فصل: تفسير الآيات (33- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (33- 35):

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)}
وقوله سبحانه: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كذلك فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ}: {يَنظُرُونَ}: معناه: ينتظرون، وَنَظَرَ متى كانَتْ من رؤية العين، فإِنما تعدِّيها العربُ ب إِلَى ومتَى لم تتعدَّ ب إِلى، فهي بمعنى انتظر؛ ومنها: {انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} [الحديد: 13]، ومعنى الكلام: أنْ تأتيهم الملائكةُ لقبض أرواحِهِمْ ظالمِي أنْفُسِهِمْ.
وقوله: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ}: وعيدٌ يتضمَّن قيامَ الساعة، أو عذابَ الدنيا، ثم ذَكر تعالَى أَنَّ هذا كان فعْلَ الأمم قَبْلهم، فَعُوقِبوا.
وقوله سبحانه: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ}: أي: جزاءُ ذلك في الدنْيَا والآخرة، و{حَاقَ}: معناه: نَزَلَ وأحَاطَ.
وقوله سبحانه: {وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ...} الآية: تقدَّم تفسير نظيرها في الأنعام، وقولهم: {وَلاَ حَرَّمْنَا}: يريد: من البَحِيرةِ والسَّائبة والوَصِيلة وغير ذلك.

.تفسير الآيات (36- 40):

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)}
وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله...} الآية: إِلى قوله: {فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ}، وقرأ حمزة والكسائِيُّ وعاصم: {لاَ يَهْدِي}- بفتح الياء وكسر الدال-، وذلك على معنيين: أيْ: إِن اللَّه لا يَهْدِي من قضَى بإِضلاله، والمعنى الثاني: أنَّ العربَ تقُولُ: هَدَى الرَّجُلُ، بمعنى اهتدى.
وقوله سبحانه: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ}: الضمير في {أَقْسَمُواْ} لكفَّار قريش، ثم رَدَّ اللَّه تعالى عليهم بقوله: {بلى}، فأوجب بذلك البَعْثَ، و{أَكْثَرَ النَّاسِ} في هذه الآية: الكفَّار المكذِّبون بالبَعْث.
وقوله سبحانه: {لِيُبَيِّنَ}: التقدير: بلى يبعثه؛ ليبيِّن لهم الذي يَخْتَلِفُونَ فيه.
وقوله سبحانه: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ...} الآية: المَقْصَدُ بهذه الآية إِعلامُ مُنْكِرِي البَعْث بِهَوَانِ أمره على اللَّه تعالى، وقُرْبِهِ في قُدْرته، لا ربِّ غيره.

.تفسير الآيات (41- 47):

