فصل: سنة إحدى وستين وسبعمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة تسع وخمسين وسبعمائة:

أول المحرم: استقر محب الدين محمد بن نجم الدين يوسف بن أحمد بن عبد الدايم التيمي، المعروف بكاتب جانكلى، صاحب ديوان الأمير قجا السلاح دار، في نظر البيوت.
وفي هذا الشهر: أمر- بإشارة الأمير صَرْغتمش- أن تضرب فلوس زنة الفلس منها مثقال، فضرب منها عدة قناطير. ثم رسم أن يكون كل فلس من هذه الجدد بفلسين من العتق، وكل رطل من الفلوس العتق بدرهم ونصف، بعد ما كان الرطل منها بدرهمين. وركب والي القاهرة ووالي مصر ومحتسبيهما وأحمال الفلوس الجدد بين أيديهم. ونودي في الناس بأن يتعاملوا بها على ما ذكرنا. فاستمرت المعاملة بالفلوس الجدد، واستقرت أربعة وعشرون فلساً بدرهم فضة.
وعزل تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي عن قضاء دمشق، واستقر عوضه بهاء الدين أبو البقاء محمد بن عبد البر السبكي الشافعي.
واستقر جمال الدين محمود بن أحمد بن مسعود القونوي- المعروف بابن السراج الحنفي- في قضاء الحنفية بدمشق، عوضاً عن شهاب الدين أحمد بن فزارة الكفري.
واستقر شرف الدين أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عسكر البغدادي المالكي في قضاء المالكية بدمشق، عوضاً عن جمال الدين المسلاتي.
وأستقر شمس الدين محمد بن أحمد بن المخلطة في قضاء الإسكندرية، عوضاً عن ابن الريغي.
وفي يوم سار البريد بالقبض على الأمير طاز نائب حلب، فبلغ الخبر طاز، فسار من حلب في أصحابه كأنه يريد الحرب. وأخذ السلطان في تجهيز العساكر لقتاله، فلما قارب دمشق، أرسل إلى الأمير على النائب بأنه مملوك السلطان وفي طاعته، وما قصدت إلا أن يصل أهلي إلى دمشق في سلامة من نهب العربان والتراكمين. وسلم نفسه، فقبض نائب الشام على حاشيته وجهز سيوفهم إلى السلطان على العادة، وحمل طاز مقيداً إلى الكرك فبطلت تجريدة العساكر، ورسم بنقل طاز إلى الإسكندرية. وكتب باستقرار الأمير منجك في نيابة حلب، عوضاً عن طاز.
وتقدم مرسوم قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن محمد بن جماعة، بألا يشهد في المساطير المكتبة بمبلغ كبير من المال، وفي صدقات النساء التي مبلغها كبير إلا أربعة شهود، ولا يشهد على مريض بوصية إلا بإذن أحد القضاة الأربعة، أو أحد نواب الشافعي.
وفى يوم الخميس ثامن عشرين جمادى الآخر: صرف قاضي القضاة عز الدين بن جماعة عن القضاء، واستقر عوضه الشيخ بهاء الدين عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عقيل العقيلي، فأبطل ما رسم به للشهود، وفرق من مال الصدقات في الفقراء نحو الستين ألف درهم في أيام ولايته، وفرق الفقهاء مائة وخمسين ألف درهم من وصية، واستناب زوج ابنته سراج الدين عمر بن رسلان بن نصير بن صالح البلقيني وتاج الدين بن سالم وغيره من أصهاره.
وأنعم على الأمير شهاب الدين أحمد بن قشتمر حمص أخضر بإمرة مائة.
وكثر في شهر رمضان إكرام السلطان للأمير صَرْغَتْمش، وأمر فعمل له بثغر الإسكندرية قبانخ. فلما كان يوم الاحد تاسع عشره أصبح السلطان متوعك البدن، فلما دخل عليه صَرْغَتْمُش ليعوده ألبسه القبانخ ونزل إلى داره. ثم صعد من الغد يوم الإثنين عشرينه إلى القصر على عادته، وأمر ونهى على باب القصر وصرف أمور الدولة على عادته، ثم دخل. فلما استقر به الجلوس، وتكامل المركب، تقدم الأمير طيبغا الطويل، وقبض عليه، وأعانه الأمير منكلى بغا، ثم قبض على الأمير قشتمر القاعي حاجب الحجاب والأمير طقبغا صاروق الماجارى. وارتج القصر. بمن فيه، فركب الأمير أحمد بن قشتمر في عدة من المماليك، ولبس وهم آلة الحرب، ووقف تحت القلعة، فركب إليه الأمير عز الدين أزدمر الخازندار، والأمير يلبغا الخاصكي، والأمير تنكر بغا، والأمير طيبغا الطويل، والأمير منكلى بغا، في طائفة من المماليك السلطانية، وقاتلوه من بكرة النهار إلى العصر حتى هزموه ومن معه. وركب العامة أقفيتهم يرجمونهم بالحجارة، ثم امتدت أيديهم إلى بيت الأمير صَرْغتْمش فنهبوه، ونهبوا الحوانيت التي بالصليبة بجواره، وتتبعوا العجم، فإن صرغتمش كان يعنى بهم، ونوه باسمهم، وجعل مدرسته وقفاً عليهم. فكان يوماً مشهوداً عظيماً شناعته. واستمر الطلب على ابن قَشتَمُر حتى قيض عليه وعلى جماعته من أخر النهار، فقيدوا وحملوا إلى الإسكندرية- وفيهم صرغَتمش- فسجنوا بها.
وقبض على القاضي ضياء الدين يوسف بن أبى بكر محمد ناظر المارستان وأهين وأركب على حمار، ثم نفي بعد ضربه بالمقارع عرياً، ومصادرته. وعزل عامة من كان جهته صَرْغَتْمُش، فعزل قطب الدين بن عرب من حسبة القاهرة، واستقر عوضه الشيخ عبد الرحيم الإسنوي، وعزل ابن عقيل عن قضاء القضاة بعد اثنين وثمانين يوماً، وأعيد عز الدين بن جماعة في يوم الثلاثاء حادي عشرين شهر رمضان. وقبض على ناظر الخاص والجيش علم الدين عبد اللّه بن نقوله وصودر، واستقر عوضه في نظر الخاص تاج الدين بن الريشة مضافاً إلى الوزارة. وفي نظر الجيش محب الدين محمد بن نجم الدين يوسف بن أحمد بن عبد الدايم. واستقر عوض محب الدين في نظر البيوت فخر الدين بن السعيد. قبض على جرجى الأدريسي ونفي في عدة من الأمراء.
وأنعم السلطان على عدة من مماليكه بأمريات، أنعم على مملوكه الأمير يلبغا الخاصكي بتقدمة ألف، وعمله أمير مجلس عوضاً عن تنكز بغا. وأنعم على كل من الأميرين مَنكَلى بُغَا والأمير طَيبغا الطويل، والأمير أندَمُر الشامي والأمير ألجَاي اليوسفي بإمرة مائة وتقدمة ألف. وعمل أيْدَمر الشامي داودارا، وألحَا حاجباً ثانياً. وعمل الأمير عز الدين أزدمر الخازن دار أميراً كبيراً، مكان صَرْغَتمش، وولاه نظر المارستان المنصوري، ونظر وقف الصالح إسماعيل بقية المنصورية. وأنعم على عدة من مماليكه أيضًا بأمريات ما بين طبلخاناه وعشرات.
وفي يوم الأحد: المبارك ولد للسلطان ولد ذكر سماه قاسم، وأعطاه إمرة مائة.
ونقل الأمير مَنْجَك من نيابة حلب إلى نيابة الشام، عوضاً عن أمير علي. ونقل أمير علي إلى نيابة حلب.
وفيه خرجت تجريدة إلى برقة مع الأمير محمد باك القازاني.
وفي هذه السنة: كثر اختصاص قطب الدين هِرْماس بالسلطان، وصار يدخل عليه متى أراد بغير إذن، ويدخل معه أيضاً زوج ابنته صدر الدين. وكانت بين الهندي سراج الدين عمر الحنفي وبين الهرماس منافرة، فتقدم لقاضي القضاة جمال الدين عبد اللّه بن التركماني أن يعزله من نيابة الحكم، فصرفه وهجره، فأعرض عنه عامة فقهاء الحنفية. وفيه استقر التنيسي المالكي في قضاء الإسكندرية بعد وفاة ابن المختلطة وقدم الخبر بموت صرغَتمش في سجنه بالإسكندرية، فكانت مدة سجنه شهرين واثني عشر يوماً.

