فصل: تفسير الآيات (18- 21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير سورة النحل:

وهي مكية غير آيات يسيرة يأتي بيانها إن شاء الله.

.تفسير الآيات (1- 4):

{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)}
قوله سبحانه: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ}: روي أنَّ رسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم لما قال جِبْريلُ في سرد الوحْيِ: {أتى أَمْرُ الله}، وثَبَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم قائماً، فلما قال: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ}، سكَنَ، وقوله: {أَمْرُ الله}: قال فيه جمهور المفسِّرين: إِنه يريدُ القِيَامَةَ، وفيها وعيدٌ للكفَّار، وقيل: المرادُ نَصْرُ محمَّد صلى الله عليه وسلم، فَمَنْ قال: إِن الأمر القيامَةُ، قال: إِن قوله تعالى: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ}: ردٌّ على المكذِّبين بالبَعْثِ، القائلين: متَى هذا الوَعْدُ، واختلف المتأوِّلون في قوله تعالى: {يُنَزِّلُ الملائكة بالروح}، فقال مجاهدٌ: الرُّوحُ: النبوَّءة، وقال ابن عباس: الرُّوحُ الوحْيُ، وقال قتادة: بالرحمةِ والوحْي، وقال الربيع بنُ أنَسٍ: كلُّ كلام اللَّه رُوحٌ، ومنه قوله تعالى: {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]، وقال الزَّجَّاج: الرُّوح: ما تَحْيَا به القلوبُ من هداية اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وهذا قولٌ حَسَنٌ، قال الداووديُّ، عن ابن عباس قال: الرُّوح: خَلْقٌ من خَلْق اللَّه، وأمْرٌ من أمر اللَّه عَلى صُوَرِ بني آدم، وما يَنْزِلُ من السماءِ مَلَكٌ إِلا ومعه رُوحٌ؛ كالحفيظ عليه، لا يتكلَّم ولا يراه مَلَك، ولا شيءٌ مما خَلَقَ اللَّه، وعن مجاهدٍ: الرُّوح: خَلْق من خَلْق اللَّه، لهم أيدٍ وأرجلٌ. انتهى، واللَّه أعلم بحقيقةِ ذلك، وهذا أمرٌ لا يقَالُ بالرأْيِ، فإِن صحَّ فيه شيء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وَجَبَ الوقوفُ عنْده انتهى، و{مَنْ} في قوله: {مَن يَشَآءُ} هي للأنبياء.
وقوله تعالى: {خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ}: يريد ب {الإِنسان} الجنْسَ، وقوله: {خَصِيمٌ} يحتملُ أنْ يريد به الكَفَرة الذين يجادلُونَ في آياتِ اللَّه؛ قاله الحسن البصريُّ، ويحتملُ أنْ يريد أعَمَّ من هذا، على أن الآية تعديدُ نعمةِ الذِّهْنِ والبَيَانِ على البَشَر.

.تفسير الآيات (5- 12):

