فصل: تفسير الآيات (36- 42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (36- 42):

{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)}
وقوله عزَّ وجلَّ: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن} الآية، وعَشَا يَعْشُو معناه: قَلَّ الإبصارُ منه، ويقال أيضاً: عَشِيَ الرجلُ يعشى: إذا فَسَدَ بَصَرُه، فلم يَرَ، أَو لَمْ يَرَ إلاَّ قليلاً، فالمعنى في الآية: ومَنْ يَقِلُّ بَصَرُهُ في شرع اللَّه، ويغمضُ جفونه عن النَّظَرِ في ذِكْرِ الرحمن، أي: فيما ذكَّر به عباده، أي: فيما أنزله من كتابه، وأوحاه إلى نَبِيِّه.
وقوله: {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} أي: نُيَسِّرْ له، ونُعِدَّ، وهذا هو العقاب على الكفر بالحتم وعدمِ الفلاحِ، وهذا كما يقال: إنَّ اللَّه تعالى يُعَاقِبُ على المعصية بالتزيُّد في المعاصي، ويجازي على الحسنة بالتزيُّد من الحَسَنَاتِ، وقد روي هذا المعنى مرفوعاً. قال * ص *: {وَمَن يَعْشُ} الجمهور بضم الشين، أي: يَتَعَامَ ويتجاهَلْ، ف {مَنْ} شرطيةٌ، و{يَعْشُ} مجزومٌ بها، و{نُقَيِّضْ} جوابُ {مَنْ}، انتهى، والضمير في قوله: {وَإِنَّهُمْ} عائد على الشياطين، وفيما بعده عائد على الكُفَّارِ، وقرأ نافع وغيره: {حَتَّى إذَا جَاءَانَا}؛ على التثنية، يريد: العاشي والقرين؛ قاله قتادة وغيره، وقرأ أبو عمرو وغيره: {جَاءَنا} يريد العاشي وحدَه، وفاعل {قَالَ} هو العَاشِي، قال الفَخْرُ: ورُوِيَ أَنَّ الكافر إذا بُعِثَ يوم القيامة من قبره أَخَذَ شَيْطَانٌ بيده، فلم يُفَارِقْهُ حتى يصيِّرهما اللَّه إلى النار، فذلك حيث يقول: {ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين} انتهى.
وقوله: {بُعْدَ المشرقين} يحتمل مَعَانِيَ:
أحدها: أن يريد بُعْدَ المشرق من المغرب، فَسَمَّاهما مَشْرِقَيْنِ؛ كما يقال القَمَرَانِ، والعُمَرَانِ.
والثاني: أنْ يريد مشرق الشمس في أطول يوم، ومشرقها في أقصر يوم.
والثالث: أنْ يريد بعد المشرقَيْنِ من المغربين، فاكتفى بذكر المشرقين.
قلت: واستبعد الفَخْرُ التأويل الثاني قال: لأَنَّ المقصودَ من قوله: {ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين} المبالغةُ في حصول البُعْدِ، وهذه المبالغة إنَّما تحصل عند ذكر بُعْدٍ لا يمكن وُجُودُ بُعْدٍ أزيدَ منه، والبُعْدُ بين مشرق الشتاء ومشرق الصيف ليس كذلك، فَيَبْعُدُ حَمْلُ اللَّفْظِ عليه؛ قال: والأكْثَرُونَ عَلَى التأويل الأَوَّلِ، انتهى.
وقوله تعالى: {وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم...} الآية، حكايةٌ عن مقالة تُقَالُ لهم يوم القيامة، وهي مقالة مُوحِشَةٌ فيها زيادةُ تعذيبٍ لهم ويأْسٍ من كل خير، وفاعل {يَنفَعَكُمُ} الاشتراك، ويجوز أنْ يكون فاعل {يَنفَعَكُمُ} التُّبَرِّي الذي يدل عليه قوله: {ياليت}.