.ومات في هذه السنة من الأعيان:

شرف الدين أبو البقاء خالد بن العماد إسماعيل بن محمد بن عبد اللّه بن محمد بن محمد بن خالد بن محمد بن نصر القَنسَراني، بدمشق عن نيف وخمسين سنة.
ومات الأمير الكبير سيف الدين صَرغَتْمش الناصري بسجن الإسكندرية مقتولاً في ذي الحجة. كان يكتب الخط الجيد، ويشارك في الفقه على مذهب أبى حنيفة، ويتعصب لمذهبه، ويجل العجم، ويختص بهم، ويتكلم أيضاً في العربية، ودبر أمر الدولة مدة. ومات أبو عنان فارس بن أبي الحسن علي بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق بن محيو بن جماعة المريني متملك المغرب وصاحب فاس.
وتوفي فخر الدين أبو العباس محمد بن أحمد بن عبد الله بن المُختَلطَة قاضي الإسكندرية، في يوم الجمعة سابع رجب.
وتوفي شمس الدين بن عيسى بن حسن بن كر الحنبلي إمام أهل الموسيقى، وله تأليف حسن في الموسيقى.
ومات الأمير سيف الدين تَنْكِزبغا المارديني، أمير مجلس، وزوج أخت السلطان حسن ومات الأمير الطواشي، صفي الدين جوهر الجَناحي، مقدم المماليك، وقد قارب المائة سنة.
وتوفى شمس الدين أبو عبد اللّه محمد بن إبراهيم بن داود بن نصر الهكاري الكردي الدمشقي الشافعي بدمشق، في ذي القعدة، ومولده سنة خمس وثمانين وست مائة. حدث عن التقي الواسلي، والشريف بن عساكر وتفقه وأفتى ودرس.
وتوفى أمير المدينة النبوية الشريف مانع بن علي بن مسعود بن جاز بن شيحة الحسيني. واستقر بعد ابن عمه فضل بن قاسم في ذي القعدة سنة ثلاث وخمسين. وكثر تظاهره. بمذهبه. فلما قدم الحاج ولبس الخلعة على العادة وثب عليه فداويان، قتلاه في أواخر ذي الحجة، فثارت الفتنة بعد قتله، وتأذى بها كثير من الحجاج.
وتوفي إمام الحنابلة بمكة أبو عبد الله محمد بن محمد بن عثمان بن موسى الآمدي الحنبلي، بعدما أم الناس ثلاثين سنة.
ومات قتيلاً الأمير سيف بن فضل بن مهنا بن عيسى بن مهنا بن مانع بن حديثة بن غضينة بن فضل في ذي القعدة. وكان جواداً، ولى إمرة آل فضل غير مرة.
ومات الأمير مَلَكتمُر السعيدي، في ثامن ذي القعدة.

