏.‏

ولهذا لما وقع ما وقع أخذت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت به إليه فوقفت به عليه، وقالت‏:‏ ابن عم اسمع من ابن أخيك‏.‏

فلما قص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى قال ورقة‏:‏ سبُّوح سبُّوح، هذا الناموس الذي أنزل على موسى، ولم يذكر عيسى، وإن كان متأخراً بعد موسى؛ لأنه كانت شريعته متممة، ومكملة لشريعة موسى عليهما السلام، ونسخت بعضها على الصحيح من قول العلماء‏.‏

كما قال‏:‏ ‏{‏وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ‏}

‏[‏آل عمران‏:‏ 50‏]‏‏.‏

وقول ورقة هذا كما قالت الجن‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏‏.‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 30‏]‏‏.‏

ثم قال ورقة‏:‏ يا ليتني فيها جذعاً أي يا ليتني أكون اليوم شاباً متمكناً من الإيمان، والعلم النافع، والعمل الصالح، يا ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك‏:‏ يعني حتى أخرج معك وأنصرك‏؟‏

فعندها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أو مخرجي هم‏؟‏‏)‏‏)‏

قال السهيلي‏:‏ وإنما قال ذلك؛ لأن فراق الوطن شديد على النفوس، فقال‏:‏ نعم ‏!‏إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3 /14‏)‏‏.‏

وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً‏:‏ أي أنصرك نصراً عزيزاً أبداً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏ثم لم ينشب ورقة أن توفي‏)‏‏)‏‏:‏ أي توفي بعد هذه القصة بقليل رحمه الله ورضي عنه، فإن مثل هذا الذي صدر عنه تصديق بما وجد، وإيمان بما حصل من الوحي، ونية صالحة للمستقبل‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسن، عن ابن لهيعة، حدثني أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة‏.‏ أن خديجة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ورقة بن نوفل فقال‏:‏

‏(‏‏(‏قد رأيته فرأيت عليه ثياب بياض، فأحسبه لو كان من أهل النار، لم يكن عليه ثياب بياض‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا إسناد حسن، لكن رواه الزهري، وهشام، عن عروة مرسلاً فالله أعلم‏.‏

وروى الحافظ أبو يعلى، عن شريح بن يونس، عن إسماعيل، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ورقة بن نوفل

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد رأيته فرأيت عليه ثياب بياض، أبصرته في بطنان الجنة، وعليه السندس‏)‏‏)‏‏.‏

وسئل عن زيد بن عمرو بن نفيل فقال‏:‏

‏(‏‏(‏يبعث يوم القيامة أمة وحده‏)‏‏)‏‏.‏

وسئل عن أبي طالب فقال‏:‏

‏(‏‏(‏أخرجته من غمرة من جهنم إلى ضحضاح منها‏)‏‏)‏‏.‏

وسئل عن خديجة لأنها ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أبصرتها على نهر في الجنة، في بيت من قصب، لا صخب فيه، ولا، نصب‏)‏‏)‏‏.‏

إسناد حسن، ولبعضه شواهد في ‏(‏الصحيح‏)‏، والله أعلم‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تسبوا ورقة؛ فإني رأيت له جنة، أو جنتين‏)‏‏)‏‏.‏

وكذا رواه ابن عساكر من حديث أبي سعيد الأشج، عن أبي معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة‏.‏

وهذا إسناد جيد، وروي مرسلاً وهو أشبه‏.‏

روى الحافظان البيهقي، وأبو نعيم، في كتابيهما ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ من حديث يونس بن بكير، عن يونس بن عمرو، عن أبيه، عن عمرو بن شرحبيل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة‏:‏ ‏(‏‏(‏إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء، وقد خشيت والله أن يكون لهذا أمر‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ معاذ الله ما كان ليفعل ذلك بك‏.‏ فوالله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/ 15‏)‏‏.‏

فلما دخل أبو بكر وليس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكرت له خديجة حديثه له فقالت‏:‏ يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده أبو بكر‏.‏

فقال انطلق بنا إلى ورقة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ومن أخبرك‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ خديجة‏.‏

فانطلقا إليه فقصا عليه‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي‏:‏ يا محمد يا محمد فأنطلق هارباً في الأرض‏)‏‏)‏‏.‏

فقال له لا تفعل‏.‏ إذا أتاك فاثبت، حتى تسمع ما يقول لك، ثم ائتني فأخبرني‏.‏

فلما خلا ناداه يا محمد قل‏:‏ ‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين‏}‏ حتى بلغ‏:‏ ‏{‏ولا الضالين‏}‏ قل لا إله إلا الله‏.‏

فأتى ورقة فذكر له ذلك، فقال له ورقة‏:‏ ابشر ثم ابشر‏.‏

فأنا أشهد أنك الذي بشَّر بك ابن مريم، وإنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل، وأنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا‏.‏

ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك‏.‏

فلما توفي ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير؛ لأنه آمن بي وصدقني‏)‏‏)‏‏.‏ يعني‏:‏ ورقة‏.‏

هذا لفظ البيهقي‏.‏ وهو مرسل وفيه غرابة، وهو كون الفاتحة أول ما نزل‏.‏

وقد قدمنا من شعره ما يدل على إضماره الإيمان، وعقده عليه، وتأكده عنده‏.‏

وذلك حين أخبرته خديجة ما كان من أمره مع غلامها ميسرة، وكيف كانت الغمامة تظلله في هجير القيظ‏.‏

