فصل: تفسير الآيات (71- 74):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (63- 66):

{تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)}
وقوله سبحانه: {تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ...} الآية: هذه آية ضرب مثل لهم بمَنْ سَلَف، في ضِمْنها وعيدٌ لهم، وتأنيسٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقوله: {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم}: يحتمل أنْ يريد ب {اليوم} يومَ الإِخبار، ويحتملُ أنْ يريد يَوْمَ القيامةِ، أي: وليهم في اليَوْمِ المشهورِ.
وقوله سبحانه: {إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ}: {لِتُبَيِّنَ}: في موضع المفعولِ من أجلِهِ، أي: إِلا لأجل البيانِ، و{الذي اختلفوا فِيهِ}: لَفْظٌ عامٌّ لأنواعِ كُفْر الكفرة، لكن الإِشارة هنا إِلى تشريكهم الأَصْنَامَ في الإلهية.
ثم أَخَذَ سبحانه يَنصُّ العِبَرَ المؤدِّية إِلى بيان وحدانيته، وعظيمِ قدرَتِهِ، فبدأ بنعمَةِ المَطَرَ التي هِيَ أَبينُ العبر، وهي مِلاَكُ الحياة، وهي في غاية الظهور، لا يخالف فيها عاقل.
وقوله: {مِّمَّا فِي بُطُونِهِ}: الضمير عائد على الجِنْس، وعلى المذكور، وهذا كثيرٌ.
وقوله سبحانه: {سَآئِغًا لِّلشَّارِبِينَ} السائغ: السَّهْلُ في الشرْبِ اللذيذُ.
* ت *: وعن ابن عبَّاس، قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَطْعَمَهُ اللَّهُ طَعَاماً، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ، وَأَطْعِمْنَا خَيْراً مِنْهُ، وَمَنْ سَقَاهُ اللَّهُ لَبَناً، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ، وزِدْنَا مِنْهُ»، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئ مَكَانَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ غَيْرُ اللَّبَنِ»، رواه أبو داود والترمذيُّ وابن ماجه، وقال الترمذيُّ، واللفظ له: هذا حديثٌ حسنٌ، انتهى من السلاح.

.تفسير الآيات (67- 70):

