فصل: تفسير الآيات (4- 17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (68- 73):

{يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)}
وقوله تعالى: {ياعباد} المعنى: يقال لهم، أي: للمتقين، وذكر الطبريُّ عن المعتمر عن أبيه أنه قال: سمعت أَنَّ الناس حين يُبْعَثُونَ ليس منهم أَحَدٌ إلاَّ فَزِعَ، فينادي منادٍ: يا عبادي، لا خوفٌ عليكم اليوم، ولا أنتم تحزنون، فيرجوها الناسُ كُلُّهم، فَيُتْبِعُها: {الذين ءَامَنُواْ بئاياتنا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ} قال: فَيَيْئَسُ منها جميعُ الكُفَّار.
وقوله: {الذين ءَامَنُواْ} نعت للعباد، و{تُحْبَرُونَ} معناه: تنعمون وتُسَرُّونَ، والحبرة: السرور، والأكواب: ضَرْبٌ من الأَواني؛ كالأباريق، إلاَّ أنها لا آذانَ لها ولا مَقَابِضَ.

.تفسير الآيات (74- 77):

{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)}
وقوله تعالى: {إِنَّ المجرمين} يعني: الكُفَّارَ، والمُبْلِسُ: المُبْعَدُ اليائسُ من الخير؛ قاله قتادة وغيره، وقولهم: {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} أي: لِيُمِتْنَا رَبُّك؛ فنستريحَ، فالقضاء في هذه الآية: الموتُ؛ كما في قوله تعالى: {فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ} [القصص: 15] ورُوِيَ في تفسير هذه الآية عن ابن عباس؛ أَنَّ مالكاً يقيم بعد سؤالهم ألف سنة، ثم حينئذ يقول لهم: {إِنَّكُمْ ماكثون}.

.تفسير الآيات (78- 83):

{لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)}
وقوله سبحانه: {لَقَدْ جئناكم} يحتملُ أنْ يكونَ مِنْ تَمَامِ قول مالِكٍ لهم، ويحتمل أنْ يكون من قول اللَّه تعالى لقريشٍ، فيكونُ فيه تخويفٌ فصيحٌ بمعنى: انظروا كيف يكون حالكم؟!.
وقوله تعالى: {أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً} أي: أحكموا أمراً في المكر بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم {فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} أي: مُحْكِمُون أمراً في نَصْرِهِ ومجازاتهم، والمراد بالرسل هنا: الحَفَظَةُ من الملائكة يكتبون أعمال العباد، وتَعُدُّ للجزاء يوم القيامة.
واخْتُلِفَ في قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} فقال مجاهد: المعنى إنْ كان للَّه ولد في قولكم، فأنا أَوَّل مَنْ عَبَدَ اللَّه وَوَحَّدَهُ وكَذَّبكم، وقال ابن زيد وغيره: {إن}: نافية بمعنى ما؛ فكأَنَّه قال: قل ما كان للرحمن ولد، وهنا هو الوقف على هذا التأويل، ثم يبتدئ قوله: {فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} قَال أبو حاتم قالت فرقةٌ: العابِدُونَ في الآية: مِنْ عَبِدَ الرجلُ: إذا أَنِفَ وأنكر، والمعنى: إنْ كان للرحمن ولد في قولكم، فأنا أَوَّلُ الآنفين المُنْكِرِينَ لذلك، وقرأ أبو عبد الرحمن: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَبِدِينَ} قال أبو حاتم: العَبِدُ بكسر الباء: الشَّدِيدُ الغضب، وقال أبو عُبَيْدَةَ: معناه: أول الجاحدين، والعَرَبُ تقولُ: عَبَدَني حَقِّي، أي: جَحَدَنِي، وباقي الآية تنزيه للَّه سبحانه، ووعيد للكافرين، و{يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ} هو يوم القيامة، هذا قول الجمهور، وقال عِكْرَمَةُ وغيره: هو يوم بَدْرٍ.

