فصل: فصل: في أعظمية آية الكرسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.فصل: في أعظمية آية الكرسي:

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا صَارَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ أَعْظَمَ لِعِظَمِ مُقْتَضَاهَا فَإِنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا يَشْرُفُ بِشَرَفِ ذَاتِهِ وَمُقْتَضَاهُ وَمُتَعَلَّقَاتِهِ وَهَى فِي آيِ الْقُرْآنِ كَـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فِي سُوَرِهِ إِلَّا أَنَّ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ تَفْضُلُهَا بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا سُورَةٌ وَهَذِهِ آيَةٌ فَالسُّورَةُ أَعْظَمُ مِنَ الْآيَةِ لِأَنَّهُ وَقَعَ التَّحَدِّي بِهَا فَهِيَ أَفْضَلُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي لَمْ يُتَحَدَّ بِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ اقْتَضَتِ التَّوْحِيدَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ حَرْفًا وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ اقْتَضَتِ التَّوْحِيدَ فِي خَمْسِينَ حَرْفًا فَظَهَرَتِ الْقُدْرَةُ فِي الْإِعْجَازِ بِوَضْعِ مَعْنًى مُعَبَّرٍ عَنْهُ مَكْتُوبٍ مَدَدُهُ السَّبْعَةُ الْأَبْحُرِ لَا يَنْفَدُ عَدَدُ حُرُوفِهِ خَمْسُونَ كَلِمَةً ثُمَّ يُعَبَّرُ عَنْ مَعْنَى الْخَمْسِينَ كَلِمَةً خَمْسَةَ عَشَرَ كَلِمَةً وَذَلِكَ كُلُّهُ بَيَانٌ لِعِظَمِ الْقُدْرَةِ وَالِانْفِرَادِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْمُنَيِّرِ الْمَالِكِيُّ كَانَ جَدِّي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ اشْتَمَلَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ عَلَى مَا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَيْهِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ موضعا فيها اسم الله ظَاهِرًا فِي بَعْضِهَا وَمُسْتَكِنًّا فِي بَعْضٍ وَيَظْهَرُ لِلْكَثِيرِ مِنَ الْعَادِّينَ فِيهَا سِتَّةَ عَشَرَ إِلَّا على حَادِّ الْبَصِيرَةِ لِدِقَّةِ اسْتِخْرَاجِهِ:
1- اللَّهُ.
2- هُوَ.
3- الْحَيُّ.
4- الْقَيُّومُ.
5- ضَمِيرُ لَا تَأْخُذُهُ.
6- ضَمِيرُ لَهُ.
7- ضَمِيرُ عِنْدَهُ.
8- ضَمِيرُ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
9- ضَمِيرُ يَعْلَمُ.
10- ضَمِيرُ عِلْمِهِ.
11- ضَمِيرُ شَاءَ.
12- ضَمِيرُ كُرْسِيُّهُ.
13- ضَمِيرُ يَؤُودُهُ.
14- وَهُوَ.
15- الْعَلِيُّ.
16- الْعَظِيمُ.
فَهَذِهِ عِدَّةُ الْأَسْمَاءِ. وَأَمَّا الْخَفِيُّ فِي الضَّمِيرِ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ فِي قَوْلِهِ حِفْظُهُمَا فَإِنَّهُ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ الضَّمِيرُ الْبَارِزُ وَلَا بُدَّ لَهُ من فاعل وهو والله وَيَظْهَرُ عِنْدَ فَكِّ الْمَصْدَرِ فَتَقُولُ وَلَا يَؤُودُهُ أَنْ يَحْفَظَهُمَا هُوَ.
