فصل: تفسير الآيات (29- 34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (17- 20):

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)}
وقوله سبحانه: {إِنَّ المتقين في جنات وَنَعِيمٍ...} الآية: يحتمل أَنْ يكونَ من خطاب أهل النار، فيكون إخبارُهم بذلك زيادةً في غَمِّهِمْ وسُوءِ حالهم، نعوذ باللَّه من سخطه! ويحتمل، وهو الأظهر، أَنْ يكون إخباراً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ومعاصريه، لما فَرَغَ من ذكر عذاب الكفار عَقَّبَ بذكر نعيم المتقين جعلنا اللَّه منهم بفضله ليبين الفرقَ، ويقعَ التحريضُ على الإيمان، والمتقون هنا: مُتَّقُو الشرك؛ لأَنَّهم لابد من مصيرهم إلى الجنات، وكلما زادت الدرجة في التقوى قَوِيَ الحصولُ في حكم الآية، حَتَّى إنَّ المتقين على الإطلاق هم في هذه الآية قطعاً على اللَّه تعالى بحكم خبره الصادق، وقرأ جمهور الناس: {فاكهين} ومعناه: فَرِحِينَ مسرورين، وقال أبو عُبَيْدَةَ: هو من باب: لاَبِنٌ وتَامِرٌ، أي: لهم فاكهة، قال * ع *: والمعنى الأَوَّلُ أبرع، وقرأ خالد فيما روى أبو حاتم: {فَكِهِينَ} والفَكِهُ والفاكه: المسرور المتنعم.
وقوله تعالى: {بِمَا ءاتاهم رَبُّهُمْ} أي: من إنعامه ورضاه عنهم.
وقوله تعالى: {ووقاهم رَبُّهُمْ عَذَابَ الجحيم} هذا متمكن في مُتَّقِي المعاصي، الذي لا يدخل النارَ {ووقاهم} مشتق من الوقاية، وهي الحائل بين الشيء وبين ما يضرُّه.
وقوله: {كُلُواْ واشربوا} أي: يقال لهم: كلوا واشربوا، و{هَنِيئَا} نُصِبَ على المصدر.
وقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} معناه: أَنَّ رُتَبَ الجنة ونعيمها بحسب الأعمال، وأَمَّا نَفْسُ دخولها فهو برحمة اللَّه وفضلِهِ، وأعمالُ العباد الصالحاتُ لا تُوجِبُ على اللَّه تعالى التنعيمَ إيجاباً؛ لكِنَّهُ سبحانه قد جعلها أَمارةً على مَنْ سبق في علمه تنعيمه، وعَلَّقَ الثوابَ والعِقَابَ بالتكسب الذي في الأعمال، والحُورُ: جمع حَوْرَاءُ، وهي البيضاء القويةُ بياضِ بياضِ العَيْنِ وَسَوَادِ سَوَادِها، والعِينُ: جمع عَيْنَاءُ، وهي كبيرة العينين مع جمالهما، وفي قراءة ابن مسعود والنَّخَعِيِّ: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِعِيسٍ عِينٍ} قال أبو الفتح: العَيْسَاءُ: البيضاء.

.تفسير الآيات (21- 28):