{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)}
وقوله سبحانه: {وَمِن ثمرات النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا...} الآية: السَّكَر: ما يُسْكِرُ؛ هذا هو المشهور في اللغة، قال ابن عباس: نزلَتْ هذه الآية قبل تحريمِ الخَمْرِ، وأراد ب السَّكَر: الخمرَ، وب الرِّزْق الحسن جميعَ ما يُشْرَبُ ويؤكل حلالاً من هَاتَيْنِ الشجرتَيْن، فالحَسَنُ؛ هنا: الحلال، وقال بهذا القولِ ابنُ جُبَيْر وجماعة وصحَّح ابنُ العربيِّ هذا القولِ، ولفظه: والصحيحُ أَنَّ ذلك كان قبل تحريمِ الخَمْرِ، فإِن هذه الآية مكِّيَّة باتفاق العلماء، وتحريمُ الخَمْر مدنيٌّ انتهى من أحكام القرآن، وقال مجاهد وغيره: السكر المائعُ من هاتَيْنِ الشجرتَيْنِ، كالخَلِّ، والرّبِّ، والنَّبِيذِ، والرزقُ الحَسَنُ: العنبُ والتمرُ.
قال الطبريُّ: والسّكَر أيضاً في كلام العرب ما يُطْعَم، ورجَّح الطبريُّ هذا القول، ولا مدخَلَ للخَمْر فيه، ولا نَسْخَ في الآية.
وقوله تعالى: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل...} الآية: الوحْيُ؛ في كلام العرب: إلقاء المعنى من المُوحى إلى الموحى إِليه في خفاءٍ، فمنه الوحْيُ إِلى الأنبياء برسالةِ المَلَكِ، ومنه وَحْيُ الرؤيا، ومنه وَحْيُ الإِلهام، وهو الذي في آيتنا؛ باتفاق من المتأوِّلينِ، والوحْيُ أيضاً بمعنى الأمر؛ كما قال تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5]، وقد جعل اللَّه بيوتَ النحل في هذه الثلاثة الأنواعِ: إمَّا في الجبالِ وكُوَاها، وإِما في متجوَّفِ الأشجار، وإِما فيما يَعْرِشُ ابنُ آدَمَ من الأَجْبَاحِ والحِيطان، ونحوها، وعَرَشَ: معناه: هيَّأ، وال {سُبُلَ} الطرقُ، وهي مسالكها في الطيران وغيره، و{ذُلُلاً}: يحتمل أن يكون حالاً من {النحل}، أي: مطيعةً منقادةً، قاله قتادة. قال ابن زَيْد: فهم يخرجون بالنحْل ينتجعون، وهي تتبعهم قرأ: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أنعاما...} [يس: 71] ويحتملُ أنْ يكون حالاً من السُّبُل، أي: مسَّهلةً مستقيمةً؛ قاله مجاهد، لا يتوعَّر عليها سبيلٌ تسلُكُه.
ثم ذكر تعالى؛ على جهة تعديد النعمة، والتنبيه على العِبْرة- أمْرَ العَسَل في قوله: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ}، وجمهور الناس على أنَّ العسل يخرُجْ من أفواهِ النَّحْلِ، واختلافُ الألوان في العسل بحسب آختلاف النَّحْلِ والمَرَاعِي، أيُّ والفصول.
* ت *: قال الهرويُّ: قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ}، وذلك أنه يستحيلُ في بطونها، ثم تمجُّه من أفواهها انتهى.
وقوله: {فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ} الضمير للعَسَل؛ قاله الجمهور: قال ابن العربيِّ في أحكامه؛ وقد روى الأئمة، واللفظُ للبخاريّ، عن عائشة، قالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الحْلَوَاءَ والعَسَل، وروى أبو سعيد الخُدْرِيُّ: «أنَّ رجلاً أتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّ أخِي يَشْتَكى بَطْنَهُ فَقَالَ: اسقه عَسَلاً، ثم أتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: اسقه عَسَلاً، ثُمَّ أتاه فَقَالَ: فَعَلْتُ فَمَا زَادَهُ ذَلِكَ إِلاَّ استطلاقا، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: صَدَق اللَّهُ وكَذَبَ بَطْنُ أخِيكَ، اسقه عَسَلاً فسَقَاهُ، فَبَرأ»
، وروي أنَّ عوف بنَ مالك الأشْجَعِيَّ مَرِضَ، فقيل له: ألا نُعَالِجُكَ؟ فَقَالَ: ائتوني بمَاءِ سَمَاءٍ، فإِنَّ اللَّهَ تعالى يقُولُ: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السماء مَاءً مباركا} [ق: 9] وائتوني بعَسَلٍ؛ فإن اللَّه تعالى يقول: {فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ} وائتوني بزيت؛ فإن اللَّه تعالى يقولُ: {مِن شَجَرَةٍ مباركة} [النور: 35] فجاءوه بذلك كلِّه فخَلَطَهُ جميعاً، ثم شَرِبَهُ، فَبّرأَ انتهى.
وقوله سبحانه: {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر}، وأرذلُ العَمَر الذي تَفْسُدُ فيه الحواسُّ، ويختلُّ العَقْل، وخص ذلك بالرذيَلةِ، وإن كانَتْ حالة الطُّفُولة كذَلِكَ مِنْ حيثُ كانَتْ هذه لا رَجَاءَ معها، وقال بعضُ الناس: أول أرذَلِ العُمُرِ خَمْسٌ وسَبْعُونَ سنةً، روي ذلك عن علي رضي الله عنه.
قال * ع *: وهذا في الأغْلَبِ، وهذا لا ينحصرُ إِلى مدَّة معيَّنة، وإِنما هو بحَسَبِ إِنسانٍ إِنسانٍ، ورُبَّ مَنْ يكون ابْنَ خمسينَ سنَةً، وهو في أرذلِ عمره، وربَّ ابن تسعينَ ليس في أرذَلِ عمره، واللامُ في {لِكَيْ} يشبه أنْ تكون لامَ الصيرورةِ، والمعنى: ليصير أمره بعْدَ العِلْم بالأشياء إلى ألاَّ يعلم شيئاً، وهذه عبارة عن قلَّة علمه، لا أنه لا يعلم شيئاً البتَّة.

