فصل: تفسير الآيات (133- 135):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (130- 132):

{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)}
وقوله تعالى: {يامعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ...} الآية: هذا الكلامُ داخلٌ في القول يَوْمَ الحشر.
قال الفَخْر: قال أهل اللغة: المَعْشَر: كلُّ جماعةٍ أَمْرهم واحدٌ، وتَحْصُلُ بينهم معاشرةٌ ومخالطةٌ، فالمَعْشَر: المُعَاشِر. انتهى، و{مِّنكُمْ}: يعني: مِنَ الإنس؛ قاله ابن جُرَيْج وغيره، وقال ابن عباس: من الطائفَتَيْنِ، ولكنْ رسلُ الجِنِّ هم رُسُلِ الإنسِ، وهم النُّذُر، و{يَقُصُّونَ}: من القَصَص، وقولهم: {شَهِدْنَا}: إقرار منهم بالكفر.
وقوله سبحانه: {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا}: التفاتة فصيحةٌ تضمَّنت أنَّ كفرهم كان بأذَمِّ الوجوه لهم، وهو الاغترار الذي لا يواقعه عاقلٌ، ويَحْتَمِلُ {غَرَّتهم}؛ أنْ يكون بمعنى: أشبعتهم وأطغتهم بحَلْوَائها؛ كما يقال: غَرَّ الطَّائِرُ فَرْخَهُ.
وقوله سبحانه: {وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كافرين}: الجمع بيْنَ هذه الآية وبَيْن الآي التي تقتضي إنكار المشركين الإشْرَاكَ هو إمَّا بأنها طوائفُ، وإما بأنها طائفةٌ واحدةٌ في مواطنَ شتى.
وقوله: {ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ}، أي: ذلك الأمر، و{القرى}: المُدُن، والمراد: أهل القرى، و{بِظُلْمٍ}: يحتمل معنيين:
أحدهما: أنه لم يكُنْ سبحانه لِيُهْلِكَهم دون نِذَارة، فيكون ظُلْماً لهم، واللَّه تعالى ليس بظلاَّم للعبيد.
والآخر: أنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ لم يُهْلِكْهم بظلمٍ واقعٍ منهم دون أنْ ينذرهم، وهذا هو البيِّن القويُّ، وذكر الطبري رحمه اللَّه التأويلين.
وقوله سبحانه: {وَلِكُلٍّ درجات مِّمَّا عَمِلُواْ...} الآية: إخبارٌ من اللَّه سبحانه أنَّ المؤمنين في الآخرة على درجاتٍ من التفاضُل بحَسَب أعمالهم، وتفضُّل المولى سبحانه عليهم، ولكنْ كلٌّ راضٍ بما أعطِيَ غايةَ الرضا، والمشركون أيضاً على دركاتٍ من العذابِ، قلتُ: وظاهر الآية أن الجنَّ يثابون وينالُونَ الدَّرَجَاتِ والدَّرَكَاتِ، وقد ترجم البخاريُّ على ذلك، فقال: ذِكْر الجنِّ وثَوَابِهِم وعقابِهِم؛ لقوله تعالى: {يامعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ...} الآية، إلى قوله: {وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ...}، قال الداووديُّ: قال الضحاكُ: مِنَ الجنِّ مَنْ يدخل الجنَّة، ويأكل ويشرب. انتهى.

.تفسير الآيات (133- 135):

{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)}
وقوله سبحانه: {وَرَبُّكَ الغني ذُو الرحمة إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ} الآيةُ متضمِّنةٌ وعيداً وتحذيراً من بطْشِ اللَّه عزَّ وجلَّ في التعجيل بذلك، وإمَّا مع المُهْلَة ومرورِ الجَدِيدَيْن؛ فذلك عادته سبحانه في الخَلْق بإذهاب خَلْقِ واستخلاف آخرين.
وقوله سبحانه: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لأَتٍ}، هو من الوعيدِ؛ بقرينة: {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ}، أي: وما أنتم بناجين هَرَباً فتعجزوا طالبكم، ثم أمر سبحانه نبيَّه عليه السلام أنْ يتوعدَّهم بقوله: {اعملوا}، أي: فسترون عاقبةَ عملكم الفاسدِ، وصيغةُ افعل هنا: هي بمعنى الوعيدِ والتهديدِ، و{على مَكَانَتِكُمْ}: معناه: على حالِكُمْ وطريقَتِكم، و{عاقبة الدار}، أي: مآل الآخرة، ويحتمل مآل الدنيا؛ بالنصر والظهورِ، ففي الآية إعلام بغَيْب.