قَالَ وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو عبد الله محمد بن الْفَضْلِ الْمُرْسِيُّ قَدْ رَامَ الزِّيَادَةَ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ لَمَّا أَخْبَرْتُهُ عَنِ الْجَدِّ فَقَالَ يُمْكِنُ أَنْ تُعَدَّ مَا فِي الْآيَةِ مِنَ الْأَسْمَاءِ المشتقة كل واحد مِنْهَا بِاثْنَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَحْمِلُ ضَمِيرًا ضَرُورَةَ كَوْنِهِ مُشْتَقًّا وَذَلِكَ الضَّمِيرُ إِنَّمَا يَعُودُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ بِاعْتِبَارِ ظُهُورِهَا اسْمٌ وَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى آخَرَ مُضْمَرٍ فَتَكُونُ جُمْلَةُ الْعَدَدِ عَلَى هَذَا أَحَدًا وَعِشْرِينَ اسْمًا فَأَجْرَيْتُ مَعَهُ وَجْهًا لَطِيفًا وَهُوَ أَنَّ الِاسْمَ الْمُشْتَقَّ لَا يَحْتَمِلُ الضَّمِيرَ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ بِالتَّسْمِيَةِ عَلَمًا عَلَى الْأَصَحِّ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ كُلُّهَا أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ وَلَوْ فَرَضْنَاهَا مُحْتَمِلَةً لِلضَّمَائِرِ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّنَزُّلِ فَالْمُشْتَقُّ إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى مَوْصُوفِهِ بِاعْتِبَارِ تَحَمُّلِهِ ضَمِيرَهُ أَلَا تَرَاكَ إذا قلت زيد كريم إذا وَجَدْتُ كَرِيمًا إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى زَيْدٍ لِأَنَّ فِيهِ ضَمِيرَهُ حَتَّى لَوْ جَرَّدْتَ النَّظَرَ إِلَيْهِ لَمْ تَجِدْهُ مُخْتَصًّا بِزَيْدٍ بَلْ لَكَ أَنْ تُوقِعَهُ عَلَى كُلِّ مَوْصُوفٍ بِالْكَرَمِ مِنَ النَّاسِ وَلَا تَجِدُهُ مُخْتَصًّا بِزَيْدٍ إِلَّا بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى ضَمِيرِهِ فَلَيْسَ الْمُشْتَقُّ إِذًا مُسْتَقِلًّا بِوُقُوعِهِ عَلَى مَوْصُوفِهِ إِلَّا بِضَمِيمَةِ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ فَلَا يمكن أن تجعله لَهُ حُكْمُ الِانْفِرَادِ عَنِ الضَّمِيرِ مَعَ الْحُكْمِ بِرُجُوعِهِ إِلَى مُعَيَّنٍ أَلْبَتَّةَ قَالَ فَرَضِيَ عَنْ هَذَا الْبَحْثِ وَصَوَّبَهُ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبًا وَقَلْبُ الْقُرْآنِ يس» إِنَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ صِحَّتُهُ بِالِاعْتِرَافِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَهُوَ مُقَرَّرٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِأَبْلَغِ وَجْهٍ فَجُعِلَتْ قَلْبَ الْقُرْآنِ لِذَلِكَ وَاسْتَحْسَنَهُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ.
قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: سَمِعْتُهُ يَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ هَذَا الْكَلَامِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ آلُ حم دِيبَاجُ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِكُلِّ شَيْءٍ لُبَابٌ وَلُبَابُ الْقُرْآنِ آلُ حم أَوْ قَالَ الحواميم.
وقال مسعر بن كدام كان يقال لَهُنَّ الْعَرَائِسُ.
رَوَى ذَلِكَ كُلَّهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ إِنَّ مَثَلَ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ رَجُلٍ انْطَلَقَ يَرْتَادُ لِأَهْلِهِ مَنْزِلًا فَمَرَّ بِأَثَرِ غَيْثٍ فَبَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ فِيهِ وَيَتَعَجَّبُ مِنْهُ إِذْ هَبَطَ عَلَى رَوْضَاتٍ دَمِثَاتٍ فَقَالَ عَجِبْتُ مِنَ الْغَيْثِ الْأَوَّلِ فَهَذَا أَعْجَبُ وَأَعْجَبُ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ مَثَلَ الْغَيْثِ الْأَوَّلِ مَثَلُ عُظْمِ الْقُرْآنِ وَإِنَّ مَثَلَ هَذِهِ الرَّوْضَاتِ الدَّمِثَاتِ مَثَلُ آلِ حم فِي الْقُرْآنِ أَوْرَدَهُ الْبَغَوِيُّ.
وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ كَرَاهَةَ أَنْ يُقَالَ الْحَوَامِيمُ وَإِنَّمَا يُقَالُ آلُ حم.
وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ شِبْتَ قَالَ: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَالْوَاقِعَةُ وَالْمُرْسَلَاتُ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» خَصَّ هَذِهِ السُّوَرَ بِالشَّيْبِ لِأَنَّهُنَّ أَجْمَعُ لِكَيْفِيَّةِ الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهَا.
مِنْ غَيْرِهِنَّ وَلِهَذَا قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرَى الْقِيَامَةَ رَأَيَ الْعَيْنِ فليقرأ: {إذا الشمس كورت}».
