فصل: تفسير الآية رقم (111):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الدر المنثور في التفسير بالمأثور (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (109):

{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)}
أخرج الفريابي وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم} فيفزعون فيقول: ماذا أجبتم فيقولون: لا علم لنا، فيرد إليهم أفئدتهم فيعلمون.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا} قال: ذلك أنهم نزلوا منزلاً ذهلت فيه العقول، فلما سئلوا قالوا: لا علم لنا، ثم نزلوا منزلاً آخر فشهدوا على قومهم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس في قوله: {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم} فيقولون للرب تبارك وتعالى: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طريق الضحاك عن ابن عباس في قوله: {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا} قال: فرقا تذهل عقولهم، ثم يرد الله عقولهم إليهم، فيكونون هم الذين يسألون يقول الله: {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين} [ الأعراف: 6].
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله: {فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا} قال: من هول ذلك اليوم.
وأخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم قال: يأتي على الخلق ساعة يذهل فيها عقل كل ذي عقل، {يوم يجمع الله الرسل}.
وأخرج الخطيب في تاريخه عن عطاء بن أبي رباح قال: جاء نافع بن الأزرق إلى ابن عباس فقال: والذي نفسي بيده لتفسرن لي آياً من كتاب الله عز وجل أو لأكفرن به، فقال ابن عباس: ويحك.. ! أنا لها اليوم، أي آي؟ قال: أخبرني عن قوله عز وجل {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا} وقال في آية أخرى {ونزعنا من كل أمة شهيداً فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله} [ القصص: 75] فكيف علموا وقد قالوا لا علم لنا؟ وأخبرني عن قول الله: {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} [ الزمر: 31] وقال في آية أخرى {لا تختصموا لديَّ} [ ق: 38] فكيف يختصمون وقد قال: لا تختصموا لديَّ؟ وأخبرني عن قول الله: {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم} [ يس: 65] فكيف شهدوا وقد ختم على الأفواه؟ فقال ابن عباس: ثكلتك أمك يا ابن الأزرق، إن للقيامة أحوالاً وأهوالاً وفظائع وزلازل، فإذا تشققت السموات، وتناثرت النجوم، وذهب ضوء الشمس والقمر، وذهلت الأمهات عن الأولاد، وقذفت الحوامل ما في البطون، وسجرت البحار، ودكدكت الجبال، ولم يلتفت والد إلى ولد، ولا ولد إلى والد، وجيء بالجنة تلوح فيها قباب الدر والياقوت حتى تنصب على يمين العرش، ثم جيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام من حديد ممسك بكل زمام سبعون ألف ملك، لها عينان زرقاوان، تجر الشفة السفلى أربعين عاماً، تخطر كما يخطر الفحل، لو تركت لأتت على كل مؤمن وكافر، ثم يؤتى بها حتى تنصب عن يسار العرش، فتستأذن ربها في السجود فيأذن لها، فتحمده بمحامد لم يسمع الخلائق بمثلها تقول: لك الحمد إلهي إذ جعلتني أنتقم من أعدائك ولم تجعل لي شيئاً مما خلقت تنتقم به مني إلى أهلي، فلهي أعرف بأهلها من الطير بالحب على وجه الأرض، حتى إذا كانت من الموقف على مسيرة مائة عام، وهو قول الله تعالى: {إذا رأتهم من مكان بعيد} [ الفرقان: 12] زفرت زفرة فلا يبقي ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا صديق منتخب، ولا شهيد مما هنالك الآخر جاثياً على ركبتيه، ثم تزفر الثانية زفرة فلا يبقى قطرة من الدموع إلا بدرت، فلو كان لكل آدمي يومئذ عمل اثنين وسبعين نبياً لظن أنه سيواقعها، ثم تزفر الثالثة زفرة فتنقطع القلوب من أماكنها، فتصير بين اللهوات والحناجر، ويعلو سواد العيون بياضها، ينادي كل آدمي يومئذ يا رب نفسي نفسي، لا أسألك غيرها، حتى أن إبراهيم ليتعلق بساق العرش ينادي: يا رب نفسي نفسي، لا أسألك غيرها، ونبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: يا رب أمتي أمتي، لا همة له غيركم، فعند ذلك يدعى بالأنبياء والرسل فيقال لهم {ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا} طاشت الأحلام وذهلت العقول، فإذا رجعت القلوب إلى أماكنها {نزعنا من كل أمة شهيداً فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله} [ القصص: 75] وأما قوله تعالى {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} [ الزمر: 31] فيؤخذ للمظلوم من الظالم، وللمملوك من المالك، وللضعيف من الشديد، وللجماء من القرناء حتى يؤدي إلى كل ذي حق حقه، فإذا أدى إلى كل ذي حق حقه أمر بأهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، اختصموا فقالوا: ربنا هؤلاء أضلونا {ربنا من قدم لنا هذا فزده عذاباً ضعفاً في النار} [ ص: 16] فيقول الله تعالى {لا تختصموا لديَّ وقد قدمت إليكم بالوعيد} [ ق: 38] إنما الخصومة بالموقف، وقد قضيت بينكم بالموقف، فلا تختصموا لدي. وأما قوله: {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم} [ يس: 65] فهذا يوم القيامة، حيث يرى الكفار ما يعطي الله أهل التوحيد من الفضائل والخير. يقولون: تعالوا حتى نحلف بالله ما كنا مشركين، فتتكلم الأيدي بخلاف ما قالت الألسن: وتشهد الأرجل تصديقاً للأيدي، ثم يأذن الله للأفواه فتنطق {فقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء} [ فصلت: 21].

