فصل: تفسير الآية رقم (60):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآية رقم (60):

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)}
وقوله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ موسى لفتاه لا أَبْرَحُ...} الآية: {موسى} هو ابنُ عمرانَ، وفتاة هو يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وفي الحديث الصحيح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أن موسى عليه السلام جَلَسَ يَوْماً في مَجْلِسٍ لَبني إِسْرَائيلَ، وخَطَبَ، فأَبْلَغَ، فَقِيلَ لَهُ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَداً أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ: لاَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، دُلَّنِي عَلَى السَّبِيلِ إِلى لقيه، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يَسِيرَ بطُوِلِ سَيْفِ البَحْرِ، حَتَّى يَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ، فَإِذَا فَقَدَ الحُوتَ، فإِنَّهُ هُنَالِكَ، وأُمِرَ أَنْ يَتَزَوَّدَ حُوتاً، وَيَرْتَقِبَ زَوَالَهُ عَنْهُ، فَفَعَلَ مُوسى ذَلِكَ، وَقَالَ لِفَتَاهُ على جِهَةِ إِمْضَاءِ العَزِيمَةِ: لاَ أَبْرَحُ أَسِيرُ، أي: لاَ أَزَالُ، وإِنما قال هذه المقالَةَ، وهو سائرٌ، قال السُّهَيْليُّ: كان موسى عليه السلام أعلَمَ بعلْمِ الظاهر، وكان الخَضِرُ أعلم بعلْم الباطنِ، وأسرارِ المَلَكُوتِ، فكانا بَحْرَيْن اجتمعا بمجْمَعِ البَحْرَيْن، والخضرُ شَرِبَ من عَيْن الحَيَاةِ، فَهوَ حَيٌّ إِلى أن يخرج الدَّجَّال، وأنَّه الرجُلُ الذي يقتله الدَّجَّال، وقال البخاريُّ وطائفة من أهْل الحديث، منهم شيخُنا أبو بَكْرِ بْنُ العَرَبيِّ رحمه اللَّه: مات الخَضِرُ قبل انقضاء المِائَةِ من قوله صلى الله عليه وسلم: «أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِه، فإِنَّ إِلى رَأْسِ مِائَةِ عَامٍ مِنْهَا لا يَبْقَى عَلَى الأَرْضِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهَا أَحَدُ» يعني من كان حيًّا حين قال هذه المقالَةَ، وأما اجتماع الخِضَرِ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتعزيته لأهْل بيته، فمرويٌّ من طرقٍ صِحَاحٍ، وصحَّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: «إِنَّمَا سُمِّيَ الخَضِرَ؛ لأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فاهْتَزَّتْ تَحْتَهُ خضراء». قال الخطابي: الفروة وجه الأرض، ثم أنشد على ذلك شاهداً انتهى.
واختلف الناس في {مَجْمَعِ البَحْرَيْنِ}، فقال مجاهد وقتادة هو مَجْمَعُ بَحْر فارس وبَحْر الروم، وقالت فرقة {مَجْمَعَ البحرين}: هو عند طَنْجَة، وقيل غير هذا، واختلف في الحُقُب، فقال ابن عباس وغيره: الحُقُب: أزمانٌ غير محدودة، وقال عبد اللَّه بن عمرو ثمانون سنة، وقال مجاهد: سبعون، وقيل: سنةٌ.