.تفسير الآيات (84- 87):

{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)}
وقوله جَلَّتْ عظمته: {وَهُوَ الذي في السماء إله...} الآية، آيةُ تعظيمٍ وإخبارٍ بأُلُوهِيَّتِهِ سبحانه، أي: هو النافذ أَمْرُهُ في كُلِّ شيء، وقرأ عمر بن الخَطَّاب، وأُبَيٌّ، وابنِ مسعود، وغيرهم: {وَهُوَ الَّذِي في السَّمَاءِ اللَّهُ وَفي الأَرْضِ اللَّهُ} وباقي الآية بَيِّنٌ، ثم أَعْلَمَ سبحانه أَنَّ مَنْ عُبِدَ من دون اللَّه لا يملك شفاعةً يَوْمَ القيامة، إلاَّ مَنْ شَهِدَ بالحق، وهم الملائكة، وعيسى وعُزَيْرٌ؛ فإنَّهُمْ يملكون الشفاعة؛ بأنْ يُمَلِّكُها اللَّه إيَّاهم؛ إذ هم مِمَّنْ شَهِدَ بالحقِّ، وهم يعلمونه، فالاستثناء على هذا التأويل مُتَّصِلٌ، وهو تأويل قتادة، وقال مجاهد وغيره: الاستثناء في المشفوع فيهم، فكأَنَّه قال: لا يشفع هؤلاءِ الملائكةُ، وعيسى، وعُزَيْرٌ إلاَّ فيمن شَهِدَ بالحق، أي: بالتوحيد فآمن على عِلْمٍ وبَصِيرةٍ، فالاستثناء على هذا التأويل مُنْفَصِلٌ، كأَنَّه قال: لكن مَنْ شَهِدَ بالحَقِّ؛ فيشفع فيهم هؤلاءِ، والتأويل الأَوَّلُ أصوب، وقرأ الجمهور: {وَقِيلَهُ} بالنصب، وهو مصدر؛ كالقَوْلِ، والضَّمِيرُ فيه لِنَبِيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، واخْتُلِفَ في الناصب له، فقالت فرقة: هو معطوف على قوله: {سِرَّهُمْ ونجواهم} ولفظ البخاريِّ {وَقِيلِهِ يارب}: تفسيرُهُ: أيحسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهم ونَجْوَاهُمْ ولا نَسْمَعُ قِيلَهُ يا رَبِّ، انتهى،، وقيل: العامل فيه {يَكْتُبُونَ} ونزل قوله تعالى: {وَقِيلِهِ يارب} بمنزلة شكوى محمَّد عليه السلام واستغاثَتِهِ مِنْ كُفْرِهِمْ وعُتُوِّهم، وقرأ حمزةُ وعاصمٌ: {وَقِيلِهِ} بالخفض؛ عطفاً على الساعة.
وقوله سبحانه: {فاصفح عَنْهُمْ}: مُوَادَعَةٌ منسوخةٌ {وَقُلْ سلام} تقديره: أَمْرِي سلامٌ، أيْ: مسالمة {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.

.تفسير سورة الدخان:

وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 3):

{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3)}
{حم* والكتاب المبين * إِنَّا أنزلناه في لَيْلَةٍ مباركة...} الآية، قوله: {والكتاب المبين} قَسَمٌ أقسم اللَّه تعالى به، وقوله: {إِنَّا أنزلناه} يحتمل أنْ يقَعَ القَسَمُ عليه، ويحتملُ أَنْ يكون وصفاً للكتاب، ويكون الذي وقع القَسَمُ عليه {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}، واخْتُلِفَ في تعيين الليلة المباركة، فقال قتادَةُ، والحسن، وابن زيد: هي ليلة القَدْرِ، ومعنى هذا النزول أَنَّ ابتداء نزوله كان في ليلة القَدْرِ؛ وهذا قول الجمهور،، وقال عِكْرَمَةَ: الليلة المباركة هي ليلة النصف من شعبان، قال القُرْطُبِيُّ: والصحيح أَنَّ الليلةَ التي يُفْرَقُ فِيهَا كُلَّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، ليلةُ القَدْرِ مِنْ شَهْر رمضانَ، وهي الليلة المباركة، انتهى من التذكرة، ونحوُهُ لابن العربيِّ.