{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)}
وقوله سبحانه: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ}: ال {دِفْء}: السَّخَانة، وذَهَاب البَرْد بالأَكْسِيَة ونحوها، وقيل: ال {دِفْءٌ}: تناسُلُ الإِبل، وقال ابن عَبَّاس: هو نسْلُ كلِّ شيء، والمعنى الأول هو الصحيحُ، وال {منافع}: ألبانها وما تصرَّف منها، وحَرْثُها والنَّضْح عليها وغَيْر ذلك.
وقوله: {جَمَالٌ}، أي: في المَنْظَر، و{تُرِيحُونَ}: معناه: حين تردُّونها وقْتَ الرَّوِاح إِلى المنازلِ، و{تَسْرَحُونَ}: معناه: تخرجُونها غُدْوة إِلى السَّرْح، والأثْقَالُ: الأمتعة، وقيل: الأجسام؛ كقوله: {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2] أي: أجسادَ بني آدم، وسمِّيت الخيلُ خيلاً؛ لاختيالها في مِشْيتها.
* ت *: ويجبُ على من ملكه اللَّه شيئاً من هذا الحيوانِ أنْ يَرْفُقَ به، ويشْكُر اللَّه تعالى على هذه النعمة التي خَوَّلها، وقد رَوَى مالك في الموطَّأ عن أبي عُبَيْدٍ مولى سليمانَ بْنِ عبدِ المَلِكِ، عن خالدِ بْنِ مَعْدَانَ يرفعه، قال: «إِن اللَّه رفيقٌ يحبُّ الرِّفْق، ويرضَاهُ، ويعينُ عليه ما لاَ يُعِينُ على العُنْف، فإِذا ركبتم هذه الدوابَّ العُجْمَ، فأنزلوها منازِلَهَا، فإِنْ كانَتِ الأرض جَدْبةً، فانجوا عليها بِنِقْيِهَا، وَعَلَيْكُمْ بسير اللَّيْلِ؛ فَإِن الأرض تُطْوَى باللَّيْلِ ما لا تُطْوَى بالنهار، وإِياكم والتَّعْرِيسَ على الطريقِ؛ فإِنها طُرُق الدَّوابِّ، ومأوى الحَيَّات». قال أبو عمر في التمهيد: هذا الحديث يستندُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من وجوهٍ كثيرةٍ، فأمَّا الرفْقُ، فمحمودٌ في كلِّ شيء، وما كان الرفْقُ في شيء إِلاّ زانه، وقد رَوَى مالك بسنده عن عائشة، وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ»، وأُمِرَ المسافرُ في الخِصْبِ بأنْ يمشي رويداً، ويكثر النزول، لترعَى دابته، فأَما الأرْضُ الجَدْبة، فالسُّنَّة للمسافِرِ أَنْ يُسْرُع السيْر؛ ليخرجَ عنها، وبدابَّته شيءٌ من الشَّحْم والقُوَّة، والنِّقْي في كلام العرب: الشَّحْم والوَدَك. انتهى.
وروَى أبو داود عن أبي هُرَيْرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِيَّاكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا ظُهُورَ دَوَابِّكُمْ مَنَابِرَ، فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُبَلِّغَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بِالغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ، وَجَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فَعَلَيْهَا فاقضوا حَاجَاتِكِمْ» انتهى.
وقوله سبحانه: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}: عبرةٌ منصوبةٌ على العمومِ، أي: إِنَّ مخلوقاتِ اللَّهِ مِنَ الحيوانِ وغيره لا يُحيطُ بعلْمها بَشَرٌ، بل ما يخفَى عنه أكْثَرُ مما يعلمه.
وقوله سبحانه: {وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل...} الآية: هذه أيضاً من أجَلِّ نعم اللَّه تعالى، أي: على اللَّه تقويمُ طريقِ الهدَى، وتبيينُهُ بنَصْب الأدلَّة، وبعْثِ الرسل، وإِلى هذا ذهب المتأوِّلون، ويحتمل أنْ يكون المعنى: أَنَّ مَنْ سلك السبيلَ القاصِد، فعلى اللَّه، ورحمته وتنعيمُهُ طريقُهُ، وإِلى ذلك مصيره، وطريقٌ قَاصِد: معناه: بيِّنٌ مستقيمٌ قريبٌ، والألف واللام في {السبيل}، للعهد، وهي سبيلُ الشرْعِ.
وقوله: {وَمِنْهَا جَائِرٌ}: يريد طريقَ اليهودِ والنصارَى وغيرِهِم، فالضمير في {مِنْهَا} يعود على السُّبُلُ التي يتضمَّنها معنى الآية.
وقوله سبحانه: {فِيهِ تُسِيمُونَ}: يقال: أَسَامَ الرَّجُلُ مَاشِيَتَهُ؛ إِذا أرسلها ترعَى.

