فصل: تفسير الآيات (68- 69):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (65- 67):

{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)}
وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ...} الآية: هذا إخبارٌ يتضمَّن الوعيدَ، والأظهرُ مِنْ نَسَقِ الآياتِ: أنَّ هذا الخطابَ للكفَّار الذين تَقَدَّم ذكرهم، وهو مَذْهَبُ الطبريِّ.
وقال أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ، وجماعة: هو للمؤمِنِينَ، وهم المرادُ.
وهذا الاختلافُ إنما هو بحَسَبِ ما يَظْهَرُ منْ أنَّ الآية تتناوَلُ معانِيهَا المشركِينَ والمؤمنينَ؛ وفي البخاريِّ وغيره مِنْ حَدِيثِ جابرٍ وغيره: أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لما نزلَتِ الآيةُ: {قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ}، قَالَ: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ»، فلما نزلَتْ: {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}، قَالَ: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ»، فلما نزلَتْ: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال: «هذه أهونُ أو أيَسر»؛ فاحتج بهذا الحديثِ مَنْ قال: إنَّها نَزَلَتْ فِي المؤمنينَ، قال الطَّبريُّ وغيره: مُمْتَنِعٌ أنْ يكون النبيُّ صلى الله عليه وسلم تعوَّذ لأمَّته مِنْ هذه الأشياءِ الَّتي توعَّد بها الكُفَّار، وهَوَّنَ الثالثةَ؛ لأنَّها بالمعنى هي التي دعا فيها، فمنع حسب حديثِ المُوطَّإ وغيره، و{مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}: لفظٌ عامٌّ للمنطبقِينَ علَىَ الإنسان، وقال السُّدِّيُّ، عن أبي مالِكٍ: {مِّن فَوْقِكُمْ}: الرَّجْم، {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}: الخَسْف؛ وقاله سعيدُ بن جُبَيْر ومجاهد.
وقوله سبحانه: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً}: معناه: يخلِّطكم فِرَقاً، والبأْسُ: القَتْل، وما أشبهه من المَكَارِهِ، وفي قوله تعالى: {انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الأيات}: استرجاعٌ لهم، وإنْ كان لفظها لَفْظَ تعجيب للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فمضمَّنها أنَّ هذه الآياتِ والدلائلَ؛ إنما هي لاستصرافهم عن طريقِ غَيِّهم، والفِقْهُ: الفَهْمُ.
وقوله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق}، الضمير في {بِهِ} عائدٌ على القُرآن الذي فيه جاءَ تصريفُ الآياتِ؛ قاله السُّدِّيُّ، وهذا هو الظاهرُ، ويحتملُ أنْ يعود الضميرُ على الوَعِيدِ الذي تضمَّنَتْه الآيةُ، ونحا إليه الطبريُّ، وقوله: {قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}: معناه: لسْتُ بمدفوعٍ إلى أخْذكم بالإيمان والهدى، وهذا كان قَبْلَ نزول آياتِ الجهادِ والأمْرِ بالقتالِ، ثم نُسِخَ.
وقوله سبحانه: {لّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ}: أيْ: غايةٌ يعرف عنْدَها صِدْقُه من كَذبِه، و{سَوْفَ تَعْلَمُونَ}: تهديدٌ محْضٌ ووعيدٌ.

.تفسير الآيات (68- 69):

{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)}
وقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِي ءاياتنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}: هذا خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون داخلُونَ في الخطاب معه، هذا هو الصحيحُ؛ لأنَّ علَّة النهْي، وهي سماعُ الخَوْض في آياتِ اللَّه، تَشْمَلُهُمْ وإيَّاه، فأُمِرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم هو والمؤمنون أنْ ينابذُوا الكُفَّار بالقيام عنهم، إذا استهزءوا وخاضوا؛ ليتأدَّبوا بذلك، ويدَعُوا الخَوْضَ والاستهزاءَ، قلْتُ: ويدلُّ على دخولِ المؤمنينَ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الخطابِ قولُهُ تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايات الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء: 140]. انتهى.
والخَوْضُ: أصله في الماءِ، ثم يستعملُ بعدُ في غمرات الأشياء التي هي مجاهلُ؛ تشبيهاً بغَمَرَات الماء.
{وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ}: {إما}: شرط، وتلزمها النونُ الثقيلة في الأغلب، وقرأ ابن عامر وحده: {يُنَسِّيَنَّكَ} بتشديدِ السينِ، وفتحِ النونِ، والمعنى واحدٌ إلا أن التشديد أكثر مبالغةً، و{الذكرى} والذِّكْر واحدٌ في المعنى، ووصْفُهم ب {الظالمين} متمكِّن؛ لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه، و{أَعْرِضْ}؛ في هذه الآية: بمعنى المفارقة على حقيقة الإعراض، وأكملِ وجوهه؛ ويدُلُّ على ذلك: {فَلاَ تَقْعُدْ}.
وقوله سبحانه: {وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْء}، وروي أنه لما نزلَتْ: {فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ} [النساء: 140] قال المؤمنون إذا كنا لا نقْرَبُ المشركين، ولا نسمع أقوالهم، فلا يمكننا طَوَافٌ ولا قضاءُ عبادةٍ في الحرمِ، فنزلَتْ لذلك: {وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ...} الآية.
قال * ع *: فالإباحة في هذا هي في القَدْر الذي يحتاجُ إلَيْه من التصرُّف بَيْن المشركين في عبادةٍ ونحوها، وقيل: إن هذه الآية الأخيرةَ ليْسَتْ إباحة بوجه، وإنما معناها: لا تَقْعُدوا معهم، ولا تَقْرَبوهم حتى تسمعوا استهزاءهم وخوضهم، وليس نهيكم عن القعود؛ لأنَّ عليكم شيئاً من حسابهم، وإنما هو ذكرى لكم، ويحتملُ المعنى: ولكنْ ذكرى لعلَّهم إذا جانبتموهم، يتقون بالإمساكِ عن الاستهزاءِ، ويحتملُ المعنى: ولكن ذكِّروهم ذكرى، وينبغي للمؤمن أنْ يمتثل حكم هذه الآية مع المُلْحِدِين، وأهْلِ الجدلِ والخَوْضِ فيه، وحكى الطبريُّ، عن أبي جعفر؛ أنه قال: «لاَ تُجَالِسُوا أَهْلَ الخُصُومَاتِ؛ فإنَّهُمْ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ»، وفي الحديث، عنه صلى الله عليه وسلم: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ؛ وَإنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الكَذِبَ؛ وإنْ كَانَ مَازِحاً، وبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقه»، خَرَّجه أبو داود. انتهى من الكوكب الدري، وقد ذكرنا هذا الحديثَ من غير طريقِ أبي داود بلفظ أوضَحَ من هذا.

.تفسير الآيات (70- 73):

{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)}
وقوله سبحانه: {وَذَرِ الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً}: هذا أمر بالمتاركة، وكان ذلك بحَسَب قلَّة المسلمين يومَئِذٍ، قال قتادة: ثم نُسِخَ ذلك، وما جرى مجراه بالقتَالِ، وقال مجاهد: الآيةُ إنما هي للتهديدِ والوعيدِ، فهي كقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر: 11]، وليس فيها نَسْخٌ؛ لأنها متضمنة خبراً، وهو التهديدُ، {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا}، أيْ: خدعتهم من الغُرُور، وهو الأطماعُ بما لا يتحصَّل فاغتروا بنعم اللَّه وإمهاله، وطَمَعُهُمْ ذلك فيما لم يتحصَّل من رحمته، واعلم أنَّ أعقلَ العقلاء مؤمنٌ مقبِلٌ على آخرته قد جَعَلَ الموْتَ نُصْبَ عينيه، ولم يغترَّ بزخارف الدنيا؛ كما اغتر بها الحمقى، بل جعل همَّهُ واحداً؛ هَمَّ المعادِ وما هو صائرٌ إليه؛ وقد روى البَزَّار في مسنده، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: «مَنْ جَعَلَ الهُمُومَ هَمًّا وَاحِداً؛ هَمَّ المَعَادِ، كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ الدُّنْيَا، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الهُمُومُ؛ هُمُومُ الدُّنْيَا، لَمْ يُبَالِ اللَّهُ تعالى فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ» انتهى من الكوكب الدريِّ.
