فصل: تفسير الآيات (46- 49):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (46- 49):

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)}
وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وأبصاركم...} الآية {أَخَذَ} معناه أَذْهَبَ، والضمير في {بِهِ} عائد على المأخوذ، و{يَصْدِفُونَ} معناه: يعرضون، وينفرون، ومنه قول الشاعر: [البسيط]
إذَا ذَكَرْنَ حَدِيثاً قُلْنَ أَحْسَنَهُ ** وَهُنَّ عَنْ كُلِّ سُوءٍ يُتَّقَى صُدُفُ

وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أتاكم عَذَابُ الله بَغْتَةً...} الآية وعيد وتهديد.
قال * ع *: {أَرَءيْتُمْ} عند سيبويه: تَتَنَزَّلُ منزلة أخبروني؛ ولذلك لا تَحْتَاجُ إلى مفعولين.
وقوله: {بَغْتَةً}: معناه: لم يَتَقَدَّمْ عندكُمْ منه عِلْمٌ، و{وجَهْرَة}، معناه: تبدو لكم مَخَايلُهُ ومَبَاديه، ثم يتوالى حتى ينزل.
قال الحَسَنُ بْنُ أبي الحَسَنِ: {بَغْتَةً} لَيْلاً و{جَهْرَةً}: نهاراً.
وقال مجاهد: {بَغْتَةً} فُجَاءَةً {ءامِنِينَ}. و{جَهْرَةً}: وهم ينظرون.
قال أبو حَيَّان: {هَلْ يُهْلَكُ}؟ {هل} حَرْفُ استفهام، معناه هنا النَّفْيُ، أي: ما يهلك؛ ولذلك دخَلَتْ {إلاَّ} على ما بعدها. انتهى.
وقوله سبحانه: {وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ}، أي: إلاَّ ليبشِّروا بإنعامنا وَرَحْمَتِنَا مَنْ آمن، ومُنْذِرِينَ بعذابنا وعِقَابنا مَنْ كَذَّب وكَفَر، قال أبو حَيَّان: {مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}: حالٌ فيها معنَى العِلِّيَّة، أي: أرسلناهم للتبشير والإنذار. انتهى.
ثم وَعَدَ سبحانَهُ مَنْ سلَكَ طريقَ البِشَارة، فآمَنَ وأصْلَح في امتثال الطاعةِ، وأوعد الآخَرِينَ.

.تفسير الآيات (50- 53):

{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)}
وقوله تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ الله وَلا أَعْلَمُ الغيب وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ...} الآية: هذا مِنَ الرَّدِّ على القائلين: {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ} [الأنعام: 37] والطَّالِبِينَ أنْ ينزَّل ملَكٌ، أو تكونَ له جَنَّةٌ أو كَنْزٌ، ونَحْوُ هَذَا، والمعنى: إنما أنا بشر، وإنما أَتَّبِعُ ما يوحى إليَّ، وهو القرآنُ وسَائِرُ ما يأتيه مِنَ اللَّه سبحانه، أي: وفي ذلك عِبَرٌ وآياتٌ لمن تأمَّل.
وقوله سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير}، أي: هل يستوي المؤمِنُ المُفَكِّرُ في الآياتِ، معِ الكافِرِ المُعْرِضِ عَنِ النَّظَر؛ أفلا تتفكَّرون، وجاء الأمر بالفِكْرة في عبارة العَرْض والتَّحْضيض.
وقوله تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ}، أي: وأنذر بالقرآن الذين هُمْ مَظِنَّةُ الإيمان، وأهْلٌ للاِنتفاعِ، والضميرُ في {بِهِ} عائدٌ على ما يوحى.
وقوله سبحانه: {لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ}: إخبارٌ من اللَّه سبحانه عَنْ صفة الحالِ يَوْمَ الحَشْرِ، قال الفَخْر: قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}: قال ابن عَبَّاس: معناه: وأنذرهم لكَيْ يخافوا في الدنيا، وينتهوا عن الكُفْر والمعاصِي. انتهى.