.سنة ستين وسبعمائة:

في الأربعاء ثالث المحرم: قدم أمير على إلى دمشق وقد أعيد إلى نيابتها، وعزل الأمير مَنجَك عنها، وطلب إلى مصر، ففر من غزة ولم يُقف على خبره، فعوقب بسببه عدة من الناس.
واستقر الأمير سيف الدين بكتمر المؤمني في نيابة حلب، ثم صرف عنها، واستقر عوضه الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي.
وصرف أمير على عن نيابة الشام، واستقر عوضه الأمير سيف الدين أَسَنْدَمُر الزيني. وانتهت زيادة ماء النيل إلى أربع أصابع من عشرين ذراعاً، وثبت إلى أول شهر هاتور، فخرج الناس ودعوا حتى هبط، فكثرت الأمراض ببلاد الصعيد.
وفيها عقد لشمس الدين محمد بن علي بن عبد الواحد بن يوسف بن عبد الرحيم الدكالي الأصل، المعروف بابن النقاش، الفقيه الشافعي، فجلس بين يدي قاضي القضاة عز الدين بإشارة الهرماس، وادعى عليه زين الدين عبد الرحيم العراقي أنه يفتي بغير مذهب الشافعي، فمنع من الإفتاء، وألا يتكلم في مجالس الوعظ، إلا من كتاب، فامتنع بعد ما حبس، ثم أفرج عنه.
وفيه أخرج الأمير عز الدين. أَزدَمر الخازندار إلى الشام، على إمرة بها، فانحط قدر الهرماس فإن أَزْدَمُر هذا كان عضده.
وفي شهر رجب: سارت الحجاج الرجبية من القاهرة، وسافر فيهم قاضي القضاة عز الدين بن جماعة، وقاضي القضاة موفق الدين الحنبلي، وقطب الدين الهرماس. وكان الشريف عجلان قد قدم من مكة، فعزله السلطان عن إمارتها وولى عوضه الشريفان محمد بن عُطفة وسند بن رُمَيثة، وقواهما بالأمير جرَكتمُر الحاجب والأمير قطلوبغا المنصوري، وناصر الدين أحمد بن أصلَم، ليقيموا بمكة، حتى يأتيهم البدل من مصر.
وعُوق الشريف عجلان بمصر، فاتصل- في غيبة الهرماس- بالسلطان، سراج الدين عمر الهندي قاضي العسكر، وشمس الدين محمد بن النقاش، ولازماه سفراً وإقامة، وبلغا منه منزلة مكينة، فأخذا في إغراء السلطان به حتى تنكر له، وتغير عليه، لقوادح رمياه بها.

.ومات في هذه السنة من الأعيان:

جمال الدين أبو إسحاق إبراهيم بن الشهاب محمود بن سلمان بن فهد الحلبي كاتب سر حلب.
ومات الأمير عز الدين تُقطاي الداودار الصالحي بطرابلس منفياً، أصله من مماليك يلبغا اليحياوي، ثم انتقل إلى الملك الصالح فترقى حتى صار من الأمراء، ثم أخرج إلى الشام، فقدم دمشق في ربيع الآخر سنة تسع وخمسين، ومضى إلى طرابلس، فأقام لها حتى هلك.
وتوفى الشيخ خليل بن عبد الرحمن بن محمد بن عمر أبو الوفا المالكي.
ومات علم الدين محمد بن القطب أحمد بن مفضل، كاتب سر دمشق وناظر الجيش بها، وقد جاوز الستين.
ومات تقي الدين محمد بن أحمد بن شاس المالكي، في يوم الأربعاء رابع شوال، وقد ناب في الحكم وأفتى ودرس.
ومات تقي الدين محمود بن محمد بن عبد السلام بن عثمان القيسي، أبو المظفر الحموي، عرف بابن الحكيم الحنفي، قاضي حماة، وقد أناف على ستين سنة.
ومات الأمير سيف الدين بن فضل بن عيسى، قتله عمر بن موسى. وكان قد ولى إمرة العرب في أيام المظفر حاجى بعد أحمد بن مهنا، فلما مات أعيد أحمد بن مهنا. واللّه تعالى أعلم بالصواب.

.سنة إحدى وستين وسبعمائة:

فيها استقر أًمين الدين محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن نصر اللّه بن المظفر بن أسعد بن حمزة التميمي، المعروف بابن القلانسي الدمشقي، كاتب السر بدمشق، استقر صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، كاتب السر بحلب.
ولما قدم الحاج، كان السلطان بقصور سرياقوس توجه قاضي القضاة عز الدين ابن جماعة، وقاضي القضاة موفق الدين عبد اللّه الحنبلي، والشيخ قطب الدين الهرماس، وقد قدموا من الحج للسلام على السلطان، فأذن للقاضيين في الدخول على السلطان، فدخلا ومنع الهرماس من ذلك، فأقبل السلطان عليهما وألبسهما خلعتين، وخرجا إلى منازلهما بالقاهرة. وتبين للناس انحطاط رتبة الهرماس، وفساد حاله مع السلطان.
وفيه سار الأمير بيدمر نائب حلب بالعساكر إلى بلاد سيس، ففتح أذنة وطرسوس والمصيصة وعدة قلاع، وأقام بأذنة وطرسوس نائبين بعسكر معهما، وعاد بالغنائم إلى حلب، فنقل في شهر ربيع الأول إلى نيابة دمشق عوضاً عن أسندمر الزيني.
واستقر الأمير شهاب الدين أحمد بن القشتمري في نيابة حلب.
واستقر ناصر الدين محمد بن يعقوب بن عبد الكريم بن أبي المعالي الحلبي كاتب السر بحلب عوضاً عن الصلاح الصفدي، واستقر الأمير ألجاي اليوسفي صاحب الحجاب بدمشق.
وظفر المسلمون بغراب للفرنج فأسروا من فيه، وقدموا بهم القاهرة.
واستقر فخر الدين ماجد- ويدعى عبد الله بن أمين الدين خصيب- في الوزارة، بعد وفاة ابن الريشة. وكان خصيب من جملة الكتاب النصارى فأسلم وترقى ابنة ماجد في الخدم بالكتابة الديوانية حتى ولى الوزارة.
وفيها اشترى السلطان القصر المعروف بالبيسري من القاهرة، وقصر بشتاك المقابل له، وجدد عمارتهما.
وفي يوم الأحد: ركب السلطان من قلعة الجبل، وعبر من باب زويلة إلى المارستان المنصوري، وشقاق الحرير مفروشة ليمشي عليها، فزار أباه وجده. وقد زينت له القاهرة، واجتمع بالمدرسة المنصورية قضاة القضاة الأربع، ومشايخ العلم. بهاء الدين ابن عقيل، وزين الدين البسطامي الحنفي، وأكمل الدين الحنفي، وبهاء الدين السبكي، وسراج الدين الهندي، وسراج الدين البلقيني، وناصر الدين نصر اللّه الحنبلي، وشمس الدين بن الصايغ الحنفي، وشمس الدين محمد بن النقاش، وبدر الدين حسن الشجاع الحنفي، وعدة أخر. فأتاهم السلطان وهم بالإيوان القبلي، فجلس وهم حلقة بين يديه، وأداروا البحث في مسألة حتى انتهوا إلى غايتهم فيها. وقدمت عدة سجاجيد وغيرها للسلطان، فقبلها، وصار يرمي بها إلى الأمراء وهم يقبلون الأرض. ثم قام فركب من الباب، وركب معه ابن النقاش وسراج الهندي، حتى حاذى جامع الحاكم، فأمر بهدم دار الهرماس. ثم خرج من باب النصر وصعد إلى القلعة.
فهدمت دار الهرماس المجاورة للجامع، ونزل الأمير شرف الدين موسى بن الأزكشي فقبض على الهرماس وولده، ونزع عنه ثيابه، وضربه بالمقارع قريباً من عشرة شيوب، وداره تهدم وهو يشاهدها، ثم أخرج إلى مصياف من بلاد الشام منفياً.
وكان من الدهاء والمكر على جانب كبير. وفيه يقول العلامة شمس الدين محمد بن الصايغ الحنفي:
نال هرماس الخسارة ** من بعد ربح وجسارة