وقوله سبحانه: {وَذَكِّرْ بِهِ}: أي بالقرآن، وقيل: الضمير في {بِهِ} به عائدٌ على الدِّين، و{أَن تُبْسَلَ} في موضع المفعولِ له، أي: لَئِلاَّ تُبْسَلَ، ومعناه: تُسْلَمَ؛ قاله الحسن وعكرمة وقال قتادةُ: تُحْبَسَ وتُرْهَنْ، وقال ابن عبَّاس: تُفْضَح، وقال ابن زيد: تجزى، وهذه كلُّها متقاربةُ المعنى؛ ومنه قول الشنفرى: [الطويل]
هُنَالِكَ لاَ أَرْجُو حَيَاةً تَسُرُّنِي ** سَمِيرَ اللَّيَالِي مُبْسَلاً بِالْجَرَائِرِ

وباقي الآية بيِّن.
{وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ}، أي: وإن تعط كلَّ فدية، وإنْ عظُمت، فتجعلها عِدْلاً لها، لا يُقْبَل منها، وقال أبو عُبَيْدة: {وَإِن تَعْدِلْ}، هو من العَدْلِ المضادِّ للجور؛ وردَّه الطبريُّ بالإجماع على أنَّ توبة الكافر مقبولةً،
قال * ع *: ولا يلزم هذا الردُّ، لأنَّ الأمر إنما هو يوم القيامة، ولا تقبلُ فيه توبة، ولا عملٌ. قلْتُ: وأجلى من هذا أنْ يحمل كلامُ أبي عُبَيْدة على معنى أنَّه لا يقبلُ منها عدلُها؛ لاختلال شَرْطه، وهو الإيمانُ، و{أُبْسِلُواْ}: معناه: أُسْلِمُوا بما اجترحوه من الكُفْر، والحميمُ: الماءُ الحارُّ؛ ومنه: الحَمَّام، والحَمَّة.
وقوله سبحانه: {قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا}، المعنى: قل في احتجاجك: أنطيع رأيكم في أنْ ندعو من دون اللَّه، والدعاءُ: يعم العبادة وغيرها؛ لأن مَنْ جعل شيئاً موضعَ دعائه، فإياه يَعْبُدُ، وعليه يتوكَّل، و{مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا}: يعني: الأصنام، {وَنُرَدُّ على أعقابنا}: تشبيهٌ بمَشْيِ القهقرى، وهي المِشْية الدنيَّة؛ فاستعمل المَثَل بها فيمَنْ رجَعَ مِنْ خيرٍ إلى شَرٍّ.
وقوله سبحانه: {كالذي استهوته الشياطين} في الكلام حذفٌ، تقديره: ردًّا كَرَدِّ الذي، و{استهوته}: بمعنى: استدعت هواه وأمالته، و{هَدَانَا}: بمعنى: أرشَدَنَا، فسياقُ هذا المثل كأنه قال: أيَصْلُحُ أن نكون بعد الهدى نعبد الأصنام؛ فيكون ذلك منَّا ارتدادا على العَقِبِ؛ فنكون كَرَجُلٍ على طريق واضحٍ، فاستهوته عنه الشياطينُ، فخرج عنه إلى دعوتهم، فبقي حائراً.
وقوله: {لَهُ أصحاب}: يريد: له أصحابٌ على الطريق الذي خَرَجَ منه، فيشبَّه بالأصحاب على هذا المؤمنون الذين يَدْعُونَ مَن ارتد إلى الرجوع إلى الهدى، وهذا تأويلُ مجاهد وابن عباسٍ، و{ائتنا}؛ في هذه الآية: عبدُ الرحمنِ بْنُ أبي بَكْرٍ: وبالأصحاب: أبواه قول ضعيفٌ؛ يردُّه قول عائشة في الصحيحِ: «مَا نَزَلَ فِينَا مِنَ القُرآنِ شَيْءٌ إلاَّ بَرَاءَتِي»، قلتُ: تريد وقصَّة الغارِ؛ {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} [التوبة: 40]، وقوله: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ...} [النور: 22]؛ إذ نزلَتْ في شأن أبي بكر، وشأن مِسْطَحٍ.
قال * ع *: حدثني أبي رضي اللَّه عنه قال: سمعْتُ الفقيه الإمام أبا عبد اللَّه المعروفَ بالنحْويِّ المجاوِرِ بمكَّة، يقول: مَنْ نازع أحداً من المُلْحِدِينَ، فإنما ينبغي أن يردَّ عليه بالقرآن والحديث؛ فيكونُ كَمَنْ يدعو إلى الهدى بقوله: {ائتنا}، ومَنْ ينازعهم بالجَدَل، ويحلِّق عليهم به، فكأنه بَعُدَ من الطريق الواضح أكْثَرَ، ليردَّ هذا الزائغَ، فهو يخافُ علَيْه أنْ يضلَّ.