.تفسير الآيات (4- 17):

{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17)}
وقوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} معناه يُفْصَلُ من غيره وَيَتَخَلَّصُ، فعن عِكْرِمَةَ أَنَّ اللَّه تعالى يَفْصِلُ ذلك للملائكة في ليلة النصف من شعبان، وفي بعض الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قال: «تُقْطَعُ الآجَالُ مِنْ شَعْبَانَ إلَى شَعْبَانَ، حتى إنَّ الرَّجُلَ ليَنْكِحُ وَيُولَدُ لَهُ، وَلَقَدْ خَرَجَ اسمه في الموتى» وقال قتادة، والحسن، ومجاهد: يُفْصَلُ في ليلة القدر كُلُّ ما في العامِ المُقْبِلِ، من الأقدار، والأرزاقِ، والآجال، وغير ذلك، و{أمْراً} نُصِبَ على المصدر.
وقوله: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} يحتمل أنْ يريدَ الرُّسُلَ والأَشْيَاءَ، ويحتمل أَنْ يريدَ الرحمة التي ذكر بَعْدُ، واختلف الناس في الدخان الذي أمر اللَّه تعالى بارتقابه، فقالت فرقة؛ منها عليٌّ، وابن عباس، وابن عمر، والحَسَنُ بْنُ أبي الحَسَنِ، وأبو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ: هو دُخَانٌ يجيء قَبْلَ يومِ القيامة، يُصِيبُ المؤمنَ منه مِثْلُ الزكام، ويَنْضَحُ رُؤُوسَ المنافِقِينَ والكافِرِينَ، حتى تكونَ كأنَّها مَصْلِيَّةٌ حنيذة، وقالت فرقة، منها ابن مسعود: هذا الدخان قد رأته قريشٌ حين دعا عليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ، فكان الرجُلُ يرى من الجُوع دُخَاناً بينه وبين السماء؛ وما يأتي من الآيات يُؤَيِّدُ هذا التأويلَ، وقولهم: {إِنَّا مُؤْمِنُونَ} كان ذلك منهم مِنْ غَيْرِ حقيقةٍ، ثم قال تعالى: {أنى لَهُمُ الذكرى} أي: من أين لهم التَّذَكُّرُ وَالاتعاظُ بعد حُلُولِ العذاب؟ {وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ} يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم ف {تَوَلَّوْاْ عَنْهُ}، أي: أعرضوا {وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ}.
وقوله: {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} أي: إلى الكفر، واختلف في يوم البَطْشَةِ الكبرى، فقالتْ فرقةٌ: هو يوم القيامة، وقال ابن مسعود وغيره: هو يوم بدر.

.تفسير الآيات (18- 24):

{أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)}
وقوله: {أَنْ أَدُّواْ} مأخوذ من الأداء، كأنَّه يقول: أنِ ادْفَعُوا إليَّ، وأعطوني، ومَكِّنُوني من بني إسرائيل، وَإيَّاهم أراد بقوله: {عِبَادَ الله}، وقال ابن عباس: المعنى: اتبعوني إلى ما أدعوكم إليه من الحَقِّ، فعباد اللَّه على هذا مُنَادًى مضافٌ، والمؤدى هي الطاعة، والظاهر من شرع موسى عليه السلام أَنَّهُ بُعِثَ إلى دعاء فرعونَ إلَى الإيمَان، وأَنْ يرسل بني إسرائيل، فلمَّا أبى أَنْ يُؤمن ثبتت المكافحة في أنْ يرسل بني إسرائيل وقوله بعد: {وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى فاعتزلون} كالنَّصَّ في أَنَّه آخر الأمرِ، إنَّما يطلب إرسال بني إسرائيل فقط.
وقوله: {وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله...} الآية: المعنى: كانت رسالته، وقوله: {أَنْ أَدُّواْ} {وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله} أيْ: على شرع اللَّه، وَعَبَّرَ بالعُلُوِّ عن الطغيان والعُتُوِّ، و{أَن تَرْجُمُونِ} معناه: الرجم بالحجارة المُؤَدِّي إلى القتل؛ قاله قتادة وغيره، وقيل: أراد الرجم بالقول، والأول أظهر؛ لأنَّه الذي عاذَ منه، ولم يَعُذْ من الآخر.
* قلت *: وعن ابن عمر قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنِ استعاذ باللَّهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَكُمْ باللَّهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنِ استجار باللَّهِ فَأَجِيرُوهُ، وَمَنْ أتى إلَيْكُمْ بِمَعْرُوفٍ فَكَافِئوهُ، فَإنْ لَمْ تَقْدِرُوا فادعوا لَهُ حتى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ»، رواه أبو داود، والنسائيُّ والحاكم، وابن حِبَّانَ في صحيحيهما، واللفظ للنِّسَائِيِّ، وقال الحاكم: صحيحٌ على شَرْطِ الشيخَيْنِ يعني البخاريَّ ومسلماً اه من السلاح.
وقوله: {فاعتزلون} متاركَةٌ صريحةٌ، قال قتادة: أراد خَلُّوا سَبِيلِي.
وقوله: {فَدَعَا رَبَّهُ} قبله محذوفٌ، تقديرُهُ: فما أجابوه لِمَا طُلِبَ منهم.
وقوله: {فَأَسْرِ} قبله محذوفٌ، أي: قَالَ اللَّهُ له فَأَسْرِ بِعبادِي، قال ابن العربيِّ في أحكامه: السرى: سَيْرُ الليل، والإدْلاَجُ سَيْرُ السَّحَرِ، والتَّأْوِيبُ: سير النهار، ويقال: سرى وأسرى انتهى.
انتهى، واخْتُلِفَ في قوله تعالى: {واترك البحر رَهْواً} متى قالها لموسى؟ فقالت فرقة: هو كلامٌ مُتَّصِلٌ بما قبله، وقال قتادَةُ وغيره: خُوطِبَ به بعد ما جاز البحر، وذلك أَنَّهُ هَمَّ أَنْ يضرب البَحْر؛ ليلتئم؛ خَشْيَةَ أَنْ يدخل فرعونُ وجنودُهُ وراءَهُ، و{رَهْواً} معناه: ساكناً كما جُزْتَهُ، قاله ابن عباس، وهذا القول هو الذي تؤيِّده اللغَةُ؛ ومنه قول القُطَامِيِّ: [البسيط]
يَمْشِينَ رَهْواً فَلاَ الأَعْجَازُ خَاذِلَة ** وَلاَ الصُّدُورُ عَلَى الأَعْجَازِ تَتَّكِلُ

