فصل: تفسير الآيات (91- 92):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (80- 82):

{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)}
وقوله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونّي فِي الله}، أي: أتراجعوني في الحجَّة في توحيد اللَّه، {وَقَدْ هدان}، أي: قد أرشدني إلى معرفتِهِ وتوحيده، {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ}، الضميرُ في {بِهِ} يعودُ على {الله} والمعنى: ولا أخافُ الأصنامُ التي تشركونَهَا باللَّه في الربوبيَّة، ويحتمل أنْ يعود على ما، والتقديرُ: ما تشركون بسَبَبِهِ، وقوله: {إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً}: استثناءٌ ليس من الأوَّل، و{شَيْئاً}: منصوبٌ ب {يَشَاء}، ولما كانتْ قوة الكلامِ أنه لا يخَافُ ضرراً، استثنى مشيئةَ ربِّه تعالى في أنْ يريده بضُرٍّ، و{عِلْماً}: نصبٌ على التمييز، وهو مصدرٌ بمعنى الفاعل؛ كما تقول العرب: تَصَبَّبَ زَيْدٌ عَرَقاً، المعنى: تصبَّبَ عَرَقُ زَيْدٍ؛ فكذلك المعنى هنا وِسَعِ علْمُ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ، {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ}: توقيفٌ وتنبيه وإظهار لموضعِ التقصيرِ منهم، وقوله: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ...} الآيةَ إلى {تَعْلَمُونَ}، هي كلُّها من قول إبراهيم عليه السلام لقومه، وهي حجته القاطعة لهم، والمعنى: وكيف أخاف أصناماً لا خَطْب لها، إذ نبذتُها، ولا تخافُونَ أنتم اللَّهَ عزَّ وجلَّ، وقد أشركتم به في الربوبيَّة {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سلطانا} والسلطانُ: الحُجَّة، ثم استفهم؛ على جهة التقرير: {فَأَيُّ الفريقين}، مني ومنكم {أَحَقُّ بالأمن}، قال أبو حَيَّان: {وَكَيْفَ}: استفهام، معناه التعجُّب والإنكار. انتهى.
وقوله سبحانه: {الذين ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ...} الآية، قال ابنُ إسحاق، وابنُ زيدٍ، وغيرهما: هذا قولٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجلَّ ابتداء حُكْمٍ فَصْلٍ عامٍّ لِوَقْتِ مُحاجَّة إبراهيم وغيره، ولكلِّ مؤمن تقدَّم أو تأَخَّر.
قال * ع *: هذا هو البيِّن الفصيحُ الذي يرتبطُ به معنى الآية، ويحسُنُ رصْفها، وهو خبرٌ من اللَّه عزَّ وجلَّ، و{يَلْبِسُواْ}: معناه: يَخْلِطُوا، والظُّلْم؛ في هذا الموضع: الشِّرْك؛ تظاهرت بذلك الأحاديثُ الصحيحةُ، وفي قراءة مجاهدٍ: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِشِرْكٍ} {وَهُمْ مُّهْتَدُونَ}، أي: راشدون.

.تفسير الآيات (83- 86):

{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)}
وقوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتيناها إبراهيم على قَوْمِهِ}: {تلك}: إشارةٌ إلى هذه الحجَّة المتقدِّمة.
وقوله سبحانه: {نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاءُ}، الدرجات: أصلها في الأجسام، ثم تستعملُ في المراتِبِ والمنازل المعنويَّة.
وقوله سبحانه: {وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ...} الآية: {وَوَهَبْنَا}: عطْفٌ على آتينا وإسحاق ابنُهُ من سارَّة، ويعقوبُ هو ابْنُ إسحاقَ، وقوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ}: المعنى: وهَدَيْنَا من ذرِّيته، والضمير في {ذُرِّيَّتِهِ}، قال الزَّجَّاج: جائزٌ أنْ يعود على إبراهيم، ويعترض هذا بذكْرِ لوطٍ عليه السلام؛ إذ ليس هو مِنْ ذرِّيَّة إبراهيم، بل هو ابْنُ أخيه، وقيلَ: ابنُ أختِهِ، ويتخرَّج ذلك عند مَنْ يرى الخالَ أباً، وقيل: يعود الضميرُ على نُوحٍ، وهذا هو الجيِّد، ونصْبُ {دَاوُودَ}: يحتملُ أنْ يكون ب {وَهَبْنَا}، ويحتمل أنْ يكون ب {هَدَيْنَا}، {وكذلك نَجْزِي المحسنين}: وعدٌ من اللَّه عزَّ وجلَّ لمن أحْسَنَ في عبادته، وترغيبٌ في الإحسان، وفي هذه الآية أنَّ عيسى عليه السلام مِنْ ذرِّية نوحٍ أو إبراهيم؛ بحَسَب الاختلاف في عَوْد الضمير من {ذُرِّيَّتِهِ}، وهو ابنُ ابنة؛ وبهذا يستدلُّ في الأحباس على أنَّ ولد البنْتِ من الذِّرِّيَّة، ويُونُسُ هو ابن متى، {وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العالمين}: معناه: عالَمِي زَمَانِهِمْ.