وحسب البهتان يبقى ** أخرب الله دياره

وقبض على الأمير منجك من داريا بالشرف الأعلى ظاهر مدينة دمشق، بعد ما أقام مختفياً نحو سنة، فحمل إلى مصر، وتمثل بين يدي السلطان وهو لابس بشتا من صوف، وقد أعتم. بميزر من صوف، فعفا عنه، وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه بالشام، ورسم أن يكون طرخانا، وأن يقيم حيث شاء من البلاد.
وكان النيل في هذه السنة مما يتعجب منه، فإن القاع جاء نحو اثنتي عشرة ذراعًا. وكان الوفاء يوم الخميس، وهو سادس مسرى، فكسر سد الخليج من الغد يوم الجمعة، ونودي عليه تسعة أصابع من عشرين ذراعاً. ثم بطل النداء عليه فبلغ نحو أربعة وعشرين ذراعاً، وخربت عدة مساكن، واستمر ثابتاً إلى خامس بابة، فخرج الناس من الغد، ودعوا اللّه، فهبط من يومه أربعة أصابع.
وسارت الحجاج الرجبية على العادة. وتوجه الأمير قُنْدش بدلاً من الأمير جركتمر. ورسم بتوجه جركتمر إلى الشام بعد الحج، وقد قطع خبزه. وكان الشريف ثقبة فيما مضى مقيماً بجدة، فلما خرج جركتمر من مكة بعد قضاء الحج، هجم ثقبة عليها، وأخذ خيول قُندسُ ومن معه، وحصرهم في المسجد، فأغلقوا عليهم أبوابه، وقاتلوا من أعلاه بالنشاب، فقتل الشريف مغامس، وانهزم قُندسُ بأصحابه، فقتل منهم وأسر جماعة، نودي عليهم. بمكة للبيع، فبيعوا بأبخس الأثمان. وأخذ قندس، فعذب عذابًا أشفى منه على الموت. ثم نودي عليه، وأبيع بدرهمين، فشفع إليه تقي الدين محمد بن أحمد ابن قاسم الحرازي قاضي مكة، حتى أخرج من مكة ومعه جميع الأتراك. وقد اقترض ما يبلغه إلى ينبع. وفر أيضاً الشريف محمد بن عُطيفة إلى ينبع، والتجأ الشريف سند بن رميثة إلى الشريف ثقبة وصار من جملته. فلما قدم الحاج من المدينة النبوية إلى ينبع، وجدوا بها الأمير قُنْدُس ومن بقي من المجردين ومحمد بن عُطَيْفَةَ، فساروا مع الحاج إلى القاهرة.

.ومات في هذه السنة من الأعيان:

صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلاي أبو سعيد الشافعي صاحب كتاب القواعد وغيره، في المحرم. ومولده سنة أربع وتسعين وستمائة. وكان حافظاً فقيهاً شافعياً، لم يخلف بعده في الحديث مثله. ودرس بالقدس سنتين.
ومات صدر الدين أبو الربيع سليمان بن داود بن سليمان بن محمد بن عبد الحق الحنفي، ناظر الأحباس، عن ثلاث وستين سنة.
ومات جمال الدين أبو محمد عبد اللّه بن يوسف بن أحمد بن عبد اللّه بن هشام النحوي في يوم الثلاثاء ثاني ذي القعدة، ومولده في ذي القعدة سنة ثمان وسبعمائة. ومات الشريف زين الدين أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن عبد اللّه بن جعفر بن زيد بن جعفر بن محمد الممدوح الحسيني الحلبي، نقيب الأشراف بحلب.
ومات السلطان الملك الصالح صالح بن محمد بن قلاوون في محبسه من قلعة الحبل، سلخ ذي الحجة، ودفن بتربة عمه الصالح علي بن قلاوون قريباً من المشهد النفيسي. رحمه اللهّ تعالى.
وتوفى فخر الدين محمد بن محمد بن مسكين الشافعي، أحد نواب الحكم، ولى قضاء الإسكندرية وغيرها عن ثلاث وتسعين سنة، في يوم الاثنين سابع رجب رحمه اللّه ومات صدر الدين محمد بن قاضي القضاة تقي الدين أحمد بن عمر بن عبد اللّه بن عمر بن عوض الحنبلي، فاستقر عوضه في تدريس المدرسة المنصورية قاضي القضاة موفق الدين عبد اللّه الحنبلي. وفي تدريس المدرسة الأشرفية، ناصر الدين نصر اللّه الحنبلي.
ومات شرف الدين موسى بن كجك، الإسرائيلي الأصل، الطيب، في يوم الثلاثاء ثامن شوال. وكان بارعاً في الطب، مشاركاً في عدة علوم، وكتب بخطه الجيد كتباً كثيرة.
وتوفي شهاب الدين أحمد القسطلاني خطيب جامع عمرو بمصر وخطيب جامع القلعة، في يوم الجمعة خامس ذي الحجة.
وتوفي تاج الدين أحمد الزَركشي الشافعي مدرس المدرسة الفارسية، وخطيب الجامع الأخضر في يوم الإثنين ثامن ذي الحجة.
وتوفي سراج الدين عبد اللّه بن محمد بن معز، يوم الخميس حادي عشرين المحرم، عن ماية سنة، وولى حسبة الإسكندرية وشهادة بيت المال.
وتوفي ضياء الدين أبو المحاسن يوسف بن أبى بكر بن محمد المعروف بالضياء بن خطيب بيت الآبار الشامي، في ذي الحجة. ولى الحسبة، ونظر الدولة، ونظر المارستان، وغير ذلك، وكان ناهضاً أميناً. رحمه اللّه تعالى واللّه تعالى أعلم بالصواب.
وحسبنا اللّه ونعم الوكيل.

