فصل: تفسير الآية رقم (20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (20):

{قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)}
فيه ثلاث عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} هذه الآية تفسير لقوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 4- 2] كما تقدم، وهي الناسخة لفرضية قيام الليل كما تقدم. تَقُومُ معناه تصلي وأَدْنى أي أقل. وقرأ ابن السميقع وأبو حيوة وهشام عن أهل الشام ثُلُثَيِ بإسكان اللام. وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بالخفض قراءة العامة عطفا على ثُلُثَيِ، المعنى: تقوم أدنى من ثلثي الليل ومن نصفه وثلثه. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، كقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} فكيف يقومون نصفه أو ثلثه وهم لا يحصونه. وقرأ ابن كثير والكوفيون {ونصفه وثلثه} بالنصب عطفا على أَدْنى التقدير: تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفه وثلثه. قال الفراء: وهو أشبه بالصواب، لأنه قال أقل من الثلثين، ثم ذكر نفس القلة لا أقل من القلة. القشيري: وعلى هذه القراءة يحتمل أنهم كانوا يصيبون الثلث والنصف، لخفة القيام عليهم بذلك القدر، وكانوا يزيدون، وفي الزيادة إصابة المقصود، فأما الثلثان فكان يثقل عليهم قيامه فلا يصيبونه، وينقصون منه. ويحتمل أنهم أمروا بقيام نصف الليل، ورخص لهم في الزيادة والنقصان، فكانوا ينتهون في الزيادة إلى قريب من الثلثين، وفي النصف إلى الثلث. ويحتمل أنهم قدر لهم النصف وأنقص إلى الثلث، والزيادة إلى الثلثين، وكان فيهم من يفي بذلك، وفيهم من يترك ذلك إلى أن نسخ عنهم.
وقال قوم: إنما أفترض الله عليهم الربع، وكانوا ينقصون من الربع. وهذا القول تحكم.
الثانية: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} أي يعلم مقادير الليل والنهار على حقائقها، وأنتم تعلمون بالتحري والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ. {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} أي لن تطيقوا معرفة حقائق ذلك والقيام به.
وقيل: أي لن تطيقوا قيام الليل. والأول أصح، فإن قيام الليل ما فرض كله قط. قال مقاتل وغيره: لما نزلت: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 4- 2] شق ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ، فانتفخت أقدامهم، وانتقعت ألوانهم، فرحمهم الله وخفف عنهم، فقال تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} وإِنَّ مخففة من الثقيلة، أي علم أنكم لن تحصوه، لأنكم إن زدتم ثقل عليكم، واحتجتم إلى تكليف ما ليس فرضا، وإن نقصتم شق ذلك عليكم.
الثالثة: قوله تعالى: {فَتابَ عَلَيْكُمْ} أي فعاد عليكم بالعفو، وهذا يدل على أنه كان فيهم في ترك بعض ما أمر به.
وقيل: أي فتاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم. واصل التوبة الرجوع كما تقدم، فالمعنى رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف، ومن عسر إلى يسر. وإنما أمروا بحفظ الأوقات على طريق التحري، فخفف عنهم ذلك التحري.
وقيل: معنى {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} يخلقهما مقدرين كقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً}. ابن العربي: تقدير الخلقة لا يتعلق به حكم وإنما يربط الله به ما يشاء من وظائف التكليف.
الرابعة: قوله تعالى: {فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} فيه قولان: أحدهما أن المراد نفس القراءة، أي فاقرءوا فيما تصلونه بالليل ما خف عليكم. قال السدي: مائة آية. الحسن: من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن.
وقال كعب: «من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين.
وقال سعيد: خمسون آية. قلت: قول كعب أصح، لقوله عليه السلام: من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين»
. خرجه أبو داود الطيالسي في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو. وقد ذكرناه في مقدمة الكتاب والحمد لله. القول الثاني: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ أي فصلوا ما تيسر عليكم، والصلاة تسمى قرآنا، كقوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} أي صلاة الفجر. ابن العربي: وهو الأصح، لأنه عن الصلاة أخبر، واليها يرجع القول. قلت: الأول أصح حملا للخطاب على ظاهر اللفظ، والقول الثاني مجاز، فإنه من تسمية الشيء ببعض ما هو من أعماله.
الخامسة: قال بعض العلماء: قوله تعالى: {فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ} نسخ قيام الليل ونصفه، والنقصان من النصف والزيادة عليه. ثم احتمل قول الله عز وجل: {فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ} معنيين أحدهما أن يكون فرضا ثانيا، لأنه أزيل به فرض غيره. والآخر أن يكون فرضا منسوخا أزيل بغيره كما أزيل به غيره، وذلك لقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} [الاسراء: 79] فاحتمل قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ} [الاسراء: 79] أي يتهجد بغير الذي فرض عليه مما تيسر منه. قال الشافعي: فكان الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين، فوجدنا سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس.