فقال ورقة في ذلك أشعاراً قدمناها قبل هذا، منها قوله‏:‏

لججت وكنت في الذكرى لجوجاً * لأمرٍ طالما بعث النشيجا

ووصف من خديجة بعد وصفٍ * فقد طال انتظاري يا خديجا

ببطن المكَّتين على رجائي * حديثك أن أرى منه خروجا

بما أخبرتنا من قول قس * من الرهبان أكره أن يعوجا

بأن محمداً سيسود قوماً * ويخصم من يكون له حجيجا

ويظهر في البلاد ضياء نور * يقيم به البرية أن تعوجا

فيلقى من يحاربه خساراً * ويلقى من يسالمه فلوجا

فياليتي إذا ما كان ذاكم * شهدت وكنت أولهم ولوجا

ولو كان الذي كرهت قريش * ولو عجت بمكتها عجيجا

أرجّي بالذي كرهوا جميعاً * إلى ذي العرش إذ سلفوا عروجا

فإن يبقوا وأبق تكن أمور * يضج الكافرون لها ضجيجا

‏(‏ج/ص‏:‏ 3/16‏)‏‏.‏

وقال أيضاً في قصيدته الأخرى‏:‏

وأخبار صدق خبرت عن محمدٍ * يخِّبرها عنه إذا غاب ناصح

بأن ابن عبد الله أحمد مرسلٌ * إلى كل من ضمت عليه الأباطح

وظني به ٌأن سوف يبعث صادقاً * كما أرسل العبدان هود وصالح

وموسى وإبراهيم حتى يرى له * بهاء ومنشور من الحق واضح

ويتبعه حياً لؤي بن غالبٍ * شبابهم والأشيبون الجحاجح

فإن ابق حتى يدرك الناس دهره * فإني به مستبشر الودِّ فارح

وإلا فإني يا خديجة فاعلمي * عن أرضك في الأرض العريضة سائح‏.‏

وقال يونس عن بكير، عن ابن إسحاق قال ورقة‏:‏

فان يكُ حقاً يا خديجة فاعلمي * حديثك إيانا فأحمد مرسل

وجبريل يأتيه وميكال معهما * من الله وحي يشرح الصدر منزل

يفوز به من فاز فيها بتوبةٍ * ويشقى به العاني الغرير المضلَّل

فريقان منهم فرقة في جنانه * وأخرى بأحواز الجحيم تعلَّل

إذا ما دعوا بالويل فيها تتابعت * مقامع في هاماتهم ثم تشعل

فسبحان من يهوي الرياح بأمره * ومن هو في الأيام ما شاء يفعل

ومن عرشه فوق السموات كلها * واقضاؤه في خلقه لا تبدل

وقال ورقة أيضاً‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/17‏)‏

يا للرجال وصَرْف الدهر والقدر * وما لشيءٍ قضاه الله من غير

حتى خديجة تدعوني لأخبرها * أمراً أراه سيأتي الناس من أخر

وخبرتني بأمر قد سمعت به * فيما مضى من قديم الدهر والعصر

بأن أحمد يأتيه فيخبره * جبريل أنك مبعوث إلى البشر

فقلت علَّ الذي ترجين ينجزه * لك الإله فرجِّي الخير وانتظري

وأرسليه إلينا كي نسائله * عن أمره ما يرى في النوم والسهر

فقال حين أتانا منطقاً عجباً * يقف منه أعالي الجلد والشعر

إني رأيت أمين الله واجهني * في صورة أكملت من أعظم الصور

ثم استمر فكاد الخوف يذعرني * مما يسلِّم من حولي من الشجر

فقلت ظني وما أدري أيصدقني * أن سوف يبعث يتلو مُنزل السور

وسوف يبليك إن أعلنت دعوتهم * من الجهاد بلا منّ ولا كدر

هكذا أورد ذلك الحافظ البيهقي من الدلائل، وعندي في صحتها عن ورقة نظر والله أعلم‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ حدثني عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي - وكان واعية -عن بعض أهل العلم‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله كرامته وابتدأه بالنبوة، كان إذا خرج لحاجة أبعد حتى تحسر البيوب عنه، ويفضي إلى شعاب مكة، وبطون أوديتها، فلا يمر بحجر، ولا شجر إلا قال‏:‏ السلام عليك يا رسول الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3 /18‏)‏

قال فيلتفت حوله عن يمينه، وعن شماله، وخلفه، فلا يرى إلا الشجر والحجارة‏.‏ فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك يرى ويسمع، ما شاء الله أن يمكث، ثم جاءه جبريل عليه السلام بما جاء من كرامة الله، وهو بحراء في شهر رمضان‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير قال‏:‏ سمعت عبد الله بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي‏:‏ حدثنا يا عبيد، كيف كان بدو ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة، حين جاءه جبريل قال‏:‏ فقال عبيد وأنا حاضر - يحدث عبد الله ابن الزبير ومن عنده من الناس -‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء في كل سنة شهراً يتحنث قال‏:‏ وكان ذلك مما يحبب به قريش في الجاهلية، والتحنث‏:‏ التبرز‏.‏

فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى جواره من شهره ذلك، كان أول ما يبدأ به، إذا انصرف من جواره الكعبة، قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعاً، أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى به فيه ما أراد من كرامته، من السنة التي بعثه فيها‏.‏

وذلك الشهر شهر رمضان، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته، ورحم العباد به، جاءه جبريل بأمر الله تعالى‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب‏.‏

فقال اقرأ، قلت ما أقرأ‏؟‏ قال‏:‏ فغتني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني‏.‏

فقال‏:‏ اقرأ؛ قال‏:‏ قلت ما أقرأ‏؟‏ قال‏:‏ فغتني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني‏.‏

فقال اقرأ، قلت ما أقرأ‏؟‏

قال‏:‏ فغتني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني‏.‏

فقال اقرأ، قلت‏:‏ ماذا أقرأ‏؟‏ ما أقول ذلك إلا افتدا منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي‏.‏

فقال‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏سورة العلق‏:‏ 1-5‏]‏‏.‏

قال‏:‏ فقرأتها، ثم انتهى وانصرف عني، وهببت من نومي فكأنما كتب في قلبي كتاباً‏.‏

قال فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول‏:‏ يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل‏.‏

قال‏:‏ فرفعت رأسي إلى السماء فأنظر فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء، يقول‏:‏ يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل‏.‏

فوقفت أنظر إليه، فما أتقدم، وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، فما أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك‏.‏

فما زلت واقفاً ما أتقدم أمامي، وما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عني‏.‏

وانصرفت راجعاً إلى أهلي، حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفاً إليها‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 3 /19‏)‏

