فصل: سنة ثالث عشرة وسبعمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة اثنتي عشر وسبعمائة:

فيها انتهت عمارة الجامع الجديد الناصري بساحل مصر، فنزل السلطان إليه، ورتب فيه قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعية خطيباً، ورتب فيه أربعين صوفياً في سطحه، وأربعين صوفياً بداخله ورتب لكل منهم الخبز واللحم في اليوم. ومبلغ خمسة عشر درهماً في الشهر، وجعل شيخهم قوام الدين الشيرازي ووقف السلطان عليه قيسارية العنبر بالقاهرة، وعمر له ربعاً وحماماً، وأقام له خطيباً. وأول صلاة صليت به ظهر يوم الخميس ثامن صفر، بإمامة الفقيه تاج الدين أبي عبد اللّه محمد بن الشيخ مرهف، وخطب فيه من الغد يوم الجمعة تاسعه قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة. فحكر الناس حوله، وبنوا الدور وغيرها.
وقدم البريد من حلب بعبور قرا سنقر ومن معه من الأمراء إلى بلاد التتر، وأنهم بعثوا بأولادهم وحريمهم إلى مصر. وكان من خبرهم أنهم لما وصلوا إلى الرحبة انقطع كثير ممن تبعهم من المماليك والتركمان، فبعث قرا سنقر ولده الأمير فرج، وبعث الأفرم ولده موسى مع بعض من يوثق به، وأمرا بتقبيل الأرض بين يدي السلطان، وأن يبلغاه أن الأمراء ما حملهم على دخول بلاد العدو إلا الخوف، وأن الأولاد والحريم وداعه، فليفعل السلطان معهم ما يليق به، فقدما إلى القاهرة، وبقيا في الخدمة. وسار الأمراء إلى ماردين، وكتبوا إلى خربندا بقدومهم، فبعث أكابر المغل إلى لقائهم، وتقدم إلى ولاة الأعمال بخدمتهم والقيام لهم. بما يليق بهم. فلما قاربوا الأرد وركب خربندا وتلقاهم، وترجل لهم لما ترجلوا له، وبالغ في إكرامهم وسار بهم إلى مخيمه، وأجلسهم معه على التخت، وضرب لكل منهم خركاه، ورتب لهم الرواتب السنية. ثم استدعاهم بعد يومين، واختلا بقرا سنقر، فحسن له عبور الشام، وضمن له تسليم البلاد بغير قتال، ثم خلا بالأفرم فحسن له أيضاً أخذ الشام، إلا أنه خيله من قوة السلطان وكثرة عساكره. فأقطع خربندا مراغة لقرا سنقر، وأقطع همذان للأفرم، واستمروا هكذا.
وفي يوم الأحد عاشر ربيع الأول: قبض السلطان على القاضي فخر الدين محمد ابن فضل الله ناظر الجيش، وعلى ولده شمس الدين: وسبب ذلك مفاوضة حصلت بينه وبين فخر الدين أياز الشمسي مشد الدواوين، اشتط فيها القاضي على الفخر أياز الشمسي وأهانه، فاجتمع أياز بالدواوين وعرفهم ماله من الأموال والدواليب في أعمال مصر، واجتمع بالسلطان وأغراه به، والتزم له أن يستخلص منه ألف درهم فأعجبه ذلك ومكنه منه، فاشتد بأسه حينئذ، وجلس على باب القلعة، وفتح مع الفخر باب شر، وأغلظ في القول بحضرة الأمراء إلى أن قال له: أنت كسرت معاملات السلطان وخربت بلاده، وأخذت أراضي الخاص عملتها لك رزقاً، ثم نهض وقال: أنا باللّه وبالسلطان، ودخل والفخر خلفه حتى وقفا بين يدي السلطان، فبسط أياز لسانه، وحانق الفخر على عدة فصول حتى غضب السلطان، قال له: تسلمه وخذ مالي منه، فأخذه إلى قاعة الصاحب وكتب أياز إلى الأعمال بالحوطة على مواشيه وزراعاته وسواقي أقصابه وغير ذلك وأحيط بموجوده في القاهرة ومصر، وتتبعت حواشيه، فلم يطق الفخر ما هو فيه من البلاء مع أياز، وبعث إلى طغاي وكستاي وإلى الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي أمير جاندار، فتحدثوا في أمره مع السلطان على أن ينقل إلى بيبرس الأحمدي، وأنه يحمل جميع ماله ولا يدع منه شيئاً فتسلمه لبيبرس أمير جاندار من أياز.
