فصل: تفسير الآيات (13- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (10- 12):

{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)}
وقوله سبحانه: {وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ} الآية تَسْلِيَةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم بالأُسْوَةِ في الرسل، وتقوية لنفسه على مُحَاجَّةِ المشركين، وإخبار يَتَضَمَّنُ وعيد مُكَذِّبِيهِ، والمستهزئين به.
و{حاق} معناه: نزل، وأحاط، وهي مَخْصُوصَةٌ في الشر؛ يقال: حَاقَ يَحِيقُ حَيْقاً.
وقوله سبحانه: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض} حَضٌّ على الاعتبار بآثارَ مَنْ مضى ممن فَعَلَ مِثْلَ فعلهم.
وقوله سبحانه: {قُل لِّمَن مَّا فِي السموات والأرض قُل لِلَّهِ}.
قال بعض أَهْلِ التَّأوِيلِ: تَقْدِيرُ الكلام: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السموات والأرض، فإذا تحيروا فلم يُجِيبُوا قل للَّه.
والصحيح من التَّأويل أن اللَّه عزَّ وَجَلَّ أمر نبيه عليه السلام أن يَقْطَعَهُمْ بهذه الحُجَّةِ، والبرهان القطعي الذي لا مُدَافَعَةَ فيه عندهم، ولا عند أَحَدٍ ليعتقدَ هذا المعتقد الذي بينه وبينهم، ثم يَتَرَكَّب احْتِجَاجُهُ عليه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: يأيها الكافرون العَادِلُونَ بربهم لمن ما في السموات والأَرْضِ، ثم سَبَقَهُمْ فقال: للَّه أي لا مُدَافَعَةَ في هذا عندكم، ولا عند أحد.
ثم ابتدأ يخبر عن اللَّه تعالى: {كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة} معناه: قضاها وأَنْفَذَهَا. وفي هذا المعنى أحاديث صَحِيحَةٌ؛ ففي صَحِيحِ مُسْلِمٍ؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم «جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مَائَةً جُزْءٍ، فأمسك عنده تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَأنْزَلَ في الأَرْضِ جُزْءاً وَاحِداً، فمن ذَلِكَ الجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الخَلاَئِقُ حتى تَرْفَعُ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا؛ خَشْيَةَ أن تُصِيبَهُ». ولمسلم في طَرِيقٍ آخرُ: «كُلُّ رَحْمَةٍ مِنْهَا طبَاقُ مَا بَيْنِ السَّمَاءِ والأَرْضِ، فإذا كان يَوْمُ القِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بهذه الرَّحْمة». وخرج مسلم، والبخاري، وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم قال: «لما خَلَقَ اللَّه الخَلْقَ كَتَبَ في كِتَابٍ، فهو عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إن رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي». وفي طريق: «سَبَقَتْ غَضَبِي» إلى غير ذلك من الأحاديث. انتهى.
قال * ع *: فما أشقى مَنْ لم تَسَعْهُ هذه الرَّحَمَاتُ. تَغَمَّدَنَا اللَّهِ بِفَضْلٍ منه.
ويتضمن هذا الإخبار عن اللَّه سبحانه بأنه كتب الرَّحْمَةَ لتأنيس الكفار، ونفي يَأْسهم من رَحْمَةِ اللَّه إذا أَنَابُوا.
واللام في قوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} لام قَسَم، والكلام مستأنف، وهذا أظهر الأَقْوَالِ وأصحها.
وقوله سبحانه: {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}.
{الذين} رفع بالابتداء، وخبره: {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}.

.تفسير الآيات (13- 16):