فقالت‏:‏ يا أبا القاسم أين كنت‏؟‏ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة، ورجعوا إليّ‏.‏

ثم حدثتها بالذي رأيت‏.‏

فقالت‏:‏ أبشر يا ابن العم، واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة‏.‏

ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال ورقة‏:‏ قدوس، قدوس، والذي نفس ورقة بيده؛ لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، وقولي له‏:‏ فليثبت‏.‏

فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف، صنع كما كان يصنع، بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة‏.‏

فقال‏:‏ يا ابن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره‏.‏

فقال له ورقة‏:‏ والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذبنه، ولتؤذينه، ولتخرجنه، ولتقاتلنه، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصراً يعلمه‏.‏

ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله‏.‏

وهذا الذي ذكره عبيد بن عمير كما ذكرناه كالتوطئة لما جاء بعده من اليقظة، كما تقدم من قول عائشة رضي الله عنها، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ويحتمل أن هذا المنام كان بعد ما رآه في اليقظة صبيحة ليلتئذ، ويحتمل أنه كان بعده بمدة، والله أعلم‏.‏

وقال موسى بن عقبة‏:‏ عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال‏:‏ وكان فيما بلغنا أول ما رأى - يعني‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن الله تعالى أراه رؤيا في المنام، فشق ذلك عليه فذكرها لامرأته خديجة فعصمها الله عن التكذيب، وشرح صدرها للتصديق‏.‏

فقالت‏:‏ أبشر فإن الله لم يصنع بك إلا خيراً، ثم إنه خرج من عندها، ثم رجع إليها فأخبرها أنه رأى بطنه شق ثم غسل وطهر، ثم أعيد كما كان‏.‏

قالت‏:‏ هذا والله خير فأبشر‏.‏

ثم استعلن له جبريل وهو بأعلى مكة، فأجلسه على مجلس كريم معجب كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏أجلسني على بساط كهيئة الدرنوك فيه الياقوت، واللؤلؤ، فبشره برسالة الله عز وجل، حتى اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال له جبريل‏:‏ اقرأ، فقال‏:‏ كيف اقرأ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏سورة العلق‏:‏ 1-5‏]‏‏.‏

قال‏:‏ ويزعم ناس أن ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ‏}‏ أول سورة نزلت عليه، والله أعلم‏.‏

قال فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة ربه، واتبع ما جاءه به جبريل من عند الله، فلما انصرف منقلباً إلى بيته، جعل لا يمرُّ على شجر، ولا حجر، إلا سلَّم عليه، فرجع إلى أهله مسروراً موقناً أنه قد رأى أمراً عظيماً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3 /20‏)‏

فلما دخل على خديجة قال‏:‏ أرأيتك التي كنت حدثتك أني رأيته في المنام فإنه جبريل استعلن إليّ، أرسله إليّ ربي عزَّ وجل، وأخبرها بالذي جاءه من الله وما سمع منه‏.‏

فقالت‏:‏ أبشر فوالله لا يفعل الله بك إلا خيراً، وأقبل الذي جاءك من أمر الله فإنه حق، وأبشر فإنك رسول الله حقاً‏.‏

ثم انطلقت من مكانها فأتت غلاماً لعتبة بن ربيعة بن عبد شمس نصرانياً من أهل نينوى يقال له‏:‏ عداس، فقالت له‏:‏ يا عداس أذكرك بالله إلا ما أخبرتني هل عندك علم من جبريل‏؟‏

فقال‏:‏ قدوس قدوس، ما شأن جبريل يذكر بهذه الأرض التي أهلها أهل الأوثان‏؟‏

فقالت‏:‏ أخبرني بعلمك فيه‏.‏

قال‏:‏ فإنه أمين الله بينه وبين النبيين، وهو صاحب موسى وعيسى عليهما السلام‏.‏

فرجعت خديجة من عنده فجاءت ورقة بن نوفل فذكرت له ما كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما ألقاه إليه جبريل‏.‏

فقال لها ورقة‏:‏ يا بنية أخي ما أدري لعل صاحبك النبي الذي ينتظر أهل الكتاب الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، وأقسم بالله لئن كان إياه، ثم أظهر دعواه وأنا حي لأبلين الله في طاعة رسوله وحسن مؤازرته للصبر والنصر‏.‏

فمات ورقة رحمه الله‏.‏

قال الزهري‏:‏ فكانت خديجة أول من آمن بالله وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال الحافظ البيهقي بعد إيراده ما ذكرناه‏:‏ والذي ذكر فيه من شق بطنه، يحتمل أن يكون حكاية منه لما صنع به في صباه، يعني‏:‏ شق بطنه عند حليمة، ويحتمل أن يكون شق مرة أخرى، ثم ثالثة حين عرج به إلى السماء والله أعلم‏.‏

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة ورقة بإسناده إلى سليمان بن طرخان التيمي‏.‏ قال‏:‏ بلغنا أن الله تعالى بعث محمداً رسولاً على رأس خمسين سنة من بناء الكعبة وكان أول شيء اختصه به من النبوة، والكرامة رؤيا كان يراها، فقصَّ ذلك على زوجته خديجة بنت خويلد، فقالت له‏:‏ ابشر فوالله لا يفعل الله بك إلا خيراً‏.‏

فبينما هو ذات يوم في حراء، وكان يفر إليه من قومه إذ نزل عليه جبريل فدنا منه فخافه رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة شديدة، فوضع جبريل يده على صدره، ومن خلفه بين كتفيه‏.‏

فقال‏:‏ اللهم احطط وزره، واشرح صدره، وطهر قلبه، يا محمد أبشر ‏!‏فإنك نبي هذه الأمة‏.‏

اقرأ، فقال له نبي الله‏:‏ - وهو خائف يرعد - ما قرأت كتاباً قط، ولا أحسنه، وما أكتب، وما أقرأ‏.‏