ومنه: [البسيط]
وَأُمَّةٌ خَرَجَتْ رَهْواً إلى عِيد

أي: خرجوا في سُكُونٍ وَتمَهُّلٍ.
فقيل لموسى عليه السلام: اترك البَحْرَ سَاكِناً على حاله من الانفراق؛ ليقضي اللَّه أمراً كان مفعولاً.

.تفسير الآيات (25- 36):

{كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36)}
وقوله تعالى: {كَمْ تَرَكُواْ} {كم} للتكثير، أي: كَمْ تَرَكَ هؤلاءِ المُغْتَرُّونَ من كثرة الجنَّات والعيونِ، فَرُوِيَ أَنَّ الجناتِ كَانَتْ مُتَّصِلَةً ضِفَّتَيِ النيلِ جميعاً من رشيد إلى أُسْوَانَ، وأَمَّا العيونُ فيحتملُ أَنَّه أراد الخُلْجَانَ، فشبهها بالعيون، ويحتمل أَنَّها كانت ونَضِبَتْ، ذكر الطُّرْطُوشِيُّ في سِرَاجِ الملوك له، قال: قال أبو عبد اللَّه بن حَمْدُونَ: كنت مع المُتَوَكِّلِ لما خرج إلى دمشقَ، فركِبَ يوماً إلى رُصَافَةِ هشام بن عبد الملك، فنظر إلى قُصُورِها، ثم خرج، فنظر إلى دَيْرٍ هناك قديمٍ حَسَنِ البناءِ بين مزارعَ وأشجارٍ، فدخله، فبينما هو يطوفُ به إذ بَصُرَ برُقْعَةٍ قد أُلْصِقَتْ في صدره؛ فأمر بقلعها، فإذا فيها مكتوبٌ هذه الأبياتُ: [الطويل]
أَيَا مَنْزِلاً بالدَّيْرِ أَصْبَحَ خَالِياً ** تَلاَعَبُ فِيهِ شَمْأَلٌ وَدَبُورُ

كَأَنَّكَ لَمْ يَسْكُنْكَ بِيضٌ أَوانِسٌ ** وَلَمْ تَتَبَخْتَرْ في قِبَابِكَ حُورُ