وقوله سبحانه: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي}: المرادُ ب {الذين} ضَعَفَةَ المُؤْمنين في ذلك الوَقْت في أمور الدُّنْيا؛ كَبَلاَلٍ. وصُهَيْبٍ، وعَمَّارٍ، وَخَبَّابٍ، وصُبَيْحٍ، وذي الشِّمَالَيْنِ والمِقْدَادِ، ونحوِهِمْ، وسببُ الآية أنَّ بعض أشراف الكُفَّار قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: نَحْنُ لِشَرَفِنَا وأقْدَارِنَا لاَ يُمْكِنُنَا أنْ نختلطَ بهؤلاءِ، فلو طَرَدْتَّهم، لأتَّبَعْنَاكَ، وَرَدَ في ذلك حديثٌ عن ابْنِ مسعود، وظاهر الأمر أنهم أرادوا بذلك الخَدِيعَةَ، فنزلَتِ الآية، و{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي}: قال الحَسَنُ بنُ أبي الحَسَن: المراد به صلاةُ مكَّة الَّتي كانَتْ مرَّتين في اليومِ بُكْرةً وعَشِيًّا، وقيل: قوله: {بالغداة والعشي}: عبارةٌ عن استمرار الفعْلِ، وأنَّ الزمان معمورٌ به، والمرادُ على هذا التأويل، قيل: الصلواتُ الخَمْس؛ قاله ابنُ عَبَّاس وغيره، وقيل: الدُّعاء، وذِكْرُ اللَّه، واللفظةُ على وجهها، وقيل: القُرآنُ وتعلُّمه؛ قاله أبو جعفر، وقيل: العبادةُ؛ قاله الضَّحَّاك.
وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} قلتُ: قال الغَزَّالِيُّ في الجَوَاهر: النيةُ والعَمَلُ؛ بهما تمامُ العبادةِ، فالنِّيَّة أحد جُزْأيِ العبَادةِ، لكنها خير الجزأَيْن، ومعنى النيَّة إرادةُ وَجْه اللَّه سبحانه بالعَمَلِ، قال اللَّه تعالى: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}، ومعنى إخلاصها تصفيةُ الباعِثِ عن الشوائِبِ، ثم قال الغَزَّالِيُّ: وإذا عرفْتَ فَضْل النية، وأنَّها تحلُّ حَدَقَةَ المقْصود، فاجتهد أنْ تستكثر مِنَ النِّيَّة في جميع أعمالِكَ؛ حتى تنوي بعملٍ واحدٍ نيَّاتٍ كثيرةً، فاجتهد ولو صَدَقَتْ رغبتُكَ، لَهُدِيتَ لطريقِ رشدك. انتهى.
وقوله سبحانه: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَيْءٍ}، قال الحَسَنُ والجمهورُ: أيْ: مِنْ حسابِ عملهم، والمعنى: أنك لم تُكَلَّفْ شيئاً غيْرَ دعائهم، وقوله: {فَتَطْرُدَهُمْ}: هو جوابُ النفْيِ في قوله: {مَا عَلَيْكَ}، وقوله: {فَتَكُونُ}: جوابُ النهْيِ في قوله: {وَلاَ تَطْرُدِ}.
و{فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ}، أي: ابتلينا، و{لِّيَقُولواْ}: معناه: ليصيرَ بحُكْم القَدَرِ أمرُهُمْ إلى أن يقولُوا؛ على جهة الاِستخْفَافِ والهُزْء: {أَهَؤُلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا}، فاللامُ في {لِّيَقُولواْ}: لامُ الصَّيْرورة.
وقوله سبحانه: {أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين}، أيْ: يأيُّها المستخفُّون، ليس الأمر أمر استخفاف، فاللَّه أعلَمُ بمَنْ يشكر نعمه.

