فصل: تفسير الآيات (90- 95):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (90- 95):

{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)}
وقوله سبحانه: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعًا...} الآية: روي في قول هذه المقالة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم حديثٌ طويلٌ، مقتضاه: أنَّ عُتْبَة وشَيْبة ابْنَيْ ربيعَةَ، وعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبي أميَّةَ، والنَّضْرَ بْنَ الحَارِثِ وغيرهم من مَشْيَخَةِ قريشٍ وسادَاتِها، اجتمعوا عليه، فعرَضُوا عليه أنْ يملِّكوه إِن أراد المُلْك، أو يجمعوا له كثيراً من المالِ؛ إِن أراد الغنى ونحو هذا من الأقاويل، فدعاهم صلى الله عليه وسلم عند ذلك إِلى اللَّه، وقال: إِنما جئتُكُمْ بأمرٍ منَ اللَّهِ فيه صَلاحُ دنياكم ودِينِكُم، فإِن أطعتم، فَحَسَن، وإِلا صَبَرْتُ حتَّى يحكم اللَّه بيني وبينكم فقالوا له حينئذٍ: فإِن كان ما تَزْعُمُ حقًّا، ففجِّر لنا من الأرض ينبوعاً... الحديث بطوله، واليَنْبُوع: الماء النابع، {وخِلاَلَهَا} ظرف، ومعناه أثناءها وفي داخلها.
وقوله: {كَمَا زَعَمْتَ} إِشارة إلى ما تلا عليهم قبل ذلك في قوله سبحانه: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السماء...} الآية: [سبأ: 9] والكِسَفُ الشيء المقطوع، وقال الزجَّاج المعنى: أو تسقط السماء علينا طبقاً، وقوله: {قَبِيلاً} قيل: معناه مقابلةً وعياناً، وقيل: معناه ضامناً وزعيماً بتصديقك؛ ومنه القبالة وهي الضمان، وقيل: معناه نوعاً وجنساً لا نظير له عندنا، {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ}، قال المفسِّرون: الزُّخْرُفُ الذَّهَب في هذا الموضع، {أَوْ ترقى فِي السماء}، أي: في الهواء علوًّا، ويحتمل أن يريد السماء المعروفَة، وهو أظهر.
* ت *: وذكر * ع * هنا كلماتٍ الواجبُ طرحها، ولهذا أعرضْتُ عنها، و{ترقى} معناه تصعد، ويروى أن قائل هذه المقالة هو عبدُ اللَّهِ بْنُ أبي أميَّةِ، ويروى أن جماعتهم طلبَتْ هذه النْحوَ منه، فأمره عزَّ وجلَّ أن يقول: {سُبْحَانَ رَبِّي}، أي: تنزيهاً له من الإِتيان إِليكم مع الملائكةِ قبيلاً، ومن اقتراحِي أنا عليه هذه الأشياءَ، وهل أنا إِلا بشر، إِنما عليَّ البلاغ المبين فقطْ.
وقوله: {مُطْمَئِنِّينَ}، أي: وادعين فيها مقيمين.

.تفسير الآيات (96- 98):

{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)}
وقوله سبحانه: {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} روي أن من تقدَّم الآن ذكرهم من قريش، قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في آخر قولهم: فَلْتَجِئ مَعَكَ بطائفةٍ من الملائكة تَشْهَدُ لك بِصِدْقك في نبوَّتك، وروي أنهم قالوا: فمن يشهدُ لك؟ ففي ذلك نزلَتِ الآية، أي: اللَّه يشهد بيني وبينكم، ثم أخبر سبحانه؛ أنه يحشرهم على الوُجُوه حقيقةً، وفي هذا المعنى حديثٌ، «قيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَمْشِي الكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ؟ قال: أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ في الدُّنْيَا عَلَى رِجْلَيْنِ قَادِراً عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ في الآخِرَةِ عَلَى وَجهِهِ؟» قال قتادة: بَلَى، وَعِزَّةِ رَبِّنا.
* ت *: وهذا الحديثُ قد خرَّجه الترمذيُّ من طريق أبي هريرة، قال: قال رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَة عَلَى ثَلاَثَةِ أَصْنَافٍ: رُكْبَاناً، ومُشَاةً، وعَلَى وُجُوهِهِم...» الحديثَ، وقوله: {كُلَّمَا خَبَتْ} أي: كلما فرغَتْ من إِحراقهم، فسكن اللهيبُ القائمُ عليهم قَدْرَ ما يعادون، ثم يثورُ، فتلك زيادة السعير، قاله ابن عَبَّاس.
قال * ع *: فالزيادة في حيِّزهم، وأما جهنَّم، فعلى حالها من الشدَّة، لا فتور، وخَبَتِ النارُ، معناه: سَكَن اللهيبُ، والجَمْرُ على حاله، وخَمَدَتْ معناه، سكَن الجَمْر وضَعُف، وهَمَدَتْ معناه: طُفِئت جملةً.
وقوله سبحانه: {ذلك جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بآياتنا...} الآية: الإِشارة ب {ذلك} إِلى الوعيد المتقدِّم بجهنم.