{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)}
وقوله سبحانه: {والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} اخْتُلِفَ في معنى الآية، فقال ابن عباس، وابن جبير، والجمهور: أخبر اللَّه تعالى أَنَّ المؤمنين الذين اتبعتهم ذريتهم في الإيمان يلحق الأبناء في الجنة بمراتب الآباء، وإنْ لم يكن الأبناء في التقوى والأعمال كالآباء؛ كرامةً للآباء، وقد ورد في هذا المعنى حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا الحديثَ تفسيراً للآية، وكذلك وردت أحاديث تقتضي أَنَّ اللَّه تعالى يرحم الآباء؛ رعياً للأبناء الصالحين، وقال ابن عباس أيضاً والضَّحَّاكُ. معنى الآية: أَنَّ اللَّه تعالى يلحق الأبناء الصغار بأحكام الآباء المؤمنين، يعني في الموارثة والدفن في مقابر المسلمين، وفي أحكام الآخرة في الجنة، وقال منذر بن سعيد: هي في الصغار لا في الكبار؛ قال * ع *: وأرجح الأقوال في هذه الآية القول الأَوَّل؛ لأَنَّ الآياتِ كلَّها في صفة إحسان اللَّه تعالى إلى أهل الجنة، فذكر من جملة إحسانِهِ سبحانه أَنَّه يرْعَى المحسنَ في المسيء، ولفظة {أَلْحَقْنَا} تقتضي أَنَّ لِلْمُلْحَقِ بعضَ التقصير في الأعمال.
* ت *: وأظهرُ مَنْ هذا ما أشار إليه الثعلبيُّ في بعض أنقاله: أَنَّ اللَّه تعالى يجمع لعبده المؤمن ذُرِّيَّتَهُ في الجنة، كما كانوا في الدنيا، انتهى، ولم يتعرَّضْ لذكر الدرجات في هذا التأويل، وهو أحسن؛ لأَنَّهُ قد تقرَّرَ أَنَّ رفع الدرجات هي بأعمال العاملين، والآياتُ والأحاديث مُصَرِّحَةٌ بذلك، ولما يلزم على التأويل الأَوَّلِ أَنْ يكونَ كُلُّ مَنْ دخل الجنةَ مع آدم عليه السلام في درجةٍ واحدة؛ إذ هم كُلُّهم ذرِّيَّتُهُ، وقد فتحتُ لك باباً للبحث في هذا المعنى منعني من إتمامه ما قصدته من الاختصار، وباللَّه التوفيق.
وقوله: {وَمَا ألتناهم} أي: نقصناهم، ومعنى الآية أَنَّ اللَّه سبحانهُ يُلْحِقُ الأبناء بالآباء، ولا يُنْقِصُ الآباء من أجورهم شيئاً، وهذا تأويل الجمهور، ويحتمل أَنْ يريدَ: مِنْ عمل الأَبناء من شيء من حسن أو قبيح، وهذا تأويل ابن زيد، ويُؤيِّدُهُ قوله سبحانه: {كُلُّ امرئ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} والرهين: المُرْتَهِنُ، وفي هذه الألفاظ وعيد، وأمددتُ الشيءَ: إذا سرّبْتُ إليه شيئاً آخر يكثره أو يكثر لديه.
وقوله: {مِّمَّا يَشْتَهُونَ} إشارة إلى ما رُوِيَ من أَنَّ المُنَعَّمَ إذا اشتهى لحماً نزل ذلك الحيوان بين يديه على الهيئة التي اشتهاه فيها، وليس يكون في الجنة لحم يحتز، ولا يُتَكَلَّفُ فيه الذبح، والسلخ، والطبخ، وبالجملة لا كَلَفَةَ في الجنة، و{يتنازعون} معناه: يتعاطون؛ ومنه قول الأخطل: [البسيط]
نَازَعْتُهُ طَيِّبَ الَّراحِ الشَّمُولِ وَقَد ** صَاحَ الدَّجَاجُ وَحَانَتْ وَقْعَةُ السَّارِي