وقوله سبحانه: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم...} الآية، خطاب لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وباقي الآية تكرَّر معناه غيرَ ما مَرَّةٍ.

.تفسير الآيات (43- 45):

{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)}
وقوله تعالى: {فاستمسك بالذى أُوحِىَ إِلَيْكَ} أي: بما جاءك من عند اللَّه من الوحي الْمتلوِّ وغيره.
وقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ} يحتمل أَنْ يريد: وإنَّهُ لشرف في الدنيا لكَ ولِقَوْمِكَ يعني: قُرَيْشاً؛ قاله ابن عباس وغيره، ويحتمل أنْ يريد: وإنَّه لتذكرة وموعظة، ف القومُ على هذا أُمَّتُهُ بأجمعها، وهذا قول الحسن بن أبي الحسن.
وقوله: {وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ} قال ابن عباس وغيره: معناه: عن أوامر القرآن ونواهيه، وقال الحسن: معناه: عن شكر النعمة فيه، واللفظ يحتمل هذا كلَّه ويعمُّه.
وقوله تعالى: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا...} الآية، قال ابن زيد، والزُّهْرِيُّ: أَما إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يَسْأَلِ الرُّسُلَ ليلةَ الإسْراءِ عن هذا؛ لأَنَّهُ كان أَثْبَتَ يقيناً مِنْ ذلك، ولم يكُنْ في شَكٍّ، وقال ابنُ عَبَّاسٍ وغيره: أراد: واسأل أَتْبَاعَ مَنْ أرسلنا وحَمَلَةَ شرائعهم، وفي قراءة ابن مسعود وأُبَيٍّ: {واسْئَلِ الَّذِينَ أَرْسَلْنَا إلَيْهِمْ}.
* ت *: قال عِيَاضٌ: قوله تعالى: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ...} الآية: الخطابُ مواجهةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، والمراد المشركون؛ قاله القُتَبِيُّ، ثم قال عِيَاضٌ: والمراد بهذا، الإعلامُ بأَنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ لم يأذنْ في عبادة غيره لأحد؛ رَدًّا على مُشْرِكي العرب وغيرهم في قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى} [الزمر: 3] انتهى.

.تفسير الآيات (46- 51):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)}
وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا...} الآية، ضَرْبُ مثلٍ وأسوةٍ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بموسى عليه السلام ولِكُفَّارِ قريشٍ بقوم فرعونَ.
وقوله: {وأخذناهم بالعذاب} أي: كالطوفان والجراد والقُمَّلِ والضفادع، وغير ذلك {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: يتوبون ويرجعون عن كفرهم، وقالوا لما عاينوا العذاب لموسى: {ياأيها الساحر} أي: العَالِمُ، وإنَّما قالوا هذا على جهة التعظيم والتوقير؛ لأَنَّ عِلْمَ السحر عندهم كان علماً عظيماً، وقيل: إنَّما قالوا ذلك على جهة الاستهزاء، والأَوَّلُ أرجَحُ، وقولهم: {ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} أي: إن نَفَعَتْنَا دَعْوَتُكَ.
وقوله: {أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ...} الآية: مِصْرُ من بحر الإسكندريَّة إلى أُسْوَان بطول النيل، والأنهار التي أشار إليها هي الخُلْجَانُ الكِبَارُ الخارجةُ من النِّيل.

.تفسير الآيات (52- 56):