قال * ع *: وهذال انتزاعٌ حسنٌ جدًّا، وباقي الآية بيِّن.
وقوله سبحانه: {وَهُوَ الذي خَلَقَ السموات والأرض بالحق}، أي: لم يخلقْها باطلاً لغير معنًى، بل لمعانٍ مفيدةٍ، وحقائقَ بيِّنة.
وقوله سبحانه: {وَيَوْمَ يَقُولُ} {يوم}: نصب على الظرْفِ، وتقديرُ الكلامِ: واذكر الخَلْق والإعادة يَوْمَ، وتحتمل الآية مع هذا أنْ يكون معناها، واذكر الإعادة يَوْمَ يقولُ اللَّه للأجساد: كوني معادةً.
وقوله تعالى: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور}، الجمهورُ أنَّ الصُّورَ هو القَرْن الذي قال فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّهُ يُنْفَخُ فِيهِ لِلصَّعْقِ ثُمَّ لِلْبَعْثِ»، وباقي الآية بيِّن.

.تفسير الآيات (74- 75):

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)}
وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إبراهيم لأَبِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءَالِهَةً إِنِّي أراك وَقَوْمَكَ فِي ضلال مُّبِينٍ}، قال الطبري: نبه اللَّه نبيَّنا محمداً صلى الله عليه وسلم على الاِقتداء بإبراهيم في محاجَّته قومَه؛ إذ كانوا أهل أصْنَام، وكان قومُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أهْلَ أصنام، وقوله: {أَصْنَاماً ءَالِهَةً}: مفعولانِ، وذُكِرَ أن آزر أبا إبراهيِمَ عليه السلام كَانَ نَجَّاراً محسناً، ومهنْدِساً، وكان نُمْرُود يتعلَّق بالهندسةِ والنجُومِ، فحَظِيَ عنده آزر لذلك، وكان على خُطَّةِ عملِ الأَصنامِ تُعْمَلُ بأمره وتَدْبيره، ويَطْبَع هو في الصنمِ بخَتْمٍ معلومٍ عنده؛ وحينئذٍ يُعْبَدُ ذلك الصنمُ، فلما نشأ إبراهيمُ ابنه على الصفة التي تأتي بعْدُ، كان أبوه يكلِّفه ببيعها، فكان إبراهيم ينادِي عليها: مَنْ يَشْتَري ما يضرُّه ولا ينفعه، ويستخفُّ بها، ويجعلها في الماءِ منكوسةً، ويقول لها: اشربي، فلما اشتهر أمْرُه بذلك، وأخذ في الدعاءِ إلى اللَّه عزَّ وجلَّ، قال لأبيه هذه المقالةَ، و{أراك}؛ في هذا الموضعِ: يشترك فيها القلبُ والبصرُ، و{مُّبِينٌ}: بمعنى: ظاهر واضح.
وقوله سبحانه: {وكذلك نُرِي إبراهيم مَلَكُوتَ السموات والأرض}: الآيةُ المتقدِّمةُ تقْضِي بهدايةِ إبْرَاهيم عليه السلام، والإشارةُ ب ذلك هي إلى تلك الهداية، أي: وكما هدَيْنَاه إلى الدعاء إلى اللَّه وإنكارِ الكُفْر، أريناه ملكوتَ، و{نُرِي}: لفظها: الاستقبال، ومعناها: المضيُّ، وهذه الرؤْية قيل: هي رؤية البَصَر، ورُوِيَ في ذلك؛ أنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ فرج لإِبراهيم عليه السلام السمواتِ والأرْضَ؛ حتى رأَى ببَصَره الملكوتَ الأعلى، والملكوتَ الأسفلَ؛ وهذا هو قولُ مجاهدٍ قال: تفرَّجتْ له السمواتُ والأرَضُون، فرأى مكانه في الجنَّة، وبه قال سعيدُ بنُ جُبَيْر، وسلمانُ الفارسيُّ، وقيل: هي رؤيةَ بَصرٍ في ظاهر الملكوت، وقع له معها من الاعتبارِ ورؤيةِ القَلْب: ما لم يقعْ لأحد من أهل زمنه الذين بُعِثَ إليهم؛ قاله ابن عباس وغيره، وقيل: هي رؤية قَلْب، رأى بها ملكوتَ السمواتِ والأرضِ بفكرته ونظره، و{مَلَكُوتَ}: بناءُ مبالغةٍ، وهو بمعنى المُلْك، والعربُ تقول: لفلانٍ مَلَكُوتُ اليَمَنِ، أي: مُلْكُه، واللام في: {لِيَكُونَ}: متعلِّقة بفعلٍ مؤخَّر، تقديره: وليكونَ من الموقنين، أَرَيْنَاهُ، والمُوقُنِ: العالِمُ بالشيء علماً لا يمكنُ أنْ يطرأ له فيه شك، وروي عن ابنِ عبَّاس في تفسير: {وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} قال: جلى له الأمورَ سرَّها وعلانيتَها، فلم يَخْفَ عليه شيْءٌ من أعمال الخلائق، فلما جعل يلْعَنُ أصحابَ الذنوبِ، قال اللَّه له: إنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ هذا، فَرَدَّه لا يرى أعمالهم.