وَأَبْنَاءُ أَمْلاَكٍ غَوَاشِمُ سَادَةٌ ** صَغِيرُهُمُو عِنْدَ الأَنَامِ كَبِيرُ

إذَا لَبِسُوا أَدْرَاعَهُمْ فَعَوَابِس ** وَإنْ لَبِسُوا تِيجَانَهُمْ فَبُدُورُ

على أَنَّهُمْ يَوْمَ اللِّقَاءِ ضَرَاغِمٌ ** وَأَنَّهُمُو يَوْمَ النَّوَالِ بُحُورُ

لَيَالِي هِشَامٌ بالرُّصَافَةِ قَاطِنٌ ** وَفِيكَ ابنه يَا دَيْرُ وَهْوَ أَمِيرُ

إذِ الْعَيْشُ غَضٌّ وَالخِلاَفَةُ لَذَّةٌ ** وَأَنْتَ طَرُوبٌ وَالزَّمَانُ غَرِيرُ

وَرَوْضُكَ مُرْتَادٌ وَنَوْرُكَ مُزْهِرٌ ** وَعَيْشُ بَنِي مَرْوَانَ فِيكَ نَضِيرُ

بلى فَسَقَاكَ الْغَيْثُ صَوْبَ سَحَائِب ** عَلَيْكَ لَهَا بَعْدَ الرَّوَاحِ بُكُورُ

تَذَكَّرْتُ قَوْمِي فِيكُمَا فَبَكَيْتُهُمْ ** بِشَجْوٍ وَمِثْلِي بِالْبُكَاءِ جَدِيرُ

فَعَزَّيْتُ نَفْسِي وَهْيَ نَفْسٌ إذَا جرى ** لَهَا ذِكْرُ قَوْمِي أَنَّةٌ وَزَفِيرُ

لَعَلَّ زَمَاناً جَارَ يَوْماً عَلَيْهِمُو ** لَهُمْ بِالَّذِي تَهْوَى النُّفُوسُ يَدُورُ

فَيَفْرَحَ مَحْزُونٌ وَيَنْعَمَ بَائِسٌ ** وَيُطْلَقَ مِنْ ضِيقِ الوَثَاقِ أَسِيرُ

رُوَيْدَكَ إنَّ الدَّهْرَ يَتْبَعُهُ غَدٌ ** وَإنَّ صُرُوفَ الدَّائِرَاتِ تَدُورُ

فلما قرأها المتوكِّل، ارتاع، ثم دعا صاحب الدَّيْرِ، فسأله عَمَّن كتبها، فقال: لا عِلْمَ لي به، وانصرف، انتهى، وفي هذا وشبهه عِبْرَة لأولِي البصائر المستَيْقِظِينَ،، اللهم، لا تجعلْنَا مِمَّنْ اغتر بزَخَارِفِ هذه الدارِ!!.
[من الطويل]
أَلاَ إنَّما الدُّنْيَا كَأَحْلاَمِ نَائِم ** وَمَا خَيْرُ عَيْشٍ لاَ يَكُونُ بِدَائِمِ