{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)}
وقوله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اليل والنهار} الآية.
{وَلَهُ} عطف على قوله: {لِلَّهِ}، و{سَكَنَ} هي من السُّكْنَى، ونحوه؛ أي: ما ثَبَتَ وتَقَرَّرَ. قاله السدي، وغيره.
وقالت فرقَةٌ: هو من السُّكُونِ، وهو ضعيف.
وقوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السموات والأرض} الآية.
قال الطبري وغيره: أُمِرَ عليه السلام أن يَقُولَ هذه المَقَالَةَ لِلْكَفَرَةِ الذين دعوه إلى عبادة أوثانهم، فَتَجِيءُ الآية على هذا جَوَاباً لكلامهم.
قال * ع *: وهذا يَحْتَاجُ إلى سَنَدٍ، والفصيح أنه لما قَرَّرَ معهم أن اللَّه تعالى له ما في السَّمَوَاتِ والأرض، وله ما سَكَنَ في اللَّيْلِ والنهار، أُمِرَ أن يقول لهم على جِهَةِ التَّوْبِيخِ والتوقيف: أغَيْرَ اللَّه الذي هذه أَفْعالُهُ أتخذ وليًّا، بمعنى: أن هذا خَطَأٌ بَيِّنٌ ممن يفعله.
والولي لفظ عام لمَعْبُودٍ وغير ذلك.
ثم أخذ في صفات اللَّه تعالى فقال: {فَاطِر} بخَفْضِ الراء نَعْتٌ للَّه عز وجل.
قال * ص *: {فَاطِر} الجمهور بالجَرِّ، وَوَجَّهَهُ ابن عَطِيَّةَ، وغيره على أنه نَعْتٌ {لِلَّهِ}.
وأبو البقاء على أنه بَدَلٌ، وكأنه رأى الفَصْلَ بين البَدَلِ والمبدل أَسْهَلَ؛ لأن البَدَلَ في المشهور على نِيَّةِ تَكْرَارِ العامل. انتهى.
وفطر معناه: ابتدع، وخلق، وأنشأ، وفطر أيضاً في اللُّغَةِ: شَقَّ، ومنه {هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} [الملك: 3] أي: من شُقُوقِ.
و{يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} المقصود به: يَرْزُقُ ولا يُرْزَقُ.
وقوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ...} إلى {عظِيمٌ}.
قال المفسرون: المعنى أول من أَسْلَمَ من هذه الأمة، وبهذه الشَّرِيعَةِ، ولفظة {عَصَيْتُ} عامة في أنواع المَعَاصِي، ولكنها هاهنا إنما تُشِيرُ إلى الشِّرْكِ المَنْهِيِّ عنه. واليوم العَظِيمُ هو يَوْمُ القيامة.
وقرأ نَافِعٌ وغيره {من يُصْرَف عنه} مسنداً إلى المفعول، وهو الضمير العائد على العَذَابِ.
وقرأ حمزة وغيره {مَنْ يَصْرِف} بإسناد الفَعْلِ إلى الضمير العائد إلى ربي، ويعمل في ضَمِيرِ العَذَابِ المذكور، ولكنه محذوف.
وقوله: {وَذَلِكَ} إشارة إلى صَرْفِ العذاب، وحُصُولِ الرحمة، و{الفوز} النَّجَاةُ.

.تفسير الآيات (17- 19):

{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)}
وقوله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كاشف لَهُ إِلاَّ هُوَ}.
يَمْسَسْكَ: معناه يُصِبْكَ، ويَنَلْكَ، والضُّرُّ بضم الضاد: سوء الحَالِ في الجِسْمِ وغيره، وبفتحها ضِدُّ النَّفْعِ، ومعنى الآية: الإخْبَارُ أن الأَشْيَاءَ كلها بِيَدِ اللَّه؛ إن ضَرَّ فلا كَاشِفَ لضره غَيْرُه، وإن أصَابَ بِخَيْرٍ، فكذلك أيضاً.
وعن ابن عَبَّاسٍ قال: كنت خَلْفَ النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: «يا غُلاَمُ إنِّي أُعَلِّمَكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهِ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّه، وإذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، واعْلَم أنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لم يَنْفَعُوكَ إلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّه لَكَ، وإن اجْتَمَعُوا عَلَى أن يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لم يَضُرُّوكَ إلاَّ بِشَيْءٍ قد كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رفعت الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» رويناه في الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وفي رواية غير الترمذي زيادة: «احْفَظِ اللَّه تَجِدْهُ أمَامَكَ، تَعَرَّفْ إلى اللَّهِ في الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، واعْلَمْ أن ما أَخْطَأَكَ لم يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ...» وفي آخره: «واعلم أن النَّصْرَ مع الصَّبْرِ، وأنّ الفَرَجَ مع الكَرْبِ، وأن مع العُسْرِ يُسْراً». قال النووي: هذا حديث عَظِيمُ الموقع. انتهى من الحِلْيَة.
وقرأت فرقة: {وَأَوْحَى إلَيَّ هذا القُرآن} على بناء الفعل للفاعل، ونصب القرآن، وفي أوحى ضمير يَعُودُ على اللَّه تعالى.
وقوله: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ} معناه على قول الجمهور: بلاغ القرآن، أي: لأنْذِرَكُمْ وأُنْذِرَ مَنْ بَلَغَهُ، ففي {بلغ} ضمير محذوف؛ لأنه في صلة {من} فحُذِفَ لِطُولِ الكلام.
وقالت فرقة: ومن بلغ الحُلُمَ.
وروي في معنى التأويل الأَوَّلِ أَحَادِيثُ. وظاهر الآية أنها في عَبَدَةِ الأصنام.
وذكر الطبري أنه قد وَرَدَ من وَجْهٍ لم تثبت صحته أنها في قَوْمٍ من اليهود، قالوا: يا محمد ما تَعْلَمُ مع اللَّه إلهاً غيره، فقال لهم: «لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ وبِذَلِكَ أُمِرْتُ» فنزلت الآية. واللَّه أعلم.
وأمر اللَّه سبحانه نَبِيَّهُ عليه السلام أن يعلن بالتَّبَرِّي من شَهَادَةِ الكفرة، والإعلان بالتوحيد للَّه عز وجل والتبرِّي من إشراكهم.
قال الغزالي في الإحياء. وينبغي للتَّالِي أن يقدر أنه المقصود بكل خِطَابٍ في القرآن، فإن سمع أمراً أو نَهْياً قَدَّرَ المَنْهِيُّ، والمأمور، وكذا إن سَمِعَ وَعْداً أو وعيداً، وكذا ما يَقِفُ عليه من القَصَصِ، فالمقصود به الاعْتِبَارُ. قال تعالى: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120].
وقال تعالى: {هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138].
وقال: {وَأَوْحَيَ إلَيَّ هذا القُرءَانُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ}.
قال محمد بن كَعْبٍ القُرظي: من بلغه القرآن فكأنما كَلَّمَهُ اللَّه عز وجل انتهى.

.تفسير الآيات (20- 22):

{الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)}
وقوله سبحانه: {الذين آتيناهم الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ}.
قال قتادة، وغيره: يعرفون محمداً عليه السلام.
وقوله: {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} الآية؛ روي أن كل عَبْدٍ له مَنْزِلٌ في الجَنَّةِ، ومنزل في النار، فالمؤمنون يَنْزِلُونَ مَنَازِلَ أهل الكُفْرِ في الجَنَّةِ، والكافرون يَنْزِلُونَ مَنَازِلَ أهل الجَنَّةِ في النار، فهنا هي الخِسَارَةُ البَيِّنَةُ، والربح للآخرين. وباقي الآية بَيِّنٌ.
وقوله سبحانه: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} المعنى: واذكر يوم نحشرهم.

.تفسير الآيات (23- 26):

{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)}
وقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}.
الفِتْنَةُ في كلام العرب لفظة مشتركة، تقال بمعنى حُبِّ الشيء، والإعجاب به، وتقال بمعنى الاخْتِبَارِ. ومن قال: إن أَصْلَ الفتنة الاخْتِبَارُ من: فَتَنْتُ الذَّهَبَ في النَّارِ، ثم يُسْتَعَارُ بعد ذلك في غَيْرِ ذلك، فقد أَخْطَأَ؛ لأن الاسْمَ لا يُحْكَمُ عليه بمعنى الاسْتِعَارَةِ حتى يقطع عليه باسْتِحَالَةِ حَقِيقَتِهِ في المَوْضِع الذي استعير له، كقول ذي الرّمّةِ: [الطويل]
***وَلَفَّ الثُّرَيَّا فِي مُلاَءَتِهِ الفَجْرُ ** ونحوه، والفتنة لا يَسْتَحِيلُ أن تكون حَقِيقَةً في كل مَوْضِعٍ قيلت عليه، وباقي الآية مضى تَفْسِيرُهُ عند قوله سُبْحَانَهُ: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} [النساء: 42] فانظره هناك.
قال * ع *: وعبر قَتَادَةُ عن الفِتْنَةِ هنا بأن قال: معذرتهم.
وقال الضَّحَّاك: كلامهم.
وقيل غير هذا مما هو في ضِمْنِ ما ذكرناه.
وقوله سبحانه: {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ} هذا خِطَابٌ للنبي صلى الله عليه وسلم والنظر نَظَرُ القَلْبِ، وقال: {كَذَّبُواْ} في أَمْرِ لم يَقَعْ؛ إذ هي حِكَايَةٌ عن يوم القيامة، فلا إشْكَالَ في اسْتِعْمَالِ المَاضِي فيها موضع المستقبل، ويفيدنا استعمال الماضي تَحْقِيقاً في الفعل، وإثْبَاتاً له، وهذا مَهْيَعٌ في اللُّغَةَ.
{وَضَلَّ عَنْهُم} معناه: ذَهَبَ افْتِرَاؤُهُمْ في الدنيا، وكَذِبُهُمْ على اللَّه.
وقوله سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} الآية.
{أكِنَّة} جمع: كنان، وهو الغِطَاءُ {أَن يَفْقَهُوهُ} أي: يفهموه، والوَقْرُ الثقل.
وقوله سبحانه: {وإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا}. الرؤية هنا رُؤْيَةُ العَيْنِ، يريد كانشقاق القَمَرِ وشبهه.
وقولهم: {إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين} إشارة إلى القرآن، والأَسَاطِيرُ جمع أَسْطَار، كأقوال وأقاويل، وأسطار جمع سَطْر أوْ سَطَر. وقيل: أَسَاطِير جمع إسْطَارَة، وهي التُّرَّهَاتُ.
وقيل: جمع أُسْطُورة كَأُعْجُوبة، وأُضْحُوكة. وقيل: هم اسم جَمْعٍ، لا واحد له من لَفْظِهِ كعَبَادِيدَ وشَمَاطِيطَ، والمعنى: إخبار الأولين وقصصهم وأحاديثهم التي تُسَطَّرُ، وتحكى، ولا تُحَقَّقُ كالتواريخ، وإنما شَبَّهَهَا الكفار بأحاديث النَّضْرِ بن الحَارِثِ، وعبد اللَّه بن أبي أُمَيَّة، عن رستم ونحوه، ومُجَادَلَة الكفار كانت مُرَادّتهم نُورَ اللَّهِ بأقوالهم المُبْطَلَةِ.
{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} قال قتادة وغيره: المعنى: يَنْهَوْنَ عن القرآن.
وقال ابن عباس وغيره: يَنْهَوْنَ عن النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى: ينهون غَيْرَهُمْ، ويبعدون هم بأنفسهم، والنَّأْيُ البُعْدُ.
قال * ص *: {وَإِن يُهْلِكُونَ}: إن نافية بمعنى ما، و{أَنفُسِهِمْ} مفعول ب {يُهْلِكُونَ} انتهى. {وَمَا يَشْعُرُونَ} معناه: ما يَعْلَمُونَ عِلْمَ حسٍّ، ونَفْيُ الشعور مذمَّةٌ بالغة؛ إذ البهائم تشعر وتحسّ، فإذا قلت: فلان لا يَشْعُرُ، فقد نَفَيْتَ عنه العِلْمَ النفي العام الذي يقتضي أنه لا يَعْلَمُ ولا المَحْسُوسات.