السادسة: قال القشيري أبو نصر: والمشهور أن نسخ قيام الليل كان في حق الامة، وبقيت الفريضة في حق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل: نسخ التقدير بمقدار، وبقي أصل الوجوب، كقوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] فالهدي لا بد منه، كذلك لم يكن بد من صلاة الليل، ولكن فوض قدره إلى اختيار المصلي، وعلى هذا فقد قال قوم: فرض قيام الليل بالقليل باق، وهو مذهب الحسن.
وقال قوم: نسخ بالكلية، فلا تجب صلاة الليل أصلا، وهو مذهب الشافعي. ولعل الفريضة التي بقيت في حق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي هذا، وهو قيامه، ومقداره مفوض إلى خيرته. وإذا ثبت أن القيام ليس فرضا فقوله تعالى: {فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ} معناه أقرءوا إن تيسر عليكم ذلك، وصلوا إن شئتم. وصار قوم إلى أن النسخ بالكلية تقرر في حق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضا، فما كانت صلاة الليل واجبة عليه. وقوله: {نافِلَةً لَكَ} [الاسراء: 79] محمول على حقيقة النفل. ومن قال: نسخ المقدار وبقي أصل وجوب قيام الليل ثم نسخ، فهذا النسخ الثاني وقع ببيان مواقيت الصلاة، كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الاسراء: 78]، وقوله: {فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17]، ما في الخبر من أن الزيادة على الصلوات الخمس تطوع.
وقيل: وقع النسخ بقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ} [الاسراء: 79] والخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللأمة، كما أن فرضيه الصلاة وإن خوطب بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ} [المزمل: 2- 1] كانت عامة له ولغيره. وقد قيل: إن فريضة الله امتدت إلى ما بعد الهجرة، ونسخت بالمدينة، لقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، وإنما فرض القتال بالمدينة، فعلى هذا بيان المواقيت جرى بمكة، فقيام الليل نسخ بقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ} [الاسراء: 79].
وقال ابن عباس: لما قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نسخ قول الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} وجوب صلاة الليل.
السابعة: قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى} الآية، بين سبحانه علة تخفيف قيام الليل، فإن الخلق منهم المريض، ويشق عليهم قيام الليل، ويشق عليهم أن تفوتهم الصلاة، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل، والمجاهد كذلك، فخفف الله عن الكل لأجل هؤلاء. وإِنَّ في أَنْ سَيَكُونُ مخففة من الثقيلة، أي علم أنه سيكون.
الثامنة: سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعياله، والإحسان والإفضال، فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد، لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله.
وروى إبراهيم عن علقمة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله منزلة الشهداء» ثم قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وقال ابن مسعود: أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا، فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء. وقرأ {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ} الآية.
وقال ابن عمر: ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إلي من الموت بين شعبتي رحلي، ابتغى من فضل الله ضاربا في الأرض.
وقال طاوس: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله. وعن بعض السلف أنه كان بواسط، فجهز سفينة حنطة إلى البصرة، وكتب إلى وكيله: بع الطعام يوم تدخل البصرة، ولا تؤخره إلى غد، فوافق سعة في السعر، فقال التجار للوكيل: إن أخرته جمعة ربحت فيه أضعافه، فأخره جمعة فربح فيه أمثاله، فكتب إلى صاحبه بذلك، فكتب إليه صاحب الطعام: يا هذا! إنا كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا، وقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال وتصدق به على فقراء البصرة، وليتني أنجو من الاحتكار كفافا لا علي ولا لي. ويروى أن غلاما من أهل مكة كان ملازما للمسجد، فافتقده ابن عمر، فمشى إلى بيته، فقالت أمه: هو على طعام له يبيعه، فلقيه فقال له: يا بني! ما لك وللطعام؟ فهلا إبلا، فهلا بقرا، فهلا غنما! إن صاحب الطعام يحب المحل، وصاحب الماشية يحب الغيث.