.تفسير الآيات (76- 79):

{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)}
وقوله سبحانه: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل رَءَا كَوْكَباً قَالَ هذا رَبِّي} الآية: جَنَّ اللَّيْلُ: ستَرَ وغطى بظلامه، ذهب ابن عباس وناسٌ كثيرون إلى أنَّ هذه القصة وقعَتْ في حال صباه وقبل البلوغ والتكليفِ، ويحتملُ أنْ تكون وقعتْ له بعد بلوغه وكونه مكلَّفاً، وحكى الطبريُّ هذا عَنْ فرقةٍ، وقالتْ: إنه استفهم قومَهُ؛ على جهة التوقيفِ والتوبيخِ، أي: هذا ربِّي، وحكي أن النمرودَ جَبَّارَ ذلك الزمان رأى له منجِّموه أنَّ مولوداً يُولَدُ في سَنَةِ كذا في عمله يكون خَرَابُ المُلْك على يديه، فجعل يَتَتَبَّعُ الحبالى، ويوكِّل بهن حُرَّاساً، فمن وضَعَتْ أنثى، تُركَتْ، ومَنْ وضعتْ ذكَراً، حمل إلى المَلِك فذَبَحه، وأن أمَّ إبراهيمَ حَمَلَتْ، وكانَتْ شابَّة قويةً، فسَتَرَتْ حملها، فلما قربت ولادتُها، بعثَتْ أبا إبراهيم إلى سَفَر، وتحيَّلت لمضيِّه إليه، ثم خرجَتْ هي إلى غارٍ، فولدَتْ فيه إبراهيم، وتركته في الغار، وكانَتْ تتفقَّده فوجدَتْه يتغذى بأنْ يمصَّ أصابعه، فيخرج له منها عسلٌ وسَمْنٌ ونحو هذا، وحُكِيَ: بل كان يغذِّيه مَلَكٌ، وحُكِيَ: بل كانَتْ أمه تأتيه بألبان النِّساء التي ذُبِحَ أبناؤهن، واللَّه أعلم، أيُّ ذلك كان، فشبَّ إبراهيم أضعافَ ما يشب غيره، والمَلِكُ في خلالِ ذلك يحسُّ بولادته، ويشدِّد في طلبه، فمكَثَ في الغار عَشَرَةَ أعوامٍ، وقيل: خمسَ عَشْرة سنةً، وأنه نظر أول ما عَقَل من الغارِ، فرأى الكواكِبَ، وجرَتْ قصة الآية، واللَّه أعلم.
فإن قلنا بأنه وقعَتْ له القصَّة في الغارِ في حال الصَّبْا، وعدمِ التكليفِ؛ على ما ذهب إليه بعض المفسِّرين، ويحتمله اللفظ، فذلك ينقسمُ على وجْهين: إما أنْ يجعل قوله: {هذا رَبِّي} تصميماً واعتقادا، وهذا باطلٌ؛ لأن التصميم على الكُفْر لم يقع من الأنبياء صلوات اللَّه عليهم، وإما أنْ نجعله تعريضاً للنظر والاستدلال؛ كأنه قال: أَهَذَا المُنِيرُ البهيُّ ربِّي؛ إنْ عَضَّدتَ ذلك الدلائلُ.