.تفسير الآيات (54- 57):

{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)}
وقوله سبحانه: {وَإِذَا جَاءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بئاياتنا فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ...} الآية: قال جمهور المفسِّرين: هؤلاءِ هم الذينَ نَهَى اللَّهُ عَنْ طردهم، وشَفَعَ ذلك بِأنْ أَمَرَ سبحانه أنْ يسلِّم النبيُّ عليه السلام عليهم، ويُؤْنِسَهُمْ، قال خَبَّابُ بْنُ الأَرَتَّ: لما نزلَتْ: {وَإِذَا جَاءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بئاياتنا...} الآية، فكُنَّا نأتي النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فيقولُ لنا: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ، ونقعُدُ معه، فإذا أراد أنْ يقوم، قَامَ، وتركَنا، فأنزل اللَّه تعالى: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم...} [الكهف: 28]، فكان يَقْعُدُ معنا، فإذا بَلَغَ الوقْتَ الذي يقومُ فيه، قُمْنا وتركْنَاه، حتى يقوم، و{سلام عَلَيْكُم}: ابتداءٌ، والتقديرُ: سَلاَمٌ ثابتٌ أو واجبٌ عليكم، والمعنَى: أمَنَةً لكُمْ مِنْ عذاب اللَّه في الدنيا والآخرة، ولفظه لفظُ الخَبَر، وهو في معنى الدُّعَاء، قال الفَخْر قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة}: النَّفْسُ ههنا: بمعنى الذَّات، والحقيقةِ، لا بمعنى الجِسْمِ، واللَّهُ تعالى مقدَّس عنه. انتهى.
قلتُ: قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ في كتاب تفسير الأَفْعَال الواقعة في القُرآن: قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة}، قال علماؤنا: كَتَبَ: معناه أَوْجَبَ، وعندي أنه كَتَبَ حقيقةً، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ خَلَقَ القَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكتب، فَكَتَبَ مَا يَكُونُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ» انتهى.
وقرأ عاصمٌ، وابنُ عَامِرٍ أنَّهُ بفَتْحِ الهَمْزةِ في الأولى والثانيةِ {فأنَّهُ}: الأولى بدلٌ من {الرحمة}، و{أنَّهُ} الثانيةُ: خبرُ ابتداءٍ مضمرة، تقديرُهُ: فأمره أنَّه غفورٌ رحيمٌ، هذا مذْهَبُ سيبَوَيْه، وقرأ ابنُ كَثِيرٍ، وأبو عَمْرٍو، وحمزة، والكسائي {إنَّهُ} بكسر الهمزة في الأولى والثانية، وقرأ نافعٌ بفَتْح الأولى وكَسْر الثانية، والجهالةُ في هذا الموضِعِ: تعمُّ التي تُضَادُّ العِلْمَ، والتي تُشَبَّه بها؛ وذلك أنَّ المتعمِّد لفعْلِ الشيء الذي قَدْ نُهِيَ عنه تسمى معصيته تِلْكَ جِهَالَةً، قال مجاهدٌ: مِنَ الجهالةِ ألاَّ يعلم حَلاَلاً مِنْ حرامٍ، ومن جهالته أنْ يركِّب الأمر.
قُلْتُ: أيْ: يتعمَّده، ومن الجهالة الَّتي لا تُضَادُّ العلم قولُهُ صلى الله عليه وسلم في استعاذته: «أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ»؛ ومنها قولُ الشَّاعر: [الوافر]
أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ علَيْنَا ** فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا

قال الفخْر: قال الحَسَنُ: كُلُّ مَنْ عَمِلَ معصيةً، فهو جاهلٌ، فقيل: المعنى أنه جاهلٌ بمقدارِ ما فاتَهُ منَ الثَّواب، وما استحقه من العقابِ، قلْتُ: وأيضاً فهو جاهلٌ بقَدْر مَنْ عصاه. انتهى.