.تفسير الآيات (136- 138):

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)}
وقوله: {وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ}، يعني: مشركي العربِ الذين تقدَّم الردُّ عليهم من أول السورة، و{ذَرَأَ}: معناه: خلَق وأنشأَ وبَثَّ، وسبَبُ نزول هذه الآية أنَّ العرب كانَتْ تجعل من غَلاَّتها وزُرُوعها وثمارها وأنعامها جُزْءاً تسميِّه للَّه، وَجْزْءاً تسميه لأصنامها، وكانت عادتها التحفِّي والاهتبال بنَصيبِ الأصنام أكْثَرَ منها بنصيب اللَّهِ؛ إذ كانوا يعتقدون أن الأصنام بها فَقْر، وليس ذلك باللَّه سبحانه، فكانوا إذا جمعوا الزَّرْعَ، فهبَّت الريحُ، فحملَتْ مِنَ الذي للَّه إلى الذي لشركائِهِمْ، أقروه، وإذا حملَتْ من الذي لشركائِهِمْ إلى الذي للَّه، ردُّوه، وإذا لم يُصِيبُوا في نصيبِ شركائهم شيئاً، قالوا: لابد للآلهة مِنْ نفقةٍ، فيجعلون نصيب اللَّه تعالى في ذلك؛ قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهدٌ والسديُّ وغيرهم؛ أنهم كانوا يفعلُونَ هذا ونحوه من الفعْلِ؛ وكذلك في الأنعامِ؛ كانوا إذا أصابتهم السَّنَةُ، أكلوا نصيبَ اللَّه، وتحامَوْا نصيبَ شركائهم.
وقوله سبحانه: {وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أولادهم شُرَكَاؤُهُمْ}، الكثير هنا يرادُ به مَنْ كان يَئِدُ مِنْ مشركي العرب، والشركاء؛ ههنا: الشياطين الآمِرُونَ بذلك، المزيِّنون له، والحاملون عليه أيضاً من بني آدم، ومقصد الآية الذمُّ للوأْد والإنْحَناءُ على فَعَلَته، و{لِيُرْدُوهُمْ}: معناه: ليهلكوهم من الردى، و{لِيَلْبِسُواْ}: معناه: ليخلِّطلوا.
وقوله سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ الله مَا فَعَلُوهُ} يقتضي أن لا شيء إلا بمشيئة اللَّه عزَّ وجلَّ، وفيها ردٌّ على من قال بأن المرء يَخْلُقُ أفعاله، وقوله: {فَذَرْهُمْ}: وعيدٌ محضٌ.
وقوله سبحانه: {وَقَالُواْ هذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاء بِزَعْمِهِمْ وأنعام حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} الآيةُ تتضمَّن ما شرعوه لأنفسهم والتزموه على جهة القربة كذباً منهم على اللَّه سبحانه، و{حِجْرٍ}: معناه: التحجيرُ، وهو المنعُ والتحريمُ، {وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا}: قال جماعةٌ من المفسِّرين: إنَّهم كانت لهم سُنَّة في أنعامٍ مَّا؛ ألاَّ يُحَجُّ عليها، فكانَتْ تُرْكَبُ في كلِّ وجه إلا في الحَجِّ، وقالت فرقة: بل ذلك في الذبائحِ، جعلوا لآلهتهم نصيباً منها لا يذكُرُونَ اللَّه على ذبحها.