فأخذه جبريل فغته غتاً شديداً، ثم تركه، ثم قال له‏:‏ اقرأ، فأعاد عليه مثله فأجلسه على بساط كهيئة الدرنوك، فرأى فيه من صفاءه، وحسنه كهيئة اللؤلؤ والياقوت، وقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏اقرأ باسم ربك الذي خلق‏)‏‏)‏ الآيات‏.‏

ثم قال له‏:‏ لا تخف يا محمد إنك رسول الله، ثم انصرف وأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم همه فقال كيف أصنع‏؟‏ وكيف أقول لقومي‏؟‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/ 21‏)‏

ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خائف، فأتاه جبريل من أمامه وهو في صعرته، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً عظيماً ملأ صدره‏.‏

فقال له جبريل‏:‏ لا تخف يا محمد‏:‏ جبريل رسول الله جبريل رسول الله إلى أنبيائه ورسله، فأيقن بكرامة الله، فإنك رسول الله‏.‏

فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمرُّ على شجرٍ ولا حجرٍ إلا هو ساجد يقول‏:‏ السلام عليك يا رسول الله‏.‏

فاطمأنت نفسه وعرف كرامة الله إياه، فلما انتهى إلى زوجته خديجة أبصرت ما بوجهه من تغير لونه فأفزعها ذلك، فقامت إليه فلما دنت منه جعلت تمسح عن وجهه وتقول‏:‏ لعلك لبعض ما كنت ترى وتسمع قبل اليوم‏.‏

فقال‏:‏ يا خديجة أرأيت الذي كنت أرى في المنام، والصوت الذي كنت أسمع في اليقظة، وأهال منه فإنه جبريل قد استعلن لي وكلمني وأقرأني كلاماً فزعت منه ثم عاد إليّ فأخبرني أني نبي هذه الأمة، فأقبلت راجعاً فأقبلت على شجر، وحجارة، فقلن السلام عليك يا رسول الله‏.‏

فقالت خديجة‏:‏ أبشر فوالله لقد كنت أعلم أن الله لن يفعل بك إلا خيراً وأشهد أنك نبي هذه الأمة الذي تنتظره اليهود، قد أخبرني به ناصح غلامي وبحيرى الراهب، وأمرني أن أتزوجك منذ أكثر من عشرين سنة‏.‏

فلم تزل برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طعم وشرب وضحك، ثم خرجت إلى الراهب، وكان قريباً من مكة، فلما دنت منه وعرفها‏.‏

قال‏:‏ مالك يا سيدة نساء قريش‏؟‏

فقالت‏:‏ أقبلت إليك لتخبرني عن جبريل‏؟‏

فقال‏:‏ سبحان الله ربنا القدوس ما بال جبريل يذكر في هذه البلاد التي يعبد أهلها الأوثان‏؟‏ جبريل أمين الله ورسوله إلى أنبيائه ورسله، وهو صاحب موسى، وعيسى، فعرفت كرامة الله لمحمد‏.‏

ثم أتت عبداً لعتبة بن ربيعة يقال له‏:‏ عداس فسألته فأخبرها بمثل ما أخبرها الراهب وأزيد‏.‏

قال‏:‏ جبريل كان مع موسى حين أغرق الله فرعون وقومه، وكان معه حين كلمه الله على الطور، وهو صاحب عيسى بن مريم الذي أيده الله به‏.‏

ثم قامت من عنده، فأتت ورقة بن نوفل، فسألته عن جبريل، فقال لها مثل ذلك، ثم سألها ما الخبر فأحلفته أن يكتم ما تقول له، فحلف لها‏.‏

فقالت له‏:‏ إن ابن عبد الله ذكر لي، وهو صادق، أحلف بالله ما كذب ولا كذب، أنه نزل عليه جبريل بحراء، وأنه أخبره أنه نبي هذه الأمة، وأقرأه آيات أرسل بها‏.‏

قال‏:‏ فذعر ورقة لذلك، وقال‏:‏ لئن كان جبريل قد استقرت قدماه على الأرض لقد نزل على خير أهل الأرض، وما نزل إلا على نبي، وهو صاحب الأنبياء والرسل، يرسله الله إليهم وقد صدقتك عنه، فأرسلي إلي ابن عبد الله أسأله، وأسمع من قوله، وأحدثه، فإني أخاف أن يكون غير جبريل، فإن بعض الشياطين يتشبه به ليضل به بعض بني آدم ويفسدهم حتى يصير الرجل بعد العقل الرضي مدلهاً مجنوناً‏.‏

فقامت من عنده، وهي واثقة بالله أن لا يفعل بصاحبها إلا خيراً، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قال ورقة، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ‏}‏ الآيات ‏[‏القلم‏:‏ 1-2‏]‏‏.‏

فقال لها‏:‏ كلا والله إنه لجبريل‏.‏

فقالت له‏:‏ أحب أن تأتيه فتخبره لعل الله أن يهديه فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ورقة‏:‏ هذا الذي جاءك جاءك في نور أو ظلمة‏؟‏

فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفة جبريل، وما رآه من عظمته، وما أوحاه إليه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/ 22‏)‏

فقال ورقة‏:‏ أشهد أن هذا جبريل، وأن هذا كلام الله فقد أمرك بشيء تبلغه قومك وأنه لأمر نبوة فإن أُدرك زمانك أتبعك، ثم قال‏:‏ أبشر ابن عبد المطلب بما بشرك الله به‏.‏

قال‏:‏ وذاع قول ورقة وتصديقه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فشق ذلك على الملأ من قومه، قال وفتر الوحي‏.‏

فقالوا‏:‏ لو كان من عند الله لتتابع، ولكن الله قلاه فأنزل الله ‏(‏والضحى‏)‏ و ‏(‏ألم نشرح‏)‏ بكمالهما‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس عن ابن إسحاق، حدثني إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير، أنه حدثه عن خديجة بنت خويلد، أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بيّنه مما أكرمه الله به من نبوته‏:‏

يا ابن عم تستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك‏.‏

فقال‏:‏ نعم ‏!‏

فقالت‏:‏ إذا جاءك فأخبرني‏.‏

فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها إذ جاء جبريل فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال‏:‏ يا خديجة ‏!‏ هذا جبريل‏.‏