.سنة اثنتين وستين وسبعمائة:

أهلت والأمراض بالباردة فاشية في الناس، وقد ساءت أحوالهم لطول مدة أمراضهم. وفيها قدم الأمير بيدمر نائب الشام، ومعه الأمير جركتمر المارديني المجرد بالحجاز، وقد قبض عليه وعلى الأمير قطلوبغا المنصوري، وقدم الأمير منجك، وتمثل بين يدي السلطان.
وفيها عدى السلطان إلى بر الجيزة ونزل بناحية كوم برا قريباً من الأهرام.
وفيها قبض على الوزير الصاحب فخر الدين ماجد بن خصيب وعلى أخيه وحواشيه وأصهاره، وأحيط بدياره، وألزم بمال كبير. ثم نفي إلى مصياف من بلاد الشام، فأقام بها سنة ونيفاً ثم نقل إلى القدس، فأقام هناك أربع سنين. ومات وكان قد أظهر في وزارته من الترفع والتعاظم أمراً زائداً. من ذلك أنه ألزم جميع مباشري الدولة والخاص وعامة المشدين بالركوب معه إذا ركب، فإذا وصلوا بين يديه إلى رأس سوق الحريريين من القاهرة، نزل مقدم الدولة ومقدم الخاص ومضيا في ركابه إلى بين القصرين، ثم نزلت طائفة بعد طائفة، بحسب رتبهم، ومشوا بين يديه حتى لا يبقى أحد راكب سواه، إلى أن يصل إلى داره برأس حارة زويلة، فإن كان في داره بفم الخور على النيل نزل من ينزل من قنطرة قدادار ومشوا إلى داره وهو راكب، فإذا مضى إلى الصناعة بمدينة مصر، نزل الناس من باب مصر، وبقي هو وأخوه راكبين. بمفردهما إلى الصناعة، والناس جميعاً مشاة. وعنى بالأسمطة، فكان يطبخ دائماً في كل يوم بداره ألف رطل من اللحم، سوى الدجاج والأوز. وكان يبعث كل ليلة بعد عشائه إلى بين القصرين من القاهرة فيشترى له. بمبلغ مائتين وخمسين درهماً فضة ما بين قطا وسمان وفراخ وحمام وعصافير مقلوة. وتناهي في أنواع الأطعمة الفاخرة، واقترح علباً كبار للحلوى، عرفت بعده مدة سنين بالعلب الخصيبية. وأخبرني الوزير الصاحب تقي الدين عبد الوهاب بن الوزير فخر الدين ماجد بن أبي شاكر أنه كان في دارهم من جواري ابن خصيب جاريتين، تحسن كل واحدة منهما ثمانين لوناً من التقالى سوى بقية ألوان الطعام. وبلغت عدة جواريه سبعمائة جارية، بعد ما كان من أفقر الكتاب. وقد غلبه الدين، وأقام في السجن والترسيم على ديون الناس مدة شهر.
وفيها قدم فخر الدين ماجد بن قزوينة وزير دمشق إلى القاهرة باستدعاء فخلع عليه، واستقر في الوزارة ونظر الخاص عوضاً عن ابن خصيب. وفيها عزل الشيخ جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي نفسه من حسبة القاهرة لمفاوضة حصلت كانت بينه وبين الصاحب فخر الدين ماجد بن قزوينة. واستقر عوضه برهان الدين إبراهيم بن محمد بن أبى بكر الأخنائي أخو قاضي القضاة علم الدين محمد الأخنائي، فسار في الحسبة أحسن سيرة، وتصلحت عامة المعايش وفي يوم السبت سادس ربيع الآخر: سقطت إحدى منارتي مدرسة السلطان حسن، فهلك تحتها نحو ثلاثمائة من الأطفال الأيتام الذين كانوا بمكتب السبيل، وغير الأيتام، فتشاءم الناس بذلك، وتطيروا به لزوال السلطان، فكان كذلك، وزال ملكه في ليلة الأربعاء تاسع جمادى الأولى وذلك أنه بلغه وهو بمنزله بكوم برا أن الأمير يلبغا الخاصكي يريد قتله، وأنه لا يدخل إلى الخدمة إلا وهو لابس آلة الحرب من تحت ثيابه فاستدعى به، وهو مع حريمه في خلوة، وأمر فنزعت عنه ثيابه كلها، ثم كتفت يداه، فشفعت فيه إحدى حظايا السلطان، حتى خلى عنه وخلع عليه، واعتذر إليه بأنه بلغه عنه أنه لا يدخل إلا بالسلاح مخفي في ثيابه. فخرج إلى مخيمه وقد اشتد حنقه، فلم يمض سوى ثلاثةّ أيام وبلغ السلطان أن يلبغا قد خامر وأظهر العصيان، وألبس مماليكه آلة الحرب، فبادر للركوب في طائفة من مماليكه ليكبسه على بغتة، ويأخذه من مخيمه، فسبق ذلك إلى يلبغا من الطواشي بشير