.تفسير الآيات (87- 90):

{وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)}
وقوله سبحانه: {وَمِنْ ءَابَآئِهِمْ وذرياتهم}: المعنى: وهدَيْنا من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم جماعاتٍ، ف {مِنْ} للتبعيض، والمراد: مَنْ آمن منهم، نبيًّا كان أو غير نبيٍّ، و{اجتبيناهم}، أي: تخيَّرناهم وهَدَيْنَاهم، أيْ: أرشدْناهم إلى الإيمان، والفوز برضا اللَّه عزَّ وجلَّ، والذرية: الأبناءُ، ويطلَقُ على جميعِ البَشَر ذرِّيَّة؛ لأنهم أبناء.
وقوله تعالى: {ذلك هُدَى الله...} الآية: {ذلك}: إشارة إلى النعمة في قوله: {واجتبيناهم} و{أولئك}: إشارة إلى مَنْ تقدَّم ذكره، والكتابُ يراد به الصُّحُفُ والتوراةُ والإنجيل والزَّبُور.
وقوله سبحانه: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلآءِ}: إشارة إلى كُفَّار قريشٍ، وإلى كلِّ كافر في ذلك العَصْر؛ قاله ابن عباس وغيره، وقوله: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين}: هم مؤمنو أهْل المدينة؛ قاله ابن عباس وغيره، والآية على هذا التأويلِ، وإن كان القصْدُ بنزولها هذَيْن الصِّنْفَيْن، فهي تعم الكَفَرة والمؤمنين إلى يوم القيامة، وقال الحسن وغيره: المراد ب القَوْم: مَنْ تَقَدَّم ذكْره من الأنبياء والمؤمنين، وقال أبو رجاء: المرادُ: الملائكةُ.
قلتُ: ويحتمل أنْ يكون المراد الجميعَ.
وقوله سبحانه: {أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده}، والظاهر في الإشارة ب {أولئك} إلى المذكورين قبلُ من الأنبياء ومَنْ معهم من المؤمنين المهدِّيين، ومعنى الاقتداء: اتباع الأثر في القول والفعل والسِّيرة، وإنما يصحُّ اقتداؤه صلى الله عليه وسلم بجميعهم في العقودِ، والإيمان، والتوحيدِ الذي ليْسَ بينهم فيه اختلاف، وأما أعمالُ الشرائع فمختلفةٌ، وقد قال عزَّ وجلَّ: {لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا} [المائدة: 48]، واعلم أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم هو وغيره مخاطَبٌ بشَرْع مَنْ قبله في العقود والإيمانِ والتوحيدِ؛ لأنا نجد شرعنا ينبئ أنَّ الكفار الذين كانوا قبل النبيِّ صلى الله عليه وسلم كَأَبَوَيْهِ وغيرهما في النَّار، ولا يُدْخِلُ اللَّهُ تعالى أحداً النار إلا بتَرْك ما كُلِّفَ، وذلك في قوله سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، وغير ذلك، وقاعدةُ المتكلِّمين: أن العقل لا يوجِبُ ولا يكلِّف، وإنما يوجب الشرْعُ، فالوجه في هذا أنْ يقال: إنَّ آدم عليه السلام فَمَنْ بعده، دعا إلى توحيد اللَّه عز وجل دعاءً عامًّا، واستمر ذلك على العالَمِ، فواجبٌ على الآدميِّ أنْ يبحث عن الشرْعِ الآمِرِ بتوحيدِ اللَّهِ تعالى، وينظر في الأَدلَّة المنصوبة على ذلك؛ بحسب إيجاب الشرعِ النَّظَرَ فيها، ويؤمنَ، ولا يَعْبُدَ غير اللَّه، فمَنْ فَرَضْناه لم يجدْ سبيلاً إلى العلْمِ بشرعٍ آمِرٍ بتوحيد اللَّهِ، وهو مع ذلك لم يَكْفُرْ، ولا عَبَدَ صنماً، بل تخلى، فأولئك أَهْلُ الفَتراتِ الذين أَطْلَقَ عليهم أهل العلْمِ أنهم في الجَنَّة، وهم بمنزلةِ الأطفالِ والمجانينِ، ومَنْ قَصَّرَ في النظر والبَحْث، فعبد صنماً أو غيره، وكَفَرَ، فهو