.تفسير الآيات (99- 100):

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)}
قوله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض...} الآية: الرؤيةُ في هذه الآية هي رؤية القَلْبِ، وهذه الآية احتجاجٌ عليهم فيما استبعدوه من البَعْثِ، والأَجَل؛ ههنا: يحتمل أَن يريد به القيامةَ، ويحتملُ أن يريد أَجَلَ الموت.
وقوله سبحانه: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي...} الآية: ال {رَحْمَةِ}، في هذه الآية: المال والنِّعم التي تُصْرَفُ في الأرزاق.
وقوله: {خَشْيَةَ الإنفاق} المعنى: خشية عاقبةِ الإِنفاق، وهو الفَقْر، وقال بعض اللُّغويِّين، أنْفَقَ الرجُلُ معناه: افتقَرَ؛ كما تقول أَتْرَبَ وأَقْتَرَ.
وقوله: {وَكَانَ الإنسان قَتُورًا} أي: ممسِكاً، يريدُ أنَّ في طبعه ومنتهى نظره أن الأشياء تتناهى وتفنى، فهو لو ملك خزائنَ رحمة الله، لأمسك خشيةَ الفَقْر، وكذلك يظنُّ أن قدرة اللَّه تقفُ دون البَعْث، والأمر ليس كذلك، بل قدرته لا تتناهى.

.تفسير الآيات (101- 104):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)}
وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيات بَيِّنَاتٍ...} الآية: اتفق المتأوِّلون والرواةُ؛ أن الآياتِ الخَمْسَ التي في سورة الأعراف هي من هذه التسْعِ، وهي: الطُّوفانُ والجَرَادُ والقُمَّل والضَّفادع والَّدمُ، واختلفوا في الأربَعِ. * ت *: وفي هذا الاتفاق نظَرٌ، وَرَوَى في هذا صفوانُ بنُ عَسَّال؛ أن يهوديًّا من يهودِ المدينةِ، قال لآخَرَ: سِرْ بِنَا إِلى هذا النبيِّ نسأله عن آياتِ موسى، فقال له الآخَرُ: لاتَقُلْ له إنَّه نَبيٌّ، فإِنه لَوْ سَمِعَها، صَارَ له أربعة أعيُنٍ، قال: فَسَارَا إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فسألاه، فقال: «هي لا تُشْرِكُوا باللَّه شيئاً، ولا تسرِقُوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم اللَّه إِلا بالحق، ولا تمشوا ببريءٍ إلى السلطان ليقتله، ولا تَسْحَرُوا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا المُحْصَنَات، ولا تَفِرُّوا يَوْمَ الزَّحْف، وعليْكُمْ- خاصَّةَ معْشَرِ اليهودِ ألاَّ تَعْدُوا في السبت» انتهى، وقد ذكر * ع * هذا الحديث.
وقوله سبحانه: {فَسْئَلْ بَنِي إسراءيل إِذْ جَاءَهُمْ}، أي: إِذ جاءهم موسى واختلف في قوله: {مَسْحُورًا} فقالتْ فرقة: هو مفعولٌ على بابه، وقال الطبري: هو بمعنى ساحرٍ، كما قال {حِجَابًا مَّسْتُورًا} [الاسراء: 45] وقرأ الجمهور: {لَقَدْ عِلمْتَ}، وقرأ الكسائيُّ: {لَقَدْ عَلِمْتُ} بتاء المتكلِّم مضمومةً، وهي قراءة علي بن أبي طالب وغيره، وقال: ما علم عَدُوُّ اللَّه قطُّ، وإِنما علم موسى والإِشارة ب {هَؤُلاءِ} إِلى التسع.
وقوله: {بَصَائِرَ}: جمعُ بصيرةٍ، وهي الطريقةُ، أي طرائِقَ يُهْتَدَى بها، والمثبور المُهْلَكُ؛ قاله مجاهد، {فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأرض}، أي: يستخفهم ويقتلهم، والأرض هنا أرْضُ مِصْر، ومتى ذكرت الأرض عموماً، فإِنما يراد بها ما يناسب القصَّة المتكلَّم فيها، واقتضبَتْ هذه الآيةُ قصص بني إِسرائيل مع فرعون، وإِنما ذكرت عِظَمَ الأمر وخطيره، وذلك طرفاه؛ أراد فرعون غلبتهم وقتلهم، وهذا كان بَدْءَ الأمر؛ فأغرقه اللَّه وجُنُودَهُ، وهذا كان نهايةَ الأمر، ثم ذكر سبحانه أمْرَ بني إسرائيل بعد إِغراق فرَعوْنَ بسُكْنَى أرض الشامِ و{وَعْدُ الأخرة} هو يوم القيامة، واللفيفُ الجَمْعُ المختلطُ الذي قد لُفَّ بعضُه إِلى بعض.