.تفسير الآيات (61- 74):

{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)}
وقوله سبحانه: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} الضمير في {بَيْنِهِمَا}: للبحرين، قاله مجاهد، وفي الحديث الصحيح: ثُمَّ انْطَلَقَ، وانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، حَتَّى أَتيَا الصَّخْرَةَ وَضَعَا رُؤُوَسَهُما، فَنَامَا، واضْطَربَ الحُوتُ في المكتلِ، فَخَرجَ مِنْهُ فَسَقَط في البَحْرِ، واتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ سَرَباً، أي: مسلكاً في جوفِ الماءِ، وأمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الحُوتِ جَرْيَةَ المَاءِ، فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلُ الطَّاقِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ، نَسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخبَرَهُ بالحُوتِ، فانْطَلَقَا بَقَّيِة يَوْمِهَما، ولَيْلَتِهِما حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الغَدِ قال موسى لفتاه: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً} ويعني ب النصب تعب الطريق، قال: ولم يجدْ موسى النَّصَبَ حتَّى جاوَزَ المَكَان الذي أمره اللَّه به، قال له فتاة: {أَرَءَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت}، يريد: ذكر ما جرى فيه، {وَمَا أَنسَانِيهُ}، أي أن أذكره {إِلاَّ الشيطان}، و{اتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَبًا} قال: فكان للحوتِ سَرَباً ولموسى وفتاه عَجَباً، فقال موسَى: {ذلك مَا كُنَّا نَبْغِ فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصًا}، قال: فرجعا يَقُصَّان آثارهما حَتَّى انتهيا إلى الصخرة، فإِذا رجُلٌ مُسَجَّى بثوبٍ، فسَلَّم عليه موسى، فقال الخَضِرُ: وأَنَّى بأرضِكَ السَّلاَمَ قال: أَنَا مُوسَى، قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسُرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعْم، أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَني ممَّا عُلِّمْتَ رُشْداً، {قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} يعني: لا تطيق أن تصبر على ما تراه من عملي لأن الظواهر التي هي عِلْمُكَ لا تعطيه، وكيف تُصْبِرُ على ما تراه خطأً، ولم تُخْبَرْ بوجه الحكمة فيه؟ يا موسى، إني على علْمٍ من علْمِ اللَّه، علَّمنيه لا تَعْلَمُه، يريد: علْم الباطنِ، وأنْتَ على علْمٍ من علمِ اللَّه علَّمكه اللَّه، لا أعلمه، يريد: علْمَ الظاهرِ، فقال له موسى: {سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ الله صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً}، فقال له الخضر: {فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْنِي عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً}، أي: حتى أشرح لك ما ينبغي شرْحُه، فانطلقا يمشيَانِ على ساحل البَحْرِ، فمرت بهم سفينةٌ، فكلَّموهم أنْ يحملوهم، فعرفوا الخَضِرَ، فحملوهم بغَيْر نَوْلٍ، يقول: بغير أجْر، فلما ركبا في السفينة، لم يُفْجَأْ موسى إِلاَّ والخَضِرُ قد قلع لَوْحاً من ألواح السفينة بالقَدُومِ، فقال له موسى؛ قومٌ حملونا بغير نَوْلٍ، عَمِدْتَّ إلى سفينتهم، فخرقْتَها لتغرق أهلها، {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}، أي شنيعاً من الأمور، وقال مجاهد: الإِمْرُ المُنْكَر، {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} قال أَبَيُّ بْنُ كعب، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فكانَتِ الأُولى مِنْ مُوسَى نِسْيَاناً، قال: وَجَاءَ عُصْفُورٌ، فَوَقَعَ على حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ في البَحْرِ نُقْرَةً، فَقَالَ لَهُ الخَضِرُ: ما عِلْمِي وعلْمُكَ مِنْ عِلْم اللَّهِ إِلاَّ مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا العُصْفُورُ مِنْ هَذَا البَحْرِ»، وفي رواية: «واللَّهِ، مَا عِلْمِي وعِلْمُكَ في جَنْبِ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ كما أَخَذَ هَذَا الطَّائِرُ بِمنْقَارِهِ من البَحْر»، وفي رواية: «مَا عِلْمي وعِلْمُكَ وعِلْمُ الخَلاَئِقِ في عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ مِقْدَارُ مَا غَمَسَ هذا العُصْفُورُ منقاره».
قال * ع *: وهذا التشبيهُ فيه تجوُّز؛ إِذ لا يوجد في المحْسُوسَات أقوى في القِلَّة من نقطة بالإِضافة إلى البحر، فكأنها لا شَيْءَ، ولم يتعرَّض الخَضِرُ لتحرير موازَنَةٍ بين المِثَال وبَيْنَ عِلْم اللَّه تعالى، إِذ علمه سبحانه غير متناهٍ، ونُقَطُ البحر متناهيةٌ، ثم خَرَجَ من السفينة، فبينما هما يَمْشِيَانِ على السَّاحل، إذ أبصر الخضرُ غُلاَماً يَلْعَبُ مع الغْلمَان، فأخذ الخَضِرُ رَأْسَهُ بيده، فاقتلعه فَقَتَلَهُ، فقال له موسى: أقتلت نفساً زاكية.
قال * ع *: قيل: كان هذا الغلامُ لم يبْلُغ الحُلْم، فلهذا قال موسى: نَفْساً زاكية، وقالت فرقة: بل كان بالغاً.