{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ (56)}
وقوله: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ} قال سِيبَوَيْهِ: {أَمْ} هذه المعادلةُ، والمعنى: أفأنتم لا تبصرون؟ أم تبصرون، وقالت فرقة: {أم} بمعنى بل، وقرأ بعض الناس: {أَمَا أَنَا خَيْرٌ} حكاه الفَرَّاءُ، وفي مصحف أُبَيِّ بن كعب: {أَمْ أَنا خَيْرٌ أَمْ هَذَا} و{مُّهِينٌ} معناه: ضعيف، {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} إشارةٌ إلى ما بقي في لسان موسى من أَثَرِ الجَمْرَة، وكانت أحدثَتْ في لسانه عُقْدَةً، فَلَمَّا دعا في أَنْ تُحَلَّ لِيُفْقَهَ قولُهُ، أُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ، لكِنَّهُ بقي أثرٌ كان البيانُ يقع معه، فَعَيَّرَهُ فرعونُ به.
وقوله: {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} يقتضى أَنَّه كان يُبِين.
وقوله: {فَلَوْلاَ أُلْقِىَ عَلَيْهِ}: يريد من السماء، على معنى التكرمة، وقرأ الجمهور: {أَسَاوِرَةٌ} وقرأ حفص عن عاصم: {أَسْوِرَةٌ} وهو ما يجعل في الذِّرَاعِ من الحلي، وكانت عادة الرجال يومئذ لُبْسَ ذلك والتَّزَيُّنَ به.
* ت *: وذكر بعض المفسرين عن مجاهد أَنَّهم كانوا إذا سَوَّدُوا رجلاً سَوَّرُوهُ بِسِوَارٍ، وَطَوَّقُوهُ بِطَوْقٍ من ذهب؛ علامةً لسيادته، فقال فرعون: هلا ألقى رَبُّ موسى على موسى أساورةً من ذهب، أو جاء معه الملائكةُ مقترنين مُتَتَابعين، يُقَارِنُ بعضُهُمْ بَعْضاً، يمشون معه شاهدين له، انتهى، وقال * ع *: قوله: {مُقْتَرِنِينَ}: أي: يحمونه، ويشهدون له، ويقيمون حُجَّتَهُ.
* ت *: وما تقدَّم لغيره أحسنُ، ولا يُشَكُّ أنْ فرعونَ شَاهَدَ مِنْ حماية اللَّه لموسى أموراً لم يَبْقَ معه شَكٌّ في أنَّ اللَّه قَدْ مَنَعَهُ منه.
وقوله سبحانه: {ءَاسَفُونَا} معناه: أغضبونا بلاَ خِلاَفٍ.
وقوله: {فجعلناهم سَلَفاً} السلف: الفارط المُتَقَدِّمُ، أي: جعلناهم متقدِّمين في الهلاك؛ لِيَتَّعِظَ بهم مَنْ بعدهم إلى يوم القيامة، وقال البخاريُّ: قال قتادةُ: {وَمَثَلاً لِّلأَخِرِينَ} عِظَةً، انتهى.

.تفسير الآيات (57- 59):

{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)}
وقوله سبحانه: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً...} الآية، روي عن ابن عباس وغيره في تفسيرها؛ أَنَّهُ لما نَزَلَتْ: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ} [آل عمران: 59] الآية، وكَوْنُ عيسى من غير فَحْلٍ قالت قريشٌ: ما يريد محمدٌ من ذكر عيسى إلاَّ أَنْ نعبده نَحْنُ كما عَبَدَتِ النصارى عيسى، فهذا كان صدودُهُمْ.
وقوله تعالى: {وَقَالُواْ ءَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ...} هذا ابتداء معنى ثان، وذلك أَنَّهُ لما نزل: {إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] الآية، قال ابن الزِّبَعْرَى ونظراؤه: يا محمد، أآلهتنا خير أم عيسى؟ فنحن نرضى أنْ تكُونَ آلهتنا مع عيسى؛ إذْ هُوَ خَيْرٌ منها، وإذْ قد عُبِدَ، فهو من الحَصَبِ إذَنْ، فقال اللَّه تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ} ومغالطةً، ونَسُوا أَنَّ عيسى لم يُعْبَدْ برضاً منه، وقالتْ فرقةٌ: المراد ب {هُوَ} محمَّد صلى الله عليه وسلم وهو قولُ قتادة، وفي مصحف أُبَيٍّ: {خَيْرٌ أَمْ هَذَا} فالإشارة إلى نِبِيِّنا محمد عليه السلام، وقال ابن زيد وغيره: المراد ب {هُوَ} عيسى، وهذا هو الراجح، ثم أخبر تعالى عنهم أَنَّهم أهلُ خصامٍ ولَدَدٍ، وأخبر عن عيسى بقوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} أي: بالنبوَّة والمنزلة العالية.
* ت *: ورُوِّينَا في جامع الترمذيِّ عن أبي أُمَامَةَ قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إلاَّ أُوتُوا الجَدَلَ، ثم تلا هذه الآية: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}» قال أبو عيسى: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ، انتهى.
وقوله: {وجعلناه مَثَلاً} أي: عبرةً وآية {لبني إِسْرَائِيلَ} والمعنى: لا تستغربوا أَنْ يُخْلَقَ عيسى مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ؛ فَإنَّ القُدْرَةَ تقتضي ذلك، وأكثر منه.