.تفسير الآيات (105- 109):

{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)}
وقوله سبحانه: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ} يعني القرآن نَزَلَ بالمصالحِ والسَّدادِ للناس، و{بالحق نَزَلَ} يريد: بالحقِّ في أوامره ونواهيه وأخباره، وقرأ جمهور الناس: {فَرْقَنَاهُ} بتخفيف الراء، ومعناه: بيَّنَّاه وأوضَحْناه وجَعَلْناه فرقاناً، وقرأ جماعةٌ خارجَ السبْعِ: {فَرَّقْنَاهُ} بتشديد الراء، أي: أنزلناه شيئاً بعد شيء، لا جملةً واحدة، ويتناسق هذا المعنى مع قوله: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ}، وتأوّلت فرقةٌ قوله: {على مُكْثٍ} أي: على ترسُّل في التلاوةِ، وترتُّل، هذا قول مجاهد وابن عباس وابن جُرَيْج وابن زيد، والتأويلُ الآخر، أي على مُكْثٍ وتطاوُلٍ في المدة شيئاً بعد شيء.
وقوله سبحانه: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ} فيه تحقيرٌ للكفَّار، وضَرْب من التوعُّد، و{الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ}: قالت فرقة: هم مؤمنو أهْلِ الكتابِ، والأذقان: أسافل الوجوه حيث يجتمع اللَّحْيَانَ.
قال الواحِدِيُّ: {إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا} أي: بإِنزال القرآن، وبعَث محمَّد {لَمَفْعُولاً}. انتهى.
وقوله سبحانه: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} هذه مبالغةٌ في صفتهم، ومَدْحٌ لهم وحضٌّ لكل من توسَّم بالعلم، وحصَّلَ منه شيئاً أنْ يجري إلى هذه الرتبة النفيسَةِ وحكَى الطبريُّ عن التميميِّ؛ أن من أوتي من العلْمِ ما لم يُبْكِهِ لخَلِيقِ ألاَّ يكونَ أوتي عْلماً ينفعه؛ لأن اللَّه سبحانه نعت العلماء، ثم تَلاَ هذه الآية كلَّها.
* ت *: وإِنه واللَّهِ لكذلكَ، وإِنما يخشَى اللَّهَ مِنْ عباده العلماءُ، اللهمَّ انْفَعْنَا بما عَلَّمتنا، ولا تجعْلُه علينا حجَّةً بفضلك، ونقل الغَزَّاليُّ عن ابن عبَّاس؛ أنه قال: إِذا قرأتم سَجْدَةَ {سُبْحَانَ}، فلا تعجلوا بالسُّجُود حتى تَبْكُوا، فإِن لم تَبْكِ عينُ أحدِكُمْ، فَلْيبكِ قلبه. قال الغَزَّالِيُّ: فإن لم يحضرْهُ حُزْن وبكاءٌ؛ كما يحضر أرباب القلوب الصافيَةِ فليَبْكِ على فَقْدِ الحُزْن والبكاء، فإِن ذلك من أعظم المصِائبِ. قال الغَزَّالِيُّ: واعلم أنَّ الخشوع ثمرةُ الإِيمان، ونتيجةُ اليقينِ الحاصلِ بعظمةِ اللَّه تعالى، ومَنْ رُزِقَ ذلك، فإِنه يكون خاشعاً في الصلاة وغيرها؛ فإِن موجب الخشوع استشعارُ عظمة اللَّه، ومعرفةُ اطلاعه على العَبْد، ومعرفةُ تقصير العَبْد، فمن هذه المعارفِ يتولَّد الخشوعُ، وليْسَتْ مختصَّةً بالصلاة، ثم قال: وقد دلَّت الأخبار على أن الأصل في الصَّلاة الخشوعُ، وحضورُ القَلْب، وأن مجرَّد الحركاتِ مع الغَفْلة قليلُ الجدوى في المعادِ، قال: وأعلم أنَّ المعاني التي بها تتمُّ حياة الصلاة تجمعها ستُّ جُمَلٍ، وهي: حضورُ القَلْبِ، والتفهُّمُ، والتعظيمُ، والهَيْبَة، والرجاءُ، والحياءُ، فحضور القَلْب: أن يفرِّغه من غير ما هو ملابسٌ له، والتفهُّم: أمر زائد على الحُضُور، وأما التعظيم، فهو أمر وراءَ الحضور والفَهْمِ، وأما الهَيْبة، فأمر زائد علي التعظيمِ، وهي عبارة عن خَوْفٍ مَنْشَؤه التعظيم، وأما التعظيم، فهو حالةٌ للقَلْب تتوَّلد من معرفتين: إِحداهما: معرفة جلالِ اللَّه سبحانه وعظمته، والثانية: معرفة حقارة النفْسِ، واعَلَمْ أَنَّ حضور القلب سببه الهِمَّة، فإِن قلبك تَابِعٌ لهمَّتك، فلا يحضر إِلا فيما أهمَّك، ومهما أهمَّك أمر، حَضَر القَلْب، شاء أم أبى، والقلب إذا لم يحضُرْ في الصلاة، لم يَكُنْ متعطِّلاً؛ بل يكون حاضراً فيما الهمة مصروفةٌ إِليه. انتهى من الإحياء.

.تفسير الآيات (110- 111):

