فصل: تفسير الآيات (15- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (9- 11):

{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11)}
قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} قرأ أهل الحرمين وابن محيصن ومجاهد وأبو عمرو وابن أبي إسحاق وحفص رَبُّ بالرفع على الابتداء والخبر لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
وقيل: على إضمار هُوَ. الباقون {رب} بالخفض على نعت الرب تعالى في قوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} {رب المشرق} ومن علم أنه رب المشارق والمغارب انقطع بعمله وأمله إليه. {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} أي قائما بأمورك.
وقيل: كفيلا بما وعدك. قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ} أي من الأذى والسب والاستهزاء، ولا تجزع من قولهم، ولا تمتنع من دعائهم. {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا} أي لا تتعرض لهم، ولا تشتغل بمكافأتهم، فإن في ذلك ترك الدعاء إلى الله. وكان هذا قبل الامر بالقتال، ثم أمر بعد بقتالهم وقتلهم، فنسخت آية القتال ما كان قبلها من الترك، قاله قتادة وغيره.
وقال أبو الدرداء: إنا لنكشر في وجوه أقوام ونضحك إليهم وإن قلوبنا لتقليهم أو لتلعنهم. قوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} أي أرض بي لعقابهم. نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين.
وقال مقاتل: نزلت في المطعمين يوم بدر وهم عشرة. وقد تقدم ذكرهم في الأنفال.
وقال يحيى بن سلام: إنهم بنو المغيرة.
وقال سعيد بن جبير أخبرت أنهم اثنا عشر رجلا. {أُولِي النَّعْمَةِ} أي أولى الغنى والترفه واللذة في الدنيا {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} يعني إلى مدة آجالهم. قالت عائشة رضي الله عنها: لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيرا حتى وقعت وقعة بدر.
وقيل: وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا يعني إلى مدة الدنيا.

.تفسير الآيات (12- 14):

{إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14)}
قوله تعالى: {إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً} الأنكال: القيود. عن الحسن ومجاهد وغيرهما. واحدها نكل، وهو ما منع الإنسان من الحركة.
وقيل: سمى نكلا، لأنه ينكل به. قال الشعبي: أترون أن الله تعالى جعل الأنكال في أرجل أهل النار خشية أن يهربوا؟ لا والله! ولكنهم إذا أرادوا أن يرتفعوا استفلت بهم.
وقال الكلبي: الأنكال: الاغلال، والأول أعرف في اللغة، ومنه قول الخنساء:
دعاك فقطعت إنكاله ** وقد كن قبلك لا تقطع

وقيل: إنه أنواع العذاب الشديد، قاله مقاتل. وقد جاء أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله يحب النكل على النكل» بالتحريك، قاله الجوهري. قيل: وما النكل؟ قال: «الرجل القوي المجرب، على الفرس القوي المجرب» ذكره الماوردي. قال: ومن ذلك سمى القيد نكلا لقوته، وكذلك الغل، وكل عذاب قوي فاشتد، والجحيم النار المؤججة. {وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ} أي غير سائغ، يأخذ بالحلق، لا هو نازل ولا هو خارج، وهو الغسلين والزقوم والضريع، قاله ابن عباس. وعنه أيضا: انه شوك يدخل الحلق، فلا ينزل ولا يخرج.
وقال الزجاج: أي طعامهم الضريع، كما قال: {لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية: 6] وهو شوك كالعوسج.
وقال مجاهد: هو الزقوم، كما قال: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 44- 43]. والمعنى واحد.
وقال حمران بن أعين: قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ}
فصعق.
وقال خليد بن حسان: أمسى الحسن عندنا صائما، فأتيته بطعام فعرضت له هذه الآية إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً. وَطَعاماً فقال: أرفع طعامك. فلما كانت الثانية أتيته بطعام فعرضت له هذه الآية، فقال: ارفعوه. ومثله في الثالثة، فانطلق ابنه إلى ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى البكاء فحدثهم، فجاءوه فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق. والغصة: الشجا، وهو ما ينشب في الحلق من عظم أو غيره. وجمعها غصص. والغصص بالفتح مصدر قولك: غصصت يا رجل تغص، فأنت غاص بالطعام وغصان، وأغصصته أنا، والمنزل غاص بالقوم أي ممتلئ بهم. قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ} أي تتحرك وتضطرب بمن عليها. وانتصب يَوْمَ على الظرف أي ينكل بهم ويعذبون يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ.
وقيل: بنزع الخافض، يعني هذه العقوبة في يوم ترجف الأرض والجبال.
وقيل: العامل ذَرْنِي أي وذرني والمكذبين يوم ترجف الأرض والجبال. {وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا} أي وتكون. والكثيب الرمل المجتمع- قال حسان:
عرفت ديار زينب بالكثيب ** كخط الوحي في الورق القشيب

