فصل: تفسير الآية رقم (2):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (2):

{إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2)}
قرأ مجاهد وحميد {إلفهم} ساكنة اللام بغير ياء. وروي نحوه عن ابن كثير. وكذلك روت أسماء أنها سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ {إلفهم}. وروي عن ابن عباس وغيره. وقرأ أبو جعفر والوليد عن أهل الشام وأبو حيوة {إلافهم} مهموزا مختلسا بلا ياء. وقرأ أبو بكر عن عاصم {إيلافهم} بهمزتين، الأولى مكسورة والثانية ساكنة. والجمع بين الهمزتين في الكلمتين شاذ. الباقون إِيلافِهِمْ بالمد والهمز، وهو الاختيار، وهو بدل من الإيلاف الأول للبيان. وهو مصدر آلف: إذا جعلته يألف. وألف هو إلفا، على ما تقدم ذكره من القراءة، أي وما قد ألفوه من رحلة الشتاء والصيف. روى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ} قال: لا يشق عليهم رحلة شتاء ولا صيف، منة منه على قريش.
وقال الهروي وغيره: وكان أصحاب الإيلاف أربعة إخوة: هاشم، وعبد شمس، والمطلب، ونوفل، بنو عبد مناف. فأما هاشم فإنه كان يؤلف ملك الشام، أي أخذ منه حبلا وعهدا يأمن به في تجارته إلى الشام. وأخوه عبد شمس كان يؤلف إلى الحبشة. والمطلب إلى اليمن. ونوفل إلى فارس. ومعنى يؤلف يجير. فكان هؤلاء الاخوة يسمون المجيرين. فكان تجار قريش يختلفون إلى الأمصار بحبل هؤلاء الاخوة، فلا يتعرض لهم. قال الأزهري: الإيلاف: شبه الإجارة بالخفارة، يقال: آلف يؤلف: إذا أجار الحمائل بالخفارة. والحمائل: جمع حمولة. قال: والتأويل: أن قريشا كانوا سكان الحرم، ولم يكن لهم زرع ولا ضرع، وكانوا يميرون في الشتاء والصيف آمنين، والناس يتخطفون من حولهم، فكانوا إذا عرض لهم عارض قالوا: نحن أهل حرم الله، فلا يتعرض الناس لهم.
وذكر أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا في تفسيره: حدثنا سعيد بن محمد، عن بكر بن سهل الدمياطي، بإسناده إلى ابن عباس، في قول الله عز وجل: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إلفهم رحلة الشتاء والصيف}. وذلك أن قريشا كانوا إذا أصابت واحدا منهم مخمصة، جرى هو وعياله إلى موضع معروف، فضربوا على أنفسهم خباء فماتوا، حتى كان عمرو بن عبد مناف، وكان سيدا في زمانه، وله ابن يقال له أسد، وكان له ترب من بني مخزوم، يحبه ويلعب معه. فقال له: نحن غدا نعتفد، قال ابن فارس: هذه لفظة في هذا الخبر لا أدري: بالدال هي أم بالراء، فإن كانت بالراء فلعلها من العفر، وهو التراب، وإن كان بالدال، فما أدري معناها، وتأويله على ما أظنه: ذهابهم إلى ذلك الخباء، وموتهم واحدا بعد واحد. قال: فدخل أسد على أمه يبكي، وذكر ما قاله تربه. قال: فأرسلت أم أسد إلى أولئك بشحم ودقيق، فعاشوا به أياما. ثم إن تربه أتاه أيضا فقال: نحن غدا نعتفد، فدخل أسد على أبيه يبكي، وخبره خبر تربه، فاشتد ذلك على عمرو بن عبد مناف، فقام خطيبا في قريش وكانوا يطيعون أمره، فقال: إنكم أحدثتم حدثا تقلون فيه وتكثر العرب، وتذلون وتعز العرب، وأنتم أهل حرم الله عز وجل، وأشرف ولد آدم، والناس لكم تبع، ويكاد هذا الاعتفاد يأتي عليكم. فقالوا: نحن لك تبع. قال: ابتدءوا بهذا الرجل- يعني أبا ترب أسد- فأغنوه عن الاعتفاد، ففعلوا. ثم إنه نحر البدن، وذبح الكباش والمعز، ثم هشم الثريد، وأطعم الناس، فسمي هاشما. وفية قال الشاعر:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ** ورجال مكة مسنتون عجاف