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: «إِذَا زُلْزِلَتْ تَعْدِلُ نِصْفَ الْقُرْآنِ وقل يأيها الْكَافِرُونَ تَعْدِلُ رُبُعَهُ» وَقَالَ: فِي كُلٍّ مِنْهُمَا غَرِيبٌ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى حديث: «{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» وَحَكَى خِلَافَ النَّاسِ فِيهِ فَقِيلَ لِأَنَّهُ سَمِعَ شَخْصًا يُكَرِّرُهَا تَكْرَارَ مَنْ يَقْرَأُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَخَرَجَ الْجَوَابُ عَلَى هَذَا.
وَفِيهِ بُعْدٌ عَنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ.
قِيلَ: لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى قَصَصٍ وَشَرَائِعَ وَصِفَاتٍ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ كُلُّهَا صِفَاتٌ فَكَانَتْ ثُلُثًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَاعْتَرَضَ عَلَى ذَلِكَ بِاسْتِلْزَامِ كَوْنِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآخِرِ الْحَشْرِ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ.
وَقِيلَ تعدل في الثواب وهو الذي يشهد لظاهر الْحَدِيثِ.
قُلْتُ: ضَعَّفَ ابْنُ عَقِيلٍ هَذَا وَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَلَهُ أَجْرُ ثُلُثِ الْقُرْآنِ لِقَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ».
ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى أَنِّي أَقُولُ السُّكُوتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَفْضَلُ مِنَ الْكَلَامِ فِيهَا وَأَسْلَمُ ثُمَّ أَسْنَدَ إِلَى إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» مَا وَجْهُهُ فَلَمْ يَقُمْ لِي فِيهَا عَلَى أَمْرٍ وَقَالَ لِي إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا فَضَّلَ كَلَامَهُ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ جَعَلَ لِبَعْضِهِ أَيْضًا فَضْلًا فِي الثَّوَابِ لِمَنْ قَرَأَهُ تَحْرِيضًا عَلَى تَعَلُّمِهِ لَا أَنَّ مَنْ قَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَانَ كَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ جَمِيعَهُ هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ وَلَوْ قَرَأَهَا مِائَتَيْ مرة.
قال أبو عمرو وَهَذَانِ إِمَامَانِ بِالسُّنَّةِ مَا قَامَا وَلَا قَعَدَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
قُلْتُ: وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ إِنَّ الْقُرْآنَ قِسْمَانِ: خَبَرٌ وَإِنْشَاءٌ وَالْخَبَرُ قِسْمَانِ خَبَرٌ عَنِ الْخَالِقِ وَخَبَرٌ عَنِ الْمَخْلُوقِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ أَخْلَصَتِ الْخَبَرَ عَنِ الْخَالِقِ فَهِيَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ثُلُثُ الْقُرْآنِ.

.فَائِدَةٌ: في أي آية في القرآن أرجى:

اخْتُلِفَ فِي أَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ عَلَى بِضْعَةَ عَشَرَ قَوْلًا:
الْأَوَّلُ: آيَةُ الدَّيْنِ وَمَأْخَذُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْشَدَ عِبَادَهُ إِلَى مَصَالِحِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ حَتَّى انْتَهَتِ الْعِنَايَةُ بِمَصَالِحِهِمْ إِلَى أَنْ أَمَرَهُمْ بِكِتَابَةِ الدَّيْنِ الْكَبِيرِ وَالْحَقِيرِ فَبِمُقْتَضَى ذَلِكَ يُرْجَى عَفْوُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ لِظُهُورِ أَمْرِ الْعِنَايَةِ الْعَظِيمَةِ بِهِمْ حَتَّى فِي مَصْلَحَتِهِمُ الْحَقِيرَةِ.
الثَّانِي: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} إِلَى قَوْلِهِ: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لكم} وَهَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ إِثْرَ حَدِيثِ الْإِفْكِ عَنِ الْإِمَامِ الْجَلِيلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ.
الثَّالِثُ: قَالَ الشِّبْلِيُّ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قد سلف}.
فالله تعالى لما أذن الكافرين بدخول الباكل إِذَا أَتَوْا بِالتَّوْحِيدِ وَالشَّهَادَةِ أَتَرَاهُ يُخْرِجُ الدَّاخِلَ فِيهَا وَالْمُقِيمَ عَلَيْهَا.
الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهَلْ نجازي إلا الكفور}.
الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ العذاب على من كذب وتولى}.
السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}.
السَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شاكلته}.
الثَّامِنُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}.
حَكَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْخَمْسَةَ الْأَخِيرَةَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ فِي رُءُوسِ الْمَسَائِلِ.
التَّاسِعُ: رَأَيْتُ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ لِلْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ إِسْمَاعِيلَ الْهَرَوِيِّ صَاحِبِ الْحَاكِمِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ: سَأَلَتُ الشَّافِعِيَّ: أَيُّ آيَةٍ أَرْجَى؟ قَالَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذا متربة} قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ أَرْجَى حَدِيثٍ لِلْمُؤْمِنِ؟ قَالَ: حَدِيثُ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُدْفَعُ إِلَى كُلٍّ مُسْلِمٍ رَجُلٌ مِنَ الْكُفَّارِ فَيَذْهَبُ بِهِ إِلَى النَّارِ».
الْعَاشِرُ: وَالْحَادِي عَشَرَ: رَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ الْتَقَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَرْجَى عِنْدَكَ فَقَالَ عَبْدُ الله بن عمرو: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} قال لَكِنْ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بلى ولكن ليطمئن قلبي} هَذَا لِمَا فِي الصُّدُورِ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فرضي الله تعالى من إبراهيم بقوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ.
وَقَالَ النَّحَّاسُ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ: {فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} فَقَالَ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ أَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ}.
وَأَمَّا أَخْوَفُ آيَةٍ فَعَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا النَّارَ التي أعدت للكافرين} ولو قيل إنها {سنفرغ لكم أيها الثقلان} لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ سَمِعْتُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْ خَفِيرِ الْحَارَةِ لَمْ أنم.

.النوع التاسع والعشرون: في آداب تلاوته وكيفيتها:

اعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لَمْحُ مَوْقِعِ النِّعَمِ عَلَى مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ أَوْ بَعْضَهُ بِكَوْنِهِ أَعْظَمَ الْمُعْجِزَاتِ لِبَقَائِهِ بِبَقَاءِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَلِكَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ فَالْحُجَّةُ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ قَائِمَةٌ عَلَى كُلِّ عَصْرٍ وَزَمَانٍ لِأَنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَشْرَفُ كُتُبِهِ جَلَّ وَعَلَا فَلْيَرَ مَنْ عِنْدَهُ القرآن أن الله أَنْعَمَ عَلَيْهِ نِعْمَةً عَظِيمَةً وَلْيَسْتَحْضِرْ مِنْ أَفْعَالِهِ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ حُجَّةً لَهُ لَا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى طَلَبِ أُمُورٍ وَالْكَفِّ عَنْ أُمُورٍ وَذِكْرِ أَخْبَارِ قَوْمٍ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ فَصَارُوا عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ حِينَ زَاغُوا فَأَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَأُهْلِكُوا لَمَّا عَصَوْا وَلْيَحْذَرْ مَنْ عَلِمَ حَالَهُمْ أَنْ يَعْصِيَ فَيَصِيرَ مَآلُهُ مَآلَهُمْ فَإِذَا اسْتَحْضَرَ صَاحِبُ الْقُرْآنِ عُلُوَّ شَأْنِهِ بِكَوْنِهِ طريقا لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَصَدْرِهِ مُصْحَفًا لَهُ انْكَفَتَتْ نَفْسُهُ عِنْدَ التَّوْفِيقِ عَنِ الرَّذَائِلِ وَأَقْبَلَتْ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ الْهَائِلِ وَأَكْبَرُ مُعِينٍ عَلَى ذَلِكَ حُسْنُ تَرْتِيلِهِ وَتِلَاوَتِهِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ على مكث ونزلناه تنزيلا}.
فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ قَرَأَ الْقُرْآنَ أَنْ يُرَتِّلَهُ وَكَمَالُ تَرْتِيلِهِ تَفْخِيمُ أَلْفَاظِهِ وَالْإِبَانَةُ عن حروفه والإفصاح لجميعه بالتدبر حَتَّى يَصِلَ بِكُلِّ مَا بَعْدَهُ وَأَنْ يَسْكُتَ بَيْنَ النَّفَسِ وَالنَّفَسِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِ نَفَسُهُ وَأَلَّا يُدْغِمَ حَرْفًا فِي حَرْفٍ لِأَنَّ أَقَلَّ مَا فِي ذَلِكَ أَنْ يَسْقُطَ مِنْ حَسَنَاتِهِ بَعْضُهَا وَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَرْغَبُوا فِي تَكْثِيرِ حَسَنَاتِهِمْ فَهَذَا الَّذِي وَصَفْتُ أَقَلُّ مَا يَجِبُ مِنَ التَّرْتِيلِ.