التاسعة: قوله تعالى: {فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ} أي صلوا ما أمكن، فأوجب الله من صلاة الليل ما تيسر، ثم نسخ ذلك بإيجاب الصلوات الخمس على ما تقدم. قال ابن العربي وقد قال قوم: إن فرض قيام الليل سن في ركعتين من هذه الآية، قاله البخاري وغيره، وعقد بابا ذكر فيه حديث: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة مكانها: عليك ليل طويل فارقد. فإن استيقظ فذكر الله أنحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى أنحلت عقده كلها، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان» وذكر حديث سمرة بن جندب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرؤيا قال: «أما الذي يثلغ رأسه بالحجر فإنه يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة». وحديث عبد الله بن مسعود قال: ذكر عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل ينام الليل كله فقال: «ذلك رجل بال الشيطان في أذنيه» فقال ابن العربي: فهذه أحاديث مقتضية حمل مطلق الصلاة على المكتوبة، فيحمل المطلق على المقيد لاحتماله له، وتسقط الدعوى ممن عينه لقيام الليل.
وفي الصحيح واللفظ للبخاري: قال عبد الله بن عمرو: وقال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا عبد الله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل» ولو كان فرضا ما أقره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه، ولا أخبر بمثل هذا الخبر عنه، بل كان يذمه غاية الذم، وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر قال: كان الرجل في حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رأى رؤيا قصها على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكنت غلاما شابا عزبا، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار. قال: ولقينا ملك آخر، فقال لي: لم ترع. فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: «نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل» فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلا، فلو كان ترك القيام معصية لما قال له الملك: لم ترع. والله أعلم.
العاشرة: إذا ثبت أن قيام الليل ليس بفرض، وأن قوله: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ محمول على ظاهره من القراءة في الصلاة فاختلف العلماء في قدر ما يلزمه أن يقرأ به في الصلاة، فقال مالك والشافعي: فاتحة الكتاب لا يجزئ العدول عنها، ولا الاقتصار على بعضها، وقدره أبو حنيفة بآية واحدة، من أي القرآن كانت. وعنه ثلاث آيات، لأنها أقل سورة. ذكر القول الأول الماوردي والثاني ابن العربي. والصحيح ما ذهب إليه مالك والشافعي، على ما بيناه في سورة الفاتحة أول الكتاب والحمد لله.
وقيل: إن المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة، قال الماوردي: فعلى هذا يكون مطلق هذا الامر محمولا على الوجوب، أو على الاستحباب دون الوجوب. وهذا قول الأكثرين، لأنه لو وجب عليه أن يقرأ لوجب عليه أن يحفظه.
الثاني أنه محمول على الوجوب، ليقف بقراءته على إعجازه، وما فيه من دلائل التوحيد وبعث الرسل، ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ودلائل التوحيد منه أن يحفظه، لان حفظ القرآن من القرب المستحبة دون الواجبة.
وفي قدر ما تضمنه هذا الامر من القراءة خمسة أقوال: أحدها جميع القرآن، لان الله تعالى يسره على عباده، قاله الضحاك.
الثاني ثلث القرآن، حكاه جويبر.
الثالث مائتا آية، قاله السدي.
الرابع مائة آية، قاله ابن عباس.
الخامس ثلاث آيات كأقصر سورة، قاله أبو خالد الكناني.
الحادية عشرة: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} يعني المفروضة وهي الخمس لوقتها. {وَآتُوا الزَّكاةَ} الواجبة في أموالكم، قاله عكرمة وقتادة.
وقال الحارث العكلي: صدقة الفطر لان زكاة الأموال وجبت بعد ذلك.
وقيل: صدقة التطوع.
وقيل: كل أفعال الخير.
وقال ابن عباس: طاعة الله والإخلاص له.
الثانية عشرة: قوله تعالى: {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} القرض الحسن ما قصد به وجه الله تعالى خالصا من المال الطيب. وقد مضى في سورة الحديد بيانه.
وقال زيد ابن أسلم: القرض الحسن النفقة على الأهل.
وقال عمر بن الخطاب: هو النفقة في سبيل الله.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ}. وروي عن عمر بن الخطاب أنه اتخذ حيسا- يعني تمرا بلبن- فجاءه مسكين فأخذه ودفعه إليه. فقال بعضهم: ما يدري هذا المسكين ما هذا؟ فقال عمر: لكن رب المسكين يدري ما هو. وكأنه تأول: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً أي مما تركتم وخلفتم، ومن الشح والتقصير. {وَأَعْظَمَ أَجْراً} قال أبو هريرة: الجنة، ويحتمل أن يكون أعظم أجرا، لإعطائه بالحسنة عشرا. ونصب خَيْراً وَأَعْظَمَ على المفعول الثاني ل- تَجِدُوهُ وهُوَ: فصل عند البصريين، وعماد في قول الكوفيين، لا محل له من الاعراب. وأَجْراً تمييز. {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} أي سلوه المغفرة لذنوبكم {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لما كان قبل التوبة {رَحِيمٌ} لكم بعدها، قاله سعيد بن جبير. ختمت السورة.