فصل: تفسير الآيات (100- 106):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (93- 95):

{حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)}
وقوله: {حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ...} الآية: السَّدَّان، فيما ذكر أهل التفسير: جبلان سَدَّا مسالك تلك الناحية، وبَيْنَ طَرَفيِ الجبلين فَتْحٌ هو موضع الرَّدْم، وهذان الجَبَلان في طَرَفِ الأرضِ ممَّا يلي المَشْرِق، ويظهر من ألفاظ التواريخُ؛ أنهما إلى ناحية الشمال.
وقوله تعالى: {وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً}: قال السُّهَيْليُّ: هم أهل جابلَص، ويقال لها بالسُّرْيانية جَرْجيسَا يسكنها قومٌ مِنْ نَسْل ثمود بقيتهم الذين آمنوا بصالح.
وقوله تعالى: {وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ} هم: أهلُ جابَلَقَ، وهم من نسل مؤمني قوم عاد الذين آمنوا بهود، ويقال لها بالسُّرْيانيَّة: مَرْقِيِسيَا ولكل واحدةٍ من المديَنتْينِ عَشَرة آلاف بابٍ، بين كلِّ بابين فرسَخٌ، ومر بهم نبُّينا محمَّد صلى الله عليه وسلم ليلةَ الإسراء، فدعاهم، فأجابوه، وآمنوا به، ودعا من ورائهم من الأمم، فلم يجيبوه في حديثٍ طويلٍ رواه الطبريُّ عن مقاتل بن حَيَّان، عن عكرمة عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، واللَّه أعلم. انتهى، واللَّه أعلم بصَّحته.
و{يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ}: قبيلان من بني آدم، لكنَّهم ينقسمون أنواعاً كثيرةً، اختلف الناس في عددها، واختلف في إفسادهم الذي وصَفُوهم به، فقيل: أكْلُ بَني آدم، وقالت فرقة: إفسادهم: هو الظُّلْم والغَشْم وسائرُ وجوه الإِفساد المعلومِ من البَشَر، وهذا أظهر الأقوال، وقولهم: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً}: استفهامٌ على جهة حُسْن الأدبِ، والخْرجُ: المُجْبَى، وهو الخراج، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {خَرَاجاً}، وروي في أمر يأجوج ومأجوج أنَّ أرزاقهم هِيَ من التِّنِّينِ يُمْطَرُونَ به، ونحو هذا مما لم يَصِحَّ، وروي أيضاً أنَّ الذَّكَر منهم لا يَمُوتُ حتى يولَدَ له ألْفٌ والأنثى كذلك، وروي أنهم يتسافَدُونَ في الطُّرُق كالبهائِمِ، وأخبارُهُم تضيقُ بها الصُّحُف، فاختصرْتُ ذلك؛ لعَدَمِ صحَّته.
* ت *: والذي يصحُّ من ذلك كثْرَةُ عددهم على الجُمْلة، على ما هو معلوم من حديثِ: «أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ» وغيره من الأحاديث.
وقوله: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} المعنى: قال لهم ذُو القَرْنَيْنِ: ما بسطه اللَّه لي من القُدْرة والمُلْك خَيْرٌ من خَرَاجكم، ولكن أعينوني بُقَّوة الأبدان، وهذا من تأييد اللَّه تعالى له، فإِنه تهَدَّى في هذه المحاورة إِلى الأنفع الأَنْزَه، فإِنَّ القوم لو جمعوا له الخَرَاجَ الذي هو المالُ، لم يُعِنْهُ منهم أحدٌ، ولَوَكَّلُوه إلى البنيان، ومعونَتُهم بالقوَّة أجْمَلُ به.

.تفسير الآيات (96- 99):

{آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)}
وقوله: {آتُونِي زُبَرَ الحديد...} الآية قرأ حمزة وغيره: {ائْتُوني} بمعنى جيئوني، وقرأ نافع وغيره: {آتوني} بمعنى أعْطُوني، وهذا كله إِنما هو استدعاءُ المناولة، وإِعمالُ القوَّة والزُّبَر جمع زُبْرة، وهي القطعة العظيمة منه، والمعنى: فرَصَفَه وبنَاه {حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين}، وهما الجبلان، وقوله: {قَالَ انفخوا...} الآية إلى آخر الآية، معناه: أنه كان يأمر بوَضْع طاقة من الزُّبَر والحجارةِ، ثم يوقد عليها حَتَّى تحمَى ثم يؤتَى بالنُّحَاس المُذَاب أو بالرصاص أو بالحديد؛ بحسب الخلافِ في القِطْر، فيفرغه على تلك الطاقة المنضَّدة، فإِذا التأم واشتدَّ، استأنَفَ رَصْفَ طاقةٍ أخرى إلى أن استوَى العَمَلُ، وقال أكثر المفسِّرين: القِطْر: النُّحَاس المُذَابُ، ويؤيِّد هذا ما روي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه، إِنِّي رَأَيْتُ سَدَّ يُأْجُوجُ ومَأْجُوجَ، فَقَالَ: «كَيْفَ رَأْيْتَهُ؟» قَالَ: رَأَيْتُهُ كَالبُرُدِ المُحَبَّر؛ طَريقَةٌ صَفْرَاءُ، وَطَرِيقَةٌ حَمْرَاءُ، وطَرِيقَةُ سَوْدَاءُ، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم «قَدْ رَأَيْتَهُ» و{يَظْهَرُوهُ} ومعناه: يعلونه بُصعُودٍ فيه؛ ومنه قوله في الموطَّإ، والشَّمْسُ في حجرِتها قَبْل أَنْ تَظْهَرَ، {وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْبًا} لبُعْد عَرْضه وقوَّته، ولا سبِيلَ سَوى هذين: إما ارتقاءٌ، وإِما نَقْب، وروي أن في طُولَه ما بَيْنَ طرفَيِ الجبلَيْنِ مِائَة فَرْسَخِ، وفي عَرْضه خمسينَ فرسخاً، وروي غير هذا مما لم نَقِفْ على صحَّته، فاختصرناه، إِذ لا غاية للتخرُّص؛ وقوله في الآية {انفخوا} يريد بالأَكْيَار.
وقوله: {هذا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} القائل ذو القرنين، وأشار ب {هذا} إِلى الرَّدْمِ والقوةِ عليه، والانتفاعِ به، والوعدُ يحتملُ أنْ يريد به القيامة، ويحتمل أن يريد به وقْتَ خروجِ يأجُوجَ ومأجوج، وقرأ نافع وغيره: {دَكًّا} مصدر دَكَّ يَدُكُ، إِذا هدم ورض، ونَاقةٌ دَكَّاء لا سَنَام لها، والضمير في {تَرَكْنَا} للَّه عزَّ وجلَّ.
وقوله: {يَوْمَئِذٍ} يحتمل أنْ يريد به يوم القيامة، ويحتمل أنْ يريد به يَوْمَ كمالِ السَّدِّ، والضميرُ في قوله: {بَعْضَهُمْ} على هذا ليأجوجَ ومأجُوجَ، واستعارة المَوْج لهم عبارةٌ عن الحَيْرة، وتردُّدِ بعضهم في بَعْضٍ، كالمُوَلَّهينَ مِنْ هَمٍّ وخوفٍ ونحوه، فشبَّههم بموجِ البَحْر الذي يضطرب بعضُه في بعض.
وقوله: {وَنُفِخَ فِي الصور...} إلى آخر الآية: يعني به يومَ القيامة بلا احتمالٍ لغيره، {الصور} في قول الجمهور وظاهر الأحاديثِ الصِّحَاحِ: هو القَرْنُ الذي يَنْفُخُ فيه إِسرافيلُ للقيامة.

.تفسير الآيات (100- 106):