قال الفخر: ويحتمل أنْ يقال: التنازع: التجاذُبُ، وحينئذ يكون تجاذُبُهُمْ تجاذبَ مُلاَعَبَةٍ، لا تجاذب منازعة، وفيه نوعُ لَذَّةٍ، وهو بيان لما عليه حال الشُرَّابِ في الدنيا؛ فإنَّهم يتفاخرون بكثرة الشرب، ولا يتفاخرون بكثرة الأكل، انتهى، والكأس: الإِناء فيه الشراب، ولا يقال في فارغ كأس؛ قاله الزَّجَّاج، واللغو: السَّقَطُ من القول، والتأثيم: يلحق خَمْرَ الدنيا في نفس شُرْبِهَا وفي الأفعال التي تكون من شاربيها، وذلك كُلُّه مُنْتَفٍ في الآخرة.
* ت *: قال الثعلبيُّ: وقال ابن عطاء: أيُّ لغوٍ يكون في مجلس: مَحَلُّهُ جَنَّةُ عدن، والساقي فيه الملائكة، وشربُهم على ذكر اللَّه، ورَيحانُهم تحيَّةٌ من عند اللَّه، والقومُ أضياف اللَّه.
{وَلاَ تَأْثِيمٌ} أي: فعل يُؤْثِمُهُمْ، وهو تفعيل من الإثم، أي: لا يأثمونَ في شربها، انتهى واللؤلؤ المكنون أجملُ اللؤلؤ؛ لأَنَّ الصون والكَنُّ يُحَسِّنُهُ، قال ابن جبير: أراد الذي في الصّدَفِ لم تنله الأيدي، وقيل للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إذَا كَانَ الْغِلْمَانُ كَاللُّؤْلُؤ المَكْنُونِ فَكَيْفَ المَخْدُومُونَ؟ قال: هُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ». * ت *: وهذا تقريب للأفهام، وإلاَّ فجمال أهلِ الجَنَّةِ أَعْظَمُ من هذا، يَدُلُّ على ذلك أحاديث صحيحة؛ ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرةَ رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ- وفي رِوَايَةٍ: مِنْ أُمَّتِي عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ على أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ في السَّمَاءِ إضَاءَةً»، وفي رواية: «ثُمَّ هُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنَازِلُ» الحديثَ، وفي صحيح مسلم أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ في الجَنَّةَ لَسُوقاً يَأْتُونَهَا كُلَّ جُمْعَةٍ، فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ، فَتَحْثُو في وُجُوهِهِمْ وَثِيَابِهِمْ، وَيَزْدَادُونَ حُسْناً وَجَمَالاً، فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُوهُمْ: واللَّهِ، لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْناً وَجَمَالاً! فَيَقُولُونَ: وَأَنْتُمْ واللَّهِ، لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْناً وَجَمَالاً»، انتهى، وقد أشار الغَزَّاليُّ وغيره إلى طَرَفٍ من هذا المعنى، لَمَّا تكلَّم على رؤية العارفين للَّه سبحانه في الآخرة، قال بعد كلام: ولا يَبْعُدُ أَنْ تكونَ ألطاف الكشف والنظر في الآخرة متواليةً إلى غير نهاية، فلا يزالُ النعيمُ واللَّذَّةُ متزايداً أبَدَ الآبادِ، وللشيخ أبي الحسن الشاذلي هنا كلام حسن قال: لو كُشِفَ عن نور المؤمن لعبد من دون اللَّه، ولو كُشِفَ عن نور المؤمن العاصي لطبق السماء والأرض، فكيف بنور المؤمن المطيع؟! نقل كلامه هذا ابن عطاء اللَّه وابن عَبَّاد، انظره.
ثم وصف تعالى عنهم أَنَّهُم في جملة تنعمهم {يَتَسَاءَلُونَ} أي: عن أحوالهم وما نال كُلَّ واحد منهم، وأَنَّهم يتذكرون حالَ الدنيا وخشيتَهم عذابَ الآخرة، والإشفاقُ أَشَدُّ الخشية ورِقَّةُ القلب، {السموم}: الحارُّ، و{نَدْعُوهُ}: يحتمل أَنْ يريد: الدعاءَ على بابه، ويحتمل أنْ يريد نعبده، وقرأ نافع والكسائيُّ: {أَنَّهُ} بفتح الهمزة، والباقون بكسرها و{البر} الذي يَبرُّ ويُحْسِنُ.

.تفسير الآيات (29- 34):

{فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)}
وقوله سبحانه: {فَذَكِّرْ} أمر لنبيِّه عليه السلام بإدامة الدعاء إلى اللَّه عز وجل، ثم قال مؤنساً له: {فَمَا أَنتَ}: بإِنعام اللَّه عليك ولُطْفِهِ بك كاهِنٌ ولا مجنون.
وقوله سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ} أي: بل {شَاعِرٌ...} الآية: رُوِيَ أَنَّ قريشاً اجتمعت في دار النَّدْوَةِ، فَكَثُرَتْ آراؤُهم في النبيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قال قائل منهم: تَرَبَّصُوا به رَيْبَ المَنُونِ، أي: حوادِثَ الدهر، فَيَهْلِكَ كما هَلَكَ من قبله من الشُّعَرَاءِ: زُهَيْرٌ، والنَّابِغَةُ، وَالأَعْشَى، وغيرُهم، فافترقوا على هذه المقالة، فنزلت الآية في ذلك، والتَّرَبُّصُ: الانتظار، والمنون: من أسماء الموت، وبه فسر ابن عباس، وهو أيضاً من أسماء الدهر، وبه فَسَّرَ مجاهد، والرَّيْبُ هنا: الحوادث والمصائب: ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّما فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا» الحديثَ.
وقوله: {قُلْ تَرَبَّصُواْ} وعيد في صيغة أمر.
وقوله سبحانه: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أحلامهم بهذا} الأحلام: العقول، وقوله: {بهذا} يحتمل أنْ يشيرَ إلى هذه المقالة: هو شاعر، ويحتمل أَنْ يشير إلى ما هم عليه من الكُفْرِ وعِبَادَةِ الأصنام، و{تَقَوَّلَهُ} معناه: قال عن الغير أَنَّهُ قاله، فهي عبارة عن كَذِبٍ مخصوص، ثم عَجَّزَهُمْ سبحانه بقوله: {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ} والضمير في {مِّثْلِهِ} عائد على القرآن.
وقوله: {إِن كَانُواْ صادقين}
* ت *: أي: في أَنَّ محمداً تَقَوَّلَهُ؛ قاله الثعلبيُّ.