فقالت‏:‏ أتراه الآن‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قالت‏:‏ فاجلس إلى شقي الأيمن، فتحول فجلس، فقالت‏:‏ أتراه الآن‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قالت‏:‏ فتحول فاجلس في حجري فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس في حجرها فقالت‏:‏ هل تراه الآن‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

فتحسرت رأسها فشالت خمارها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها

فقالت‏:‏ هل تراه الآن‏؟‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قالت‏:‏ ما هذا بشيطان إن هذا لملك يا ابن عم، فاثبت وأبشر، ثم آمنت به وشهدت أن ما جاء به هو الحق‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثت عبد الله بن حسن هذا الحديث، فقال‏:‏ قد سمعت أمي فاطمة بنت الحسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة، إلا أني سمعتها تقول‏:‏ أدخلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين درعها فذهب عندك ذلك جبريل عليه السلام‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وهذا شيء كان من خديجة تصنعه تستثبت به الأمر احتياطاً لدينها وتصديقاً‏.‏

فأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان قد وثق بما قال له جبريل، وأراه من الآيات التي ذكرناها مرة بعد أخرى، وما كان من تسليم الشجر، والحجر عليه صلى الله عليه وسلم تسليماً‏.‏

وقد قال مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏‏:‏ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا إبراهيم بن طهمان، حدثني سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه‏.‏

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني لأعرف حجراً بمكة، كان يسلم عليَّ قبل أن بعث، إني لأعرفه الآن‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3 /23‏)‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا سليمان بن معاذ، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن بمكة لحجراً كان يسلم عليّ ليالي بعثت، إني لأعرفه إذا مررت عليه‏)‏‏)‏‏.‏

وروى البيهقي من حديث إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير، عن عباد بن عبد الله، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏.‏

قال‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فخرج في بعض نواحيها، فما استقبله شجر، ولا جبل، إلا قال السلام عليك يا رسول الله‏.‏

وفي رواية لقد رأيتني أدخل معه - يعني‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم - الوادي فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال‏:‏ السلام عليكم يا رسول الله‏.‏

وأنا أسمعه‏.‏

 فصل‏:‏ حزن النبي صلى الله عليه وسلم عندما فترعنه الوحي

قال البخاري في روايته المتقدمة‏:‏ ثم فتر الوحي حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه تبدَّى له جبريل فقال‏:‏ يا محمد، إنك رسول الله حقاً، فيسكن لذلك جأشه وتقرَّ نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدَّى له جبريل، فقال له مثل ذلك‏.‏

وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري قال‏:‏ سمعت أبا سلمة عبد الرحمن، يحدث عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فبينما أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء و الأرض فجثيت منه فرقاً، حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت‏:‏ زملوني زملوني، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ‏}‏‏[‏المدثر‏:‏ 1-5‏]‏‏.‏

قال‏:‏ ثم حمي الوحي وتتابع فهذا كان أول ما نزل من القرآن بعد فترة الوحي لا مطلقاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/24‏)‏

ذاك قوله‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}

وقد ثبت عن جابر أن أول ما نزل ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ‏}‏ واللائق حمل كلامه ما أمكن على ما قلناه، فإن في سياق كلامه ما يدل على تقدم مجيء الملك الذي عرفه ثانياً بما عرفه به أولاً إليه‏.‏

ثم قوله‏:‏ يحدّث عن فترة الوحي دليل على تقدم الوحي على هذا الإيحاء والله أعلم‏.‏

وقد ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث علي بن المبارك، وعند مسلم، والأوزاعي، كلاهما عن يحيى بن أبي كثير، قال‏:‏ سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن أي القرآن أنزل قبل‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أيها المدثر‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ ‏(‏‏(‏واقرأ باسم ربك‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ سألت جابر بن عبد الله أي القرآن نزل قبل‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أيها المدثر‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ ‏(‏‏(‏واقرأ باسم ربك‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ أحدثكم ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إني جاورت بحراء شهراً، فلما قضيت جواري، نزلت فاستبطنت الوادي، فنوديت فنظرت بين يدي وخلفي وعن يميني، وعن شمالي، فلم أر شيئاً، ثم نظرت إلى السماء فإذا هو على العرش في الهواء، فأخذتني رعدة - أو قال وحشة - فأتيت خديجة فأمرتهم، فدثروني، فأنزل الله‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أيها المدثر‏)‏‏)‏ حتى بلغ ‏(‏‏(‏وثيابك فطهر‏)‏‏)‏‏.‏

- وقال في رواية -‏:‏ ‏(‏‏(‏فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجثيت منه‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا صريح في تقدم إتيانه إليه وإنزاله الوحي من الله عليه كما ذكرناه والله أعلم‏.‏

ومنهم‏:‏ زعم أن أول ما نزل بعد فترة الوحي سورة‏:‏ ‏{‏والضحى والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى‏}‏ إلى آخرها‏.‏

قاله محمد بن إسحاق‏.‏

وقال بعض القرَّاء‏:‏ ولهذا كـَّبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أولها فرحاً وهو قول بعيد يرده ما تقدم من رواية صاحبي ‏(‏الصحيح‏)‏ من أن أول القرآن نزولاً بعد فترة الوحي‏:‏ ‏{‏يا أيها المدثر * قم فانذر‏}

ولكن نزلت سورة ‏(‏والضحى‏)‏ بعد فترة أخرى، كانت ليالي يسيرة كما ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ وغيرهما، من حديث الأسود بن قيس، عن جندب بن عبد الله البجلي، قال‏:‏ اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين أو ثلاثاً فقالت امرأة‏:‏ ما أرى شيطانك إلا تركك‏.‏

فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 1-2‏]‏‏.‏

وبهذا الأمر حصل الإرسال إلى الناس وبالأول حصلت النبوة‏.‏

وقد قال بعضهم‏:‏ كانت مدة الفترة قريباً من سنتين أو سنتين ونصفاً، والظاهر والله أعلم أنها المدة التي اقترن معه ميكائيل كما قال الشعبي، وغيره‏.‏