وقوله: {بِغَيْرِ نَفْسٍ} يقتضي أنه لو كان عَنْ قَتْلِ نفْسٍ، لم يكن به بأْسٌ، وهذا يدلُّ على كِبَرِ الغلامِ، وإِلا فلو كان لم يحتلم، لم يجبْ قتله بَنَفْس ولا بغير نفْس. * ت *: وهذا إِذا كان شَرْعُهم كَشَرْعنا، وقد يكونُ شرعهم أنَّ النفْسَ بالنفْسِ عموماً في البالغ وغيره، وفي العَمْد والخطأ؛ فلا يلزم من الآية ما ذَكَرَ.
وقوله: {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} معناه: شيئاً ينكر، قال * ع *: ونصف القرآن بِعَدِّ الحروف. انتهى إلى النون من قوله: {نُّكْراً}.

.تفسير الآيات (75- 82):

{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)}
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} قال: وهذه أشدُّ من الأولى- {قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً * فانطلقا حتى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعما أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ}، قال: مائل، فقال الخَضِرُ بيده هكذا، فأقامه، فقال موسى: قومٌ أتيناهم، فلم يُطْعِمُونا، ولم يضيِّفونا {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} قال سعيدُ بنُ جُبَيْر: أجراً نأكله- {قال هذا فراق بيني وبينك} إِلى قوله: {ذلك تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً}، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرَهِمَا قال سعيد: فكان ابن عباس يَقْرأُ: {وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةِ غَضْباً}، وكان يقرأ: {وأَمَّا الغُلاَمُ فَكَانَ كَافِراً وكَانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ}، وفي رواية للبخاريِّ: يزعمون عن غَيْر سعيدِ بْنِ جُبَيْر؛ أنَّ اسم المَلِكِ: هُدَدُ بْنُ بُدَدٍ، والغلام المقتولُ اسمه يزعمون حَيْسُورُ، ويقال: جَيْسُورَ مَلِكٌ {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً}، فأردتُّ إِذا هِيَ مَرَّتْ به أنْ يَدَعَها لِعَيْبها، فإِذا جَاوَزُوا أصْلَحُوها، فانتفعوا بها، ومنهم من يقول: سَدُّوها بقَارُورة، ومنهم من يقول بالقَارِ، {فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ}، وكان كافراً، {فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طغيانا وَكُفْراً} أنْ يحملهما حبُّه على أنْ يتابعاه على دينه، {فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زكواة} لقوله: {أقتلْتَ نفساً زاكية}، {وَأَقْرَبَ رُحْماً} هما به أرحم منهما بالأول الذي قتله خَضِر، وزعم غير سعيد أنهما أُبْدلا جاريةً، وأما داوُدُ بن أبي عاصِمٍ، فقال عن غير واحدٍ: إنها جاريةٌ. انتهى لفظُ البخاريِّ.
* ت *: وقد تحرَّينا في هذا المختصر بحَمْد اللَّه التحقيقَ فيما علَّقناه جُهْد الاستطاعة، واللَّه المستعان، وهو المسؤول أن ينفع به بجُوده وكَرَمِهِ. قال * ع *: ويشبه أنْ تكون هذه القصَّة أيضاً أصلاً للآجالِ في الأحكام التي هي ثَلاَثَةٌ، وأيام التلوم ثلاثةٌ، فتأمَّله.
وقوله سبحانه: {فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا} وفي الحديث: «أَنَّهُمَا كَانَا يَمْشِيَانِ عَلَى مَجَالِسِ أُولَئِكَ القَومِ يَسْتَطْعمَانِهِمْ».
قال * ع *: وهذه عبرة مصرِّحة بهوان الدنيا على اللَّه عزَّ وجلَّ. * ص *: وقوله: {فِرَاقُ بَيْنِي} الجمهور بإِضافة {فِرَاق}، أبو البقاء، أي تفريقُ وَصْلِنا، وقرأ ابن أبي عَبْلَةَ {فِراقٌ} بالتنوين، أبو البقاء و{بَيْنَ}: منصوبٌ على الظرفِ انتهى.
قال * ع *: و{وَرَاءَهُم} هو عندي على بابه، وذلك أن هذه الألفاظ إنما تجيء مراعًى بها الزمانُ، وذلك أنَّ الحادث المقدَّم الوُجُودِ هو الأمامُ، والذي يأتي بَعْدُ هو الوَرَاء، وتأمَّل هذه الألفاظ في مواضِعِها حيْثُ وردَتْ تجدها تَطَّرد، ومِن قرأ: {أَمامَهُمْ}، أراد في المكان.