.تفسير الآيات (35- 36):

{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36)}
وقوله سبحانه: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَئ} قال الثعلبيُّ: قال ابن عباس: من غير أَبٍ ولا أُمٍّ، فهم كالجماد لا يعقلون، ولا تقوم للَّه عليهم حُجَّةٌ، أليسوا خُلِقُوا من نطفة وعلقة، وقال ابن كَيْسَانَ: أَمْ خلقوا عَبَثاً، وَتُرِكُوا سُدًى من غير شيء، أي: لغير شيء لا يؤمرون ولا يُنْهَوْنَ {أَمْ هُمُ الخالقون}: لأَنفسهم، فلا يأتمرون لأمر اللَّه، انتهى، وعَبَّرَ * ع *: عن هذا بأَنْ قال: وقال آخرون: معناه: أمْ خُلِقُوا لغير عِلَّةِ ولا لغاية عقاب وثواب؛ فهم لذلك لا يسمعون ولا يتشرَّعون.
* ت *: وقد يحتمل أَنْ يكونَ المعنى: أم خُلِقُوا من غير شيء خَلَقَهُمْ، أي: من غير مُوجِدٍ أَوْجَدَهُمْ، ويَدُلُّ عليه مقابلته بقوله: {أَمْ هُمُ الخالقون} وهكذا قال الغَزَّاليُّ في الإِحياء، قال: وقوله عز وجل: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَئ} أي: من غير خالق، انتهى بلفظه من كتاب آداب التلاوة قال الغَزَّالِيُّ: ولا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الآيةَ تَدُلُّ أَنَّه لا يُخْلَقُ شَيْءٌ إلاَّ من شيء! انتهى، وقال الفخر: قوله تعالى: {مِنْ غَيْرِ شَئ} فيه وجوه، المنقول منها: أم خُلِقُوا من غير خالق، وقيل: أَمْ خُلِقُوا لا لغير شيء عَبَثاً، وقيل: أم خلقوا من غير أَبٍ وأُمِّ، انتهى، وأحسنها الأَوَّلُ؛ كما قال الغَزَّالِيُّ، واللَّه أعلم بما أراد سبحانه، وفي الصحيح عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ في الْمَغْرِبِ بالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هذه الآيَةَ: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَئ أَمْ هُمُ الخالقون} إلى قَوْلِهِ: {المصيطرون} كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ، وفي رواية: «وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا وَقَرَ الإِيمَانُ في قَلْبِي» انتهى، وأسند أبو بكر ابن الخطيب في تاريخه عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قال: «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في فِدَاءِ أَهْلِ بَدْرٍ، فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ في الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَكَأَنَّمَا تَصَدَّعَ قَلْبِي حِينَ سَمِعْتُ الْقُرْآنَ» انتهى.

.تفسير الآيات (37- 43):

{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)}
وقوله سبحانه: {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} بمنزلة قوله: أم عندهم الاستغناء في جميع الأمور؟ والمصيطر: القاهر، وبذلك فسر ابن عباس الآية، والسُّلَّمُ: السبب الذي يُصْعَدُ به، كان ما كان من خشب، أو بناء، أو حبال، أو غير ذلك، والمعنى: ألهم سُلَّمٌ إِلى السماء يستمعون فيه، أي: عليه أو منه، وهذه حروف يَسُدُّ بعضُها مَسَدَّ بعض، والمعنى: يستمعون الخبر بِصِحَّةِ ما يدعونه، فليأتوا بالحُجَّةِ المبينة في ذلك.
وقوله سبحانه: {أَمْ عِندَهُمُ الغيب} الآية، قال ابن عباس: يعني أَمْ عندهم اللوحُ المحفوظ، {فَهُمْ يَكْتُبُونَ}: ما فيه، ويخبرون به، ثم قال: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً}: بك وبالشرع، ثم جزم الخبر بأنَّهم {هُمُ المكيدون} أي: هم المغلوبون، فَسَمَّى غَلَبَتَهُمْ كيداً؛ إذ كانت عقوبةُ الكَيْدِ، ثم قال سبحانه: {أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله}: يعصمهم ويمنعهم من الهلاك، قال الثعلبيُّ: قال الخليل: ما في سورة الطور كُلِّها من ذكر {أم} كُلُّه استفهام لهم، انتهى.
ثم نَزَّهَ تعالى نفسه: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} به.