وإن قلنا: إن القصَّة وقَعَتْ له في حال كِبَرِهِ، وهو مكلَّف، فلا يجوز أنْ يقولَ هذا مصمِّماً ولا مُعَرِّضاً للنظر؛ لأنها رتبة جهلٍ أو شكٍّ، وهو عليه السلام منزَّه معصوم من ذلك كلِّه؛ فلم يبق إلاَّ أنْ يقولها على جهة التَّقْرير لقومه والتوبيخ لهم، وإقامةِ الحُجَّة عليهم في عبادة الأصنام؛ كأنه قال: أَهَذَا المُنِيرُ ربِّي، وهو يريد: على زعمكم؛ كما قال تعالى: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ} [النحل: 27]، أي: على زعمكم، ثم عَرَضَ إبراهيم عليهم مِنْ حَرَكَة الكوكب وأفولِهِ أَمارةَ الحدوث، وأنه لا يصلحُ أن يكون ربًّا، ثم في آخر أعظم منه وأحرى كذلك، ثم في الشَّمْس كذلك؛ فكأنه يقول: فإذا بان في هذه المُنِيرَاتِ الرفيعةِ؛ أنها لا تصلح للربوبيَّة، فأصنامكم التي هي خشبٌ وحجارةٌ أحرى أنْ يبين ذلك فيها؛ ويَعْضُدُ عندي هذا التأويلَ قولُهُ: {إِنّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ}، قلت: وإلى ترجيحِ هذا أشار عِيَاضٌ في الشفا؛ قال: وذهب معظمُ الحُذَّاق من العلماء والمفسرين إلى أن إبراهيم إنما قال ذلك مبكِّتاً لقومه، ومستدلاًّ عليهم.
قال * ع *: ومَثَّلَ لهم بهذه الأمور؛ لأنهم كانوا أصْحَابَ علْمِ نجومٍ ونظرٍ في الأفلاك، وهذا الأمر كلُّه إنما وقع في ليلةٍ واحدةٍ، رأى الكوكب، وهو الزُّهْرَةُ في قولِ قتادة، وقال السُّدِّيُّ: هو المشتري جانحاً إلى الغروب، فلما أَفَلَ بزغ القمر، وهو أول طلوعه، فَسَرَى الليل أجْمَعُ، فلما بزغَتِ الشمسُ، زال ضوء القمرِ قبلها؛ لانتشار الصباحِ، وخَفِيَ نوره، ودنا أيضاً مِنْ مغربه، فسمى ذلك أفولاً؛ لقربه من الأُفُولِ التامِّ؛ على تجوُّز في التسمية، وهذا الترتيبُ يستقيمُ في الليلة الخامسةَ عَشَرَ من الشَّهْر إلى ليلة عشْرين، وليس يترتَّب في ليلةٍ واحدة؛ كما أجمع أهل التفسير، إلاَّ في هذه الليالي، وبذلك يصحُّ التجوُّز في أفول القمر، وأَفَلَ؛ في كلام العرب: معناه: غاب، وقيل: معناه: ذَهَبَ، وهذا خلافٌ في العبارة فقَطْ، والبزوغُ في هذه الأنوارِ: أوَّلُ الطلوع، وما في كَوْنِ هذا الترتيب في ليلةٍ من التجوُّز في أفول القمر؛ لأنَّ أفوله لو قدَّرناه مَغِيبَهُ، لكان ذلك بَعْد بزوغ الشمسِ، وجميع ما قلناه يعطيه الاعتبار، و{يَهْدِنِي}: يرشدْنِي؛ وهذا اللفظ يؤيِّد قول من قال: إن القصة في حالِ الصِّغَر، والقومُ الضالُّون هنا عبدةُ المخلوقاتِ؛ كالأصنام وغيرها، ولما أفَلَتِ الشمسُ، لم يبقَ شيءٌ يمثِّل لهم به، فظهرَتْ حُجَّته، وقَوِيَ بذلك على منابذتهم والتبرِّي من إشراكهم، وقوله: {إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ}: يؤيِّد قول من قال: إن القصة في حال الكِبر والتكليفِ، و{وَجَّهْتُ وَجْهِيَ}، أي: أقبلْتُ بقَصْدي وعبادتِي وتوحيدِي وإيمانِي للذي فَطَر السمواتِ والأرْضَ، أي: اخترعها و{حَنِيفاً}: أي مستقيماً، والحَنَف: المَيْل؛ فكأنه مال عن كلِّ جهةٍ إلى القِوَامِ.