.تفسير الآيات (139- 140):

{وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)}
وقوله سبحانه: {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا...} الآية: كان مِنْ مذاهبهم الفاسدةِ في بَعْض الأنعامِ أنْ يحرِّموا ما وَلَدَتْ على نسائهم، ويخصِّصونه لذُكُورهم، ف {أزواجنا}: يراد به جماعةُ النساءِ التي هِيَ معدَّة أن تكون أزواجاً؛ قاله مجاهد، وقوله: {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً}، يعني: أنه كان من سُنَّتهم أنَّ ما خرج من الأجنَّة ميتاً مِنْ تلك الأنعام الموقوفة، فهو حلالٌ للرجال والنساء جميعاً، وكذلك ما مات مِنَ الأنعامِ الموقوفةِ نَفْسِها، ثم أعقب تعالى بوعيدهم على ما وصفوا أنه من القربات.
وقوله سبحانه: {قَدْ خَسِرَ الذين قَتَلُواْ أولادهم سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ...} الآية: تتضمَّن التشنيع بسوء فعلهم، والتَّعْجيبَ مِنْ سوء حالهم فيما ذَكَر، قال عكرمة: وكان الوَأْدُ في رَبِيعَةَ وفِي مُضَرَ،
قال * ع *: وكان جمهورُ العرب لا يفعله، ثم إنَّ فاعليه كان منهم مَنْ يفعله خَوْفَ العَيْلَة والافتقار، وكان منهم من يفعله غَيْرَةً؛ مخافةَ السِّبَاءِ، و{قَدْ ضَلُّواْ}: إخبارٌ عنهم بالحَيْرة، {وَمَا كَانُواْ}: يريد في هذه الفَعْلَةِ، ويحتمل أن يريدَ: وما كانوا قبل ضلالهم بهذه الفَعْلة مهتدين، ولكنَّهم زادوا بهذه الفَعْلَةِ ضلالاً.

.تفسير الآيات (141- 142):

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)}
وقوله سبحانه: {وَهُوَ الذي أَنشَأَ جنات معروشات وَغَيْرَ معروشات...} الآية: تنبيهٌ على مواضع الاِعتبار، و{أَنشَأَ}: معناه: خلَقَ واخترع، و{معروشات}، قال ابنُ عَبَّاس: ذلك في ثَمَر العِنَبِ، مِنْها: ما عرش وسمك، ومنها: ما لم يعرش، و{متشابها}: يريد: في المَنْظَر، و{غَيْرِ متشابه}: في الطعم؛ قاله ابن جُرَيْج وغيره، وقوله: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ}: نصٌّ في الإباحة، وقوله سبحانه: {وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}: قال ابن عباس وجماعة: هي في الزكاة المفْرُوضة،