.تفسير الآيات (13- 17):

{وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)}
وقوله سبحانه: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ}: ذرأ: معناه: بثَّ ونَشَرَ.
و{مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} أي أصنافه، ويحتمل أنْ يكون التنبيهُ على اختلاف الألوان من حُمْرةٍ وصُفْرةٍ وغير ذلك، والأول أبْيَنُ.
وقوله سبحانه: {وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: البَحْر: الماءُ الكثيرُ، ملْحاً كان أو عَذْباً.
قال ابنُ العربيِّ في أحكامه: قولُهُ تعالى: {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}: يعني به اللؤلُؤَ والمَرْجان، وهذا امتنان عامٌّ للرجال والنساء، فلا يحرم عليهم شيءٌ من ذلك. انتهى. و{مَوَاخِرَ}: جمعَ مَاخِرَة، والمَخْر؛ في اللغة: الصَّوْت الذي يكون من هبوبِ الريح علَى شيءٍ يشقُّ أو يصحب في الجملة الماءَ؛ فيترتَّب منه أنْ يكون المَخْر من الريحِ، وأنْ يكون من السفينةِ ونحوها، وهو في هذه الآيةِ من السُّفُنِ، وقال بعضُ النحَاةِ: المَخْزُ؛ في كلامِ العرب: الشَّقُّ؛ يقال: مَخَرَ المَاءُ الأَرْضَ، وهذا أيضاً بيِّن أن يقال فيه للفلْكِ مَوَاخِر.
وقوله: {وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}: يحتملُ: تهتدون فِي مَشْيِكم وتصرُّفَكُمْ في السُّبُل، ويحتملُ تهتدُونَ بالنَّظَر في دَلاَلة هذه المَصْنُوعات علَى صَانِعِها. {وعلامات وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ}: قال ابن عبَّاسٍ: العلامَاتُ: معالمُ الطُّرُق بالنهار، والنجومُ: هدايةُ الليل، وهذا قولٌ حَسَن؛ فإِنه عمومٌ بالمعنَى، واللفظةُ عامَّة؛ وذلك أَنَّ كُلَّ مَا دَلَّ على شيْءٍ وأعلَمَ به، فهو علامةٌ، و{النجم}؛ هنا: اسمُ جنسٍ، وهذا هو الصَّواب.

.تفسير الآيات (18- 21):

{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)}
وقوله سبحانه: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ...} الآية: وبحسب العَجْز عن عدِّ نعم اللَّه تعالى يلزمُ أنْ يكون الشاكرُ لها مقصِّراً عن بعْضها؛ فلذلك قال عزَّ وجلَّ: {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}، أي: عن تقصيركُمْ في الشكْر عن جميعها؛ نحا هذا المنحَى الطبريُّ؛ ويَرِدُ عليه أن نعمةَ اللَّهِ في قولِ العبدِ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، مع شرطها من النيَّة والطاعةِ يوازي جميعَ النِّعَمَ، ولكنْ أين قولها بشُرُوطها، والمخاطَبةُ بقوله: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ}. عامَّةٌ لجميع الناس. {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله}؛ أي: تدعونهم آلهةً، و{أَمْوَاتٌ}: يراد به الذين يَدْعُونَ مِنْ دونِ اللَّهِ، ورفع {أَمْوَاتٌ}؛ على أنه خبر مبتدإٍ مضمرٍ، تقديره: هم أمواتٌ، وقوله: {غَيْرُ أَحْيَاءٍ}: أي: لم يقبلوا حياةً قطُّ، ولا اتصفوا بها، وقوله سبحانه: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}: أي: وما يشعر الكُفَّار متَى يبعثون إِلى التعذيب.

.تفسير الآيات (22- 25):

{إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)}
وقوله سبحانه: {إلهكم إله واحد فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ} أي: مُنْكِرَةٌ اتحاد الإله.
* ت *: وهذا كما حَكَى عنهم سبحانه في قولهم: {أَجَعَلَ الألهة إلها واحدا إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].
وقوله: {لاَ جَرَمَ} عبَّرت فرقةٌ من اللُّغويِّين عن معناها ب لابد ولا محالة، وقالت فرقة: معناها: حق أن اللَّه، ومذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أنَّ {لا} نفيٌ لما تقدَّم من الكلامِ، و{جرم}: معناه: وَجَبَ أو حَقَّ ونحوه، هذا مذهبُ الزَّجَّاجِ، ولكنْ مع مذهبهما، {لا} ملازِمَةٌ ل {جَرَمَ} لا تنفَكُّ هذه مِنْ هذه.
وقوله سبحانه: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين}: عامٌّ في الكافرين والمؤمنين يأخذ كلُّ أحد منهم بِقِسْطه، قال الشيخُ العارفُ باللَّه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي جَمْرَةَ رحمه اللَّه موتُ النفوسِ حياتُهَا، مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَحْيَا يَمُوتُ ببَذْل أَهْل التوفيقِ نفوسَهُم وهوانِهَا عليهم، نالوا ما نالوا، وبِحُبِّ أهْل الدنيا نفوسَهُم هانوا وطَرَأَ عليهم الهوانُ هنا وهناك، وقد ورد في الحديثِ: «أنَّه مَا مِنْ عَبْدٍ إِلا وَفِي رَأْسِهِ حِكْمَةٌ بِيَدِ مَلَكٍ، فَإِنْ تَعَاظَمَ، وارتفع، ضَرَبَ المَلَكُ فِي رَأْسِهِ، وَقَالَ لَهُ: اتضع وَضَعَكَ اللَّهُ، وَإِنْ تَوَاضَعَ رَفَعَهُ المَلَكُ، وَقَالَ لَهُ: ارتفع، رَفَعَكَ اللَّهُ»، مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بما به يقرِّبنا إِليه بمنِّهِ. انتهى.
وقوله سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُم}: يعني: كفَّار قريشٍ: {مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ...} الآية، يقال: إِن سببها النضْرُ بْنُ الحارِثِ، واللام في قوله: {لِيَحْمِلُواْ} يحتملُ أن تكون لاَم العاقبةِ، ويحتمل أن تكون لامَ كَيْ، ويحتمل أن تكون لام الأمْرِ؛ على معنى الحَتْمِ عليهم والصَّغَارِ الموجِبِ لهم.
وقوله سبحانه: {وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ}: {من}: للتبعيضِ؛ وذلك أن هذا الرأس المُضِلَّ يحمل وِزْرَ نفسه ووزراً مِنْ وزر كلِّ مَنْ ضلَّ بسببه، ولا ينقُصُ من أوزار أولئك شيْءٌ، والأوزار هي الأثْقَال.

.تفسير الآيات (26- 29):

{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)}
وقوله سبحانه: {قَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى الله بنيانهم...} الآية: قال ابنُ عبَّاس وغيره من المفسِّرين: الإِشارة ب {الذين مِن قَبْلِهِمْ} إِلى نَمْرُوذَ الذي بنَى صَرْحاً؛ ليَصْعَدَ فيه إِلى السماء بزعمه، فلما أَفرَطَ في عُلُوِّه، وطَوَّلَهُ في السماء فَرْسَخَيْنِ؛ على ما حكَى النَّقَّاش، بعث اللَّه عليه ريحاً، فهدَمَتْه، وخَرَّ سقفه عليه، وعلى أتباعه، وقيل: إِن جبريلَ هَدَمَهُ بِجَنَاحِهِ، وألقَى أعلاه في البَحْر، وانجعف من أسفله، وقالت فرقة: المراد ب {الذين مِن قَبْلِهِمْ}: جميعُ مَنْ كَفَر من الأمم المتقدِّمة، ومكَر، ونزلَتْ به عقوبةٌ، وقوله؛ على هذا: {فَأَتَى الله بنيانهم مِّنَ القواعد...} إلى آخر الآية، تمثيلٌ وتشبيهٌ، أي: حالُهم كحَالِ مَنْ فُعِلَ به هذا.
وقوله: {يُخْزِيهِمْ}: لفظٌ يعمُّ جميع المكارِهِ التي تَنْزِلُ بهم؛ وذلك كلُّه راجعٌ إِلى إِدخالهم النَّار، ودخولهم فيها.
و{تشاقون}: معناه: تحاربون، أي: تكُونُونَ في شِقٍّ، والحَقُّ في شِقٍّ، و{الذين أُوتُواْ العلم}: هم الملائكةُ فيما قال بعضُ المفسِّرين، وقال يحيى بن سلام: هم المؤمنون.
قال * ع *: والصوابُ أن يعمَّ جميعَ مَنْ آتاه اللَّه عِلْمَ ذلك مِنْ ملائكةٍ وأنبياء وغيرهم، وقد تقدَّم تفسير الخِزْي، وأنه الفضيحةُ المُخْجلة، وفي الحديث: «إِنَّ العَارَ وَالتَّخْزِيَةَ لَتَبْلُغُ مِنَ العَبْدِ فِي المَقَامِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى مَا أَنْ يَتَمَنَّى أَنْ يُنْطَلَقَ بِهِ إِلَى النَّارِ وَيَنْجُوَ مِنْ ذَلِكَ المَقَامِ» أخرجه البغويُّ في المسند المنتخب له. انتهى من الكوكب الدري.
وقوله سبحانه: {الذين تتوفاهم الملائكة ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ}: {الذين}: نعتٌ ل {الكافرين}؛ في قول أكْثر المتأوِّلين، و{الملائكة} يريد القابضِينَ لأرواحهم، و{السلم}؛ هنا: الاستسلام، واللام في قوله: {فَلَبِئْسَ} لامُ تأكيد، وال {مَثْوَى}: موضعُ الإِقامة.