تاركٌ للواجب عليه، مستوجِبٌ للعقاب بالنَّار، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ مبعثِهِ ومَنْ كان معه مِنَ النَّاس وقَبْلَه مخاطَبُونَ على أَلْسِنَةِ الأنبياء قَبْلُ بالتوحيد، وغيرُ مخاطبين بفُرُوعِ شرائعهم؛ إذ هي مختلفةٌ، وإذ لم يدعهم إليها نبيٌّ؛ قال الفَخْر: واحتجَّ العلماءُ بهذه الآية على أن محمداً صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ من جميع الأنبياءِ عليهم السلام؛ وتقريره: أنا بيَّنَّا أنَّ خصال الكمالِ وصفاتِ الشَّرَفِ كانَتْ مفرَّقة فيهم، ثم إنه تعالى، لمَّا ذكر الكل، أمر محمداً صلى الله عليه وسلم أنْ يجمع من خصال الطاعة والعبوديَّة والأخلاقِ الحميدة كُلَّ الصفاتِ التي كانَتْ مفرَّقة فيهم بأجمعهم، ولمَّا أمره اللَّه تعالى بذلك، امتنع أنْ يقال: إنه قصَّر في تحصيلها؛ فثبت أنه حَصَّلها، ومتى كان الأمر كذلك، ثبت أنه اجتمع فيه مِنْ خصال الخَيْر ما كان فيهم مفرَّقاً بأسرهم، ومتى كان الأمر كذلك، وجب أنْ يقال: إنه أفضلهم بكلِّيَّتهم؛ واللَّه أعلم.
انتهى.
وقرأ حمزة والكسائيُّ: {فَبِهُدَاهُمُ اقتد} بحذف الهاءِ في الوَصْل، وإثباتها في الوَقْف، وهذا هو القياسُ شبيهة بألفِ الوَصْل في أنها تُقْطَعُ في الابتداء، وتَسْقُط في الوَصْل.
وقوله سبحانه: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً}، أي: قل لهؤلاء الكفرة المعاندين: لا أسألكم على دعائي إياكم بالقُرآن إلى عبادة اللَّه تعالى أُجْرَةً؛ إن هو إلا موعظةٌ وذكرى ودعاءٌ لجميع العالمين.

.تفسير الآيات (91- 92):

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)}
وقوله سبحانه: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ...} الآية: قال ابنُ عبَّاس: هذه الآيةُ نزلَتْ في بني إسرائيل، قال النَّقَّاش: وهي آية مدنية، وقيل: المراد رجُلٌ مخصوص منهم، يقال له مالكُ بْنُ الضيْفِ؛ قاله ابن جُبَيْر، وقيل: فنْحَاص؛ قاله السُّدِّيُّ، و{قَدَرُواْ}: هو من توفيَةِ القَدْرِ والمنزلةِ، وتعليلُه بقولهم: {مَا أَنزَلَ الله}: يقضي بأنهم جَهِلُوا، ولم يعرفوا اللَّه حقَّ معرفتِهِ؛ إذ أحالوا عليه بعثةَ الرُّسُل، قال الفَخْر: قال ابن عباس: {مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ}، أيْ: ما عظَّموا اللَّه حقَّ تعظيمه، وقال الأخفشُ: ما عَرَفُوه حقَّ معرفته، وقال أبو العالية: ما وصفوه حقَّ قُدْرته وعَظَمته، وهذه المعانِي كلُّها صحيحةٌ. انتهى، وروي أنَّ مالك بن الصَّيْفِ كان سَمِيناً، فجاء يخاصم النبيَّ صلى الله عليه وسلم بزعمه، فقال له رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «أَنْشُدُكَ اللَّه، أَلَسْتَ تَقْرَأُ فِيمَا أُنْزِلَ على موسى: إنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الْحِبْرَ السَّمِينَ»، فَغَضِبَ، وقال: واللَّهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، قال الفَخْر: وهذه الآية تدلُّ على أن النكرة في سياقِ النفْي تعمُّ، ولو لم تفد العمومَ، لما كان قوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَاء بِهِ موسى نُوراً} إبطالاً لقولهم ونقْضاً عليهم. انتهى.
وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب}، يعني: التوراةَ، و{قراطيس}: جمع قِرْطَاس، أي: بطائق وأوراقاً، وتوبيخهم بالإبداء والإِخفاء هو على إخفائهم أمر محمَّد صلى الله عليه وسلم وجَميعَ ما عليهم فيه حُجَّة.
وقوله سبحانه: {وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَاؤُكُمْ}، يحتمل وجهين:
أحدهما: أنْ يقصد به الامتنانَ عليهم، وعلى آبائهم.
والوجه الثاني: أنْ يكون المقصود ذمَّهم، أي: وعلِّمتم أنتم وآباؤكم ما لم تعلموه، فما انتفعتم به؛ لإعراضكم وضلالكم.
ثم أمره سبحانه بالمبادرة إلى موضع الحُجَّة، أي: قل اللَّه هو الذي أنْزَلَ الكتابَ على موسى، ثم أمره سبحانَهُ بتَرْك مَنْ كَفَر، وأعرض، وهذه آية منسوخةٌ بآية القتالِ؛ إن تُؤُوِّلَتْ موادعةً، ويحتمل ألاَّ يدخلها نسْخٌ إذا جُعِلَتْ تتضمَّن تهديداً ووعيداً مجرَّداً من موادعة.
وقوله سبحانه: {وهذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ}: {هذا}: إشارة إلى القرآن، وقوله: {مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ}، يعني: التوراةَ والإنجيل؛ لأن ما تقدَّم، فهو بيْنَ يدَيْ ما تأَخَّر، و{أُمَّ القرى}: مكَّة، ثم ابتدأ تباركَ وتعالى بمَدْحِ قومٍ وصفهم، وأخبر عنهم؛ أنهم يؤمنون بالآخرةِ والبَعْثِ والنشورِ، ويؤمنون بالقُرآن، ويصدِّقون بحقيقتِهِ، ثم قوى عزَّ وجلَّ مدحهم بأنهم يحافظون على صَلاَتهم التي هي قاعدةُ العباداتِ، وأمُّ الطاعاتِ، وإذا انضافت الصلاةُ إلى ضميرٍ، لم تكتب إلا بالألِفِ، ولا تكتبُ في المُصْحَف بواوٍ إلا إذا لم تُضَفْ إلى ضمير.
وقد جاءت آثار صحيحةٌ في ثواب مَنْ حافظ على صلاته، وفي فَضْل المشْيِ إليها؛ ففي سنن أبي داود، عن بُرَيْدة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «بِشِّرِ المَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إلَى المَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ القِيَامَةِ»، وروى أبو داود أيضاً بسنده، عن سعيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، قال: حضر رجلاً من الأنصار المَوْتُ، فقال: إني محدِّثكم حديثاً ما أحدثكموه إلا احتسابا، سمعتُ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الصَّلاَةِ، لَمْ يَرْفَعْ قَدَمَهُ اليمنى إلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ حَسَنَةً، وَلَمْ يَضَعْ قَدَمَهُ اليسرى إلاَّ حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ سَيِّئَةً، فَلْيَقْرُبْ أَوْ لِيُبْعِدْ، فَإنْ أَتَى المَسْجِدِ، فصلى فِي جَمَاعَةٍ، غُفِرَ لَهُ، فَإنْ أَتَى المَسْجِدَ، وَقَدْ صَلَّوْا بَعْضاً، وَبَقِيَ بَعْضٌ، صلى مَا أَدْرَكَ وَأَتَمَّ مَا بَقِيَ كَانَ كَذَلِكَ فَإنْ أَتَى المَسْجِدَ، وَقَدْ صَلَّوْا، فَأَتَمَّ الصَّلاَةَ، كَانَ كَذَلِكَ»، وأخرج أبو داود، عن أبي هريرة، قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ رَاحَ فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا، أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ صَلاَّهَا أَوْ حَضَرَهَا، لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ» انتهى.