{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)}
وقوله سبحانه: {والذين هَاجَرُواْ فِي الله مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ}: هؤلاء هُمُ الذين هاجروا إِلى أرض الحبشةِ، هذا قول الجمهورِ، وهو الصحيحُ في سبب نزولِ الآية؛ لأن هجرة المدينة لم تكُنْ وقْتَ نزول الآيةِ، والآيةُ تتناوَلُ كلَّ مَنْ هاجر أَولاً وآخراً، وقرأ جماعة خارجَ السبْعِ: {لَنُثْوِيَنَّهُمْ}، واختلف في معنى ال {حَسَنَةً} هنا، فقالتْ فرقة: الحسنةُ عِدَةٌ بَبُقْعةٍ شريفةٍ، وهي المدينةُ، وذهبَتْ فرقةٌ إِلى أن الحسنة عامَّة في كلِّ أمْرٍ مستحسَنٍ يناله ابنُ آدم، وفي هذا القولِ يدخُلُ ما رُوِيَ عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: أنه كَانَ يُعْطِي المَالَ وَقْتَ القِسْمَة الرَّجُلَ مِنَ المُهَاجِرِينَ، ويقُولُ له: خُذْ ما وَعَدَكَ اللَّهُ في الدنيا، وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أكْبَرُ، ثم يتلو هذه الآية، ويدخل في هذا القولِ النَّصْرُ على العدوِّ، وفتْحُ البلادِ، وكلُّ أَمَلٍ بلغه المهاجرون، والضمير في {يَعْلَمُونَ} عائدٌ على كفار قريشٍ.
وقوله: {الذين صَبَرُواْ}: من صفة المهاجرين.
وقوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ}: هذه الآيةُ ردٌّ على كفَّار قريش الذين استبعدوا أنْ يبعث اللَّه بشراً رسولاً، ثم قال تعالَى: {فاسئلوا}، أي: قلْ لهم: {فاسئلوا}، و{أَهْلَ الذكر}؛ هنا: أحبارِ اليهودِ والنصارَى؛ قاله ابن عباس وغيره، وهو أظهر الأقوال، وهم في هذه النازِلَةِ خاصَّة إِنما يخبرون بأنَّ الرسُلَ من البَشَر، وأخبارُهم حجَّة على هؤلاء، وقدْ أرسلَتْ قريشٌ إِلى يهودِ يَثْرِبَ يسألونهم ويُسْنِدُون إِليهم.
وقوله: {بالبينات}: متعلِّق بفعلٍ مضمرٍ، تقديره: أرسلناهم بالبيِّنات، وقالتْ فرقة: الباءُ متعلِّقة ب {أَرْسَلْنَا} في أول الآية، والتقدير على هذا: وما أرسلنا من قبلك بالبيِّنات والزُّبُرِ إِلاَّ رجالاً، ففي الآية تقديمٌ وتأخير، و{الزبر}: الكُتُبُ المزبورة.