الجمدار، وقيل بل من الحطة التي شفعت فيه. فركب بمماليكه من فوره بالسلاح، يوم الإثنين ثامن جمادى الأولى بعد العصر، ولقى السلطان وهو سائر إليه، وتوافقا حتى غربت الشمس، فحمل يلبغا. بمن معه يريد السلطان فانهزم من غير قتال، ومعه الأمير عز الدين أيدمر الدوادار، فتفرقت مماليكه في كل جهة، وتمادى السلطان في هزيمته إلى شاطىء النيل، وركب هو وأيدمر فقط في بعض المراكب، وترك ركوب الحراقة السلطانية، وصعد قلعة الجبل، وألبس من بها من المماليك، فلم يجد في الإصطبل خيولاً لهم، فإنها كانت مرتبطة على البرسيم لتربع على العادة، فاضطرب ونزل من القلعة ومعه أيْدَمُر وقد تنكرا ليسيرا إلى الشام فعرفهما بعض المماليك، فأنكر حالهما، وأخذهما ومضى بهما إلى بيت الأمير شرف الدين موسى بن المازْكَشي، فأواهما.
هذا، وقد مضى يلبغا وقت هزيمة السلطان في إسره فلم يظفر به، فركب الحراقة ومنع أن يعدى مركب بأحد من المماليك السلطانية إلى بر مصر، وعدى بَأصحابه في الليل إلى البر، فلقيه الأمير ناصر الدين محمد بن المحسني والأمير قشتمر المنصوري في عدة وافرة، فحاربهما وهزمهما، وتقدم فهزم طائفة بعد طائفة. ثم وجد الأمير أسنبغا ابن البوبكري في عدة وافرة فقاتله قريباً من قنطرة قديدار، قتالاً كبيراً، جرح فيه أسنبغا وانهزم من كان معه. ومضى يلبغا حتى وقف تحت القلعة، فبلغه نزول السلطان وأَيْدَمُر منكسرين. وبينما هو مفكر فيما يفعله، إذ أتاه قاصد ابن الأزْكَشي وأخبره بأن السلطان وأَيْدَمر عنده، فسار بعسكره إلى بيت ابن الأزْكَشي بالحسينية، وأحاط به، وأخذ السلطان والأمير أَيْدَمُر ومضى بهما إلى داره، قرب جبل الكبش فحبسهما بها، ووكل بهما من يثق به. ثم عاد إلى القلعة وقد امتنع بها طائفة من مماليك السلطان، ورموه بالنشاب، فأعلمهم بأنه قد قبض على السلطان وسجنه في داره، فانحلت عزائمهم، وفتحوا باب القلعة، فصعد يلبغا ومن معه إليها وملكها وأقام في السلطنة محمد بن المظفر حاجي بن محمد بن قلاوون. ولم يوقف للسلطان حسن على خبر، فقيل إنه عاقبه عقوبة شديدة حتى مات ودفنه في مصبطة كان يركب عليها من داره بالكبش. وقيل دفنه بكيمان مضر وأَخفي قبره، فكان عمره دون الثلاثين سنة، منها مدة سلطنته هذه الثانية ست سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام. وترك عشرة أولاد ذكور، وهم أحمد وقاسم وعلي وإسكندر وشعبان وإسماعيل ويحيى وموسى ويوسف ومحمد، وست بنات. وكان من خيار ملوك الأتراك. أخبرني ثقتان من الناس أنهما سمعاه يحلف بالأيمان الحرجة، أنه ما شرب خمرًا ولا لاط منذ كان، إلا أنه شغف بنسائه وجواريه شغفاً زائداً، واشتهر في أمرهن، وأفرط في الإقبال عليهن، مع القيام بتدبير ملكه. وعزم على قطع دابر الأقباط والأتراك المماليك، فولى عدة وظائف كانت بيد الأقباط لجماعة من الفقهاء، منها وظيفة نظر الجيش ونظر بيت المال. وجعل عشرة من أولاد الناس أمراء ألوف، وهم ولداه أحمد وقاسم وأسنبغا بن البوبكري، وعمر بن أرغون النائب، ومحمد بن طرغاي ومحمد بن بهادر آص، ومحمد بن المحسني، وموسى بن أرقطاي، وأحمد بن آل ملك، وموسى بن الأزكشي. وأنعم على عدة منهم بإمريات طبلخاناه وعشرات. وولى ابن القَشتَمُري نيابة حلب، وابن صُبْح نيابة صفد. وقد وافق أباه في عدة أمور في اللقب الخاص بالملوك، فكلاهما لقب بالملك الناصر. وفي أنه خلع ثم أعيد كل منهما إلى السلطنة بعد الخلع، كان ذلك في ثاني شوال. وما منهما إلا من وزر له مُتعمم وصاحب سيف. وأقام مدة بغير وزير ولا نائب، وبنى المدرسة التي لم يبن في ممالك الإسلام بيت للّه مثلها في العظم والجلالة والضخامة.