ثم جمع كل بني أب على رحلتين: في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام للتجارات، فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير، حتى صار فقيرهم كغنيهم، فجاء الإسلام وهم على هذا، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالا ولا أعز من قريش، وهو قول شاعرهم:
والخالطون فقيرهم بغنيهم ** حتى يصير فقيرهم كالكافي

فلم يزالوا كذلك حتى بعث الله رسوله محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ بصنيع هاشم وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ أن تكثر العرب ويقلوا.
قوله تعالى: {رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ} {رِحْلَةَ} نصب بالمصدر، أي ارتحالهم رحلة، أو بوقوع {إِيلافِهِمْ} عليه، أو على الظرف. ولو جعلتها في محل الرفع، على معنى هما رحلة الشتاء والصيف، لجاز. والأول أولى. والرحلة الارتحال. وكانت إحدى الرحلتين إلى اليمن في الشتاء، لأنها بلاد حامية، والرحلة الأخرى في الصيف إلى الشام، لأنها بلاد باردة. وعن ابن عباس أيضا قال: كانوا يشتون بمكة لدفئها، ويصيفون بالطائف لهوائها. وهذه من أجل النعم أن يكون للقوم ناحية حر تدفع عنهم برد الشتاء، وناحية برد تدفع عنهم حر الصيف، فذكرهم الله تعالى هذه النعمة.
وقال الشاعر:
تشتي بمكة نعمة ** ومصيفها بالطائف

وهنا أربع مسائل:
الأولى: اختار القاضي أبو بكر بن العربي وغيره من العلماء: أن قوله تعالى: {لِإِيلافِ} متعلق بما قبله. ولا يجوز أن يكون متعلقا بما بعده، وهو قوله تعالى: {لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ} قال: وإذا ثبت أنه متعلق بالسورة الأخرى- وقد قطع عنه بكلام مبتدأ، واستئناف بيان وسطر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، فقد تبين جواز الوقف في القراءة للقراء قبل تمام الكلام، وليست المواقف التي ينتزع بها القراء شرعا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرويا، وإنما أرادوا به تعليم الطلبة المعاني، فإذا علموها وقفوا حيث شاءوا. فأما الوقف عند انقطاع النفس فلا خلاف فيه، ولا تعد ما قبله إذا اعتراك ذلك، ولكن ابدأ من حيث وقف بك نفسك. هذا رأيي فيه، ولا دليل على ما قالوه، بحال، ولكني أعتمد الوقف على التمام، كراهية الخروج عنهم. قلت: ومن الدليل على صحة هذا، قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ثم يقف. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ثم يقف. وقد مضى في مقدمة الكتاب. وأجمع المسلمون أن الوقف عند قوله: {كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل: 5] ليس بقبيح. وكيف يقال إنه قبيح وهذه السورة تقرأ في الركعة الأولى والتي بعدها في الركعة الثانية، فيتخللها من قطع القراءة أركان؟ وليس أحد من العلماء يكره ذلك، وما كانت العلة فيه إلا أن قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل: 5] انتهاء آية. فالقياس على ذلك: ألا يمتنع الوقف عند أعجاز الآيات سواء كان الكلام يتم، والغرض ينتهي، أو لا يتم، ولا ينتهي. وأيضا فإن الفواصل حلية وزينة للكلام المنظوم، ولولاها لم يتبين المنظوم من المنثور. ولا خفاء أن الكلام المنظوم أحسن، فثبت بذلك أن الفواصل من محاسن المنظوم، فمن أظهر فواصله بالوقوف عليها فقد أبدى محاسنه، وترك الوقوف يخفي تلك المحاسن، ويشبه المنثور بالمنظوم، وذلك إخلال بحق المقروء.
الثانية: قال مالك: الشتاء نصف السنة، والصيف نصفها، ولم أزل أرى ربيعة ابن أبي عبد الرحمن ومن معه، لا يخلعون عمائمهم حتى تطلع الثريا، وهو يوم التاسع عشر من بشنس، وهو يوم خمسة وعشرين من عدد الروم أو الفرس. وأراد بطلوع الثريا أن يخرج السعاة، ويسير الناس بمواشيهم إلى مياههم، وأن طلوع الثريا أول الصيف ودبر الشتاء. وهذا مما لا خلاف فيه بين أصحابه عنه.
وقال عنه أشهب وحده: إذا سقطت الهقعة نقص الليل، فلما جعل طلوع الثريا أول الصيف، وجب أن يكون له في مطلق السنة ستة أشهر، ثم يستقبل الشتاء من بعد ذهاب الصيف ستة أشهر. وقد سئل محمد بن عبد الحكم عمن حلف ألا يكلم أمرأ حتى يدخل الشتاء؟ فقال: لا يكلمه حتى يمضي سبعة عشر من هاتور. ولو قال حتى يدخل الصيف، لم يكلمه حتى يمضي سبعة عشر من بشنس. قال القرظي: أما ذكر هذا عن محمد في بشنس، فهو سهو، إنما هو تسعة عشر من بشنس، لأنك إذ حسبت المنازل على ما هي عليه، من ثلاث عشرة ليلة كل منزلة، علمت أن ما بين تسع عشرة من هاتور لا تنقضي منازله إلا بدخول تسع عشرة من بشنس. والله أعلم.
الثالثة: قال قوم: الزمان أربعة أقسام: شتاء، وربيع، وصيف، وخريف.
وقال قوم: هو شتاء، وصيف، وقيظ، وخريف. والذي قاله مالك أصح، لان الله قسم الزمان قسمين ولم يجعل لهما ثالثا.
الرابعة: لما امتن الله تعالى على قريش برحلتين، شتاء وصيفا، على ما تقدم، كان فيه دليل على جواز تصرف الرجل في الزمانين بين محلين، يكون حالهما في كل زمان أنعم من الآخر، كالجلوس في المجلس البحري في الصيف، وفي القبلي في الشتاء، وفي اتخاذ البادهنجات والخيش للتبريد، واللبد واليانوسة للدفء.