.تفسير الآيات (71- 74):

{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)}
وقوله سبحانه: {والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق} إِخبار يُرَادُ به العِبْرة وإِنما هي قاعدةٌ بني المثل عليها، والمَثَل هو أن المفضَّلين لا يصحُّ منهم أن يساهموا مماليكهم فيما أُعْطُوا؛ حتى تستوي أحوالُهم، فإِذا كان هذا في البَشَر، فكيف تنسبون أيها الكَفَرةُ إلى اللَّه؛ أنَّه يسمح بأنْ يشرك في الألوهيَّة الأوثانَ والأصْنَامَ وغيرها ممَّا عُبدَ مِنْ دونه، وهم خَلْقُه ومِلْكُه، هذا تأويلُ الطبريِّ، وحكاه عن ابن عباس قال المفسِّرون: هذه الآية كقوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُم هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أيمانكم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رزقناكم فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ...} الآية [الروم: 28] ثم وقفهم سبحانه على جَحْدهم بنعمته في تنبيهه لهم على مِثْلِ هذا مِنْ مواضِع النظرِ المؤدِّية إلى الإِيمان.
وقوله سبحانهُ: {والله جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} هذه أيضاً آيةُ تعديدِ نِعَم، والأزواجُ؛ هنا: الزوجاتُ، وقوله: {مِّنْ أَنفُسِكُمْ}: يحتملُ أن يريد خِلْقَةَ حوَّاء من نَفْس آدم، وهذا قول قتادة والأَظهَرُ عندي أنْ يريد بقوله {مِّنْ أَنفُسِكُمْ}، أي: مِنْ نوعكم كقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] وال {حَفَدَةً}: قال ابن عباس: هم أولاد البنين وقال الحسن: هم بَنُوكَ وبَنُوَ بَنِيكَ، وقال مجاهد: ال {حَفَدَةً} الأنصار والأَعْوان وقيل غير هذا، ولا خلاف أنَّ معنى الحفْدَ الخِدْمَةِ والبِرُّ والمشْيُ مسرعاً في الطاعة؛ ومنه في القنوت: وإِلَيْكَ نَسْعَى ونحْفِدُ، والحَفَدَانُ أيضاً: خَبَبٌ فوق المَشْي.
وقوله سبحانه: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال...} الآية: أي: لا تمثّلوا للَّه الأمثَال، وهو مأخوذٌ من قولك: هذا ضَرِيبُ هَذَا، أي: مثيله، والضَّرْب: النَّوْع.

.تفسير الآيات (75- 78):