.تفسير الآيات (30- 32):

{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)}
وقوله سبحانه: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ...} الآية: لما وصف سبحانه مقالَةَ الكفَّار الذين قالوا: {أساطير الأولين...} [النحل: 24] عادل ذلك بذكْرِ مقالةِ المُؤْمِنِين مِنْ أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأوجب لكلِّ فريقٍ ما يستحقُّ، وقولهم: {خَيْرًا} جوابٌ بحسبِ السؤالِ، واختلف في قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ...} إلى آخر الآية، هل هو ابتداء كَلاَمٍ أو هو تفسيرٌ ل الخير الذي أَنْزَلَ اللَّه في الوَحْي على نبِّينا خبراً أنَّ من أحسَنَ في الدنيا بالطَّاعة، فله حسنةٌ في الدنيا ونعيمٌ في الآخرة، وروى أنَسُ بنُ مالكٍ، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «أَنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ المُؤْمِنَ حَسَنَةً؛ يُثَابُ عَلَيْهَا الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا، وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ». وقوله سبحانه: {جنات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا...} الآية: تقدَّم تفسيرُ نظيرها، و{طَيِّبِينَ}: عبارةٌ عن صالح حالهم، واستعدادهم للمَوْت، والطَّيِّب؛ الذي لا خُبْثَ معه، وقولُ الملائكة: {سلام عَلَيْكُمُ}: بشارةٌ من اللَّه تعالى، وفي هذا المعنَى أحاديثُ صحاحٌ يطول ذكْرها، وروى ابن المبارك في رقائقه عن محمد بن كَعْب القُرَظِيِّ قال: إِذا استنقعت نَفْسُ العَبْدِ المؤمن، جاءه مَلَكٌ، فقال: السَلامُ علَيْكَ، وليَّ اللَّهِ، اللَّهُ يُقْرِئ عَلَيْكَ السَّلاَمَ، ثُمَّ نَزَعَ بهذه الآية: {الذين تتوفاهم الملائكة طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سلام عَلَيْكُمُ...} انتهى.
وقوله سبحانه: {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}: علَّق سبحانه دخولَهُمُ الجَنَّة بأعمالهم؛ من حيثُ جعَلَ الأعمالَ أمارةً لإِدخال العَبْدِ الجنَّةِ، ولا معارَضَةَ بيْنَ الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَدْخُلُ أَحَدٌ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ!» قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِفَضْلٍ مِنْهُ وَرَحْمَةٍ»، فإِن الآية تردُّ بالتأويل إِلى معنى الحديث.
قال * ع *: ومن الرحمة والتغمُّد أنْ يوفِّق اللَّهُ العبْدَ إِلى أعمالٍ بَرَّة، ومقصِدُ الحديثِ نفْيُ وجوبِ ذلك على اللَّه تعالى بالعَقْل؛ كما ذهب إِليه فريقٌ من المعتزلة.