.تفسير الآيات (44- 49):

{وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)}
وقوله: {وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً} أي: قطعةً يقولون لشدة معاندتهم هذا {سحاب مَّرْكُومٌ}: بعضُه على بعض، وهذا جوابٌ لقولهم: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السماء} [الشعراء: 187] وقولهم: {أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} [الإسراء: 92] يقول: لو فعلنا هذا بهم لما آمنوا، ولقالوا: سحاب مركوم.
وقوله تعالى: {فَذَرْهُمْ}، وما جرى مَجْرَاهُ من الموادعة منسوخٌ بآية السيف، والجمهورُ أَنَّ يومهم الذي فيه يُصْعَقُونَ، هو يوم القيامة، وقيل: هو موتهم واحداً واحداً، ويحتمل أَنْ يكون يومَ بدر؛ هو لأَنَّهُمْ عُذِّبُوا فيه، والصعق: التعذيب في الجملة، وإنْ كان الاستعمالُ قد كَثُرَ فيما يصيب الإنسانَ من الصَّيْحَةِ المُفْرِطَةِ ونحوه، ثُمَّ أخبر تعالى بِأَنَّ لهم دُونَ هذا اليوم، أي: قبله {عَذَاباً} واخْتُلِفَ في تعيينه، فقال ابن عباس وغيره: هو بدر ونحوه، وقال مجاهد: هو الجُوعُ الذي أصابهم، وقال البَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وابن عباس أيضاً: هو عذاب القبر، وقال ابن زيد: هي مصائب الدنيا، إذْ هي لهم عذاب.
* ت *: ويحتمل أَنْ يكونَ المراد الجميع؛ قال الفخر: إنْ قلنا إنَّ العذابَ هو بدر فالذين ظلموا هم أهل مَكَّةَ، وإنْ قلنا: العذابُ هو عذابُ القبر، فالذين ظلموا عامٌّ في كل ظالم، انتهى.
ثم قال تعالى لنبيِّهِ: {واصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أي: بمرأى ومنظر، نرى ونَسْمَعُ ما تقول، وأَنَّك في حفظنا وحيطتنا؛ كما تقول: فلان يرعاه المَلِكُ بعين، وهذه الآية ينبغي أَنْ يُقَرِّرَهَا كُلُّ مؤمن في نفسه؛ فإنها تُفَسِّحُ مضايق الدنيا.
وقوله سبحانه: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} قال أبو الأحوص: هو التسبيح المعروف، يقول في كل قيام: سبحان اللَّهِ وبحمدِهِ، وقال عطاء: المعنى حين تقومُ من كُلِّ مجلس.
* ت *: وفي تفسير أحمدَ بن نصر الداوودِيِّ قال: وعن ابن المُسَيِّبِ قال: حَقٌّ على كل مسلم أنْ يقول حين يقومُ إِلى الصلاة: سبحان اللَّهِ وبحمده؛ لقولِ اللَّه سبحانه لِنَبِيِّهِ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ}، انتهى، وقال ابن زيد: هي صلاة النوافل، وقال الضَّحَّاكُ: هي الصلوات المفروضة، وَمَنْ قال هي النوافل جعلَ أدبار النجوم رَكْعَتَيِ الفجر، وعلى هذا القول جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين، وقد رُوِيَ مرفوعاً، ومَنْ جعله التسبيحَ المعروفَ جعل قوله: {حِينَ تَقُومُ} مثالاً، أي: حين تقومُ وحينَ تَقْعُدُ، وفي كل تَصَرُّفِكَ، وحكى منذر عن الضَّحَّاكِ أَنَّ المعنى: حين تقومُ في الصلاة بعد تكبيرة الإحرام، فقل: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ» الحديثَ.