والإشارةُ بقوله تعالى: {وكذلك نُفَصِّلُ الأيات}، إلى ما تقدَّم من النهْيِ عن طَرْدِ المؤمنين، وبَيَانِ فَسَادِ مَنْزَعِ العارضين لذلك، وتفصيلُ الآياتِ: تبيينُها وشَرْحُها وإظهارُها، قلْتُ: ومما يناسِبُ هذا المَحَلَّ ذِكْرُ شيء ممَّا ورد في فَضْلِ المُصَافَحَة، وقد أسند أبُو عُمَر في التمهيد، عن عبد الرحْمَنِ بْنِ الأسود، عن أَبِيهِ وعلقمة؛ أنهما قَالاَ: مَنْ تَمَامِ التَّحِيَّةِ المُصَافَحَةُ، وروى مالكٌ في الموطإ، عن عطاءٍ الخُرَاسَانِيِّ، قالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تَصَافَحُوا؛ يَذْهَبُ الغِلُّ، وَتَهَادَوْا؛ تَحَابُّوا، وَتَذْهَب الشَّحْنَاءُ»، قال أبو عُمَر في التمهيد: هذا الحديثُ يتَّصلُ مِنْ وجوه شتى حِسَانٍ كلُّها، ثم أسند أبو عُمَر من طريقِ أبي دَاوُد وغَيْره، عن البَرَاءِ، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، فَيَتَصَافَحَانِ إلاَّ غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّفَا»، ثم أسند أبو عُمَرَ عن البَرَاء بنِ عَازِبٍ، قال: «لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنْ كُنْتُ لأحْسِبُ أَنَّ المُصَافَحَةَ لِلْعَجَمِ فَقَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِالمُصَافَحَةِ مِنْهُمْ؛ مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، فَيَأْخُذُ أَحَدُهُمَا بِيَدِ صَاحِبِهِ مَوَدَّةً بَيْنَهُمَا، ونَصِيحَةً، إلاَّ أُلْقِيَتْ ذُنُوبُهُمَا بَيْنَهُمَا»، وأسند أبو عُمَرَ عن عمر بْنِ الخَطَّابِ، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا التقى المُسْلِمَانِ، فَتَصَافَحَا، أنْزَلَ اللَّهُ عَلَيهِمَا مِائَةَ رَحْمَةٍ؛ تِسْعُونَ مِنْهَا لِلَّذِي بَدَأَ بِالمُصَافَحَةِ، وَعَشَرَةٌ لِلَّذِي صُوفِحَ، وَكَانَ أَحَبَّهُمَا إلَى اللَّهِ أَحْسَنُهُمَا بِشْراً بِصَاحِبِهِ» انتهى.
وقد ذكرنا طَرَفاً مِنْ آدَابِ المُصَافحة فِي غَيْرِ هذا الموضعِ، فَقِفْ عليه، واعمل به، تَرْشَدْ، فإنَّ العلْم إنما يرادُ للعَمَل، وباللَّه التوفيق.
وخُصَّ سبيلُ المُجْرمينَ بالذِّكْر؛ لأنهم الذين آثَرُوا ما تقدَّم من الأقوال، وهو أهَمُّ في هذا الموضِعِ؛ لأنها آياتُ رَدٍّ علَيْهم.
وأيضاً: فتَبْيِينُ سَبِيلِهِمْ يتضمَّن بيانَ سَبِيلِ المُؤْمنين، وتَأوَّلَ ابنُ زَيْد؛ أنَّ قوله: {المجرمين} مَعْنِيٌّ به الآمِرُونَ بطَرْد الضَّعَفَةِ.
وقوله سبحانه: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ...} الآية: أَمَرَ اللَّهُ سبحانه نَبيَّه عليه السلام؛ أنْ يجاهرهم بالتبرِّي ممَّا هم فيه، و{تَدْعُونَ}: معناه تعبدون، ويْحْتَمَلُ أنْ يريدَ: تَدْعُونَ في أموركُمْ، وذلك مِنْ معنى العبَادةِ، واعتقادهم الأصنامَ آلهة.
وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي}: المعنى: قل إني على أمْر بيِّن، {وَكَذَّبْتُم بِهِ}، الضمير في بِهِ عائدٌ على بَيِّن، أو علَى الرَّبِّ، وقيل: على القُرآن، وهو جليٌّ، وقال بعضُ المفسِّرين: الضميرُ في به الثانِي عائدٌ على مَا، والمُرَادُ بها الآياتُ المقْتَرَحَةُ؛ على ما قال بعض المفسِّرين، وقيل: المرادُ به العذابُ، وهو يترجَّح من وجْهَيْن:
أحدهما: مِنْ جهة المعنى؛ وذلك أنَّ قوله: {وَكَذَّبْتُم بِهِ} يتضمَّن أنَّكم واقعتم مَا تَسْتَوْجِبُون به العَذَابَ إلاَّ أنه ليس عنْدِي.
والآخَرُ: مِنْ جهة لَفْظِ الاستعجالِ الذي لَمْ يأت في القُرآن إلاَّ للعذابِ.
وأما اقتراحهم للآيَاتِ، فَلمْ يكُنْ باستعجال.
وقوله: {إِنِ الحكم إِلاَّ لِلَّهِ}، أي: القضاءُ والإنفاذُ، و{يَقُصُّ الحق}، أيْ: يخبر به، والمعنى: يقُصُّ القَصَص الحَقَّ، وقرأ حمزةُ والكِسَائيُّ وغيرهما: {يَقْضِي الحَقَّ}، أي: يُنْفِذُهُ.

.تفسير الآيات (58- 59):

{قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)}
وقوله سبحانه: {قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمر بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}: المعنى: لو كان عندي الآياتُ المُقْتَرَحةُ، أو العذابُ؛ علَى التأويل الآخر، لقُضِيَ الأمر، أي: لَوَقَع الانفصال، وتَمَّ النزاعُ؛ لظهور الآية المُقْتَرَحَةِ، أو لِنزولِ العذابِ؛ بحسب التأْويلَيْنِ، وقِيلَ: المعنى: لَقَامَتِ القيامةُ، وقوله: {والله أَعْلَمُ بالظالمين}: يتضمَّن الوعيدَ والتَّهْديدَ.
وقوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ}: مفَاتِحُ: جَمْعُ مَفْتَحٍ، وهذه استعارة؛ عبارةً عن التوصُّل إلى الغيوب؛ كما يَتوصَّل في الشاهِدِ بالمِفْتَاحِ إلى المُغَيَّب، ولو كان جَمْعَ مِفْتَاحٍ، لقال: مَفَاتِيح، ويظهرُ أيضاً أنَّ مَفَاتِح جمْعُ مَفْتَح بفتح الميم، أي: مواضِعِ تَفْتَحُ عن المغيَّبات؛ ويؤيِّد هذا قَوْلُ السُّدِّيِّ وغيره: {مَفَاتِحُ الغيب}: خزائِنُ الغَيْب، فأما مِفْتَح بالكسر، فهو بمعنى مِفْتَاح، قال الزَّهْرَاوِيُّ: وَمِفْتَحٌ أفصحُ، وقال ابنُ عَبَّاسٍ وغيره: الإشارةُ بِمَفَاتِحِ الغَيْبِ هي إلى الخَمْسة في آخر لُقْمَان: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة...} [لقمان: 34] الآية، قلت: وفي صحيحِ البخاريِّ، عن سالمِ بنِ عبد اللَّهِ، عَنْ أبيه؛ أنَّ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: «مَفَاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إلاَّ اللَّهُ: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث وَيَعْلَمُ مَا في الأرحام وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]» انتهى.
وقوله سبحانه: {مِن وَرَقَةٍ}، أي: من وَرَقِ النَّبَاتِ، {وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظلمات الأرض}، يريدُ: في أشدِّ حالِ التَّغَيُّبِ، وحكى بعضُ النَّاسِ عن جَعْفَرِ بنِ محمَّد قولاً: أنَّ الورقَةَ يُرَادُ بها السِّقْطُ مِنْ أولادِ بني آدم، والحَبَّة: يرادُ بها الذي لَيْسَ بِسِقْطٍ، والرَّطْب يرادُ به الحَيُّ، واليابسُ يراد به المَيِّت، وهذا قولٌ جارٍ على طريقةِ الرُّمُوز، ولا يصحُّ عن جعفر بن محمَّد، ولا ينبغي أن يُلْتَفَتَ إلَيْه.