.تفسير الآية رقم (3):

{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3)}
أمرهم الله تعالى بعبادته وتوحيده، لأجل إيلافهم رحلتين. ودخلت الفاء لأجل ما في الكلام من معنى الشرط، لان المعنى: إما لا فليعبدوه لايلافهم، على معنى أن نعم الله تعالى عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لشأن هذه الواحدة، التي هي نعمة ظاهرة. والبيت: الكعبة.
وفي تعريف نفسه لهم بأنه رب هذا البيت وجهان: أحدهما لأنه كانت لهم أوثان فميز نفسه عنها.
الثاني: لأنهم بالبيت شرفوا على سائر العرب، فذكر لهم ذلك، تذكيرا لنعمته.
وقيل: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ أي ليألفوا عبادة رب الكعبة، كما كانوا يألفون الرحلتين. قال عكرمة: كانت قريش قد ألفوا رحلة إلى بصرى ورحلة إلى اليمن، فقيل لهم: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ أي يقيموا بمكة. رحلة الشتاء، إلى اليمن، والصيف: إلى الشام.

.تفسير الآية رقم (4):

{الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)}
قوله تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} أي بعد جوع. وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ قال ابن عباس: وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام حيث قال: {رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ} [البقرة: 126].
وقال ابن زيد: كانت العرب يغير بعضها على بعض، ويسبي بعضها من بعض، فأمنت قريش من ذلك المكان الحرم- وقرأ: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57].
وقيل: شق عليهم السفر في الشتاء والصيف، فألقى الله في قلوب الحبشة أن يحملوا إليهم طعاما في السفن، فحملوه، فخافت قريش منهم، وظنوا أنهم قدموا لحربهم، فخرجوا إليهم متحرزين، فإذا هم قد جلبوا إليهم الطعام، وأغاثوهم بالأقوات، فكان أهل مكة يخرجون إلى جدة بالإبل والحمر، فيشترون الطعام، على مسيرة ليلتين.
وقيل: هذا الإطعام هو أنهم لما كذبوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا عليهم، فقال: «اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» فاشتد القحط، فقالوا: يا محمد ادع الله لنا فإنا مؤمنون. فدعا فأخصبت تبالة وجرش من بلاد اليمن، فحملوا الطعام إلى مكة، وأخصب أهلها.
وقال الضحاك والربيع وشريك وسفيان: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ أي من خوف الجذام، لا يصيبهم ببلدهم الجذام.
وقال الأعمش: {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} أي من خوف الحبشة مع الفيل.
وقال علي رضي الله عنه: وآمنهم من خوف: أن تكون الخلافة إلا فيهم.
وقيل: أي كفاهم أخذ الإيلاف من الملوك. فالله أعلم، واللفظ يعم.