وقرأ جمهور الناس: {ومَقَامٍ} بفتح الميم؛ قال ابن عباس وغيره: أراد المنابر.
وعلى قراءة ضم الميم قال قتادة: أراد: المواضِعَ الحِسَانَ من المساكِنِ وغيرِهَا، والقولُ بالمنابرِ بعيدٌ جدًّا، والنَّعْمَةُ بفتح النون: غَضَارَةُ العيشِ ولَذَاذَةُ الحياة، والنِّعْمَةُ بكسر النون: أَعَمُّ من هذا كُلُّه، وقد تكون الأمراضُ والمصائبُ نِعَماً، ولا يقال فيها: نَعْمَةٌ بالفتح، وقرأ الجمهور: {فاكهين} ومعناه: فَرِحينَ مسرورين {كَذَلِكَ وأورثناها قَوْماً ءَاخَرِينَ} أي: بعد القِبْطِ، وقال قتادة: هم بنو إسرائيل، وفيه ضعف، وقد ذكر الثعلبيُّ عن الحَسَنِ؛ أَنَّ بني إسرائيل رَجَعُوا إلى مِصْرَ بعد هلاك فِرْعَوْنَ، واختلف المتأوِّلُون في معنى قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السماء والأرض}، فقال ابن عباس وغيره: وذلك أَنَّ الرجُلَ المؤمنَ إذا مَاتَ، بكى عليه من الأرض موضِعُ عباداتِهِ أربعين صَبَاحاً، وبكى عليه من السماءِ مَوْضِعُ صُعُودِ عمله، قالوا: ولم يكن في قوم فرعونَ مَنْ هذه حَالُهُ، فَتَبْكِي عليهمُ السماءُ والأَرْضُ، قال * ع *: والمعنى الجَيِّدُ في الآية: أَنَّها استعارةٌ فصيحةٌ تَتَضمَّن تحقير أمرهم، وأَنَّه لم يتغير لأجل هلاكهم شيء، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَنْتَطِحُ فِيهَا عَنْزَانِ»، وفي الحديثِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «مَا مَاتَ مُؤْمِنٌ في غُرْبَةٍ غَابَتْ عَنْهُ فِيهَا بَوَاكِيهِ، إلاَّ بَكَتْ عَلَيْهِ السَّمَاءُ والأَرْضُ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآية، وَقَالَ: إنَّهُمَا لاَ يَبْكِيَانِ على كَافِرٍ» قال الداووديُّ. وعن مجاهد: ما مات مؤمنٌ إلاَّ بكَتْ عليه السماءُ والأرضُ، وقال: أفي هذا عجبٌ؟! وما للأرضِ لا تَبْكِي على عبدٍ كانَ يَعْمُرُها بالرُّكُوعِ والسجودِ، وما للسماء لا تَبْكِي على عبدٍ كان لتسبيحِهِ وتكبيرِهِ فيها دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ؟! انتهى.
وروى ابن المبارك في رقائقه قال: أخبرنا الأوْزاعيُّ قال: حدَّثني عطاءٌ الخُرَاسَانِيُّ، قال: مَا مِنْ عَبْدٍ يسجد للَّهِ سَجْدَةً في بُقْعَةٍ من بِقَاعِ الأرضِ، إلاَّ شَهِدَتْ له يَوْمَ القيامةِ، وبَكَتْ عليه يَوْمَ يَمُوتُ، انتهى، وروى ابن المبارك أَيْضاً عن أبي عُبَيْدٍ صاحبِ سليمانَ «أَنَّ العبد المؤمن إذا مات تنادَتْ بِقَاعُ الأرضِ: عَبْدُ اللَّهِ المُؤْمِنُ مَاتَ قَالَ: فَتَبْكِي عَلَيْهِ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ، فيقولُ الرحمن تبارَكَ وتعالى: مَا يُبْكِيكُمَا على عَبْدِي؟ فَيَقُولاَنِ: يَا رَبَّنَا، لَمْ يَمْشِ على نَاحِيَةٍ مِنَّا قَطُّ إلاَّ وَهُوَ يَذْكُرُكَ» اه.
و{مُنظَرِينَ} أي: مُؤَخَّرِينَ {العذاب المهين}: هو ذبح الأبناءِ، والتَّسْخِيرُ، وغيْرُ ذلك.
وقوله: {على عِلْمٍ} أي: على شَيْءٍ قد سَبَقَ عندنا فِيهِمْ، وثَبَتَ في علمنا أَنَّه سَيَنْفُذُ، ويحتملُ أنْ يكون معناه: على علمٍ لهم وفضائلَ فيهم على العالمين، أي: عَالِمِي زمانهم؛ بدليل أَنَّ أُمَّةَ محمد خير أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناس {وءاتيناهم مِّنَ الأيات}: لفظ جامع لما أجرى اللَّه من الآيات على يدي موسى، ولما أنعم به على بني إسرائيل، والبلاء في هذا الموضع: الاختبارُ والاِمتحانُ؛ كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، و{مُبِينٌ} بمعنى: بَيِّنٌ ثم ذَكَرَ تعالى قريشاً على جهة الإنكار لقولهم وإنكارهم للبَعْثِ، فقال: {إِنَّ هَؤُلاَءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِىَ} أي: ما هي {إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} أي: بمبعوثين، وقولُ قُرَيْشٍ: {فَأْتُواْ بِئَابَائِنَا} مُخَاطَبَةٌ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم طلبوا منه أَنْ يُحْيَي اللَّهُ لَهُمْ بَعْضَ آبائِهِمْ، وَسَمَّوْا له قُصَيًّا وغيره، كي يسألوهم عَمَّا رأَوْا في آخرَتهم.