وقوله سبحانه: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ...} الآية.
* ت *: وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك، فبيَّن عن اللَّهِ، وأوْضَح، وقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامعَ الكَلِم، فأعرب عن دين اللَّهِ، وأفصح، ولنذكُر الآن طَرَفاً من حِكَمِهِ، وفصيحِ كلامِهِ بحذف أسانيده، قال عِياضٌ في شِفَاهُ: وأما كلامُهُ صلى الله عليه وسلم المعتادُ، وفصاحَتُه المعلومةُ، وجوامُع كَلِمِهِ، وحِكَمُه المأثورةُ، فمنها ما لا يُوَازَى فصاحةً، ولا يبارَى بلاغةً؛ كقوله: «المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ»، وقوله: «النَّاسُ كَأَسْنَانِ المِشْطِ»، و«المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ»، و«لاَ خَيْرِ فِي صُحْبَةِ مَنْ لاَ يَرَى لَكَ مَا تَرَى لَهُ»، و«النَّاسُ مَعَادِنٌ»، و«مَا هَلَكَ امرء عَرَفَ قَدْرَهُ»، و«المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ»، و«هو بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَكَلَّم»
، و«رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً قَالَ خَيْراً فَغَنِمَ، أَوْ سَكَتَ عَنْ شَرٍّ فَسَلِمَ»، وقوله: «أَسْلِمْ تَسْلَمْ»، و«أَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ»، و«إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقاً المُوطَّؤُونَ أَكْنَافاً الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ»، وقوله: «لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِمَا لاَ يَعْنِيهِ، وَيَبْخَلُ بِمَا لاَ يُغْنِيهِ»، وقوله: «ذُو الوَجْهَيْنِ لاَ يَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً» وَنَهْيُهُ عَنْ قِيلٍ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ المَالِ، وَمَنْعٍ وَهَاتِ، وَعُقُوقِ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدِ البَنَاتِ، وقوله: «اتق اللَّهَ حَيْثُ كُنْتَ، وَأَتْبِع السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِق النَّاسَ بِخُلُقٍ حسنٍ»؛ و«خَيْرُ الأُمُورِ أَوْسَاطُها»، وقوله: «أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَّا، عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَّا»، وقوله: «الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَة»، وقولِهِ في بَعْضِ دعائه: «اللَّهُمَّ، إِنِّي أَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ تَهْدِي بِهَا قَلْبِي، وَتَجْمَعُ بِهَا أَمْرِي، وَتُلِمُّ بِهَا شَعْثِي، وَتُصْلِحُ بِهَا غَائِبِي، وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدِي، وتُزَكِّي بِهَا عَمَلِي، وَتُلْهِمُنِي بِهَا رَشَدِي، وَتُرَدُّ بِهَا أُلْفَتِي، وَتَعْصِمُنِي بِهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ، اللَّهُمَّ، إِنِّي أَسْأَلُكَ الفَوْزَ فِي القَضَاءِ، وَنُزُلَ الشُّهَدَاءِ، وَعَيْشَ السُّعَدَاءِ، وَالنَّصْرَ عَلَى الأَعْدَاءِ»، إِلى غَيْرِ ذلكَ مِنْ بيانِهِ، وحُسْنِ كلامه ممَّا روتْهُ الكافَّة عن الكافَّة مما لا يُقَاسُ به غيره، وحاز فيه سبقاً لا يُقْدَرُ قَدْرُهُ؛ كقوله: «السَّعَيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، والشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ في بَطْنِ أُمِّهِ»؛ في أخواتها مما يدرك الناظِرُ العَجَبَ في مضمَّنها، ويذهَبُ به الفكْرُ في أداني حِكَمِها، وقال صلى الله عليه وسلم: «بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ، وَنَشَأْتُ فِي بَنِي سَعْدٍ»، فجمع اللَّه له بذلك قُوَّة عارضَةِ الباديةِ وجزالَتَهَا، وَنَصَاعَةَ ألفاظِ الحاضِرَةِ وَرَوْنَقَ كلامِهَا، إِلى التأييد الإلهي الذي مَدَدُهُ الوَحْي، الذي لا يحيطُ بعلمه بَشَرِيّ. انتهى. وبالجملة فليس بَعْدَ بيان اللَّه ورسُولِهِ بيانٌ لمن عَمَّر اللَّهُ قلْبَه بالإِيمان.
وقوله سبحانه: {أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات...} الآية تهديدٌ لكفَّار مكَّة ونَصْبُ السيئات ب {مَكَرُواْ} وعُدِّيَ {مَكَرُواْ} لأنه في معنى عملوا، قال البخاريُّ: قال ابن عباس: {فِي تَقَلُّبِهِمْ}، أي: في اختلافهم انتهى.
وقال المهدويُّ: قال قتادة: {فِي تَقَلُّبِهِمْ}: في أسفارهم الضَّحَّاك: {فِي تَقَلُّبِهِمْ}: باللْيلِ انتهى.
وقوله: {على تَخَوُّفٍ}، أي على جهة التخُّوف، والتخُّوفُ التنقُّص، وروي أن عمر بن الخطَّاب رضي اللَّه عنه خَفِيَ عليه معنى التخُّوف في هذه الآية، وأراد الكَتْبَ إلى الأمصار يسأل عن ذلك، فيروَى أنه جاءه فَتًى مِن العرب، فقال: يا أمير المؤمِنِين، إِنَّ أَبي يتخَّوفُنِي مَالي، فقَالَ عُمَرُ: اللَّهُ أَكْبَرُ! {أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} ومنه قول النابغة: [الطويل]
تَخَّوَفَهُمْ حَتَّى أَذَلَّ سَرَاتَهُمْ ** بِطَعْنِ ضِرَارٍ بَعْدَ فَتْحِ الصَّفائِحِ

وهذا التنقُّص يتَّجه به الوعيدُ على معنيين:
أحدهما: أن يهلكهم ويخرج أرواحهم على تخَّوف، أي: أفذاذاً يتنقَّصهم بذلك الشيءَ بعد الشيءِ، ويصيِّرهم إِلى ما أعدَّ لهم من العذاب، وفي هذه الرتبةِ الثالثة مِنَ الوعيدِ رأْفَةٌ ورحمةٌ وإِمهال؛ ليتوبَ التائِبُ، ويرجِعَ الرَّاجع، والثاني: ما قاله الضَّحَّاك: أنْ يأخذ بالعذابِ طائفةً أو قريةً، ويترك أخرى، ثم كذلك حتَّى يَهْلِكَ الكُلُّ.
وقالت فرقة: التخُّوف هنا: من الخْوف، أي: فيأخذهم بعد تخُّوف ينالهم يعذِّبهم به.