قال * ع *: وفي الحديث، «أنَّ هَذَا الغُلاَمَ طُبِعَ يَوْمَ طُبعَ كافِراً»، والضمير في خشينا للخضِرِ، قال الداوديُّ: قوله: {فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا}، أي: علمنا انتهى. والزَكَاةُ شرف الخُلُق والوقارُ والسكينةُ المنطويةُ على خَيْرٍ ونيَّة، والرُّحْم الرحمة، وروي عن ابن جُرَيْج، أنهما بُدِّلا غلاماً مسْلِماً، وروي عنه أنهما بُدِّلا جاريةً، وحكى النَّقَّاش أنها وَلَدَتْ هي وَذُرِّيَّتُها سبعين نبيًّا، وذكره المهدويُّ عن ابن عباس، وهذا بعيدٌ، ولا تُعْرَف كثرة الأنبياءِ إِلا في بني إسرائيل، وهذه المرأة لم تكُنْ فيهم، واختلف النَّاسُ في هذا الكنز المذكور هنا، فقال ابن عباس: كان عِلْماً في صُحُف مدفونةٍ، وقال عمر مولى غَفْرَة: كان لَوْحاً من ذَهَبٍ قد كُتِبَ فيه: عجباً للموقِنِ بالرِّزْقِ كيف يَتْعَبُ، وعجباً للموقِنِ بالحسابِ كيف يَغْفَلُ، وعجباً للموقِنِ بالمَوْتِ كيف يَفُرَحُ، وروي نحو هذا مما هو في معناه، وقال الداووديُّ: {كَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا}، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ذَهَبٌ وفِضَّة» انتهى، فإِن صحَّ هذا الحديثُ، فلا نظر لأحَدٍ معه، فاللَّه أعلم أيَّ ذلك كَانَ.
وقوله سبحانه: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صالحا} ظاهر اللفظِ، والسابقُ منه إِلى الذهنِ أنه والدهما دِنْيَةً، وقيل: هو الأب السابعُ، وقيل: العاشر، فَحُفِظَا فيه، وفي الحديثِ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْفَظُ الرَّجُلَ الصَّالِحَ في ذُريتِهِ»، وقوله الخضر: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}، يقتضي أنه نَبِيٌّ، وقد اختلف فيه، فقيل: هو نبيٌّ، وقيل: عَبْدٌ صالح، وليس بنبيٍّ؛ وكذلك اختلف في موته وحياته، واللَّه أعلم بجميع ذلك، ومما يقضي بموت الخَضِر قوُلُه صلى الله عليه وسلم: «أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ إِلى رَأْسِ مِائَةٍ مِنْهَا لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ اليَوْمَ على ظَهْرِ الأَرضِ أحد». قال القرطبيُّ في تذكرته: وذكر عن عمرو بن دِينَارٍ: الخَضِرُ وإِلياسُ عليهما السلام حَيَّانِ، فإِذا رفع القرآن ماتا قال القرطبيُّ: وهذا هو الصحيحُ انتهى، وحكاياتُ مَنْ رأَى الخَضِرَ من الأولياء لا تحصَى كثرةٍ فلا نطيلُ بَسْردها، وانظر لطائِفَ المِنَن لابن عطاء اللَّه.
وقوله: {ذلك تَأْوِيلُ}: أي مآل، وحكى السُّهَيْليُّ أنه لما حان للخَضِر وموسى أن يفترقا، قال له الخَضر: لو صَبَرْتَ، لأَتَيْتَ عَلَى أَلْفِ عَجَبٍ، كلُّها أعجبُ ممَّا رأَيْتَ، فبكى موسى، وقالَ للخَضِر: أوْصِنِي يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فقال: يا مُوسَى، اجْعَلْ همَّك في معادِكَ، ولا تَخُضْ فيما لا يَعْنِيك، ولا تأمَنْ مِنَ الخوفِ في أمْنِكَ، ولا تَيْئَس من الأمن في خوفك، وتدَّبر الأمورَ في علانيتِكَ، ولا تَذَر الإحسانَ في قُدْرتك، فقال له موسى: زِدْنِي يرحمك اللَّه، فقال له الخَضِر: يا مَوسَى، إِياكَ واللَّجَاجَةُ، ولا تَمْش في غير حَاجَةٍ، ولا تَضْحَكْ من غَيْر عَجَبٍ، ولا تعير أحداً، وابكِ على خطيئتك يَا بْنَ عِمران. انتهى.