.تفسير الآيات (60- 62):

{وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)}
وقوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ} معناه: لجعلنا بدلاً منكم، أي: لو شاء اللَّهُ لَجَعَلَ بَدَلاً من بني آدم ملائكةً يسكُنُونَ الأَرْضَ، ويخلفون بني آدم فيها، وقال ابن عباس ومجاهد: يخلف بعضهم بعضاً، والضمير في قوله: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ} قال ابن عَبَّاس وغيره: الإشارة به إلى عيسى، وقالت فرقة: إلى محمد، وقال قتادة وغيره: إلى القرآن.
* ت *: وَكَذَا نقل أبو حيَّان هذه الأقوالَ الثلاثة، ولو قيل: إنَّه ضميرُ الأمر والشَّأن؛ استعظاماً واستهوالاً لأَمْرِ الآخِرَةِ ما بَعُدَ، بل هو المتبادَرُ إلى الذِّهْنِ، يَدُلُّ عليه: {فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا}، واللَّه أعلم،، وقرأ ابن عباس، وجماعة: {لَعَلَمٌ} بفتح العين واللام، أي: أمارة، وقرأ عِكْرِمَةُ: {لَلْعِلْمُ} بلامين الأولى مفتوحة، وقرأ أُبيٌّ: {لَذِكْرٌ لِلسَّاعَةِ} فمن قال: إنَّ الإشارة إلى عيسى حَسَنٌ مع تأويله عِلْم وعَلَم، أي: هو إشعارٌ بالساعة، وشَرْطٌ من أَشراطها، يعني: خروجه في آخر الزمان، وكذلك مَنْ قال: الإشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أي: هو آخر الأنبياء، وقد قال: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ» يعني السبابة والوسطى، ومَنْ قال: الإشارة إلى القرآن حَسُنَ قوله مع قراءة الجمهور، أي: يعلمكم بها وبأهوالها.
وقوله: {هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ}: إشارة إلى الشرع.

.تفسير الآيات (63- 65):

{وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)}
وقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عيسى بالبينات} يعني: إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وغير ذلك، وباقي الآية تكرَّر معناه.
وقوله: {هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ} حكايةٌ عن عيسى عليه السلام، إذْ أشار إلى شرعه.

.تفسير الآيات (66- 67):