وَقِيلَ: أَقَلُّ التَّرْتِيلِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يُبَيِّنُ مَا يَقْرَأُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَعْجِلًا فِي قِرَاءَتِهِ وَأَكْمَلُهُ أَنْ يَتَوَقَّفَ فِيهَا مَا لَمْ يُخْرِجْهُ إِلَى التَّمْدِيدِ وَالتَّمْطِيطِ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ بِكَمَالِ التَّرْتِيلِ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى مَنَازِلِهِ فَإِنْ كَانَ يَقْرَأُ تَهْدِيدًا لَفَظَ بِهِ لَفْظَ الْمُتَهَدِّدِ وَإِنْ كَانَ يَقْرَأُ لَفْظَ تَعْظِيمٍ لَفَظَ بِهِ عَلَى التَّعْظِيمِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلَ قَلْبُهُ فِي التَّفَكُّرِ فِي مَعْنَى مَا يَلْفِظُ بِلِسَانِهِ فَيَعْرِفَ مِنْ كُلِّ آيَةٍ مَعْنَاهَا وَلَا يُجَاوِزَهَا إِلَى غَيْرِهَا حَتَّى يَعْرِفَ مَعْنَاهَا فَإِذَا مَرَّ بِهِ آيَةُ رَحْمَةٍ وَقَفَ عِنْدَهَا وَفَرِحَ بِمَا وَعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا وَاسْتَبْشَرَ إِلَى ذَلِكَ وَسَأَلَ اللَّهَ بِرَحْمَتِهِ الْجَنَّةَ وَإِنْ قَرَأَ آيَةَ عَذَابٍ وَقَفَ عِنْدَهَا وَتَأَمَّلَ مَعْنَاهَا فَإِنْ كَانَتْ فِي الْكَافِرِينَ اعْتَرَفَ بِالْإِيمَانِ فَقَالَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَعَرَفَ مَوْضِعَ التَّخْوِيفِ ثُمَّ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعِيذَهُ مِنَ النَّارِ.
وَإِنْ هُوَ مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا نداء للذين آمنوا فقال يأيها الَّذِينَ آمَنُوا وَقَفَ عِنْدَهَا وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ لَبَّيْكَ رَبِّي وَسَعْدَيْكَ وَيَتَأَمَّلُ مَا بَعْدَهَا مِمَّا أُمِرَ بِهِ وَنُهِيَ عَنْهُ فَيَعْتَقِدُ قَبُولَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي قَدْ قَصَّرَ عَنْهُ فِيمَا مَضَى اعْتَذَرَ عَنْ فِعْلِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ فِي تَقْصِيرِهِ وذلك مثل قوله: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا}.
وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَمْرِ أَهْلِهِ فِي صَلَاتِهِمْ وَصِيَامِهِمْ وَأَدَاءِ مَا يَلْزَمُهُمْ في طهاراتهم وجناياتهم وَحَيْضِ النِّسَاءِ وَنِفَاسِهِنَّ وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَتَفَقَّدَ ذَلِكَ فِي أَهْلِهِ وَيُرَاعِيَهُمْ بِمَسْأَلَتِهِمْ عَنْ ذَلِكَ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ يُحْسِنُ ذَلِكَ كَانَتْ مَسْأَلَتُهُ تَذْكِيرًا لَهُ وَتَأْكِيدًا لِمَا فِي قَلْبِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ كَانَ ذَلِكَ تَعْلِيمًا لَهُ ثُمَّ هَكَذَا يُرَاعِي صِغَارَ وَلَدِهِ وَيُعَلِّمُهُمْ إِذَا بَلَغُوا سَبْعًا أَوْ ثَمَانِيَ سِنِينَ وَيَضْرِبُهُمْ إِذَا بَلَغُوا الْعَشْرَ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ فَمَنْ كَانَ مِنَ النَّاسِ قَدْ قَصَّرَ فِيمَا مَضَى اعْتَقَدَ قَبُولَهُ وَالْأَخْذَ بِهِ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ وَإِنْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَقَدْ عَرَفَهُ فَإِنَّهُ إِذَا مَرَّ بِهِ تَأَمَّلَهُ وَتَفَهَّمَهُ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} فَإِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ تَذَكَّرَ أَفْعَالَهُ فِي نَفْسِهِ وَذُنُوبَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الظُّلَامَاتِ وَالْغِيبَةِ وَغَيْرِهَا وَرَدَّ ظُلَامَتَهُ وَاسْتَغْفَرَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ قَصَّرَ فِي عَمَلِهِ وَنَوَى أَنْ يَقُومَ بِذَلِكَ وَيَسْتَحِلَّ كُلَّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شيء من هذه الظلامات مَنْ كَانَ مِنْهُمْ حَاضِرًا وَأَنْ يَكْتُبَ إِلَى مَنْ كَانَ غَائِبًا وَأَنْ يَرُدَّ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ عَلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ فَيَعْتَقِدُ هَذَا فِي وَقْتِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ سَمِعَ وَأَطَاعَ فَإِذَا فَعَلَ الْإِنْسَانُ هَذَا كَانَ قَدْ قَامَ بِكَمَالِ تَرْتِيلِ الْقُرْآنِ فَإِذَا وَقَفَ عَلَى آيَةٍ لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهَا يَحْفَظُهَا حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهَا مَنْ يَعْرِفُ مَعْنَاهَا لِيَكُونَ مُتَعَلِّمًا لِذَلِكَ طَالِبًا لِلْعَمَلِ بِهِ وَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ قَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا اعْتَقَدَ مِنْ قَوْلِهِمْ أَقَلَّ مَا يَكُونُ وَإِنِ احْتَاطَ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَوْكَدَ مَا فِي ذَلِكَ كَانَ أَفْضَلَ لَهُ وَأَحْوَطَ لِأَمْرِ دِينِهِ.
وَإِنْ كَانَ مَا يَقْرَؤُهُ مِنَ الْآيِ فِيمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ مِنْ خَبَرِ مَنْ مَضَى مِنَ الْأُمَمِ فَلْيَنْظُرْ فِي ذَلِكَ وَإِلَى مَا صَرَفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْهُ فَيُجَدِّدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ شُكْرًا.
وَإِنْ كَانَ مَا يَقْرَؤُهُ مِنَ الْآيِ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ أَضْمَرَ قَبُولَ الْأَمْرِ وَالِائْتِمَارِ وَالِانْتِهَاءِ عَنِ الْمَنْهِيِّ وَالِاجْتِنَابِ لَهُ فَإِنْ كَانَ مَا يَقْرَؤُهُ مِنْ ذَلِكَ وَعِيدًا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَلْيَنْظُرْ إِلَى قَلْبِهِ فَإِنْ جَنَحَ إِلَى الرَّجَاءِ فَزَّعَهُ بِالْخَوْفِ وَإِنْ جَنَحَ إِلَى الْخَوْفِ فَسَحَ لَهُ فِي الرَّجَاءِ حَتَّى يَكُونَ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ مُعْتَدِلَيْنِ فَإِنَّ ذَلِكَ كَمَالُ الْإِيمَانِ.
وَإِنْ كَانَ مَا يَقْرَؤُهُ مِنَ الْآيِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي تَفَرَّدَ اللَّهُ بِتَأْوِيلِهِ فَلْيَعْتَقِدِ الْإِيمَانَ بِهِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تأويله} يَعْنِي عَاقِبَةَ الْأَمْرِ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}.
وَإِنْ كَانَ مَوْعِظَةً اتَّعَظَ بِهَا فَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ هَذَا فَقَدْ نَالَ كَمَالَ التَّرْتِيلِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ النَّاسُ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةُ مَقَامَاتٍ:
الْأَوَّلُ: مَنْ يَشْهَدُ أَوْصَافَ الْمُتَكَلِّمِ فِي كَلَامِهِ وَمَعْرِفَةِ مَعَانِي خِطَابِهِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ وَتَكَلُّمِهِ بِخِطَابِهِ وَتَمَلِّيهِ بِمُنَاجَاتِهِ وَتَعَرُّفِهِ مِنْ صِفَاتِهِ فَإِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ تُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى اسْمٍ أَوْ وَصْفٍ أَوْ حُكْمٍ أَوْ إِرَادَةٍ أَوْ فِعْلٍ لِأَنَّ الْكَلَامَ يُنْبِئُ عَنْ مَعَانِي الْأَوْصَافِ وَيَدُلُّ عَلَى الْمَوْصُوفِ وَهَذَا مَقَامُ الْعَارِفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ لَا يَنْظُرُ إِلَى نَفْسِهِ وَلَا إِلَى قِرَاءَتِهِ وَلَا إِلَى تَعَلُّقِ الْإِنْعَامِ بِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ مَقْصُورُ الْفَهْمِ عَنِ الْمُتَكَلِّمِ مَوْقُوفُ الْفِكْرِ عَلَيْهِ مُسْتَغْرِقٌ بِمُشَاهَدَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَلِهَذَا قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ لَقَدْ تَجَلَّى اللَّهُ لِخَلْقِهِ بِكَلَامِهِ وَلَكِنْ لَا يُبْصِرُونَ.
وَمِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ لَوْ طَهُرَتِ الْقُلُوبُ لَمْ تَشْبَعْ مِنَ التِّلَاوَةِ لِلْقُرْآنِ.
الثَّانِي: مَنْ يَشْهَدُ بِقَلْبِهِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يُخَاطِبُهُ وَيُنَاجِيهِ بِأَلْطَافِهِ وَيَتَمَلَّقُهُ بإنعامه وَإِحْسَانِهِ فَمَقَامُ هَذَا الْحَيَاءُ وَالتَّعْظِيمُ وَحَالُهُ الْإِصْغَاءُ وَالْفَهْمُ وَهَذَا لِعُمُومِ الْمُقَرَّبِينَ.
الثَّالِثُ: مَنْ يَرَى أَنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ سُبْحَانَهُ فَمَقَامُ هَذَا السُّؤَالُ وَالتَّمَكُّنُ وَحَالُهُ الطَّلَبُ وَهَذَا الْمَقَامُ لِخُصُوصِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ يَلْقَى السَّمْعَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ سَمِيعِهِ مُصْغِيًا إِلَى سِرِّ كَلَامِهِ شَهِيدَ الْقَلْبِ لِمَعَانِي صِفَاتِهِ نَاظِرًا إِلَى قُدْرَتِهِ تَارِكًا لِمَعْقُولِهِ وَمَعْهُودِ عِلْمِهِ مُتَبَرِّئًا مِنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ مُعَظِّمًا لِلْمُتَكَلِّمِ مُتَفَرِّغًا إِلَى الْفَهْمِ بِحَالٍ مُسْتَقِيمٍ وَقَلْبٍ سَلِيمٍ وَصَفَاءِ يَقِينٍ وَقُوَّةِ عِلْمٍ وَتَمْكِينٍ سَمِعَ فَصْلَ الْخِطَابِ وَشَهِدَ غَيْبَ الْجَوَابِ لِأَنَّ التَّرْتِيلَ فِي الْقُرْآنِ وَالتَّدَبُّرَ لِمَعَانِي الْكَلَامِ وَحُسْنَ الِاقْتِصَادِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ فِي الْإِفْهَامِ وَالْإِيقَافَ عَلَى الْمُرَادِ وَصِدْقَ الرَّغْبَةِ فِي الطَّلَبِ سَبَبٌ للاطلاع على المطلع من المسر الْمَكْنُونِ الْمُسْتَوْدَعِ وَكُلُّ كَلِمَةٍ مِنَ الْخِطَابِ تَتَوَجَّهُ عَشْرَ جِهَاتٍ لِلْعَارِفِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ مَقَامٌ وَمُشَاهَدَاتٌ أَوَّلُهَا الْإِيمَانُ بِهَا وَالتَّسْلِيمُ لَهَا وَالتَّوْبَةُ إِلَيْهَا وَالصَّبْرُ عَلَيْهَا وَالرِّضَا بِهَا وَالْخَوْفُ مِنْهَا وَالرَّجَاءُ إِلَيْهَا وَالشُّكْرُ عَلَيْهَا وَالْمَحَبَّةُ لَهَا وَالتَّوَكُّلُ فِيهَا فَهَذِهِ الْمَقَامَاتُ الْعَشْرُ هِيَ مَقَامَاتُ الْمُتَّقِينَ وَهَى مُنْطَوِيَةٌ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ يَشْهَدُهَا أَهْلُ التَّمْكِينِ وَالْمُنَاجَاةِ وَيَعْرِفُهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ لِأَنَّ كَلَامَ الْمَحْبُوبِ حَيَاةٌ لِلْقُلُوبِ لَا يُنْذَرُ بِهِ إِلَّا حَيٌّ وَلَا يَحْيَا بِهِ إِلَّا مُسْتَجِيبٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} وقال تعالى: {إذا دعاكم لما يحييكم} وَلَا يَشْهَدُ هَذِهِ الْعَشْرَ مُشَاهَدَاتٍ إِلَّا مَنْ يَتَنَقَّلُ فِي الْعَشْرِ الْمَقَامَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ الأحزاب أَوَّلُهَا مَقَامُ الْمُسْلِمِينَ وَآخِرُهَا مَقَامُ الذَّاكِرِينَ وَبَعْدَ مقام الذِّكْرِ هَذِهِ الْمُشَاهَدَاتُ الْعَشْرِ فَعِنْدَهَا لَا تُمَلُّ الْمُنَاجَاةُ لِوُجُودِ الْمُصَافَاةِ وَعَلِمَ كَيْفَ تُجَلَّى لَهُ تِلْكَ الصِّفَاتُ الْإِلَهِيَّةُ فِي طَيِّ هَذِهِ الْأَدَوَاتِ وَلَوْلَا اسْتِتَارُ كُنْهِ جَمَالِ كَلَامِهِ بِكِسْوَةِ الْحُرُوفِ لما ثبت لسماع الكلام عرش ولا ترى وَلَا تَمَكَّنَ لِفَهْمِ عَظِيمِ الْكَلَامِ إِلَّا عَلَى حَدِّ فَهْمِ الْخَلْقِ فَكُلُّ أَحَدٍ يَفْهَمُ عَنْهُ بِفَهْمِهِ الَّذِي قُسِمَ لَهُ حِكْمَةً مِنْهُ.
قَالَ بعض العلماء: في القرآن ميادين وبساتين وَعَرَائِسُ وَدَيَابِيجُ وَرِيَاضٌ فَالْمِيمَاتُ مَيَادِينُ الْقُرْآنِ وَالرَّاءَاتُ بَسَاتِينُ الْقُرْآنِ وَالْحَاءَاتُ مَقَاصِيرُ الْقُرْآنِ وَالْمُسَبِّحَاتُ عَرَائِسُ الْقُرْآنِ وَالْحَوَامِيمُ دَيَابِيجُ الْقُرْآنِ وَالْمُفَصَّلُ رِيَاضُهُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَإِذَا دَخَلَ الْمُرِيدُ فِي الْمَيَادِينِ وَقَطَفَ مِنَ الْبَسَاتِينِ وَدَخَلَ الْمَقَاصِيرَ وَشَهِدَ الْعَرَائِسَ وَلَبِسَ الدَّيَابِيجَ وَتَنَزَّهَ فِي الرِّيَاضِ وَسَكَنَ غُرُفَاتِ الْمَقَامَاتِ اقْتَطَعَهُ عَمَّا سِوَاهُ وَأَوْقَفَهُ مَا يَرَاهُ وشغله المشاهد لَهُ عَمَّا عَدَاهُ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم اعرفوا الْقُرْآنَ وَالْتَمِسُوا غَرَائِبَهُ وَغَرَائِبُهُ فُرُوضُهُ وَحُدُودُهُ فَإِنَّ القرآن عَلَى خَمْسَةٍ حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَمُحْكَمٍ وَأَمْثَالٍ وَمُتَشَابِهٍ فَخُذُوا الْحَلَالَ وَدَعُوا الْحَرَامَ وَاعْمَلُوا بِالْمُحْكَمِ وَآمِنُوا بالتمشابه وَاعْتَبِرُوا بِالْأَمْثَالِ.
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَفْقَهُ الرَّجُلُ حَتَّى يَجْعَلَ لِلْقُرْآنِ وُجُوهًا.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن.
قَالَ ابْنُ سَبْعٍ فِي كِتَابِ شِفَاءِ الصَّدْرِ: هَذَا الَّذِي قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَابْنُ مَسْعُودٍ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ تَفْسِيرِهِ الظَّاهِرِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِكُلِّ آيَةٍ سِتُّونَ أَلْفَ فَهْمٍ وَمَا بَقِيَ مِنْ فَهْمِهِ أَكْثَرُ وَقَالَ آخَرُونَ الْقُرْآنُ يَحْتَوِي عَلَى سَبْعَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ عِلْمٍ إِذْ لِكُلِّ كَلِمَةٍ عِلْمٌ ثُمَّ يَتَضَاعَفُ ذَلِكَ أَرْبَعًا إِذْ لِكُلِّ كَلِمَةٍ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ وَحَدٌّ وَمَطْلَعٌ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْعُلُومُ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَفَى الْقُرْآنِ شَرْحُ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وأفعاله.