قال * ع *: وهذا القولُ مُعْتَرَضٌ بأن السورة مكِّيَّةٌ؛ وبأنَّه لا زكاة فيما ذُكِرَ من الرُّمَّانِ، وما في معناه، وحكى الزجَّاج؛ أنَّ هذه الآية قيل فيها: إنها نزلَتْ بالمدينة، وقال مجاهدٌ وغيره: بل قوله: {وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}: نَدْبٌ إلى إعطاء حقوقٍ مِنَ المال غَيْر الزكاة، والسُّنَّة أن يُعْطِيَ الرجُلُ من زرعه عند الحصَادِ، وعِنْدَ الذَّرْوِ، وعنْدَ تكديسه في البَيْدَرِ، فإذا صفى وكال، أخرَجَ من ذلك الزكاةَ.
وقالتْ طائفة: هذا حكم صدَقَاتِ المسلمين؛ حتى نزلَت الزكاةُ المفروضةُ، فنسخَتْها.
قال * ع *: والنسخ غَيْرُ مترتِّب في هذه الآية، ولا تَعَارُضَ بينها وبيْن آية الزكاة، بل تَنْبَنِي هذه على النَّدْبِ، وتلك على الفرض.
وقوله سبحانه: {وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} النهْيُ عن الإسراف: إما للناس عن التمنُّع عن أدائها؛ لأن ذلك إسراف من الفعْلِ، وإما للولاة عن التشطُّط على الناسِ والإذاءة لهم، وكلٌّ قد قيلَ به في تأويل الآية.
وقوله سبحانه: {وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشاً} {حَمُولَةً}: عطْفٌ على {جنات معروشات}. التقدير: وأنشأنا من الأنعامِ حمولةً، والحَمُولَةُ: ما تحمل الأثقال مِنَ الإبل والبقر عنْدَ مَنْ عادته أنْ يحمل عليها، والفَرْش: ما لا يحمل ثقلاً؛ كالغنم وصِغَار البَقَر والإبل، وهذا هو المرويُّ عن ابْنِ مسعود وابن عباس والحَسَن وغيرهم، ولا مَدْخَل في الآية لغَيْر الأنعام، وقوله: {كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله}: نصُّ إباحةٍ، وإزالةُ مَا سَنَّه الكفرة من البَحِيرَة والسَّائبة وغير ذلك، ثم تابع النهْيَ عن تلك السُّنَن الآفكة؛ بقوله سبحانه: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان}، وهي جمع خُطْوَة، أي: لا تَمْشُوا في طريقه، قُلْتُ: ولفظ البخاريِّ: {خطوات} من الخَطْو، والمعنى: آثاره. انتهى.