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)}
وقوله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا} الآية: الذي هو مثالٌ في هذه الآية هو عَبْدٌ بهذه الصفةِ، مملوكٌ لا يَقْدِرُ على شيء من المال، ولا أمْر نفسه، وإنما هو مُسَخَّرٌ بإرادة سَيِّده، مَدَبَّرٌ، وبإزاء العبْدِ في المثالِ رجُلٌ موسَّعٌ عليه في المال، فهو يتصرَّف فيه بإِرادته، واختلف النَّاس في الذي له المَثَلُ، فقال ابن عباس وقتادة: هو مَثَلُ الكافر والمؤمِنِ، وقال مجاهد والضَّحَّاك: هذا المِثَال والمِثَالُ الآخر الذي بَعْدَه، إِنما هو مثَالٌ للَّهِ تعالى، والأصنامِ، فتلك كالعَبْدِ المملوكِ الذي لا يَقْدِرُ على شيء، واللَّه تعالى تتصرَّف قدرته دون معقب، وكذلك فَسَّر الزَّجَّاج على نحو قول مجاهد، وهذا التأويلُ أصوبُ؛ لأن الآية تكُونُ من معنى ما قَبْلَها، ومدارُها في تبْيِيِن أمْر اللَّه والردِّ على أمْر الأصنام.
وقوله: {الحمد لِلَّهِ} أي: على ظهور الحجَّة.
وقوله سبحانه: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ...} الآية: هذا مثَلٌ للَّه عزَّ وجلَّ والأصنامِ، فهي كالأبكم الذي لا نُطْقَ له ولا يَقْدِرُ على شيء، والكَلُّ الثقيل المؤُونة، كما الأصنامُ تحتاجُ إِلى أنْ تُنْقَلَ وتَخْدَمَ ويتعذَّب بها، ثم لا يأتي مِنْ جهتها خَيْرٌ أبداً، والذي يأمر بالعدلِ هو اللَّه تعالى.
وقوله تعالى: {وَمَآ أَمْرُ الساعة...} الآية: المعنى، على ما قاله قتادة وغيره: ما تكونُ الساعةُ وإقامتها في قُدْرة اللَّه تعالى إِلا أنْ يقول لها: كُنْ، فلو آتَّفَقَ أنْ يقف على ذلك محصِّلٌ من البشر، لكانَتْ من السرعة بحَيْث يشكُّ، هل هي كَلَمْحِ البَصرِ أو هي أقْرَبُ، ولمح البصر هو وقوعه على المرئيِّ.

.تفسير الآيات (79- 83):

{أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)}
وقوله سبحانه: {أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مسخرات في جَوِّ السمآء...} الاية: الجوُّ مسافةُ ما بين السماءِ والأرض، وقيل: هو ما يلي الأرض منها، والآيةُ عِبْرةٌ بيِّنة المعنى تفسيرها تكلف مَحْتَ، و{يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} معناه رَحِيلكم، والأصواف: للضأنِ والأوبار: للإِبل، والأشعار: للمعز، ولم تكُنْ بلادهم بلادَ قُطْن وَكَّتانٍ، فلذلك اقتصَرَ على هذه، ويحتملُ أنَّ تَرْكَ ذكْر القُطْن والكَتَّانِ والحرير إعراضٌ عن السَّرَف، إذ ملْبَسُ عبادِ اللَّهِ الصالحينَ إِنما هو الصُّوف، قال ابن العربيِّ في أحكامه عند قوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} [النحل: 5]: في هذه الآية دليلٌ على لبَاسِ الصُّوفِ، فهو أوَّل ذلك وأولاه، لأنه شِعارُ المتقين، ولباسُ الصالحين، وشَارَةُ الصَّحابة والتابعين، واختيار الزُّهَّاد والعارفين، وإِليه نُسِبَ جماعةٌ من النَّاس الصُّوفِيَّةُ؛ لأنه لباسُهم في الغالِبَ انتهى.
والأثاث متاعُ البَيْت، واحِدُها أَثَاثَة؛ هذا قول أبي زَيْد الأنْصَارِيِّ وقال غيره: الأثَاثُ: جميع أنواعِ المالِ، ولا واحدَ له من لفظه.
قال * ع *: والاشتقاق يقوي هذا المعنى الأعمَّ؛ لأنَّ حالَ الإِنسان تَكُونُ بالمال أثِيثَةً؛ كما تقول: شَعْرٌ أثِيثٌ، ونَبَاتٌ أَثِيثٌ، إذَا كَثُر والتف، ال {سَرَابِيلَ}: جميعُ ما يُلْبَسُ عَلَى جميع البدنِ، وذكر وقاية الحَرِّ، إِذ هو أمسُّ بتلك البلادِ، والبَرْدُ فيها معدومٌ في الأكثر، وأيضاً: فذكر أحدهما يدلُّ على الآخر، وعن عمر رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقوُلُ: «مَنْ لَبِسَ ثَوباً جَدِيداً، فَقَالَ: الحَمْدُ للَّهِ الَّذِي كَسَانِي مَا أُوارِي به عَوْرَتي وأَتَجَمَّلُ بِهِ في حَيَاتي، ثُمَّ عَمَدَ إلى الثَّوْب الَّذِي خَلَقَ، فَتَصَدَّقَ به- كَانَ في كَنَفِ اللَّهِ، وفي حفْظِ اللَّه، وفي سَتْر اللَّهِ حَيًّا ومَيِّتاً» رواه الترمذيُّ، واللفظُ له، وابنُ ماجه، والحاكمُ في المستدرك، وعن عائشة قالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا اشْتَرى عَبْدٌ ثَوباً بِدِينَارٍ أوْ نِصْفِ دِينَار، فحمِدَ اللَّهَ عَلَيْهِ إِلاَّ لَمْ يَبْلُغْ رُكْبَتَيْهِ حَتَّى يغِفْرَ اللَّهُ لَهُ» رواه الحاكمُ في المستدرك وقال: هذا الحديث لا أَعلم في إِسناده أحداً ذكر بجرح. انتهى من السلاح. والسرابيل التي تقي البأس: هي الدروعُ ونحوها، ومنه قولُ كَعْبِ بنِ زهيرٍ في المهاجِرِينَ: [البسيط]
شُمُّ العَرَانِينِ أَبْطَالٌ لبُوسُهُمُ ** مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ في الهَيْجَا سَرَابِيلُ