ولا ينفي هذا تقدم إيحاء جبريل إليه أولاً‏:‏ ‏{‏اقرأ باسم ربك الذي خلق‏}‏ ثم اقترن به جبريل بعد نزول‏:‏ ‏{‏يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر‏}‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/25‏)‏

وثم حمي الوحي بعد هذا وتتابع - أي‏:‏ تدارك شيئاً بعد شيء - وقام حينئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرسالة أتم القيام وشمَّر عن ساق العزم، ودعا إلى الله، القريب، والبعيد، والأحرار، والعبيد، فآمن به حينئذ كل لبيب نجيب سعيد، واستمر على مخالفته وعصيانه كل جبار عنيد‏.‏

فكان أول من بادر إلى التصديق من الرجال الأحرار‏:‏ أبو بكر الصديق‏.‏

ومن الغلمان‏:‏ علي بن أبي طالب‏.‏

ومن النساء‏:‏ خديجة بنت خويلد زوجته عليه السلام‏.‏

ومن الموالي‏:‏ مولاه زيد بن حارثة الكلبي رضي الله عنهم وأرضاهم‏.‏

وتقدم الكلام على إيمان ورقة بن نوفل بما وجد من الوحي ومات في الفترة رضي الله عنه‏.‏

 فصل‏:‏ في منع الجان ومردة الشياطين من استراق السمع حين أنزل القرآن، لئلا يختطف أحدهم منه ولو حرفاً واحداً فيلقيه على لسان وليه فيلتبس الأمر ويختلط الحق

فكان من رحمة الله وفضله ولطفه بخلقه، أن حجبهم عن السماء كما قال الله تعالى إخبارا عنهم في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً * وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 8-10‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 210- 212‏]‏

قال الحافظ أبو نعيم‏:‏ حدثنا سليمان بن أحمد - وهو الطبراني - حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، حدثنا محمد بن يوسف الفريابي، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون الوحي فإذا حفظوا الكلمة زادوا فيها تسعاً فأما الكلمة فتكون حقاً، وأما ما زادوا فتكون باطلاً‏.‏

فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك‏.‏

فقال لهم إبليس‏:‏ هذا لأمر قد حدث في الأرض، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يصلي بين جبلين، فأتوه فأخبروه‏.‏

فقال‏:‏ هذا الأمر الذي قد حدث في الأرض‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/26‏)‏

وقال أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏.‏

قال‏:‏ ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن وما رآهم، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين، وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم‏.‏

فقالوا‏:‏ ما لكم‏؟‏

قالوا‏:‏ حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب‏.‏

فقالوا‏:‏ ما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها‏.‏

فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة، وهو بنخل عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له‏.‏

فقالوا‏:‏ هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم فقالوا‏:‏ يا قومنا‏:‏ ‏{‏إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً‏}‏‏.‏ ‏[‏الجن‏:‏ 2‏]‏‏.‏

فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ‏}‏ الآية ‏[‏الجن‏:‏ 1‏]‏‏.‏ أخرجاه في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي شيبة‏:‏ حدثنا محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏.‏

قال‏:‏ إنه لم تكن قبيلة من الجن إلا ولهم مقاعد للسمع، فإذا نزل الوحي سمعت الملائكة صوتاً كصوت الحديدة ألقيتها على الصفا، قال‏:‏ فإذا سمعت الملائكة خروا سجداً فلم يرفعوا رؤسهم حتى ينزل‏.‏

فإذا نزل قال بعضهم لبعض‏:‏ ماذا قال ربكم‏؟‏ فإن كان مما يكون في السماء‏.‏

قالوا‏:‏ الحق وهو العلي الكبير، وإن كان مما يكون في الأرض من أمر الغيب، أو موت، أو شيء مما يكون في الأرض تكلموا به‏.‏

فقالوا‏:‏ يكون كذا وكذا فتسمعه الشياطين فينزلونه على أوليائهم، فلما بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم دحروا بالنجوم فكان أول من علم بها ثقيف، فكان ذو الغنم منهم ينطلق إلى غنمه فيذبح كل يوم شاة، وذا الإبل فينحر كل يوم بعيراً، فأسرع الناس في أموالهم، فقال بعضهم لبعض‏:‏

لا تفعلوا فإن كانت النجوم التي يهتدون بها وإلا فإنه لأمر حدث، فنظروا فإذا النجوم التي يهتدي بها كما هي لم يزل منها شيء فكفوا وصرف الله الجن فسمعوا القرآن فلما حضروه قالوا‏:‏ انصتوا وانطلقت الشياطين إلى إبليس فأخبروه‏.‏

فقال‏:‏ هذا حدثٌ حدث في الأرض، فأتوني من كل أرض بتربة، فأتوه بتربة تهامة، فقال‏:‏ ههنا الحدث‏.‏

ورواه البيهقي، والحاكم، من طريق حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/27‏)‏‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني أسامة بن زيد بن أسلم، عن عمر بن عبدان العبسي، عن كعب قال‏:‏ لم يرم بنجم منذ رفع عيسى، حتى تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى بها، فرأت قريش أمراً لم تكن تراه فجعلوا يسيبون أنعامهم، ويعتقون أرقاءهم، يظنون أنه الفناء، فبلغ ذلك من فعلهم أهل الطائف، ففعلت ثقيف مثل ذلك، فبلغ عبد ياليل بن عمرو ما صنعت ثقيف‏.‏

قال‏:‏ ولم فعلتم ما أرى‏؟‏

قالوا‏:‏ رمى بالنجوم، فرأيناها تهافت من السماء‏.‏

فقال‏:‏ إن إفادة المال بعد ذهابه شديد، فلا تعجلوا، وانظروا‏:‏ فإن تكن نجوماً تعرف فهو عندنا من فناء الناس، وإن كانت نجوماً لا تعرف فهو لأمر قد حدث، فنظروا فإذا هي لا تعرف فأخبروه‏.‏