.السلطان صلاح الدين محمد:

السلطان الملك المنصور صلاح الدين محمد بن الملك المظفر حاجي بن الناصر محمد بن قلاوون أقامه الأمير يلبغا في السلطنة. وذلك أنه لما قبض على السلطان حسن، وصعد إلى القلعة ومعه الأمير طيبغا الطويل أمير سلاح، والأمير مَلَكتمُر المارديني رأس نوبة الجمدارية، والأمير أَشَقتمر أمير مجلس، في بقية الأمراء اشتوروا فيمن يقام في السلطة، فذكر بعضهم الأمير حسين بن محمد بن قلاوون، وهو آخر من بقى من أولاد الملك الناصر محمد لصلبه، فلم يرضوه خشية من أن يستبد بالأمير دونهم ثم لا يبقى منهم أحداً. وذكر الأمير أحمد بن السلطان حسن فرأوا أن تقديمه- وقد عُمل بأبيه ما عُمل- سوء تدبير فإن الحال يلجئه لأن يأخذ بثأر أبيه، فأعرضوا عنه.
ووقع الطارق على محمد بن المظفر حاجى، فاستدعى الخليفة وقضاة القضاة، وأحضر ابن المظفر وعمره نحو أربع عشرة سنة، ففوض الخليفة إليه أمور الرعية، وركب والكافة بين يديه من باب الدار إلى الإيوان، حتى جلس على تخت الملك، وحلف له الأمراء على العادة، وهو لابس الثوب الخليفتي، وذلك في يوم الأربعاء تاسع جمادى الأولى، ولقب بالملك المنصور صلاح الدين. وهو أول من تسلطن من أولاد أولاد الملك الناصر محمد، فقام الأمير يلبغا بتدبير الدولة، ولم يبق للمنصور سوى الاسم. واستقر الأمير طَيبغا الطويل على عادته أمير سلاح، والأمير قطلُوبغا الأحمدي رأس نوبة كبير، والأمير مَلَكتمُر المارديني رأس نوبة الجمدارية، والأمير أشَقتمُر أمير مجلس، والأمير أرغون الأشعردي دوادارا، والأمير ألجاى اليوسفي حاجب الحجاب، والأمير قَشتمر المنصوري نائب السلطنة.
ودقت البشائر، ونودي بالقاهرة ومصر بسلطنة الملك المنصور، وكتب إلى الأعمال بذلك، فسارت البريدية.
وقبض على الأمير ناصر الدين محمد بن المحسني وسجن بالإسكندرية.
وأفرج عن الأمير طاز وقد سمل الناصر حسن عينيه، فلما مثل بين يدي السلطان وعلى عينيه شعرية توجع له وخلع عليه، فسأل الإقامة بالقدس وأجيب إلى ذلك، وأنعم له بإمرة طبلخاناه. فسار إلي القدس وأقام به.
وأفرج عن الأمير جركَتمر المارديني والأمير قَطْلُوبُغا المنصوري، والأمير قَشتَمُر القاسمي، والأمير مَلَكتمُر المحمدي، والأمير أَقتمُر عبد الغني، والأمير بَكتمر المؤمني، وأخيه طاز. واستقر قَشتَمُر القاعي نائب الكرك، ومَلَكتمُر المحمدي نائب صفد. وأخرج بَكتمُر المؤمني إلى أسوان منفياً. ونقلت رمة الأمير صَرْغَتمش من الإسكندرية، ودفنت بمدرسته المجاورة لجامع ابن طولون خارج القاهرة. وخلع على الشريف عجلان وأعيد إلى إمارة مكة.
وقدمت الأخبار في شهر رجب بخروج الأمير بَيدَمُر نائب الشام عن الطاعة، وموافقة جماعة من الأمراء له على ذلك، منهم أسَنْدَمُر أخو يَلبغا اليحياوي، والأمير مَنجَك وجماعة، وأنه قام لأخذ ثأر السلطان حسن، وأفتاه جماعة من الفقهاء بجواز قتال قاتله الذي تغلب على المُلك- يعني الأمير يَلْبُغا- ومنع البريد أن يمر من الشام. وجهز الأمير مَنجَك والأمير أَسَندَمُر الزيني في عسكر إلى غزة، فحاربوا نائبها وملكوها. فنصب الأمير يَلبُغا. السَنْجق السلطاني، وتقدم إلى الأمراء بالتجهيز للسفر، وأخرج الأمير قَشَتمر نائب السلطة إلى جهة الصعيد في عسكر ليحفظ تلك الجهة في مدة الغيبة بالشام.
وأقيم الأمير شرف الدين موسى بن الأزْكَشي نائب الغيبة، وخرجت طلاب الأمراء شيئاً بعد شيء. وركب السلطان في أول شهر رمضان من قلعه الجبل، ونزل خارج القاهرة، ثم رحل وصحبته الخليفة والأمراء، وتاج الدين محمد بن إسحاق المناوي قاضى العسكر، وسراج الدين عمر الندى قاضي العسكر. فرحل الأمير منجَك بمن معه من غزة، عائداً إلى دمشق. فنزل بها السلطان بعساكره وجلس الأمير يلبغا لعرض العسكر. ثم ساروا جميعاً إلى دمشق، وخيموا بظاهرها، فخرج إليهم أكثر أمراء دمشق وعسكرها راغبين في الطاعة، حتى لم يبق من الأمراء مع بَيْدَمُر سوى مَنجَك وأَسَنْدَمُر- وقد امتنعوا بالقلعة- فترددت القضاة بين الفريقين في الصلح حتى تقرر، وحلف لهم الأمير يَلُبغا على ذلك، فاطمأنوا إليه ونزلوا من القلعة.
فركب السلطان بعساكره صبح يوم الإثنين تاسع عشرين شهر رمضان، ودخل إلى دمشق وقبض على الأمير بيدمر والأمير منجك والأمير أَسَندَمُر، وقيدوا، فأنكر ذلك جمال الدين يوسف بن محمد المرداوي الحنبلي قاضي دمشق، وصار إلى الأمير يَلْبُغا، وقال له: لم يقع الصلح على هذا فاعتذر بأنه ما قصد إلا إقامة حرمة السلطان، ووعد بالإفراج عنهم. فلما انصرف بعث بهم إلى الإسكندرية، فسجنوا بها. وصعد السلطان إلى قلعة دمشق، وسكنها. واستبد الأمير يَلْبُغا بتدبير الأمور في الشام، على عادته في مصر. واستقر الأمير علاء الدين أمير على نائب الشام عوضاً عن الأمير بَيْدَمُر، واستقر الأمير قطْلُوبُغا الأحمدي رأس نوبة في نيابة حلب عوضاً عن الأمير أحمد بن القَشتمري.
ثم سار السلطان بعساكره من دمشق، في يوم الأحد، فلما قرب من القاهرة دُقت البشائر بقلعة الجبل، وزينت القاهرة ومصر زينة عظيمة، وصعد إلى قلعته في يوم الإثنين عشرين شوال.
وفيه قدم الأمير قَشْتَمُر النائب من الوجه القبلي.
وقدم الأمير حيار بن مهنا، فخلع عليه، واستقر في الإمرة عوضاً عن أخيه فياض ابن مهنا بعد موته.
واستقر علاء الدين على بن إبراهيم بن حسن بن تميم في كتابة سر حلب، عوضاً عن ناصر الدين محمد بن الصاحب شرف الدين يعقوب بن عبد الكريم.
واتفق بحلب أن في يوم الإثنين سادس عشرين ربيع الأول جىء إلى النائب بمولود قد مات بعد ولادته بساعة، فإذا له على كل كتف رأس بوجه مستدير، وهما إلى جهة واحدة.
وفيها اتفق الأمير حسين بن محمد بن قلاوون مع الطواشي جوهر الزمردي نائب مقدم المماليك على أن يلبس المماليك السلطانية آلة الحرب ويتسلطن. وكان السفير بينهما نصر السليماني أحد طواشية الأمير حسين، فوشى بذلك إلى الأمراء. وكان السلطان بالشام، فبادر الأمير أَيْدَمُر الشمسي نائب الغيبة والأمير موسى بن الأزْكَشي وقبضا على جوهر ونصر وسجنا بخزانة شمايل بالقاهرة. فلما قدم السلطان والأمير يلبغا سمراً وشهراً، ثم نفيا إلى قوص في ذي القعدة.