{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)}
وقوله سبحانه: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ للكافرين عَرْضاً} معناه أبرزناها لَهُمْ؛ لتجمعهم وتحطِّمهم، ثم أكَّد بالمصدر عبارةً عن شدَّة الحال.
وقوله: {أَعْيُنُهُمْ} كنايةٌ عن البصائر، والمعنى: الذين كانَتْ فِكَرُهم بينها، وبَيْن ذكري والنَّظَرِ في شَرْعِي حجابٌ، وعليها غطاءٌ {وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} يريد لإِعراضهم ونِفارهم عن دعوة الحق، وقرأ الجمهور، {أفَحِسِبَ الَّذِين كَفَرُوا}- بكسر السين- بمعنى أظَنُّوا وقرأ علي بن أبي طالب وغيره وابنُ كَثِير، بخلافٍ عنه: {أَفَحَسْبُ} بسكون السين وضمِّ الباء، بمعنى أَكافِيهِمْ ومنتهى غرضهم، وفي مصحف ابن مسعود: {أَفَظَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} وهذه حجة لقراءة الجمهور.
وقوله: {أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي} قال جمهور المفسِّرين: يريد كلَّ مَنْ عُبِدَ من دون اللَّه؛ كالملائكة وعُزَيزٍ وعيسى، والمعنى: أن الأمر ليس كما ظَنُّوا، بل ليس لهم من ولاية هؤلاءِ المذكُورين شَيْءٌ، ولا يجدون عندهم منتفعاً و{أَعْتَدْنَا} معناه: يَسَّرنا، والنُّزُل موضع النزول، والنُّزُل أيضاً: ما يُقدَّم للضْيفِ أو القادم من الطَّعام عند نزوله، ويحتملُ أنْ يريد بالآية هذا المعنى: أنَّ المعدَّ لهؤلاء بَدَلَ النُّزُلِ جهنَّم، والآية تحتملُ الوجهِينِ، ثم قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أعمالا} الآية: المعنى قل لهؤلاء الكفرة؛ على جهة التوبيخ: هل نخبركم بالذين خَسِرَ عَمَلُهم، وضَلَّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهم مع ذلك يظنُّون أنهم يحسنون فيما يصنعوه، فإِذا طلبوا ذلك، فقل لهم: {أولئك الذين كَفَرُواْ بآيات رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ}، وعن سعد بن أبي وقَّاص في معنى قوله تعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} قال: هُمْ عُبَّاد اليهودِ والنصارى، وأهْلُ الصوامع والدِّياراتِ وعن عَلِيٍّ: هم الخوارجُ؛ ويضعِّف هذا كلَّه قولُهُ تعالى بعْدَ ذلك: {أولئك الذين كَفَرُواْ بآيات رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ}، وليس هذه الطوائف ممن يكفر باللَّه ولقائه، وإِنما هذه صفة مشركي عَبَدَةِ الأوثان، وعليٌّ وسعْدٌ رضي اللَّه عنهما، ذكَرا قوماً أَخَذُوا بحظِّهم من صدر الآية.
وقوله سبحانه: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} يريد أنهم لا حسنَةَ لهم تُوزَنْ؛ لأن أعمالهم قد حَبِطَتْ، أي: بَطَلَتْ، ويحتمل المجاز والاستعارة، كأنه قال: فلا قَدْرَ لهم عندنا يومئذ، وهذا معنى الآية عنْدي، وروى أبو هريرة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُؤَتَى بالأكُولِ الشَّرُوبِ الطَّوِيل فَلاَ يَزِنُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ثم قَرَأَ: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً}». وقوله ذلك اشارة الى ترك إقامة الوزن.

.تفسير الآيات (107- 108):

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)}
وقوله سبحانه: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جنات الفردوس}: اختلف المفسِّرون في {الفِرْدَوسِ} فقال قتادة: إِنه أعلى الجَنَّةَ وَرَبْوتها، وقال أبو هريرة: إِنه جَبَلٌ تتفجَّر منه أنهارُ الجَنَّة، وقال أبو أُمَامَةِ: إِنه سُرَّة الجنة ووسطها، وروى أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ، أنه تتفجَّر منه أنهار الجَنَّة، وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّهُ قَالَ: «إِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فاسألوه الفِرْدَوْس». * ت *: ففي البخاريِّ من حديث أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ في الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أعَدَّهَا اللَّهُ لِلمُجَاهِدِينَ في سَبِيلِ اللَّه، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْن كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فاسْأَلُوَهُ الفِرْدَوُسَ؛ فإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلى الجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرحمن، ومِنْهُ تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ» انتهى.
وقوله تعالى: {لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} الحِوَلُ بمعنى المتحوَّل.
قال مجاهدٌ: متحوَّلاً.