.سورة الماعون:

تفسير سورة الماعون وهي مكية في قول عطاء وجابر واحد قولي ابن عباس. ومدنية في قول له آخر وهو قول قتادة وغيره. وهي سبع آيات.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

.تفسير الآيات (1- 7):

{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)}
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} أي بالجزاء والحساب في الآخرة، وقد تقدم في الفاتحة. وأَ رَأَيْتَ بإثبات الهمزة الثانية، إذ لا يقال في أرأيت: ريت، ولكن ألف الاستفهام سهلت الهمزة ألفا، ذكره الزجاج.
وفي الكلام حذف، والمعنى: أرأيت الذي يكذب بالدين: أمصيب هو أم مخطئ. واختلف فيمن نزل هذا فيه، فذكر أبو صالح عن ابن عباس قال: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وقاله الكلبي ومقاتل.
وروى الضحاك عنه قال: نزلت في رجل من المنافقين.
وقال السدي: نزلت في الوليد ابن المغيرة. وقيل في أبي جهل. الضحاك: في عمرو بن عائذ. قال ابن جريج: نزلت في أبي سفيان، وكان ينحر في كل أسبوع جزورا، فطلب منه يتيم شيئا، فقرعه بعصاه، فأنزل الله هذه السورة. ويَدُعُّ أي يدفع، كما قال: {يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13] وقد تقدم.
وقال الضحاك عن ابن عباس: فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ أي يدفعه عن حقه. قتادة: يقهره ويظلمه. والمعنى متقارب. وقد تقدم في سورة النساء أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار، ويقولون: إنما يحوز المال من يطعن بالسنان، ويضرب بالحسام. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من ضم يتيما من المسلمين حتى يستغني فقد وجبت له الجنة». وقد مضى هذا المعنى في غير موضع.
الثانية: قوله تعالى: {وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ} أي لا يأمر به، من أجل بخله وتكذيبه بالجزاء. وهو مثل قوله تعالى في سورة الحاقة: {وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة: 34] وقد تقدم. وليس الذم عاما حتى يتناول من تركه عجزا، ولكنهم كانوا يبخلون ويعتذرون لأنفسهم، ويقولون: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47]، فنزلت هذه الآية فيهم، وتوجه الذم إليهم. فيكون معنى الكلام: لا يفعلونه إن قدروا، ولا يحثون عليه إن عسروا.
الثالثة: قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} أي عذاب لهم. وقد تقدم في غير موضع.. {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ}، فروى الضحاك عن ابن عباس قال: هو المصلي الذي إن صلى لم يرج لها ثوابا، وإن تركها لم يخش عليها عقابا. وعنه أيضا: الذين يؤخرونها عن أوقاتها. وكذا روى المغيرة عن إبراهيم، قال: ساهون بإضاعة الوقت. وعن أبي العالية: لا يصلونها لمواقيتها، ولا يتمون ركوعها ولا سجودها. قلت: ويدل على هذا قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ} [مريم: 59] حسب ما تقدم بيانه في سورة مريم عليها السلام.
وروى عن إبراهيم أيضا: أنه الذي إذا سجد قام برأسه هكذا ملتفتا.
وقال قطرب: هو ألا يقرأ ولا يذكر الله.
وفي قراءة عبد الله الذين هم عن صلاتهم لاهون.
وقال سعد بن أبي وقاص: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ}- قال-: «الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، تهاونا بها». وعن ابن عباس أيضا: هم المنافقون يتركون الصلاة سرا، يصلونها علانية {وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى} [النساء: 142] الآية. ويدل على أنها في المنافقين قوله: {الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ}، وقاله ابن وهب عن مالك. قال ابن عباس: ولو قال في صلاتهم ساهون لكانت في المؤمنين.