{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)}
وقوله سبحانه: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن...} الآية: سبب نزول هذه الآية: أنَّ بعض المشركين سمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يدعو: يا اللَّه يا رَحْمَانَ، فقالوا: كان محمَّدٌ يأمرنا بدعاءِ إله واحدٍ، وهو يدْعو إِلَهْين، قاله ابن عباس، فنزلَتِ الآية مبيِّنةً، أنها أسماء لمسمًّى واحد، وتقدير الآية: أيُّ الأسماءِ تدعو به، فأنت مصيبٌ، فله الأسماءُ الحسنى، وفي صحيحِ البخاريِّ بسنده عن ابن عباس في قوله سبحانه: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} قَالَ: نَزَلَتْ ورسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُخْتَفٍ بمكَّةَ، كان إِذَا صَلَّى بأصحابه، رَفَعَ صَوْتَهُ بالقرآن، فإِذا سمعه المشْرِكُون، سَبُّوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به، فقال اللَّه تبارك وتعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ}، أي: بقراءتك، فيسمَعَ المشركونَ فيسبوا القرآن، {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} عن أصحابك؛ فلا تسمعهم، {وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً}، وأسند البخاريُّ عن عائشة: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} قالتُ: أنزل ذلك في الدعاءِ انتهى.
قال الغَزَّاليُّ في الإِحياء: وقد جاءت أحاديثُ تقتضي استحبابَ السِّرِّ بالقرآن، وأحاديثُ تقتضي استحبابَ الجَهْر به، والجَمُع بينهما أنْ يقال: إِن التالي إِذا خاف على نفسه الرِّياءَ والتصنُّع أو تشويش مُصَل، فالسر أفضلُ، وإِن أَمِنَ ذلك، فالجهر أَفَضَلُ؛ لأن العمل فيه أكثر؛ ولأن فائدته أيضاً تتعدَّى إلى غيره؛ والخير المتعدِّي أفضلُ من اللازم؛ ولأنه يوقظ قَلْب القارئ، ويجمع همَّته إلى الفكْر فيه، ويصرف إِليه سَمْعَه، ويطرد عنه النوْمَ برفْعِ صوته، ولأنه يزيدُ في نشاطه في القراءة، ويقلِّل من كسله؛ ولأنه يرجو بجهره تيقُّظ نائمٍ، فيكون سَبَباً في إِعانته على الخير، ويسمعه بَطَّال غافلٌ، فينشط بسببه، ويشتاقُ لخدمة خالقه، فمهما حَضَرَتْ نيَّةٌ من هذه النيَّات، فالجهر أفضلُ، وإِن اجتمعتْ هذه النيَّاتُ، تضاعَفَ الأجر، وبكثرة النياتِ يزْكُو عمل الأبرار وتتضاعف أجورهم. انتهى.