وقوله تعالى: {إِلاَّ فِي كتاب مُّبِينٍ}، قيل: يعني كتاباً على الحقيقةِ، ووجْهُ الفائدة فيه امتحان ما يكتبه الحَفَظَةُ، وذلك أنَّه رُوِيَ أنَّ الحَفَظَةَ يرفَعُونَ مَا كَتَبُوهُ، ويُعَارِضُونَهُ بهذا الكِتَابِ المُشَارِ إلَيْه؛ ليتحقَّقوا صِحَّة ما كتبوه، وقيل: المراد بقوله: {إِلاَّ فِي كتاب}: عِلْمِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ المحيطِ بكلِّ شيءٍ.
قال الفَخْرُ: وهذا هو الأصْوَبُ، ويجوزُ أنْ يقالَ: ذَكر تعالى ما ذَكَر مِنَ الوَرَقَةِ وَالحَبَّة؛ تنبيهاً للمكلَّفين على أمر الحساب. انتهى.
قال مَكِّيٌّ: قالَ عبْدُ اللَّه بْنُ الحارِثِ: ما في الأرْض شَجَرٌ، ولا مَغْرَزُ إبرةٍ إلاَّ علَيْها مَلَكٌ، موكَّل، يأتي اللَّه بعلْمها بيَبَسِها إذا يَبِسَتْ، ورُطُوبَتِها إذا رَطِبَتْ.
وقيل: المعنى في كَتْبِها؛ أنه لتعظيمِ الأمرِ، ومعناه: اعلموا أنَّ هذا الذي لَيْسَ فيه ثوابٌ ولا عقابٌ مكتوبٌ؛ فكيف ما فِيهِ ثوابٌ أو عقابٌ. انتهى من الهداية.

.تفسير الآيات (60- 64):

{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)}
وقوله سبحانه: {وَهُوَ الذي يتوفاكم باليل}، يعني به: النَّوْمَ، و{يَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم}، أي: مَا كَسَبْتم بالنَّهار، ويحتمل أنْ يكون {جَرَحْتُم} هنا من الجرح؛ كأن الذنْبَ جرح في الدِّين، والعربُ تقولُ:
.................... ** وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ اليَدِ

و{يَبْعَثُكُمْ}: يريد به الإيقاظَ، والضميرُ في {فِيهِ} عائدٌ على النهار؛ قاله مجاهد وغيره، ويحتملُ أنْ يعود الضمير على التوفِّي، أي: يوقظُكُم في التوفِّي، أي: في خلالِهِ وتضاعِيفِهِ؛ قاله عبد اللَّه بن كَثير.
و{ليقضى أَجَلٌ مُّسَمًّى}: المراد به آجالُ بني آدمَ، {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ}؛ يريدُ: بالبَعْثِ والنشورِ، {ثُمَّ يُنَبِّئُكُم}، أي: يُعْلِمُكُمْ إعلامَ توقيفٍ، ومحاسبةٍ، ففي هذه الآية إيضاحُ الآياتِ المنصوبةِ للنَّظَر، وفيها ضَرْبُ مثالٍ للبعْثِ من القبور؛ لأن هذا أيضاً إماتةٌ وبعْثٌ على نَحوٍ مَّا.