وقال عطاء: الحمد لله الذي قال عَنْ صَلاتِهِمْ ولم يقل في صلاتهم. قال الزمخشري: فإن قلت: أي فرق بين قوله: عَنْ صَلاتِهِمْ، وبين قولك: في صلاتهم؟ قلت: معنى عَنْ أنهم ساهون عنها سهو ترك لها، وقلة التفات إليها، وذلك فعل المنافقين، أو الفسقة الشطار من المسلمين. ومعنى {في} أن السهو يعتريهم فيها، بوسوسة شيطان، أو حديث نفس، وذلك لا يكاد يخلو منه مسلم. وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقع له السهو في صلاته، فضلا عن غيره، ومن ثم أثبت الفقهاء باب سجود السهو في كتبهم. قال ابن العربي: لان السلامة من السهو محال، وقد سها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاته والصحابة: وكل من لا يسهو في صلاته، فذلك رجل لا يتدبرها، ولا يعقل قراءتها، وإنما همه في أعدادها، وهذا رجل يأكل القشور، ويرمي اللب. وما كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسهو في صلاته إلا لفكرته في أعظم منها، اللهم إلا أنه قد يسهو في صلاته من يقبل على وسواس الشيطان إذا قال له: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يضل الرجل أن يدري كم صلى.
الرابعة: قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ} أي يرى الناس أنه يصلي طاعة وهو يصلي تقية، كالفاسق، يرى أنه يصلي عبادة وهو يصلي ليقال: إنه يصلي. وحقيقة الرياء طلب ما في الدنيا بالعبادة، وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس. وأولها تحسين السمت، وهو من أجزاء النبوة، ويريد بذلك الجاه والثناء. وثانيها: الرياء بالثياب القصار والخشنة، ليأخذ بذلك هيئة الزهد في الدنيا. وثالثها: الرياء بالقول، بإظهار التسخط على أهل الدنيا، وإظهار الوعظ والتأسف على ما يفوت من الخير والطاعة. ورابعها: الرياء بإظهار الصلاة والصدقة، أو بتحسين الصلاة لأجل رؤية الناس، وذلك يطول، وهذا دليله، قاله ابن العربي. قلت: قد تقدم في سورة النساء وهود وآخر الكهف القول في الرياء وأحكامه وحقيقته بما فيه كفاية. والحمد لله.
الخامسة: ولا يكون الرجل مرائيا بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة، فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها، لقوله عليه السلام: «ولا غمة في فرائض الله» لأنها أعلام الإسلام، وشعائر الدين، ولان تاركها يستحق الذم والمقت، فوجب إماطة التهمة بالإظهار، وإن كان تطوعا فحقه أن يخفي، لأنه لا يلام تركه ولا تهمة فيه، فإن أظهره قاصدا للاقتداء به كان جميلا. وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين، فتثنى عليه بالصلاح. وعن بعضهم أنه رأى رجلا في المسجد قد سجد سجدة الشكر فأطالها، فقال: ما أحسن هذا لو كان في بيتك. وإنما قال هذا لأنه توسم فيه الرياء والسمعة. وقد مضى هذا المعنى في سورة البقرة عند قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ} [البقرة: 271]، وفي غير موضع. والحمد لله على ذلك.
السادسة: قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ} فيه اثنا عشر قولا: الأول- أنه زكاة أموالهم. كذا روى الضحاك عن ابن عباس.
وروى عن علي رضي الله عنه مثل ذلك، وقاله مالك. والمراد به المنافق يمنعها. وقد روى أبو بكر بن عبد العزيز عن مالك قال: بلغني أن قوله الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ} قال: إن المنافق إذا صلى صلى رياء، وإن فاتته لم يندم عليها، وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ الزكاة التي فرض الله عليهم. قال زيد بن أسلم: لو خفيت لهم الصلاة كما خفيت لهم الزكاة ما صلوا. القول الثاني- أن الْماعُونَ المال، بلسان قريش، قاله ابن شهاب وسعيد بن المسيب. وقول ثالث- أنه اسم جامع لمنافع البيت كالفأس والقدر والنار وما أشبه ذلك، قاله ابن مسعود، وروي عن ابن عباس أيضا. قال الأعشى:
بأجود منه بماعونه ** إذا ما سماؤهم لم تغم