.تفسير الآية رقم (109):

{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)}
وأما قوله سبحانه: {قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لكلمات رَبِّي...} الآية: فروي أن سبب الآية أنَّ اليهود قالَتْ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ تَزْعُمُ أنَّكَ نَبِيُّ الأُمَمِ كُلَّها وأنَّكَ أُعُطِيتَ مَا يَحْتَاجُهُ النَّاسُ مِنَ الْعِلْمِ، وأَنْتَ مُقَصِّرٌ، قَدْ سُئِلْتَ عَنْ الرُّوحِ، فَلَمْ تُجِبْ فيهِ؟، ونحو هذا من القول؛ فأنزل اللَّه الآية مُعْلِمَةً باتساع معلوماتِ اللَّه عزَّ وجلَّ، وأنها غير رمتناهية، وأن الوقوف دونها ليس ببدْعٍ، فالمعنى: لو كان البحْرُ مداداً تكتب به معلوماته تعالى، لنَفِدَ قبل أنْ يستوفيها، وكلمات ربِّي هي المعاني القائمة بالنَّفْس، وهي المعلوماتُ، ومعلوماتُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ لا تتناهى والبحر متناهٍ ضرورةً، وذكر الغَزَّالِيُّ في آخر المنهاج أن المفسِّرين يقولون في قوله تعالى: {لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبِّي}، أن هذه هي الكلماتُ التي يقولُ اللَّه عزَّ وجلَّ لأهْلِ الجَنَّةِ في الجَنَّة باللُّطْفِ والإِكرام، مما لا تكيِّفه الأوهام، ولا يِحُيطُ به عِلْمُ مخْلوقِ، وحُقَّ أنْ يكون ذلك كذلك، وهو عطِاءُ العزيز العليم؛ على مقتضى الفَضْل العظيم، والجود الكريمِ، أَلاَ لِمِثْلِ هذا فليعملِ العَامِلُونَ. انتهى.
وقوله: {مَدَداً}، أي زيادة. * ت *: وكذا فسَّره الهَرَوِيُّ ولفظه: وقوله تعالى: {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً}، أي زيادة انتهى.

.تفسير الآية رقم (110):

{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)}
وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} أي: أنا بشرٌ ينتهي علْمي إلى حيثُ يوحى إِليَّ، ومهم ما يوحَى إِليَّ {أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالحا} وباقي الآية بيِّن في الشرك باللَّه تعالى، وقال ابن جُبَيْر في تفسيرها لا يرائي في عمله، وقد ورد حديثٌ أنها نزلَتْ في الرياء.
* ت *: وروى ابن المبارك في رقائقه، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن زَيْد بن أسْلَمُ، عن أبيه، أنه كَانَ يَصِفُ أمْرَ الرياء، فيقول: ما كَانَ مِنْ نَفْسِكَ فَرَضِيَتْهُ نَفْسُكَ لها، فإِنه مِنْ نَفْسِكَ فعاتْبها، وما كان مِنْ نَفْسِك، فكرهَتْه نَفْسُك لها، فإنه من الشيطان؛ فتعوَّذْ باللَّه منه، وكان أبو حَازِمٍ يقول ذلك، وأسند ابنُ المبارك عن عبْدِ الرحمن بنِ أبي أُمَيَّة، قال: كُلُّ ما كَرِهَه العَبْد فليس منْه انتهى، وخرَّج الترمذيُّ عن أبي سعيد بْنِ أبي فَضَالَة الأنصاريِّ، وكان من الصحابة، قال: سَمِعْتُ رسَولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا جَمَعَ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ القِيَامَةِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ، نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أشْرَكَ فِي عَمِلَهُ للَّهِ أحَداً، فَلْيَطْلُبْ ثَوابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، فإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّركَاءِ عَنِ الشِّرْكِ»، قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ انتهى، وقد خرَّج مسلم معناه * ت *: ومما جَّربته، وصحَّ من خواصِّ هذه السورة، أنَّ من أراد أن يستيقظ أيَّ وقتٍ شاء من الليل، فليقرأ عند نومه قولَهُ سبحانه: {أَفَحَسِبَ الذين كَفَرُواْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاءَ...} إلى آخر السورة، فإنه يستيقظُ بإِذن اللَّه في الوقْت الذي نَوَاهُ، ولتكُنْ قراءته عند آخر ما يَغْلِبُ عليه النُّعَاس؛ بحيث لا يتجدَّد له عقب القراءة خواطِرُ، هذا مما لا شَكَّ فيه، وهو من عجائب القرآن المقطوعِ بها، واللَّه الموفِّق بفضله.
تنبيهٌ: رُوِّينا في صحيح مسلم، عن جابر رضي اللَّه عنه قال: سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ في اللَّيلِ لسَاعَةً لا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلَ اللَّهَ خَيْراً مِنْ أَمْر الدُّنْيَا والآخِرَةِ إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ»، وذلِكَ كُلَّ لَيَلةٍ، فإِن أردتَّ أن تعرف هذه الساعة، فاقرأْ عند نومك مِنْ قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جنات الفردوس} إلى آخر السورة، فإِنك تستيقظ في تلك الساعة- إن شاء اللَّه تعالى- بفضله، ويتكرَّر تَيَقُّظَكَ، ومهما استيقظْتَ، فادْعُ لي ولك، وهذا مما ألهمنيه اللَّهُ سبحانه، فاستفِدْه، وما كتبته إلاّ بَعْدَ استخارة، وإِياك أن تدعُوَ هنا على مُسْلِمٍ، ولو كان ظالماً، فإن خالفتَني، فاللَّه حَسِيبُكَ وبَيْن يديه أكونُ خصيمَكَ، وأنا أرغَبُ إِليك أنْ تشركني في دعائِكَ، إِذ أفدتُّكَ هذه الفائدةَ العظيمةَ وكُنْتُ شيخَكَ فيها، وللقرآن العظيم أسرارٌ يُطْلِعُ اللَّه عليها من يشاء مِنْ أوليائه، جَعَلَنَا اللَّه منْهم بفَضْله، وصلَّى اللَّه على سيدنا محمَّد وعلى آله وصَحْبِهِ وسلَّم تسليماً.