.تفسير الآية رقم (110):

{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)}
أخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر وابن مردويه عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة دعى بالأنبياء وأممها، ثم يدعى بعيسى فيذكره الله نعمته عليه فيقربها، يقول {يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك...} الآية. ثم يقول {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} [ المائدة: 116] فينكر أن يكون قال ذلك، فيؤتي بالنصارى فيسألون؟ فيقولون: نعم، هو أمرنا بذلك. فيطول شعر عيسى حتى يأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده، فيجاثيهم بين يدي الله مقدار ألف عام، حتى يوقع عليهم الحجة، ويرفع لهم الصليب، وينطلق بهم إلى النار».
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي بكر بن عياش عن ابن وهب عن أبيه قال: قدم رجل من أهل الكتاب اليمن فقال أبي: ائته واسمع منه. فقلت: تحيلني على رجل نصراني؟ قال: نعم. ائته واسمع منه. فأتيته فقال: لما رفع الله عيسى عليه السلام أقامه بين يدي جبريل وميكائيل فقال له {اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك} فعلت بك وفعلت بك، ثم أخرجتك من بطن أمك، ففعلت بك وفعلت بك، ستكون أمة بعدك ينتجلونك وينتجلون ربوبيتك، ويشهدون أنك قدمت وكيف يكون رب يموت؟ فبعزتي حلفت لأناصبنهم الحساب يوم القيامة، ولأقيمنهم مقام الخصم من الخصم حتى ينفذوا ما قالوا ولن ينفذوه أبداً، ثم أسلم وجاء من الأحاديث بشيء لم أسمع مثلها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات} أي الآيات التي وضع على يديه من احياء الموتى، وخلقه من الطين كهيئة الطير. ثم ينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، وإبراء الأسقام، والخبر بكثير من الغيوب مما يدخرون في بيوتهم، وما رد عليهم من التوراة مع الإنجيل الذي أحدث الله إليه، ثم ذكر كفرهم بذلك كله.

.تفسير الآية رقم (111):

{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)}
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: {وإذ أوحيت إلى الحواريين} يقول: قذفت في قلوبهم.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة {وإذ أوحيت إلى الحواريين} قال: وحي قذف في قلوبهم ليس بوحي نبوّة، والوحي وحيان: وحي تجيء به الملائكة، ووحي يقذف في قلب العبد.

.تفسير الآيات (112- 115):

{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)}
أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان الحواريون أعلم بالله من أن يقولوا هل يستطيع ربك، إنما قالوا: هل تستطيع أنت، ربك هل تستطيع أن تدعوه.
وأخرج الحاكم وصححه والطبراني وابن مردويه عن عبد الرحمن بن غنم قال: سألت معاذ بن جبل عن قول الحواريين {هل يستطيع ربك} أو تستطيع ربك؟ فقال؟ أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم {هل تستطيع ربك} بالتاء.
وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس أنه قرأها {هل تستطيع ربك} بالتاء ونصب ربك.
وأخرج أبو عبيد وابن جرير عن سعيد بن جبير أنه قرأها {هل تستطيع ربك} قال: هل تستطيع أن تسأل ربك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عامر الشعبي أن علياً كان يقرأها {هل يستطيع ربك} قال: هل يعطيك ربك.
وأخرج عبد بن حميد عن يحيى بن وثاب وأبي رجاء أنهما قرآ {هل يستطيع ربك} بالياء والرفع.
وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: {هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء} قال: قالوا: هل يطيعك ربك إن سألته، فأنزل الله عليهم مائدة من السماء فيها جميع الطعام إلا اللحم، فأكلوا منها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {مائدة} قال: المائدة الخوان. وفي قوله: {وتطمئن} قال: توقن.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: {تكون لنا عيداً لأوّلنا وآخرنا} يقول: نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {تكون لنا عيداً لأوّلنا وآخرنا} قال: أرادوا أن تكون لعقبهم من بعدهم.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وأبو بكر الشافعي في فوائده المعروفة بالغيلانيات عن سلمان الفارسي قال: لما سأل الحواريون عيسى ابن مريم المائدة كره ذلك جداً، وقال: اقنعوا بما رزقكم الله في الأرض، ولا تسألوا المائدة من السماء فإنها إن نزلت عليكم كانت آية من ربكم، وإنما هلكت ثمود حين سألوا نبيهم آية، فابتلوا بها حتى كان بوارهم فيها، فأبوا إلا أن يأتيهم بها، فلذلك {قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين}.
فلما رأى عيسى أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها قام فألقى عنه الصوف، ولبس الشعر الأسود، وجبة من شعر، وعباءة من شعر، ثم توضأ واغتسل ودخل مصلاه، فصلى ما شاء الله، فلما قضى صلاته قام قائماً مستقبل القبلة، وصف قدميه حتى استويا فألصق الكعب بالكعب، وحاذي الأصابع بالأصابع، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره، وغض بصره، وطأطأ رأسه خشوعاً، ثم أرسل عينيه بالبكاء، فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه من خشوعه، فلما رأى ذلك دعا الله فقال: {اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأوّلنا وآخرنا} تكون عظة منك لنا {وآية منك} أي علامة منك تكون بيننا وبينك، وارزقنا عليها طعاماً نأكله {وأنت خير الرازقين}.
فأنزل الله عليهم سفرة حمراء بين غمامتين، غمامة فوقها وغمامة تحتها، وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من فلك السماء تهوي إليهم، وعيسى يبكي خوفاً للشروط التي اتخذ الله فيها عليهم، إنه يعذب من يكفر بها منهم بعد نزولها عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين، وهو يدعو الله في مكانه ويقول: إلهي اجعلها رحمة، إلهي لا تجعلها عذاباً، إلهي كم من عجيبة سألتك فأعطيتني، إلهي اجعلنا لك شاكرين، إلهي أعوذ بك أن تكون أنزلتها غضباً ورجزاً، إلهي اجعلها سلامة وعافية ولا تجعلها فتنة ومثلة، فما زال يدعو حتى استقرت السفرة بين يدي عيسى، والحواريون وأصحابه حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا فيما مضى رائحة مثلها قط، وخر عيسى والحواريون لله سجداً شكراً له بما رزقهم من حيث لم يحتسبوا، وأراهم فيه آية عظيمة ذات عجب وعبرة.
وأقبلت اليهود ينظرون فرأوا أمراً عجباً أورثهم كمداً وغماً، ثم انصرفوا بغيظ شديد، وأقبل عيسى والحواريون وأصحابه حتى جلسوا حول السفرة، فإذا عليه منديل مغطى قال عيسى: من أجرؤنا على كشف المنديل عن هذه السفرة وأوثقنا بنفسه وأحسننا بلاء عند ربه فليكشف عن هذه الآية حتى نراها، ونحمد ربنا، ونذكر باسمه، ونأكل من رزقه الذي رزقنا، فقال الحواريون: يا روح الله وكلمته، أنت أولانا بذلك وأحقنا بالكشف عنها.
فقام عيسى: فاستأنف وضوءاً جديداً، ثم دخل مصلاه فصلى بذلك ركعات، ثم بكى طويلاً ودعا الله أن يأذن له في الكشف عنها، ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقاً، ثم انصرف وجلس إلى السفرة، وتناول المنديل وقال: بسم الله خير الرازقين، وكشف عن السفرة، وإذا هو عليها سمكة ضخمة مشوية ليس عليها بواسير، وليس في جوفها سوك، يسيل منها السمن سيلاً، قد نضد حولها بقول من كل صنف غير الكراث، وعند رأسها خل، وعند ذنبها ملح، وحول البقول خمسة أرغفة على واحد منها زيتون، وعلى الآخر تمرات، وعلى الآخر خمس رمانات، فقال شمعون رأس الحواريين لعيسى: يا روح الله وكلمته أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة؟ فقال: أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات وتنتهوا عن تنقير المسائل، ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب هذه الآية.