.تفسير الآيات (143- 145):

{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)}
وقوله سبحانه: {ثمانية أزواج}، واختلف في نَصْبِها فقيل: على البدل من مَا في قوله: {كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله}، وقيل: على الحال، وقيل: على البدل من قوله: {حَمُولَةً وَفَرْشاً}، وهذا أصوب الأقوال، وأجراها مع معنى الآيةِ، والزَّوْج: الذكر، والزَّوْج الأنثى، فكل واحدٍ منهما زَوْجُ صاحبِهِ، وهي أربعة أنواعٍ؛ فتجيء ثمانية أزواجٍ، والضَّأْن: جمع ضَائِنَة وضَائِن.
وقوله سبحانه: {قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين}، هذا تقسيمٌ على الكفَّار؛ حتى يتبيَّن كذبهم على اللَّه، أي: لابد أن يكون حَرَّم الذكَرَيْن؛ فيلزمكم تحريمُ جميعِ الذُّكور، أو الأنثيين؛ فيلزمكم تحريمُ جميع الإناث، {أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين}، فيلزمكم تحريمُ الجميعِ، وأنتم لم تلتزموا شيئاً يوجبه هذا التقسيمُ، وفي هذه السؤالاتِ تقريعٌ وتوبيخٌ، ثم أتْبَعَ تقريعَهُم بقوله: {نَبِّئُونِي}، أي: أخبروني {بِعِلْمٍ}، أي: من جهة نبوَّة أو كتابٍ من كتب اللَّهِ {إِن كُنتُمْ صادقين}، و{إن} شرطٌ، وجوابه في {نَبِّئُونِي}.
وقوله سبحانه: {وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين قُلْ ءَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ...} الآية: القولُ في هذه الآية في المعنى وترتيبِ التقسيمِ؛ كما تقدَّم، فكأنه قال: أنتم الذين تدَّعون أن اللَّه حرم خصائصَ مِنْ هذه الأنعام لا يَخْلُو تحريمه مِنْ أن يكون في الذَّكَرَيْن أو في الأُنْثَيَيْن، أو فيما اشتملت عليه أرحامُ الأنثيين، لكنه لم يُحَرِّم لا هذا ولا هذا ولا هذا؛ فلم يَبْقَ إلا أنه لم يَقَعْ تحريمٌ، قال الفَخْر: والصحيحُ عندي أن هذه الآية لم ترد على سبيل الاستدلال على بطلان قولهم، بل هي استفهام على سبيل الإنكار، وحاصلُ الكلام: أنكم لا تعترفُون بنبوَّة أحد من الأنبياء، فكيف تثبتون هذه الأحكام المختلفة. انتهى.
وقوله سبحانه: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وصاكم الله بهذا}: استفهامٌ؛ على سبيل التوبيخِ، و{شُهَدَاء}: جمعُ شهيدٍ، وباقي الآية بيِّن.
وقوله تعالى: {قُل لآ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً...} الآية: هذه الآيةُ نزلَتْ بمكَّة، ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقْتِ شيء محرَّم غير هذه الأشياء، ثم نزلَت، سورة المائدة بالمدينة، وزيدَ في المحرَّمات؛ كالخمر، وكأكل كل ذي نابٍ من السباعِ ممَّا وردَتْ به السُّنَّة.
قال * ع *: ولفظة التحريمِ، إذا وردَتْ على لسان رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإنَّها صالحةٌ أن تنتهي بالشيء المذكور غَايَةَ المنْعِ والحظرِ، وصالحةٌ بحسب اللغة أنْ تقف دون الغاية في حَيِّز الكراهية ونحوها، فما اقترنت به قرينةُ التسليمِ من الصحابة المتأوِّلينِ، وأجمع عليه الكلُّ منهم، ولم تَضْطَرِبْ فيه ألفاظ الأحاديث، وأمضاه الناسُ وجب بالشَّرْعِ أنْ يكون تحريمه قَدْ وصَل الغايةَ من الحَظْر والمَنْع، ولحق بالخنزير والميتة، وهذه صفة تحريم الخمر، وما اقترنت به قرينةُ اضطراب ألفاظ الحديثِ، واختلف الأمة فيه، مع علمهم بالأحاديث؛ كقوله عليه السلام: «كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ»، وقد روي عنه «نهى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ»، ثم اختلفتِ الصحابة ومَنْ بعدهم في تحريمِ ذلك، فجاز لهذه الوجوه لِمَنْ ينظر أَنْ يحمل لفظ التحريم على المَنْع الذي هو على الكراهية ونحوها، وما اقترنت به قرينةُ التأويلِ؛ كتحريمه عليه السلام لُحُومَ الحُمُرِ الأنْسِيَّةِ، فتأول بعض الصحابة الحاضِرِينَ ذلك؛ لأنها لم تخمَّس، وتأوَّل بعضهم أن ذلك لئَلاَّ تفنى حمولةُ النَّاس، وتأول بعضهم التحريمَ المَحْضَ، وثبت في الأمة الاختلافُ في لَحْمها، فجائز لِمَنْ ينظر من العلماءِ أنْ يحمل لفظ التحريمِ بحسب اجتهاده وقياسه على كراهية أو نحوها، وباقي الآية بيِّن.

.تفسير الآيات (146- 150):