.تفسير سورة مريم عليها السلام:

هذه السورة مكية بإجماع، إلا السجدة منها، فقيل: مكية، وقيل: مدنية.

.تفسير الآيات (1- 11):

{كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)}
قوله عزَّ وجل: {كهيعص} قد تقدَّمَ الكلامُ في فواتح السوَرِ.
وقوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} مرتَفِعٌ بقولهِ: {كهيعص} في قَوْلِ فرقَةٍ.
وقيل: إنَّهُ ارتفعَ على أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدأ محذوفٍ تَقْديرُهُ: هذا ذكر وحكَى أبو عمرو الدَّانِي عن ابن يعمر أَنَّه قرأ: {ذَكِّر رَحْمَة رَبِّكَ}: بفتح الذَّالِ، وكسر الكافِ المشدَّدة، ونصبِ الرَّحمة.
وقوله {نادى}: مَعناه بالدُّعَاءِ والرغبَةِ؛ قاله ابنُ العربيِّ في أحكامه.
وقوله تعالى: {إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً}: يناسِبُ قَوْلَهْ: {ادعوا ربَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55].
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قَال: «خيرُ الذَّكْرِ الخفيُّ، وخيرُ الرِّزقِ ما يَكْفِي» وذلك؛ لأَنَّهُ أَبْعَدُ مِن الرياء، فأَمَّا دُعاءُ زكرياء عليه السلام فإنما كان خفيّاً لوجهين:
أَحدُهُما: أَنَّهُ كان ليلاً.
والثاني: أَنَّهُ ذَكَرَ في دُعَائه أَحوالاً تفتقرُ إلى الإخفَاءِ؛ كَقَوْلِهِ: {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي}. وهذا مما يُكْتَمُ. انتهى.
و{وَهَنَ العظم} معناه ضَعُفَ، {واشتعل} مُسْتَعَارٌ للشيْب منِ اشتعال النَّار.
وقولهُ: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً} شُكْر للّه عز وجل على سالف أياديه عنده، معناه: قد أَحسنتَ إليَّ فيما سلَف، وسعدتُ بدعائي إيَّاك؛ فالإنعامُ يقتضي أَنْ يشفع أَوله آخره.
* ت *: وكذا فسَّر الدَّاوُودِيُّ، ولفظه: {ولم أَكنْ بدُعائِك رَبِّ شقيّاً}، يقولُ: كنْتَ تعرفني الإجابَة فيما مضى، وقاله قتادةُ: انتهى.
وقوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي...} الآية، قيل: معناه خاف أَن يرثَ الموَالي مَالَهُ، والموالي: بنو العمّ، والقرابةُ.
وقولُه {مِن وَرَآئِي} أَيْ: من بعدي.
وقالت فرقةٌ: إنما كان مواليه مهمِلينَ للدِّين؛ فخاف بموته أَنْ يضَيع الدينُ؛ فطلب وليّاً يقومُ بالدين بعده؛ حَكَى هذا القولَ: الزَّجَّاجُ، وفيه: أَنه لا يجوزُ أَن يسأل زَكَرِيَّاءُ من يرث ماله؛ إذاِ الأَنبيَاءِ لا تُورَثُ.