وقوله سبحانه: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذل} هذه الآية رادَّة على كَفَرة العرب في قولهم: لولا أولياءُ اللَّه، لَذَلَّ- تعالى اللَّه عن قولهم- وقَّيد سبحانه نَفْيَ الولاية له بطريقِ الذُّلِّ، وعلى جهة الانتصار؛ إِذ ولايته سبحانه موجُوَدةٌ بفضله ورحمته لمن والى من صَالح عباده.
قال مجاهد: المعنى لم يخالِفْ أحداً ولا ابتغى نصْرَ أحد سبحانه، لا إله إِلا هو وصلَّى اللَّه على سيدِّنا وموْلانا محمَّد وعلى آله وصَحْبه وسلَّم تسليماً.

.تفسير سورة الكهف:

هذه السورة مكية في قول جميع المفسرين.
وروي عن قتادة أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله: {جرزا}.
والأول أصح.
وهي من أفضل سور القرآن.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بسورة عظمها ما بين السموات والأرض ولمن جاء بها من الأجر مثل ذلك؟!» قالوا: أي سورة هي يا رسول الله؟ قال: «سورة الكهف من قرأ بها يوم الجمعة غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام».
وفي رواية أنس: «من قرأ بها أعطي نور بين السماء والأرض وووقي بها فتنة القبر».
وعن البراء بن عازب قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه فرس مربوط بشطنين فغشيته سحابة فجعلت تدنو وتدنو وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: «تلك السكينة نزلت بالقرآن». رواه البخاري واللفظ له ومسلم والترمذي والنسائي.
والرجل المبهم في الحديث هو أسيد بن حضير.
وفي الحديث الصحيح من طريق النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم: «فمن أدرك الدجال منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف». وذكر الحديث رواه مسلم وغيره.
زاد أبو داود: «فإنها جواركم من فتنته».
وعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ عشرة آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال». رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي واللفظ لمسلم.
وفي رواية لمسلم وأبي داود: «من آخر الكهف».
وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الكهف كما أنزلت كانت له نور من مقامه إلى مكة، ومن قرأ بعشر آيات من آخرها فخرج الدجال لم يسلط عليه». رواه الترمذي والحاكم في المستدرك والنسائي، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.
وله في رواية: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين». وقال: صحيح الإسناد.
وأخرجه الدارمي في مسنده موقوفا، ورواته متفق على الاحتجاج بهم إلا أبا هاشم يحيى بن دينار الرماني، وقد وثقه أحمد ويحيى وأبو زرعة وأبو حاتم. انتهى من السلاح.