فقال شمعون: لا وإله إسرائيل ما أردت بها سوءاً يا ابن الصديقة. فقال عيسى: ليس شيء مما ترون عليها من طعام الجنة ولا من طعام الدنيا، إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة، فقال له كن فكان أسرع من طرفة عين، فكلوا مما سألتم بسم الله، واحمدوا عليه ربكم يمدكم منه ويزدكم، فإنه بديع قادر شاكر.
فقال يا روح الله وكلمته إنا نحب أن ترينا آية في هذه الآية. فقال عيسى: سبحان الله.. ! أما اكتفيتم بما رأيتم من هذه الآية حتى تسألوا فيها آية أخرى! ثم أقبل عيسى على السمكة فقال: يا سمكة عودي بإذن الله حية كما كنت، فأحياها الله بقدرته فاضطربت وعادت بإذن الله حية طرية تلمظ كما يتلمظ الأسد، تدور عيناها لها بصيص، وعادت عليها بواسيرها، ففزع القوم منها وانحاسوا، فلما رأى عيسى ذلك منهم قال: ما لكم تسألون الآية فإذا أراكموها ربكم كرهتموها، ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بما تصنعون! يا سمكة عودي بإذن الله كما كنت، فعادت بإذن الله مشوية كما كانت في خلقها الأول.
فقالوا لعيسى: كن أنت يا روح الله الذي تبدأ بالأكل منها ثم نحن بعد. فقال: معاذ الله من ذلك، يبدأ بالأكل كل من طلبها. فلما رأى الحواريون وأصحابهم امتناع نبيهم منها خافوا أن يكون نزولها سخطة وفي أكلها مثلة فتحاموها، فلما رأى ذلك عيسى دعا لها الفقراء والزمنى وقال: كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم، واحمدوا الله الذي أنزلها لكم، يكون مهناها لكم وعقوبتها على غيركم، وافتتحوا أكلكم بسم الله واختتموه بحمد الله ففعلوا، فأكل منها ألف وثلثمائة إنسان بين رجل وامرأة، يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ.
ونظر عيسى والحواريون فإذا ما عليها كهيئة إذ نزلت من السماء لم ينتقص منه شيء، ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون فاستغنى كل فقير أكل منها، وبريء كل زمن منهم أكل منها، فلم يزالوا أغنياء صحاحاً حتى خرجوا من الدنيا، وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سألت منها أشفارهم، وبقيت حسرتها في قلوبهم إلى يوم الممات. قال: فكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبلت بنو إسرائيل إليها من كل مكان يسعون يزاحم بعضهم بعضاً، الأغنياء والفقراء والنساء والصغار والكبار والأصحاء والمرضى يركب بعضهم بعضاً، فلما رأى عيسى ذلك جعلها نوباً بينهم، فكانت تنزل يوماً ولا تنزل يوماً، فلبثوا في ذلك أربعين يوماً تنزل عليهم غباً عند ارتفاع الضحى، فلا تزال موضوعة يؤكل منها، حتى إذا قالوا ارتفعت عنهم بإذن الله إلى جو السماء وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم.
فأوحى الله إلى عيسى أن اجعل رزقي في المائدة لليتامى والفقراء والزمنى دون الأغنياء من الناس، فلما فعل الله ذلك ارتاب بها الأغنياء وغمصوا ذلك، حتى شكوا فيها في أنفسهم وشككوا فيها الناس، وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر، وأدرك الشيطان منهم حاجته، وقذف وساوسه في قلوب المرتابين، حتى قالوا لعيسى: أخبرنا عن المائدة ونزولها من السماء حق فإنه ارتاب بها بشر منا كثير. قال عيسى: كذبتم وإله المسيح، طلبتم المائدة إلى نبيكم أن يطلبها لكم إلى ربكم، فلما أن فعل وأنزلها الله عليكم رحمة ورزقاً وأراكم فيها الآيات والعبر كذبتم بها وشككتم فيها، فأبشروا بالعذاب فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله، وأوحى الله إلى عيسى إني آخذ المكذبين بشرطي، فإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، فلما أمسى المرتابون بها وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة من نسائهم آمنين، فلما كان من آخر الليل مسخهم الله خنازير، وأصبحوا يتتبعون الأقذار في الكناسات.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس. أنه كان يحدث عن عيسى ابن مريم أنه قال لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً؟ ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم، فإن أجر العامل على من عمل له، ففعلوا ثم قالوا: يا معلم الخير قلت لنا إن أجر العامل على من عمل له، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوماً ففعلنا، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوماً إلا أطعمنا، {هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء} إلى قوله: {أحداً من العالمين} فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم.
وأخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد، فخانوا وادخروا ورفعوا لغد، فمسخوا قردة وخنازير».
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من وجه آخر عن عمار بن ياسر موقوفاً مثله. قال الترمذي: والوقف أصح.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمار بن ياسر قال: نزلت المائدة عليها ثمر من ثمر الجنة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: المائدة سمكة وأريغفة.
وأخرج سفيان بن عيينة عن عكرمة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لولا بنو إسرائيل ما خنز الخبز ولا أنتن اللحم، ولكن خَبَّأوه لغد فأُنتن اللحم وخنز الخبز».
وأخرج ابن الأنباري في كتاب الأضداد عن أبي عبد الرحمن السلمي في قوله: {أنزل علينا مائدة من السماء} قال: خبزاً وسمكاً.
وأخرج ابن الأنباري وأبو الشيخ في العظمة عن سعيد بن جبير قال: نزلت المائدة وهي طعام يفور، فكانوا يأكلون منها قعوداً، فأحدثوا فرفعت شيئاً فأكلوا على الركب، ثم أحدثوا فرفعت البتة.
وأخرج ابن الأنباري عن وهب بن منبه قال: كانت مائدة يجلس عليها أربعة آلاف فقالوا لقوم من وضعائهم: إن هؤلاء يلطخون ثيابنا علينا فلو بنينا لها دكاناً يرفعها، فبنوا لها دكاناً فجعلت الضعفاء لا تصل إلى شيء، فلما خالفوا أمر الله عز وجل رفعها عنهم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ عن عطية العوفي قال: المائدة سمكة فيها من طعم كل طعام.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة. أن الخبز الذي أنزل مع المائدة كان من أرز.
وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال: نزل على عيسى ابن مريم والحواريين خوان عليه خبز وسمك، يأكلون منه أينما تولوا إذا شاؤوا.
وأخرج ابن جرير وابن الأنباري في كتاب الأضداد من طريق عكرمة عن ابن عباس في المائدة قال: كان طعاماً ينزل عليهم من السماء حيثما نزلوا.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال: هو الطعام ينزل عليهم حيث نزلوا.
وأخرج ابن جرير عن إسحاق بن عبد الله. أن المائدة نزلت على عيسى ابن مريم، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات يأكلون منها ما شاؤوا، فسرق بعضهم منها وقال: لعلها لا تنزل غداً فرفعت.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن الأنباري وأبو الشيخ عن قتادة قال: ذكر لنا أنها كانت مائدة ينزل عليها الثمر من ثمار الجنة، وأمروا أن لا يخبئوا ولا يخونوا ولا يدخروا لغد بلاء أبلاهم الله به، وكانوا إذا فعلوا شيئاً من ذلك أنبأهم به عيسى، فخان القوم فيه فخبأوا وادَّخَروا لِغدٍ.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: أنزل على المائدة كل شيء إلا اللحم. والمائدة الخوان.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ميسرة وزاذان قالا: كانت المائدة إذا وضعت لبني إسرائيل اختلفت الأيدي فيها بكل طعام.
وأخرج ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه أنه سئل عن المائدة التي أنزلها الله من السماء على بني إسرائيل؟ قال: كان ينزل عليهم في كل يوم في تلك المائدة من ثمار الجنة، فأكلوا ما شاؤوا من ضروب شتى، فكانت يقعد عليها أربعة آلاف، فإذا أكلوا أبدل الله مكان ذلك بمثله، فلبثوا بذلك ما شاء الله.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {أنزل علينا مائدة من السماء} قال: هو مثل ضرب ولم ينزل عليهم شيء.
وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال: مائدة عليها طعام أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا، فأبوا أن ينزل عليهم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري عن الحسن قال: لما قيل لهم {فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً} قالوا: لا حاجة لنا فيها فلم تنزل عليهم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين} قال: ذكر لنا أنهم لما صنعوا في المائدة ما صنعوا حوِّلوا خنازير.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {فمن يكفر بعد منكم} بعد ما جاءته المائدة {فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين} يقول: أعذبه بعذاب لا أعذبه أحداً غير أهل المائدة.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن عبد الله بن عمرو قال: إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة والمنافقون وآل فرعون.
وأخرج عبد بن حميد عن عاصم أنه قرأ {إني منزلها} مثقلة.