قال * ع *: وهذا يُؤَيّده قولُه صلى الله عليه وسلم: «إنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا، فَهُو صَدَقَة» والأَظهرُ الأَلْيق بزكرياء عليه السلام أَن يريدَ وِرَاثةَ العِلْم والدِّينِ، فتكون الوارثةُ مستعارةً، وقد بلغه اللّه أَمَلَهُ.
قال ابنُ هِشَامٍ: و{مِنْ وَرآئِي} متعلّقٌ ب {الموالي}، أو بمحذوفٍ هو حالٌ من الموالي، أو مُضَاف إليهم، أَيْ: كائِنِينَ مِنْ وَرَائي، أو فعَل الموالي مِنْ ورائي، ولا يصحّ تعلقه ب {خِفْتُ}؛ لفساد المعنى. انتهى. من المغني.
و{خِفْتُ الموالي}، هي قراءةُ الجمهور، وعليها هو هذا التفسير.
وقرأ عثمانُ بنُ عَفَّانَ، وزيدُ بنُ ثابتٍ، وابنُ عباسٍ، وجماعةٌ {خَفَّتِ} بفتح الخاء، وفتح الفاء، وشدِّها، وكَسْر التَّاء، والمعنى على هذا: قد انقَطَع أَوْلِيَائِي، وماتُوا، وعلى هذه القراءة، فإنما طلب وَليَّا يقوم بالدين.
قال ابنُ العربي في أحكامه: ولم يخف زكرياءُ وارثَ المالِ، وإنما أَراد إرْثَ النبوءة، وعليها خاف أَن تخرج عن عَقِبه، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قال: «إنَّا معَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة» انتهى.
وقرأ عليُّ بنُ أَبي طَالِبٍ، وابنُ عباسٍ، وغيرُهما رضي اللّه عنهم {يرِثُنِي وَارِثٌ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}.
* ت *: وقوله: {فَهَبْ لِي} قال ابنُ مَالكٍ في شرح الكافية اللامُ هنا: هي لامُ التعدِيَة؛ وقاله ولدُه في شرح الخلاصة.
قال ابنُ هشام: والأولى عندي أن يمثل للتعدية بنحو: ما أكرم زيداً لعمرو، وما أحبه لبكر، انتهى.
وقولُه: {مِن ءَالِ يَعْقُوبَ} يريدُ يرث منهم الحِكْمة، وكذلك العاقرُ من الرجال.
وقوله: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً} معناه في اللغة: لم نجعل له مُشَارِكاً في هذا الاسم، أي: لم يسم به قبل يحيى، وهذا قول ابن عباس وغيره.
وقال مجاهدُ: وغيره: {سَمِيّاً} معناه: مثيلاً، ونظيراً، وفي هذا بعدٌ: لأَنه لا يفضل على إبرَاهِيم وموسى عليهما السلام إلا أن يفضل في خاص؛ كالسودد، والحصر.
والعتي، والعُسِيُّ: المبالغة في الكبر، أو يُبْس العود، أو شيْب الرأس، أو عقيدة ما، وزكرياء: هو من ذرية هارون- عليهما السلام- ومعنى قوله: {سَوِيّاً} فيما قال الجمهور، صحيحاً من غير عِلَّة، ولا خرس.
وقال ابن عباس: ذلك عائدٌ على الليالي، أراد: كاملات مستويات.
وقوله: {فأوحى إِلَيْهِمْ} قال قتادة، وغيره: كان ذلك بإشارة.
وقال مجاهد: بل بكتابة في التراب.
قال * ع *: وكِلاَ الوجهين وَحْي.
وقوله: {أَنْ سَبِّحُواْ} قال قتادة: معناه صلوا السُّبْحة، والسُّبحةْ: الصلاة، وقالت فرقة: بل أَمرهم بذكر اللّه، وقول: سُبْحان اللّه.