.تفسير الآيات (48- 53):

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)}
وقوله سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ...} الآية: قوله: {مِن شَيْءٍ} لفظٌ عامٌّ في كلِّ شخصٍ وجرْمٍ له ظلٌّ كالجبال والشجر وغير ذلك، وفَاءَ الظِّلُّ رجَعَ، ولا يقالُ: الفيء إلاَّ مِنْ بعد الزوال؛ في مشهور كلام العرب، لكنْ هذه الآية: الاعتبار فيها من أول النَّهار إلى آخره فكأنَّ الآية جاريةٌ في بعْضٍ؛ على تجوُّز كلام العرب واقتضائه، والرؤية، هنا: رؤيةُ القَلْبُ ولكنَّ الاعتبار برؤية القلب هنا إنما تكونُ في مرئيَّات بالعينِ، و{عَنِ اليمين والشمآئل}؛ هنا: فيه تجوُّز وآتساعٌ، وذكَرَ الطبريُّ عن الضَّحِّاك، قال: إذا زالَتِ الشمْسُ، سَجَدَ كلّ شيء قِبَلَ القبْلة من نَبْت أو شجر؛ ولذلك كان الصالحُونَ يستحبُّون الصلاة في ذلك الوقْت. قال الداووديُّ: وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ بَعْدَ الزَّوَال تُحْسَبُ بِمِثْلِهِنَّ في صَلاَةِ السَّحَرِ» قَالَ: «وَلَيْسَ شَيْءٌ إِلاَّ يُسَبِّحُ للَّهِ تِلْكَ السَّاعَةَ»، وقرأ: {يَتَفَيَّأُ ظلاله...} الآية كلُّها. انتهى. والدَّاخر: المتصاغر المتواضع.
وقوله سبحانه: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ}: عامٌّ لجميع الحيوانِ، و{مِّن فَوْقِهِم}: يريد: فوقية القَدْر والعَظَمة والقَهْر.
وقوله سبحانه: {وَلَهُ مَا فِي السموات والأرض}: {السموات} هنا: كلُّ ما ارتفع مِنَ الخلق من جهة فَوْقُ، فيدخل في ذلك العرشُ والكرسيُّ وغيرهما، و{الدين}: الطاعة والمُلْك، والواصب: الدائم؛ قاله ابن عباس.
ثم ذكَّر سبحانه بِنِعَمِهِ، ثم ذَكَّر بأوقاتِ المَرَضِ، والتجاء العِباد إِليه سبحانه، والضُّرُّ، وإِن كان يعمُّ كل مكروه، فأكثرُ ما يجيء عن أرزاء البَدَنِ، و{تَجْئَرُونَ} معناه: ترفعون أصواتكم باستغاثة وتضرُّع.

.تفسير الآيات (54- 56):

{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)}
{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}: ال {فَرِيقٌ}، هنا: يراد به المشْرِكُون الذين يَرَوْن أن للأصنام أفعالاً من شفاء المرضَى، وجَلْبِ النفعِ، ودفعِ الضرِّ، فهم إِذا شفاهم اللَّهُ، عظَّموا أصنامهم، وأضافوا ذلك الشفاءَ إِليها.
وقوله سبحانه: {لِيَكْفُرُواْ}: يجوز أنْ تكون اللامُ لامَ الصيرورةِ، ويجوز أن تكونَ لام أمْرٍ؛ على معنى التهديد.
وقوله: {بِمَآ آتيناهم}: أي: بما أنعمنا عليهم.
وقوله سبحانه: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رزقناهم}: أي: لما لا يعلمون له حُجَّةً، ولا برهاناً، ويحتمل أن يريد بنفي العِلْم الأصنامَ، أي: لجماداتٍ لا تعلم شيئاً نصيباً، والنصيب المشار إِليه هو ما كانَتِ سَنَّتْه العرب من الذبحِ لأصنامها، والقَسْمِ من الغَلاَّتِ وغيره.