الرابع- ذكر الزجاج وأبو عبيد والمبرد أن الماعون في الجاهلية كل ما فيه منفعة، حتى الفأس والقدر والدلو والقداحة، وكل ما فيه منفعة من قليل وكثير، وأنشدوا بيت الأعشى. قالوا: والماعون في الإسلام: الطاعة والزكاة، وأنشدوا قول الراعي:
أخليفة الرحمن إنا معشر ** حنفاء نسجد بكرة وأصيلا

عرب نرى لله من أموالنا ** حق الزكاة منزلا تنزيلا

قوم على الإسلام لما يمنعوا ** ما عونهم ويضيعوا التهليلا

يعني الزكاة.
الخامس- أنه العارية، روى عن ابن عباس أيضا.
السادس: أنه المعروف كله الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم، قاله محمد بن كعب والكلبي.
السابع- أنه الماء والكلأ.
الثامن- الماء وحده. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: الماعون: الماء، وأنشدني فيه:
يمج صبيرة الماعون صبا

الصبير: السحاب.
التاسع- أنه منع الحق، قاله عبد الله بن عمر.
العاشر- أنه المستغل من منافع الأموال، مأخوذ من المعن وهو القليل، حكاه الطبري ابن عباس. قال قطرب: أصل الماعون من القلة. والمعن: الشيء القليل، تقول العرب: ماله سعنة ولا معنة، أي شيء قليل. فسمى الله تعالى الزكاة والصدقة ونحوهما من المعروف ماعونا، لأنه قليل من كثير. ومن الناس من قال: الماعون: أصله معونة، والألف عوض من الهاء، حكاه الجوهري. ابن العربي: الماعون: مفعول من أعان يعين، والعون: هو الامداد بالقوة والآلات والأسباب الميسرة للأمر.
الحادي عشر- أنه الطاعة والانقياد. حكى الأخفش عن أعرابي فصيح: لو قد نزلنا لصنعت بناقتك صنيعا تعطيك الماعون أي تنقاد لك وتطيعك. قال الراجز:
متى تصادفهن في البرين ** يخضعن أو يعطين بالماعون

وقيل: هو ما لا يحل منعه، كالماء والملح والنار، لان عائشة رضوان الله عليها قالت: قلت يا رسول الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: «الماء والنار والملح قلت: يا رسول الله هذا الماء، فما بال النار والملح؟ فقال: يا عائشة من أعطى نارا فكأنما تصدق بجميع ما طبخ بتلك النار، ومن أعطى ملحا فكأنما تصدق بجميع ما طيب به ذلك الملح، ومن سقى شربة من الماء حيث يوجد الماء، فكأنما أعتق ستين نسمة. ومن سقى شربة من الماء حيث لا يوجد، فكأنما أحيا نفسا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا». ذكره الثعلبي في تفسيره، وخرجه ابن ماجه في سننه.
وفي إسناده لين، وهو القول الثاني عشر. الماوردي: ويحتمل أنه المعونة بما خف فعله وقد ثقله الله. والله أعلم. وقيل لعكرمة مولى ابن عباس: من منع شيئا من المتاع كان له الويل؟ فقال: لا، ولكن من جمع ثلاثهن فله الويل، يعني: ترك الصلاة، والرياء، والبخل بالماعون. قلت: كونها في المنافقين أشبه، وبهم أخلق، لأنهم جمعوا الأوصاف الثلاثة: ترك الصلاة، والرياء، والبخل بالمال، قال الله تعالى: {وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142]، وقال: {وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ} [التوبة: 54]. وهذه أحوالهم ويبعد أن توجد من مسلم محقق، وإن وجد بعضها فيلحقه جزء من التوبيخ، وذلك في منع الماعون إذا تعين، كالصلاة إذا تركها. والله أعلم. إنما يكون منعا قبيحا في المروءة في غير حال الضرورة. والله أعلم.