{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)}
وقوله سبحانه: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ...} الآية: هذا خبر مِنَ اللَّهِ سبحانه يتضمَّن تكذيبَ اليَهُودِ في قولهم: إن اللَّه لم يحرِّم علينا شيئاً، وإنما حرمنا على أنفسنا ما حَرَّمه إسرائيل على نفسه، و{كُلَّ ذِي ظُفُرٍ}: يراد به الإبلُ، والنَّعَام، والإوَزُّ ونحوه من الحيوانِ الذي هو غير مُنْفَرِجِ الأصابع، وله ظُفُر، وأخبرنا سبحانه في هذه الآية بتحريمِ الشحومِ عليهم، وهي الثُّرُوب وشَحْمُ الكلى، ومَا كان شحماً خالصاً خارجاً عن الاستثناء الذي في الآية، واختلف في تحريم ذلك على المسلمين من ذبائحهم، فعن مالكٍ: كراهيةُ شحومهم من غير تحريمٍ.
وقوله تعالى: {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا}، يريد: ما اختلط باللحْمِ في الظَّهْرِ والأجنابِ ونحوه، قال السُّدِّيُّ وأبو صالح: الأَلْيَاتُ ممَّا حملَتْ ظهورهما، والحَوَايَا: ما تحوى في البَطْن، واستدار، وهي المَصَارِينُ والحُشْوة ونحوها، وقال ابن عباس وغيره: هي المَبَاعِر، وقوله: {أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ}، يريد: في سائر الشخْصِ.
وقوله سبحانه: {ذلك جزيناهم بِبَغْيِهِمْ} يقتضي أنَّ هذا التحريم إنما كان عقوبةً لهم على بغيهم، واستعصائهم على أنبيائهم.
وقوله سبحانه: {وِإِنَّا لصادقون}: إخبار يتضمَّن التعريضَ بكَذِبهم في قولهم: ما حرَّم اللَّهُ علينا شيئاً.
وقوله سبحانه: {فَإِن كَذَّبُوكَ}: أي: فيما أخبرْتَ به؛ أنَّ اللَّه حرَّمه عليهم، {فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسعة} أي في إمهاله؛ إذ لم يعاجلْكم بالعقوبةِ، مع شدَّة جُرْمِكم، ولكنْ لا تغترُّوا بسعة رحمته؛ فإن له بَأْساً لا يُرَدُّ عن القوم المجْرِمِين، إما في الدنيا وإما في الآخرة، وهذه الآية وما جانَسَها من آياتِ مكَّة مرتفعٌ حكْمُها بآية القتالِ، ثم أخبر سبحانه نبيَّه عليه السلام؛ بأن المشركين سيحتجُّون؛ لتصويبِ ما هُمْ عليه من شركهم وتديُّنهم: بتحريمِ تلك الأشياءِ بإمهال اللَّه تعالى لهم، وتقريرِهِ حالهم، وأنه لو شاء غَيْرَ ذلك، لما تَرَكَهم على تلْك الحال، ولا حُجَّة لهم فيما ذكَروه؛ لأنه سبحانه شاء إشراكهم وأقدرهم على الاكتساب، ويلزمهم على احتجاجهم أنْ تكون كلُّ طريقةٍ وكلُّ نحلةٍ صواباً، إذْ كلها لو شاء اللَّه لَمْ تكُنْ، وفي الكلامِ حذفٌ يدلُّ عليه تناسُقُ الكلامِ؛ كأنه قال: سيقول المشركون كذا وكذا، وليس في ذلك حُجَّة لهم، ولا شَيْء يقتضي تكذيبَكَ، ولكن، {كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ}؛ بنحو هذه الشبهة مِنْ ظَنِّهم أنَّ ترك اللَّه لهم دليلٌ على رضاه بحالهم، وفي قوله تعالى: {حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا}: وعيدٌ بيِّن.
وقوله سبحانه: {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ}. أي: مِنْ قِبَلِ اللَّه، {قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة}، يريد البالغةَ غاية المَقْصِدِ في الأمر الذي يحتجُّ له، ثم أعلم سبحانه أنَّه لو شاء، لهدَى العالَم بأسْره، و{هَلُمَّ}: معناها: هَاتِ؛ وهي حينئذ متعدِّية، وقد تكون بمعنى: أَقْبِلْ؛ فلا تتعدى، وبعضُ العرب يجعلها اسم فعْلٍ؛ ك رُوَيْدَكَ، وبعضهم يجعلها فِعْلاً، ومعنى الآية: قل هاتوا شهداءكم الذين يشهدون أن اللَّه حرَّم ما زعمتم تحريمَهُ، {فَإِن شَهِدُواْ}، أي: فإن افترى لهم أحدٌ أو زَوَّرَ شهادةً أو خبراً عن نبوَّة ونَحوَ ذلك، فجَنِّبْ أنْتَ ذلك، ولا تَشْهد معهم، قلْتُ: وهذه الآية والتي بعدها مِنْ نوعَ ما تقدَّم من أن الخطاب له صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره ممَّن يمكن ذلك منه، {وَهُم بِرَبِهِمْ يَعْدِلُونَ}، أي: يجعلون لَهُ أنداداً يسوُّونهم به، تعالَى اللَّه عن قولهم.