والبأس: مسُّ الحديدِ في الحَرْب، وقرأ الجمهور {تُسْلِمُونَ} وقرأ ابن عباس: {تَسْلَمُونَ}؛ من السَّلاَمة، فتكون اللفظة مخصوصةً في بأْس الحرْب.

.تفسير الآيات (84- 88):

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)}
وقوله سبحانه: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} أي: شاهداً على كُفْرهم وإيمانهم، {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ}، أي: لا يُؤْذِن لهم في المعذرة، وهذا في موطن دون موطِن، و{يُسْتَعْتَبُونَ} بمعنى: يُعْتِبُونَ؛ تقول: أَعْتَبْتُ الرَّجُلَ، إِذَا كَفَيْتَهُ ما عُتِبَ فيه؛ كما تقول: أشْكَيْتُهُ؛ إِذا كَفَيْتَهُ ما شكا.
وقال قومٌ: معناه: لا يُسْألونَ أنْ يرجعوا عمَّا كانوا عَلْيه في الدنيا.
وقال الطبريُّ: معنى {يُسْتَعْتَبُونَ} يُعْطَوْن الرجوعَ إلى الدنيا فتقع منهم توبةٌ وعمَلٌ.
* ت *: وهذا هو الراجحُ، وهو الذي تدلُّ عليه الأحاديثُ، وظواهر الآياتِ في غيرِ ما موضع.
وقوله سبحانه: {وَإِذَا رَءَا الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ} أي: إِذا رأَوْهم بأبصارِهِمْ {قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا...} الآية، كأنهم أرادوا بهذه المقالة تذنيبَ المَعْبُودين، وقوله سبحانه: {فَألْقَوْاْ إِلَيْهِمُ القول...} الآية: الضميرُ في {أَلْقَوْاْ} للمعبودينَ؛ أنطقهم اللَّه بتكذيب المُشْركين، وقد قال سبحانه في آية أخرى: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} [يونس: 28] انظر تفسيرها في سورة يونس وغيرها.
وقوله: {وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم} الضمير في {أَلْقَوْاْ} هنا عائدٌ على المشركين، و{السلم} الاستسلام.
وقوله تعالى: {زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب...} الآية: رُوِيَ في ذلك عن ابن مسعود، أنَّ اللَّه سبحانَهُ يسلِّط عليهم عَقَارِبَ وحَيَّاتٍ، لها أنيابٌ، كالنَّخْلِ الطِّوال، وقال عَبْيدُ بنُ عُمَيْرٍ: حَيَّات لها أنيابٌ كالنخْلِ ونحو هذا، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن لجهنَّمَ سواحِلَ، فيها هذه الحياتُ وهذه العقاربُ، فيفر الكافرون إلى السَّواحلِ، فتلقاهم هذه الحيَّاتُ والعقاربُ فيفرُّونَ منها إِلى النار، فتَتْبَعهم حَتَّى تجد حَرَّ النار، فتَرْجِع. قال: وهي في أسْرَابٍ.