.تفسير الآيات (27- 28):

{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)}
وقوله جَلَّتْ عظمته: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} الآية: المُخَاطَبَةُ فيه للنبي صلى الله عليه وسلم وجواب لو محذوف، تقديره في آخر الآية: لرأيت هَوْلاً عظيماً ونحوه.
و{وُقِفُواْ} معناه: حسُّوا، ويحتمل قوله: {وُقِفُواْ عَلَى النار} بمعنى دخلوها. قاله الطَّبَرِيُّ.
ويحتمل أن يكون أَشْرَفُوا عليها، وعاينوها.
وقولهم: {ياليتنا نُرَدُّ} معناه إلى الدنيا.
وقوله سبحانه: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ} الآية: يَتَضَمَّنُ أنهم كانوا يُخْفُونَ أموراً في الدنيا، فظهرت لهم يوم القِيَامَةِ، أو ظهر وَبَالُ ذلك وعاقبته، فحذف المُضَاف، وأقيم المضَافُ إليه مقامه.
وقيل: إن الكُفَّارَ كانوا إذَا وَعَظَهُمُ النبي صلى الله عليه وسلم خافوا، وأَخْفَوْا ذلك الخوف لَئلا يشعر بهم أتباعهم، فظهر لهم ذَلِكَ يوم القيامة.
ويصح أن يكون مَقْصِدُ الآية الإخْبَارَ عن هَوْلِ ما لقوه، فعبِّر عن ذلك بأنهم ظَهَرَتْ لهم مَسْتُورَاتهم في الدنيا من مَعَاصٍ وغيرها، فكيف الظَّنُّ بما كانوا يعلنونه من كُفْرٍ ونحوه. وينظر إلى هذا التأويل قوله تعالى في تَعْظِيمِ شَأْنِ يوم القيامة: {يَوْمَ تبلى السرائر} [الطارق: 9]. وقوله سبحانه: {وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا} إخبار عن أَمْرٍ لا يكون كَيْفَ كان يُوجَدُ، وهذا النوع مما اسْتَأْثَرَ اللَّه تعالى بعِلْمِهِ، فإن أعلم بشيء منه علم، وإلا لم يُتَكَلَّمْ فيه.
قال الفخر: قال الوَاحِدِيُّ: هذه الآية من الأدلة الظاهرة على فَسَادِ قول المُعْتَزِلةِ؛ لأن اللَّه تعالى حكى عن هؤلاء أنهم لو رُدُّوا لَعَادُوا لما نُهُوا عنه، وما ذاك إلا لِلْقَضَاءِ السابق فيهم. انتهى.