وقوله سبحانه: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ}: القاهرُ إنْ أُخِذَ صِفَةَ فِعْلٍ، أي: مظهر القَهْر بالصواعقِ والرياحِ والعذابِ، فيصحُّ أنْ تجعل {فَوْقَ} ظرفيةً للجهةِ؛ لأن هذه الأشياء إنما تعاهَدَها العبادُ مِنْ فوقهم، وإنْ أُخِذَ {القاهر} صفَةَ ذَاتٍ، بمعنى القُدْرة والاستيلاء، ف {فَوْقَ}: لا يجوزُ أنْ تكون للجهةِ، وإنما هي لعلُوِّ القَدْر والشِّأن؛ على حد ما تقولُ: اليَاقُوتُ فَوْقَ الحَدِيدِ، والأحرارُ فَوْقَ العبيدِ، و{يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ}: معناه: يَبُثُّهم فيكم، و{حَفَظَةً}: جمع حَافِظٍ، والمراد بذلكَ الملائكةُ الموكَّلون بكَتْبِ الأعمال، ورُوِيَ أنهم الملائكةُ الَّذين قالَ فيهِمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَتَعاقَبُ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ»؛ وقال السُّدِّيُّ وقتادة، وقال بعْض المفسِّرين: حَفَظَةً يَحفظُونَ الإنسانَ مِنْ كلِّ شيءٍ؛ حتى يأتي أجله، والأول أظهر.
وقرأ حمزةُ وحْده: {تَوَفَّاهُ}.
وقوله تعالى: {رُسُلُنَا}: يريد به؛ على ما ذكر ابنُ عباس، وجميعُ أهل التأويل: ملائكةً مقترنينَ بمَلَكِ المَوْت، يعاونونه ويَأْتَمِرُونَ له، {ثُمَّ رُدُّواْ}، أي: العبادُ، {إلى الله مولاهم}، وقوله: {الحق}: نعْتٌ ل {مولاهم}، ومعناه: الذي لَيْسَ بباطلٍ، ولا مَجَاز، {أَلاَ لَهُ الحكم}: كلامٌ مضمَّنه التنبيهُ، وهَزُّ النفوسِ، {وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين}: قيل لِعَليٍّ رضي اللَّه عنه: كَيْفَ يُحَاسِبُ اللَّهُ العِبَادَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ؟! قَالَ: كَمَا يَرْزُقُهُمْ فِي الدُّنْيَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ.
وقوله تعالى: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظلمات البر والبحر تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً...} الآية: هذا تَمَادٍ في توبيخِ العادِلِينَ باللَّه الأوثانَ، وتركِهِمْ عبادَةَ الرَّحْمَنِ الذي يُنْجِي من الهَلَكَاتِ، ويُلْجَأُ إلَيْه في الشَّدَائد، ودَفْعِ الملمَّاتِ، و{ظلمات البر والبحر}: يريدُ بها شدائِدَهُما، فهو لفظٌ عامٌّ يستغرقُ ما كان مِنَ الشدائدِ؛ بظلمةٍ حقيقيةٍ، وما كان بغَيْر ظلمةٍ، والعَرَبُ تقول: عَامٌ أَسْوَدُ، ويَوْمٌ مُظْلِمٌ، ويَوْمٌ ذو كواكِبَ، يريدُونَ به الشِّدَّة، قال قتادة وغيره: المعنى: مِنْ كَرْبِ البَرِّ والبَحْرِ، وتَدْعُونَهُ: في موضعِ الحالِ، والتَّضَرُّعُ: صفَةٌ باديةٌ على الإنسانِ، وخُفْيَة: معناه: الاختفاء، وقرأ عاصمٌ في رواية أبي بَكْر: {وخِفْيةَ} بكسر الخاء، وقرأ الأعمشُ: {وخِيفَةً}؛ من الخَوْف.
وقوله سبحانه: {قُلِ الله يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا...} الآية: سبق في المُجَادَلة إلى الجَوَابِ؛ إذْ لا محيدَ عنْه، {وَمِن كُلِّ كَرْبٍ}: لفظٌ عامٌّ أيضاً، ليتَّضِحَ العُمُومُ الذي في {الظلماتِ}، {ثُمَّ أَنتُمْ}، أي: ثم بَعْدَ معرفتكم بهذا كلِّه، وتحَقُّقِكُمْ له، أنْتُمْ تُشْرِكُونَ.