والمهيل: الذي يمر تحت الأرجل. قال الضحاك والكلبي: المهيل: هو الذي إذا وطئته بالقدم زل من تحتها، وإذا أخذت أسفله انهال.
وقال ابن عباس: مَهِيلًا أي رملا سائلا متناثرا وأصله مهيول وهو مفعول من قولك: هلت عليه التراب أهيله هيلا: إذا صببته. يقال: مهيل ومهيول، ومكيل ومكيول، ومدين ومديون، ومعين ومعيون، قال الشاعر:
قد كان قومك يحسبونك سيدا ** وإدخال أنك سيد معيون

وفي حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهم شكوا إليه الجدوبة، فقال: «أتكيلون أم تهيلون» قالوا: نهيل. قال: «كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه». وأهلت الدقيق لغة في هلت فهو مهال ومهيل. وإنما حذفت الواو، لان الياء تثقل فيها الضمة، فحذفت فسكنت هي والواو فحذفت الواو لالتقاء الساكنين.

.تفسير الآيات (15- 19):

{إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)}
قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا} يريد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسله إلى قريش {كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} وهو موسى {فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} أي كذب به ولم يؤمن. قال مقاتل: ذكر موسى وفرعون، لان أهل مكة ازدروا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستخفوا به، لأنه ولد فيهم، كما أن فرعون ازدرى موسى، لأنه رباه ونشأ فيما بينهم، كما قال تعالى: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً} [الشعراء: 18]. قال المهدوي: ودخلت الالف واللام في الرسول لتقدم ذكره، ولذلك اختير في أول الكتب سلام عليكم، وفي آخرها السلام عليكم. {وَبِيلًا} أي ثقيلا شديدا. وضرب وبيل وعذاب وبيل: أي شديد، قاله ابن عباس ومجاهد. ومنه مطر وابل أي شديد، قاله الأخفش.
وقال الزجاج: أي ثقيلا غليظا. ومنه قيل للمطر وابل.
وقيل: مهلكا والمعنى عاقبناه عقوبة غليظة قال:
أكلت بنيك أكل الضب حتى ** وجدت مرارة الكلا الوبيل

واستوبل فلان كذا: أي لم يحمد عاقبته. وماء وبيل: أي وخيم غير مرئ، وكلا مستوبل وطعام وبيل ومستوبل: إذا لم يمرئ ولم يستمرا، قال زهير:
فقضوا منايا بينهم ثم أصدروا ** إلى كلا مستوبل متوخم

وقالت الخنساء:
لقد أكلت بجيلة يوم لاقت ** فوارس مالك أكلا وبيلا

والوبيل أيضا: العصا الضخمة، قال:
لو أصبح في يمنى يدي زمامها ** وفي كفي الأخرى وبيل تحاذره

وكذلك الموبل بكسر الباء، والمؤبلة أيضا: الحزمة من الحطب، وكذلك الوبيل، قال طرفة:
عقيلة شيخ كالوبيل يلندد