فقال‏:‏ الأمر فيه مهلة بعد هذا عند ظهور نبي‏.‏

فما مكثوا إلا يسيراً، حتى قدم عليهم أبو سفيان بن حرب إلى أمواله، فجاء عبد ياليل فذاكره أمر النجوم، فقال أبو سفيان‏:‏ ظهر محمد بن عبد الله يدعي أنه نبي مرسل‏.‏

فقال عبد ياليل‏:‏ فعند ذلك رمى بها‏.‏

وقال سعيد بن منصور، عن خالد بن حصين، عن عامر الشعبي‏.‏

قال‏:‏ كانت النجوم لا يرمى بها حتى بعث الله، رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمي بها صلى الله عليه وسلم فسيبوا أنعامهم، وأعتقوا رقيقهم‏.‏

فقال عبد ياليل‏:‏ انظروا فإن كانت النجوم التي تعرف فهو عند فناء الناس، وإن كانت لا تعرف فهو لأمر قد حدث، فنظروا فإذا هي لا تعرف‏.‏

قال‏:‏ فأمسكوا، فلم يلبثوا إلا يسيراً، حتى جاءهم خروج النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وروى البيهقي، والحاكم، من طريق العوفي، عن ابن عباس قال‏:‏ لم تكن سماء الدنيا تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وسلامه‏.‏

فلعل مراد من نفى ذلك أنها لم تكن تحرس حراسة شديدة‏.‏

ويجب حمل ذلك على هذا لما ثبت في الحديث من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن علي بن الحسين، عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه إذ رمى بنجم فاستدار فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما كنتم تقولون إذا رمي بهذا‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ كنا نقول مات عظيم، وولد عظيم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا ولكن‏)‏‏)‏‏.‏

فذكر الحديث كما تقدم عند خلق السماء وما فيها من الكواكب في أول بدء الخلق ولله الحمد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/28‏)‏

وقد ذكر ابن إسحاق في السيرة قصة رمي النجوم وذكر عن كبير ثقيف أنه قال لهم في النظر في النجوم‏:‏ إن كانت أعلام السماء أو غيرها، ولكن سماه عمرو بن أمية، فالله أعلم‏.‏

وقال السدي‏:‏ لم تكن السماء تحرس إلا أن يكون في الأرض نبي أو دين لله ظاهر، وكانت الشياطين قبل محمد صلى الله عليه وسلم قد اتخذت المقاعد في سماء الدنيا يستمعون ما يحدث في السماء من أمر‏.‏

فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم نبياً، رجموا ليلة من الليالي ففزع لذلك أهل الطائف‏.‏

فقالوا‏:‏ هلك أهل السماء لما رأوا من شدة النار في السماء، واختلاف الشهب، فجعلوا يعتقون أرقاءهم، ويسيبون مواشيهم‏.‏

فقال لهم عبد ياليل بن عمرو بن عمير‏:‏ ويحكم يا معشر أهل الطائف أمسكوا عن أموالكم، وانظروا إلى معالم النجوم فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها فلم يهلك أهل السماء، وإنما هو من ابن أبي كبشة، وإن أنتم لم تروها فقد أهلك أهل السماء‏.‏

فنظروا فرأوها فكفوا عن أموالهم، وفزعت الشياطين في تلك الليلة، فأتوا إبليس، فقال‏:‏ ائتوني من كل أرض بقبضة من تراب‏.‏

فأتوه فشمَّ‏.‏

فقال‏:‏ صاحبكم بمكة، فبعث سبعة نفر من جن نصيبين فقدموا مكة، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام يقرأ القرآن، فدنوا منه حرصاً على القرآن، حتى كادت كلاكلهم تصيبه، ثم أسلموا فأنزل الله أمرهم على نبيه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني محمد بن صالح، عن ابن أبي حكيم - يعني‏:‏ إسحاق - عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال‏:‏

لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح كل صنم منكساً، فأتت الشياطين، فقالوا له‏:‏ ما على الأرض من صنم إلا وقد أصبح منكساً‏.‏

قال‏:‏ هذا نبي قد بعث فالتمسوه في قرى الأرياف، فالتمسوه، فقالوا‏:‏ لم نجده‏.‏

فقال‏:‏ أنا صاحبه فخرج يلتمسه فنودي عليك بجنبة الباب - يعني‏:‏ مكة - فالتمسه بها فوجده بها عند قرن الثعالب، فخرج إلى الشياطين‏.‏

فقال‏:‏ إني قد وجدته معه جبريل، فما عندكم‏؟‏

قالوا‏:‏ نزين الشهوات في عين أصحابه، ونحببها إليهم‏.‏

قال‏:‏ فلا آسى إذاً‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني طلحة بن عمرو، عن ابن أبي مليكة، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏

لما كان اليوم الذي تنبأ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت الشياطين من السماء، ورموا بالشهب، فجاؤوا إلى إبليس فذكروا ذلك له‏.‏

فقال‏:‏ أمر قد حدث هذا نبي قد خرج عليكم بالأرض المقدسة مخرج نبي إسرائيل‏.‏

قال‏:‏ فذهبوا إلى الشام، ثم رجعوا إليه، فقالوا‏:‏ ليس بها أحد‏.‏

فقال إبليس‏:‏ أنا صاحبه، فخرج في طلبه بمكة؛ فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء منحدراً معه جبريل، فرجع إلى أصحابه‏.‏

فقال‏:‏ قد بعث أحمد ومعه جبريل، فما عندكم‏؟‏

قالوا‏:‏ الدنيا نحببها إلى الناس‏.‏

قال‏:‏ فذاك إذاً‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وحدثني طلحة ابن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس قال‏:‏ كانت الشياطين يستمعون الوحي، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعوا، فشكوا ذلك إلى إبليس فقال‏:‏ لقد حدث أمر فرقي فوق أبي قبيس - وهو أول جبل وضع على وجه الأرض - فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي خلف المقام‏.‏

فقال‏:‏ اذهب فاكسر عنقه‏.‏

فجاء يخطر وجبريل عنده، فركضه جبريل ركضة طرحه في كذا وكذا فولى الشيطان هارباً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/ 29‏)‏‏.‏

ثم رواه الواقدي، وأبو أحمد الزبيري، كلاهما عن رباح بن أبي معروف، عن قيس بن سعد، عن مجاهد، فذكر مثل هذا، وقال‏:‏ فركضه برجله فرماه بعدن‏.‏

 فصل‏:‏ في كيفية إتيان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قد تقدم كيفية ما جاءه جبريل في أول مرة، وثاني مرة أيضاً‏.‏

وقال مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها‏.‏

إن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ يا رسول الله كيف يأتيك الوحي‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أحياناً يأتيني مثل صلصة الجرس - وهو أشده عليّ - فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً يكلمني فأعي ما يقول‏)‏‏)‏‏.‏

قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ ولقد رأيته صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وأن جبينه ليتفصد عرقاً أخرجاه في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث مالك به‏.‏

ورواه الإمام أحمد، عن عامر بن صالح، عن هشام بن عروة به نحوه‏.‏

وكذا رواه عبدة بن سليمان، وأنس بن عياض، عن هشام بن عروة‏.‏

وقد رواه أيوب السختياني، عن هشام، عن أبيه، عن الحارث بن هشام أنه قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ كيف يأتيك الوحي‏؟‏

فذكره، ولم يذكر عائشة‏.‏

وفي حديث الإفك قالت عائشة‏:‏ فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل عليه‏.‏

فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، حتى أنه كان يتحدر منه مثل الجمان من العرق، وهو في يوم شات من ثقل الوحي الذي نزل عليه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، أخبرني يونس بن سليم، قال‏:‏ أملى عليّ يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عبد الرحمن بن عبد القاري سمعت عمر بن الخطاب يقول‏:‏ كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/30‏)‏‏.‏

وذكر تمام الحديث في نزول‏:‏ ‏{‏قد أفلح المؤمنون‏}‏‏.‏

وكذا رواه الترمذي، والنسائي من حديث عبد الرزاق، ثم قال النسائي‏:‏ منكر لا نعرف أحداً رواه، غير يونس بن سليم، ولا نعرفه‏.‏

وفي ‏(‏صحيح مسلم‏)‏، وغيره، من حديث الحسن، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن عبادة بن الصامت‏.‏

قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كربه ذلك، وتربد وجهه‏.‏

وفي رواية - وغمض عينيه - وكنا نعرف ذلك منه‏.‏

وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏ حديث زيد بن ثابت حين نزلت‏:‏ ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين‏}‏ فلما شكى ابن أم مكتوم ضرارته نزلت‏:‏ ‏{‏غير أولى الضرر‏}‏‏.‏

قال‏:‏ وكانت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، وأنا أكتب، فلما نزل الوحي كادت فخذه ترض فخذي‏.‏

وفي ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ من حديث همام بن يحيى، عن عطاء، عن يعلى بن أمية‏.‏

قال‏:‏ قال لي عمر‏:‏ أيسرك أن تنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوحى إليه‏؟‏

فرفع طرف الثوب عن وجهه وهو يوحى إليه بالجعرانة؛ فإذا هو محمرّ الوجه، وهو يغط كما يغط البكر‏.‏

وثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث عائشة لما نزل الحجاب، وأن سودة خرجت بعد ذلك إلى المناصع ليلاً، فقال عمر‏:‏ قد عرفناك يا سودة‏.‏

فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته وهو جالس يتعشى والعرق في يده، فأوحى الله إليه والعرق في يده، ثم رفع رأسه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن‏)‏‏)‏‏.‏

فدلَّ هذا على أنه لم يكن الوحي يغيب عنه إحساسه بالكلية، بدليل أنه جالس، ولم يسقط العرق أيضاً من يده صلوات الله وسلامه دائماً عليه‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا عباد بن منصور، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس‏.‏

قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي تربَّد لذلك جسده ووجهه، وأمسك عن أصحابه، ولم يكلمه أحد منهم‏.‏

وفي ‏(‏مسند أحمد‏)‏، وغيره، من حديث ابن لهيعة‏:‏ حدثني يزيد ابن أبي حبيب، عن عمرو بن الوليد، عن ابن عبد الله بن عمرو، قلت يا رسول الله هل تحس بالوحي‏؟‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/31‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم اسمع صلاصل ثم أثبت عند ذلك، وما من مرة يوحى إليّ إلا ظننت أن نفسي تفيظ منه‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أبو يعلى الموصلي‏:‏ حدثنا إبراهيم بن الحجاج، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا عاصم بن كليب، حدثنا أبي عن خاله العليان بن عاصم‏.‏

قال‏:‏ كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه، وكان إذا أنزل عليه دام بصره وعيناه مفتوحة، وفرغ سمعه وقلبه، لما يأتيه من الله عز وجل‏.‏

وروى أبو نعيم من حديث قتيبة، حدثنا علي بن غراب، عن الأحوص بن حكيم، عن أبي عوانة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة‏.‏

قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي صدع وغلف رأسه بالحناء‏.‏

هذا حديث غريب جداً‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو النضر، حدثنا أبو معاوية سنان، عن ليث، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد‏.‏

قالت‏:‏ إني لآخذه بزمام العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ نزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة‏.‏

وقد رواه أبو نعيم من حديث الثوري، عن ليث بن أبي سليم به‏.‏

وقال الإمام أحمد أيضاً‏:‏ حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثني جبر بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها‏.‏

وروى ابن مردويه من حديث صباح ابن سهل، عن عاصم الأحول، حدثتني أم عمرو، عن عمها‏:‏ أنه كان في مسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت عليه سورة المائدة، فاندق عنق الراحلة من ثقلها‏.‏

وهذا غريب من هذا الوجه‏.‏

ثم قد ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ نزول سورة الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من الحديبية، وهو على راحلته، فكان يكون تارة وتارة بحسب الحال والله أعلم‏.‏

وقد ذكرنا أنواع الوحي إليه صلى الله عليه وسلم في أول ‏(‏شرح البخاري‏)‏، وما ذكره الحليمي، وغيره من الأئمة رضي الله عنهم‏.‏