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)}
وقوله سبحانه: {هَلْ يَنظُرُونَ} يعني: قريشاً، والمعنى: ينتظرون و{بَغْتَةً} معناه: فجأة، ثم وَصَفَ سُبْحَانَه بَعْضَ حالِ القيامة، فقال: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}، وذلك لهولِ مطلعها والخوف المُطِيفِ بالناس فيها؛ يتعادى ويتباغضُ كُلُّ خليل كان في الدنيا على غير تُقًى؛ لأَنَّه يرى أَنَّ الضَّرَرَ دخل عليه من قِبَلِ خليله، وأَمَّا المُتَّقُونَ فَيَرَوْنَ أَنَّ النفْعَ دخَلَ من بعضهم على بعض، هذا معنى كلام عليٍّ رضي اللَّه عنه وخَرَّجَ البَزَّارُ عن ابن عَبَّاس قال: قيل: يا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ جُلَسَائِنَا خَيْرٌ؟ قَالَ: «مَنْ ذَكَّرَكُمْ باللَّهِ رُؤْيَتُهُ، وَزَادَكُمْ في عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ، وَذَكَّرَكُمْ بِاللَّهِ عَمَلُهُ» اه، فمِنْ مِثْلِ هؤلاء تصلُحُ الأُخُوَّةُ الحقيقية، واللَّه المستعانُ، ومن كلام الشيخ أبي مَدْيَنَ رضي اللَّه عنه: دليلُ تخليطِكَ صُحْبَتُكَ للمخلِّطين، ودليلُ انقطاعك صُحْبَتُكَ لِلمُنْقَطِعِين، وقال ابن عطاء اللَّه في التنوير: قَلَّ ما تَصْفُو لَكَ الطَّاعَات، أو تَسْلَمُ من المخالَفَات، مع الدخول في الأسباب، لاِستلزامها لمعاشرة الأضداد؛ ومخالطة أَهْلِ الغَفْلة والبِعَاد، وأَكْثَرُ ما يعينك على الطاعات رؤيةُ المُطِيعين، وأَكْثَرُ ما يُدْخِلُكَ في الذَّنْبِ رؤيةُ المُذْنِبين، كما قال عليه السلام: «المَرْءُ على دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ» والنفس من شأنها التَّشَبُّهُ والمحاكَاةُ بصفَاتِ مَنْ قارَنَهَا، فصحبةُ الغافلين مُعِينَةٌ لها على وجود الغَفْلَةِ، انتهى،، وفي الحِكَمِ الفارقيَّة: مَنْ ناسب شَيْئاً انجذب إليه؛ وظَهَرَ وَصْفُهُ عليه، وفي سماع العُتْبِيَّةِ قال مالك: لا تصحبْ فاجراً؛ لئلاَّ تتعلمَ من فجوره، قال ابن رُشْدٍ: لا ينبغي أنْ يصحب إلاَّ مَنْ يُقْتَدَى به في دينه وخيره؛ لأَنَّ قرينَ السوء يُرْدِي؛ قال الحكيم: [الطويل]
إذَا كُنْتَ في قَوْمٍ فَصَاحِبْ خِيَارَهُم ** وَلاَ تَصْحبِ الأردى فتردى مَعَ الرَّدِي

عَنِ الْمَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِه ** فَكُلُّ قَرِينٍ بالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي

انتهى.
* ت *: وحديث: «المَرْءُ على دِينِ خَلِيلهِ» أخرجه أبو داود، وأبو بكر بن الخطيب وغيرهما، وفي المُوَطَّإ من حديث معاذ بن جبل، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: قال اللَّه تبارك وتعالى: «وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالمُتَجَالِسِينَ فِيَّ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ والمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ» قال أبو عمر: إسناده صحيحٌ عن أبي إدريس الخولانيِّ عن معاذ، وقد رواه جماعة عن معاذٍ، ثم أسند أبو عمر من طريق أبي مسلم الخولاني، عن معاذ قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «المُتَحَابُّونَ في اللَّه على مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ في ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ»، قال أبو مسلم: فخرجت فلقيتُ عُبَادَةَ بنَ الصَّامِتِ، فذكرتُ له حديث مُعَاذٍ، فقال: وَأَنا سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ: قَالَ: «حَقَّتْ مَحَبَّتِي عَلَى المُتَحَابِّينَ فِيَّ، وحَقَّتْ مَحَبَّتِي عَلَى المُتَزَاوِرِينَ فيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتي عَلَى المُتَبَاذِلِينَ فيَّ،، والمُتَحَابُّونَ في اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ في ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ» انتهى من التمهيد.