.تفسير الآية رقم (93):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)}
وقوله سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ الله}، هذه ألفاظٌ عامَّة، فكل مَنْ واقَعَ شيئاً مما يدخُلُ تحت هذه الألفاظ، فهو داخلٌ في الظُّلْم الذي قد عَظَّمه اللَّه تعالى، وقال قتادةُ وغيره: المرادُ بهذه الآياتِ مُسَيْلِمَةُ، والأسودُ العَنْسِيُّ.
قال عكرمة: أوَّلها في مُسَيْلِمَة، والآخر في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وقيل: نزلَتْ في النَّضْرِ بنِ الحارِثِ، وبالجملة فالآيةُ تتناولُ مَنْ تعرَّض شيئاً من معانيها إلى يوم القيامةِ؛ كَطُلَيْحَةَ الأَسَدِيِّ، والمُخْتَارِ بنِ أبِي عُبَيْدٍ وسواهما.
وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت...} الآية: جوابُ {لو} محذوفٌ، تقديره: لَرَأَيْتَ عَجَباً أو هَوْلاً، ونحْوُ هذا، وحَدْفُ هذا الجواب أبلغُ في نفس السامعِ، و{الظالمون} لفظٌ عامٌّ في أنواعِ الظلمِ الذي هو كُفْر، والغَمَرَاتُ: جمع غَمْرةٍ، وهي المُصِيبة المُذْهِلة، وهي مشبَّهة بغمرة الماء، والملائكة، يريد: ملائكةَ قَبْضِ الرُّوحِ، و{بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ}: كنايةٌ عن مدِّها بالمكروهِ، وهذا المكروهُ هو لا مَحَالة أوائلُ العذابِ، وأماراته، قال ابنُ عبَّاس: يَضْرِبُون وجوههم وأدبارهم، وقوله: {أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ}: حكايةٌ لما تقولُه الملائكة، والتقدير: يقولون لهم: أخرجوا أنْفُسَكم، وذلك على جهةِ الإهانة، وإدْخَال الرعْبِ عليهم، ويحتملُ: أخرجوا أنفسكُمْ مِنْ هذه المصائبِ والمحنِ، إنْ كان ما زعمتموه حقًّا في الدنيا، وفي ذلك توبيخٌ وتوقيفٌ على سالف فعلهم القبيحِ، قلت: والتأويل الأولُ هو الصحيحُ، وقد أسند أبو عمر في التمهيد، عن ابن وَضَّاحٍ، قال: حدَّثنا أبو بكرِ بْنُ أبي شَيْبة، ثم ذَكَر سنده، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «المَيِّتُ تَحْضُرُهُ المَلاَئِكَةُ، فَإذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، قَالَتِ: اخرجي، أيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةِ كَانَتْ فِي الجَسَدِ الطَّيِّبِ، اخرجي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانٍ، قَالَ: فَلاَ تَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ، ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إلَى السَّمَاءِ، فَيُفْتَحُ لَهَا، فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيَقُولُون: فُلاَنٌ، فَيُقَالُ: مَرْحَباً بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ، كَانَتْ فِي الجَسَدِ الطَّيِّبِ، ادخلي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ.، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَان، فَلاَ تَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حتى يَنْتَهِيَ بِهَا إلَى السَّمَاءِ، يَعْنِي: السَّابِعَةَ، وَإذَا كَانَ الرُّجُلُ السُّوءُ، وَحَضَرَتْهُ المَلاَئِكَةُ عِنْدَ مَوْتِهِ، قالَتِ: اخرجي، أيَّتُهَا النَّفْسُ الخَبِيثَةُ، كَانَتْ فِي الجَسَدِ الخَبِيثِ، اخرجي ذَمِيمَةً، وَأَبْشِرِي بِحَمِيمٍ وَغَسَّاقٍ، وآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٍ، فَلاَ تَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حتى تَخْرُجَ...» وذكر الحديثَ. انتهى، و{الهون}: الهَوَان.
وقوله تعالى: {بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق...} الآية: لفظ عامٌّ لأنواع الكفر، ولكنه يظهر منه الإنحاءُ على مَنْ قَرُب ذِكْرُه.