قوله تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً} هو توبيخ وتقريع، أي كيف تتقون العذاب إن كفرتم. وفية تقديم وتأخير، أي كيف تتقون يوما يجعل الولدان شيبا إن كفرتم. وكذا قراءة عبد الله وعطية. قال الحسن: أي بأي صلاة تتقون العذاب؟ بأي صوم تتقون العذاب؟ وفية إضمار، أي كيف تتقون عذاب يوم.
وقال قتادة: والله ما يتقى من كفر بالله ذلك اليوم بشيء. ويَوْماً مفعول ب- تَتَّقُونَ على هذه القراءة وليس بظرف، وإن قدر الكفر بمعنى الجحود كان اليوم مفعول {كَفَرْتُمْ}.
وقال بعض المفسرين: وقف التمام على قوله: {كَفَرْتُمْ} والابتداء {يَوْماً} يذهب إلى أن اليوم مفعول يَجْعَلُ والفعل لله عز وجل، وكأنه قال: يجعل الله الولدان شيبا في يوم. قال ابن الأنباري، وهذا لا يصلح، لان اليوم هو الذي يفعل هذا من شدة هوله. المهدوي: والضمير في يَجْعَلُ يجوز أن يكون لله عز وجل، ويجوز أن يكون لليوم، وإذا كان لليوم صلح أن يكون صفة له، ولا يصلح ذلك إذا كان الضمير لله عز وجل إلا مع تقدير حذف، كأنه قال: يوما يجعل الله الولدان فيه شيبا. ابن الأنباري: ومنهم من نصب اليوم ب كَفَرْتُمْ وهذا قبيح، لان اليوم إذا علق ب- كَفَرْتُمْ أحتاج إلى صفة، أي كفرتم بيوم. فإن احتج محتج بأن الصفة قد تحذف وينصب ما بعدها، احتججنا عليه بقراءة عبد الله فكيف تتقون يوما. قلت: هذه القراءة ليست متواترة، وإنما جاءت على وجه التفسير. وإذا كان الكفر بمعنى الجحود ف- يوما مفعول صريح من غير صفة ولا حذفها، أي فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء. وقرأ أبو السمال قعنب فَكَيْفَ تَتَّقُونَ بكسر النون على الإضافة. والْوِلْدانَ الصبيان.
وقال السدي: هم أولاد الزنا.
وقيل: أولاد المشركين. والعموم أصح، أي يشيب فيه الصغير من غير كبر. وذلك حين يقال: «يا آدم قم فابعث بعث النار». على ما تقدم في أول سورة الحج. قال القشيري: ثم إن أهل الجنة يغير الله أحوالهم وأوصافهم على ما يريد.
وقيل: هذا ضرب مثل لشدة ذلك اليوم وهو مجاز، لان يوم القيامة لا يكون فيه ولدان ولكن معناه أن هيبة ذلك اليوم بحال لو كان فيه هناك صبي لشاب رأسه من الهيبة. ويقال: هذا وقت الفزع، وقيل أن ينفخ في الصور نفخة الصعق، فالله أعلم. الزمخشري: وقد مر بي في بعض الكتب أن رجلا أمسى فاحم الشعر كحنك الغراب، فأصبح وهو أبيض الرأس واللحية كالثغامة، فقال: أريت القيامة والجنة والنار في المنام، ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار، فمن هول ذلك أصبحت كما ترون. ويجوز أن يوصف اليوم بالطول، وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب. قوله تعالى: {السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} أي متشققة لشدته. ومعنى بِهِ أي فيه، أي في ذلك اليوم لهوله. هذا أحسن ما قيل فيه. ويقال: مثقلة به أثقالا يؤدي إلى انفطارها لعظمته عليها وخشيتها من وقوعه، كقوله تعالى: {ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 187].
وقيل: بِهِ أي له، أي لذلك اليوم، يقال: فعلت كذا بحرمتك ولحرمتك، والباء واللام وفي: متقاربة في مثل هذا الموضع، قال الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ} [الأنبياء: 47] أي في يوم القيامة.
وقيل: بِهِ أي بالأمر أي السماء منفطر بما يجعل الولدان شيبا.
وقيل: منفطر بالله، أي بأمره، وقال أبو عمرو بن العلاء: لم يقل منفطرة، لان مجازها السقف، تقول: هذا سماء البيت، قال الشاعر:
فلو رفع السماء إليه قوما ** لحقنا بالسماء وبالسحاب

وفي التنزيل: {وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} [الأنبياء: 32].
وقال الفراء: السماء يذكر ويؤنث.
وقال أبو علي: هو من باب الجراد المنتشر، والشجر الأخضر، و{أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20].
وقال أبو علي أيضا: أي السماء ذات انفطار، كقولهم: امرأة مرضع، أي ذات إرضاع، فجرى على طريق النسب. كانَ وَعْدُهُ أي بالقيامة والحساب والجزاء مَفْعُولًا كائنا لا شك فيه ولا خلف.
وقال مقاتل: كان وعده بأن يظهر دينه على الدين كله. قوله تعالى: {إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ} يريد هذه السورة أو الآيات عظة.
وقيل: آيات القرآن، إذ هو كالسورة الواحدة. {فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ} أي من أراد أن يؤمن ويتخذ بذلك إلى ربه {سَبِيلًا} أي طريقا إلى رضاه ورحمته فليرغب، فقد أمكن له، لأنه أظهر له الحجج والدلائل. ثم قيل: نسخت بآية السيف، وكذلك قوله تعالى: {فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ} [المدثر: 55] قال الثعلبي: والأشبه أنه غير منسوخ.