.تفسير الآيات (57- 59):

{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)}
وقوله سبحانه: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات سبحانه...} الآية: تعديدٌ لقبائحِ الكَفَرة في قولهم: الملائكةُ بناتُ اللَّه، تعالَى اللَّه عن قولهم، والمراد بقوله: {وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ}، الذُّكْرَانُ من الأولاد.
وقوله: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا}: عبارة عما يعلو وجْهَ المغموم.
قال * ص *: {ظَلَّ}: تكون بمعنى صَارَ، وبمعنى أقام نهاراً؛ على الصفة المسنَدَةِ إِلى اسمها، وتحتمل هنا الوجهين. انتهى، و{كَظِيمٌ}: بمعنى: كاظمٍ، والمعنى: أنه يُخْفي وجْدَه وهمَّه بالأنثى، ومعنى {يتوارى}: يتغيَّب من القومِ، وقرأ الجَحْدَرِيُّ: {أَيُمْسِكُهَا أَمْ يَدُسُّها}، وقرأ الجمهور: {علَى هُونٍ}، وقرأ عاصمٌ الجَحْدَرِيُّ: {عَلَى هَوَانٍ}، ومعنى الآية: يُدْبِرُ، أيمسِكُ هذه الأنثَى على هوانٍ يتحمَّله، وهمٍّ يتجلَّد له، أمْ يَئِدُها فيدفنُها حيَّةً، وهو الدسُّ في التراب.

.تفسير الآيات (60- 62):

{لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)}
وقوله سبحانه: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة مَثَلُ السوء}: قالت فرقة: {مَثَلُ}، في هذه الآية: بمعنى صفة، أي: لهؤلاء صفَةُ السَّوْء وللَّه المَثَلُ الأعلى.
قال * ع *: وهذا لا يضطر إِليه؛ لأنه خروجٌ عن اللَّفْظِ، بل قوله: {مَثَلُ} على بابه، فلهم على الإِطلاقِ مَثَلُ السوء في كلِّ سوء، ولا غاية أخزى من عذابِ النارِ، وللَّه سبحانه {الْمَثَلُ الأعلى} على الإِطلاق أيضاً، أي: الكمال المستغْنِي.
وقوله سبحانه: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ}: الضميرُ في {عليها} عائدٌ على الأرض، وتَمَكَّنَ ذلك مع أنه لم يَجْرِ لها ذكر؛ لشهرتها وتمكُّن الإِشارة إِليها، وسمع أبو هريرة رجُلاً يقول: «إِنَّ الظَّالِمَ لاَ يُهْلِكُ إِلاَّ نَفْسَهُ» فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: بَلَى، إِنَّ اللَّهَ لَيُهْلِكُ الحُبَارَى في وَكْرِهَا هزلاً بِذُنُوب الظَّلَمَةِ. «والأجَلُ المسمَّى»؛ في هذه الآية: هو بحسبِ شَخْصٍ شخصٍ.
وقوله: {مَا يَكْرَهُونَ} يريد البنات.
وقوله سبحانه: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب أَنَّ لَهُمُ الحسنى}: قال مجاهد وقتادة {الحسنى}: الذُّكُور من الأولاد، وقالت فرقةٌ: يريد الجنة.
قال * ع *: ويؤيِّده قوله: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار}، وقرأ السبعة سوَى نافعٍ: {مُفْرَطُونَ}- بفتح الراءِ وخِفَّتِها- أي: مُقَدَّمون إِلى النار، وقرأَ نافع: {مُفْرِطُونَ}- بكسر الراء المخفَّفة، أي: متجاوِزُونَ الحدَّ في معاصِي اللَّه.