.تفسير الآيات (83- 92):

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)}
وقوله سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين} ذو القرنين، هو المَلِكُ الإسْكَنْدَرُ اليُونَانِيُّ، واختلف في وَجْه تسميته ب {ذي القَرْنَيْنِ} وأحسنُ ما قيل فيه: أنه كان ذا صنفِيرَتين، من شَعْرهما قرناه، والتمكينُ له في الأرض: أنه مَلَكَ الدنيا، ودانَتْ له الملوك كلها، وروي أن جميع من مَلَكَ الدنيا كلَّها أربعَةٌ، مُؤْمِنَانِ وكافران؛ فالمُؤْمِنَانِ: سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليهما السلام، والإسْكَنْدَرُ، والكافِرَانِ: نُمْرُود، وبُخْتَ نَصَّرَ.
وقوله سبحانه: {وآتيناه مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} معناه: علْماً في كل أمْرٍ، وأقيسةً يتوصَّل بها إِلى معرفة الأشياء، وقوله: {كُلِّ شَيْءٍ} عمومٌ معناه الخصوص في كلِّ ما يمكنه أنْ يعلمه ويحتاجُ إلَيْه، وقوله: {فَأَتْبَعَ سَبَباً}، أي: طريقاً مسلوكةً، وقرأ نافع وابن كثير: وحفص عن عاصم: {في عَيْنٍ حِمِئَة}، أي: ذاتِ حَمْأة، وقرأ الباقون: {في عَيْنٍ حَامِيَةٍ}، أي: حارَّة، وذهب الطبريُّ إلى الجمع بين الأمرين، فقال: يحتملُ أن تكون العين حارَّة ذاتَ حَمْأة؛ واستدلَّ بعضُ الناس على أن ذا القرنَيْن نبيٌّ بقوله تعالى: {قُلْنَا ياذا القرنين}، ومن قال: إنه ليس بنبيٍّ، قال كانت هذه المقالةُ مِنَ اللَّهِ له بإِلهامِ.
قال * ع *: والقول بأنه نبيٌّ ضعيفٌ، و{إِمَّا أَن تُعَذِّبَ} معناه: بالقَتْلِ على الكُفْر، {وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً}، أي: إِن آمنوا، وذهب الطبري إِلى أنَّ اتخاذه الحُسْن هو الأسْرُ مع كُفْرهم، ويحتمل أنْ يكون الاتخاذ ضَرْبَ الجزية، ولكنْ تقسيم ذي القرنين بعد هذا الأمْر إِلى كفر وإيمان يردُّ هذا القوْلَ بعْضَ الردِّ، و{ظَلَمَ}؛ في هذه الآية: بمعنى كَفَر، وقوله: {عَذَاباً نُّكْراً}، أي: تنكره الأوهام، لِعَظَمِهِ، وتستهوله، و{الحسنى} يراد بها الجَنَّة.
وقوله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} المعنى: ثم سلك ذو القرنين الطُّرُق المؤدِّية إِلى مَقْصِده، وكان ذو القرنَيْن، على ما وقع في كُتُب التاريخ يَدُوسُ الأرض بالجيوشِ الثِّقَال، والسِّيرةِ الحميدةِ، والحَزْمِ المستيقِظِ، والتأبِيدِ المتواصِلِ، وتقوى اللَّه عزَّ وجلَّ، فما لقي أُمَّةً، ولامَرَّ بمدينةٍ إِلا ذَلَّتْ ودَخَلَتْ في طاعته، وكُلُّ من عارضه أوْ توقَّف عن أمْره، جعله عظةً وآيةً لغيره، وله في هذا المعنى أخبارٌ كثيرةٌ وغرائبُ، مَحَلُّ ذكرها كُتُبُ التاريخ.
وقوله: {وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ} المراد بالقوم الزَّنْج، قاله قتادة، وهم الهنود وما وراءهم، وقال الناس في قوله سبحانه: {لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً} معناه: أنهم ليس لهم بنيانٌ، إِذ لا تحتمل أرضهم البناءَ وإِنما يدخلون مِنْ حَرِّ الشمس في أسْرَابٍ، وقيل: يدخلون في مَاءِ البَحْر؛ قاله الحسن وغيره، وأكْثَرَ المفسِّرون في هذا المعنى، والظاهر من اللفظ أنها عبارة بَلِيغَةٌ عن قُرْب الشمس منهم، ولو كان لهم أسرابٌ تغني لكان سِتْراً كثيفاً.
وقوله: {كذلك} معناه: فَعَلَ معهم كَفِعْله مع الأولين أهْلِ المَغْرب، فأوجز بقوله: {كذلك}.