.ومات في هذه السنة من الأعيان ممن له ذكر:

شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب بن خلف بن بدر، المعروف بابن بنت الأعز العلائي، الففيه الشافعي، ناظر بيت المال، وناظر الأحباس في يوم الخميس ثامن عشر ربيع الآخر.
والأمير بلبان السناني أستادار السلطان، وأحد مقدمى الألوف، بعد ما نفاه الناصر حسن ثم أعيد واستقر إلى القلعة، وهو من المماليك الناصرية محمد بن قلاوون.
ومات الشريف شهاب الدين حسين بن محمد بن حسين بن محمد بن حسين بن حسين بن زيد المعروف بابن قاضي العسكر الأرموي نقيب الأشراف بديار مصر، وكاتب السر بحلب، عن اثنتين وستين سنة، بالقاهرة.
ومات الشريف بدر الدين محمد بن علي بن حمزة بن علي بن الحسن بن زهرة بن الحسن بن زهرة نقيب الأشراف بحلب.
ومات شمس الدين محمد بن عيسى بن محمد بن عبد الوهاب بن دويب الآمدي الدمشقي المعروف بابن قاضي شهبة، الأديب الماهر، خطيب مدينة غزة، وكاتب الإنشاء بدمشق.
ومات شمس الدين محمد بن مجد الدين عيسى بن محمود بن عبد الضيف البعلبكي المعروف بابن المجد الموسوي في سلخ صفر. وكان قد ابتلى في الوسواس بأمر شديد، حتى أنه كان إذا توضأ من فسقية المدرسة الصالحية بين القصرين لايزال به وسواسه إلى أن يلقى نفسه في الماء بثيابه ويغطس شتاءً وصيفاً، زعماً منه أنه لا يسبغ الوضوء ما لم يفعل هذا. وكان جميل المعاشرة حسن المحاضرة، لا تمل مجالسته.
وتوفي الشيخ جمال الدين عبد اللّه بن الزيلعي الحنفي، في حادي عشرين المحرم، برع في الفقه والحديث، وخرج أحاديث الهداية في الفقه على مذهب أبي حنيفة، وخرج أحاديث الكشاف للزمخشري في تفسير القرآن، وبين ما وصلت إليه قدرته من أسانيدها، فأحسن ما شاء.
وتوفي الشيخ جمال الدين خليل بن عثمان بن الزولي في حادي عشرين المحرم، كان شافعياً ثم صار حنفياً، وكان تيمي الاعتقاد حتى مات. ولي خطابة جامع شيخو وإمامته، وتدريس الحديث بالخانكاه الشيخونية. وكان لشيخو فيه اعتقاد جيد، وله به اختصاص. وكان عبداً صالحاً كثير السكون، يكتب الخط الجيد.
وتوفي الحافظ علاء الدين مُغْلطَاي بن قليج بن عبد الله البَكْخَري الحنفي المحدث.
وتوفي الشيخ المعمر أبو العباس أحمد بن موسى الزرعي الحنْبلي، أحد الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، في المحرم بمدينة حبراص من الشام. قدم إلى القاهرة، وكان قوياً في ذات اللّه، جريئاً على الملوك، أبطل مظالم كثيرة، وصحب شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية فانتفع به. وكان متقشفاً، وله وجاهة عند الخاصة والعامة، لزهده وورعه وتقواه. ولما قدم على الناصر محمد بقلعة الجبل، قال له: يا شيخ ما جئتنا بهدية! فقال: نعم، جراب ملآن حيات وعقارب. وأخرج جراباً فيه قصص مظالم، فرسم السلطان بإجابته إلى جميع ذلك. وعاد إلى دمشق، فأمضى النائب بعضها ودافع في البعض.
وتوفي الفقيه المنشىء الكاتب كمال الدين أبو عبد اللّه محمد بن شرف الدين أحمد ابن يعقوب بن فضل بن طرخان الزينبي الجعفري العباسي الدمشقي الشافعي، بضواحي القاهرة، عن بضع وخمسين سنة، في ربيع الأول.
وتوفي الخواجا عز الدين حسين بن داود بن عبد السيد بن علوان السلامي التاجر، في رجب بدمشق، وقد حدث عن ابن النجاري وغيره.
ومات الأمير سيف الدين المهمندار حاجب الحجاب بدمشق، في شوال.
والأمير سيف الدين برناق، نائب قلعة دمشق في شعبان.
ومات محيى الدين أبو زكريا يحيى بن عمر بن الزكي بن أبي القاسم الشافعي قاضي الكرك، في أوائل ذي القعدة بالقدس، معزولاً.
وتوفي الشريف ثُقبة بن رُميثَة في شوال، وانفرد أخوه عَجلان بعده بإمارة مكة.
وفيها قتل صاحب فاس ملك المغرب السلطان أبو سالم إبراهيم، ابن السلطان أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق في ليلة الأربعاء ثامن عشر ذي القعدة. وأقيم بعده أبو عمر تاشفين بن السلطان أبي الحسن.