وفيها كتب بطلب قطب الدين موسى بن أحمد بن الحسين بن شيخ السلامية ناظر الجيش بدمشق على البريد، فحضر واستقر عوضاً عن الفخر في نظر الجيش. وتمكن أياز من حاشية الفخر، وضرب جماعة منهم بالمقارع، وأخذ سائر موجودهم، وحمل الفخر نحو الخمسمائة ألف درهم. ثم أفرج السلطان عنه وعن ولده وخلع عليهما، في يوم الأربعاء خامس عشرى ربيع الآخر، واستقر الفخر عوضاً عن معين الدين هبة الله ابن حشيش صاحب ديوان الجيش. ولم يوفق ابن شيخ السلامية وارتبك في المباشرة، بحيث أن السلطان كان إذا سأله عن كشف بلد ليعرف حالها يتأخر قدر ساعة، ثم يجيب بغير الغرض، فتبين جهله بمعرفة جيش مصر.
وفي حادي عشرى ربيع الأول: ولى قضاء القضاة الحنابلة بالقاهرة ومصر تقي الدين أحمد بن عز الدين عمر بن عبد الله المقدسي، عوضاً عن سعد الدين مسعود الحارثي.
وفي سادس ربيع الآخر: أمر السلطان ممن مماليكه ستة وأربعين أميراً منهم طبلخاناه تسعة، وعشراوات سبعة عشر، وألوف عشرون؛ وشقوا القاهرة بالشرابيش، وكان يوماً عظيماً.
وفيها قدم العسكر المجرد إلى الشام في يوم الإثنين ثاني ربيع الآخر، وطلع الأمراء إلى القلعة، فقبض على عدة من الأمراء لميلهم إلى قرا سنقر: منهم جمال الدين أقوش نائب الكرك- وكان قد حضر من دمشق، وخلع عليه- وبيبرس المنصوري نائب السلطنة بمصر، وسنقر الكمالي، ولاجين الجاشنكير، وبينجار، والدكز الأشرفي، ومغلطاي المسعودي، وسجنوا.
وفيها استقر سودون الجمدار نائباً بحلب في ربيع الأول، وتمر الساقي المنصوري في نيابة طرابلس في ربيع الآخر.
وفيها كتب بطلب فضل أخي مهنا وولده أبي بكر، وسير إليه تقليد الإمرة عوضاً عن مهنا، وأن مهنا لا يقيم بالبلاد، وخرج بذلك الأمير بهاء الدين أرسلان الدوادار.
وفيها قبض أيضاً في رابع ربيع الأول على بيبرس العلمي بحمص، وعلى الأمير بيبرس المجنون. والأمير علم الدين سنجر البرواني، والأمير طوغان المنصوري، وبيبرس التاجي، وقيدوا وحملوا من دمشق إلى الكرك، فسجنوا بها لميلهم مع قرا سنقر.
وفيها استقر الأمير تنكر الناصري في نيابة دمشق، عوضاً عن الأمير جمال الدين نائب الكرك، مستهل ربيع الآخر، وسار على البريد يوم الجمعة سابعه، فدخلها يوم الخميس عشرى ربيع الآخر، ورسم له ألا يستبد بشيء إلا بعد الاتفاق مع الأمير سيف الدين أرقطاي، والأمير حسام الدين طرنطاي البشمقدار.
وفي سادس عشر ربيع الآخر: أمر السلطان في يوم واحد ستة وأربعين أمير منهم طبلخاناه تسعة وعشرون، وعشراوات سبعة عشر، وشقوا القاهرة بالشرابيش والخلع.
وفي يوم الأثنين أول جمادى الأولى: استقر الأمير سيف الدين أرغون الدوادار الناصري نائب السلطنة، عوضاً عن بيبرس الدوادار المنصوري. ورسم بنيابة صفد لبلبان طرنا أمير جاندار، عوضاً عن بهادر آص، وأن يرجع بهادر إلى دمشق أميراً على عادته، فسافر إليها.
وفيه ركب السلطان إلى بر الجيزة، وأمر طقتمر الدمشقي، وقطلوبغا الفخري المعروف بالفول المقشر، وطشتمر البدري حمص أخضر.
وفيها هدم السلطان الرفرف الذي أنشأه أخوه الأشرف خليل على يد الشجاعي.
وفيها ورد الخبر في أول رجب بحركة خربندا وسبب ذلك رحيل مهنا إليه عند إخراج خبزه لأخيه، وإقامته عنده، وتقوية عزمه على أخذ الشام. وكان السلطان تحت الأهرام بالجيزة، فقوي عزمه على تجريد العساكر، ولم يزل هناك إلى عاشر شعبان، فعاد إلى القلعة، وكتب إلى نواب الشام بتجهيز الإقامات. وعرض السلطان العسكر، وقطع جماعة من الشيوخ العاجزين عن الركوب، وانفق فيهم الأموال. وابتدأ العرض من خامس ربيع الآخر، وكمل في أول جمادى الأولى، فكان السلطان يعرض في كل يوم أميرين بنفسه من مقدمي الألوف، ويخرجان بمن معهما من الأمراء ومقدمي الحلقة والأجناد، وترحلوا شيئاً بعد شيء. من أول رمضان إلى ثامن عشريه، حتى لم يبق بمصر أحد من العسكر.
وخرج السلطان في ثاني شوال، ونزل مسجد تبر خارج القاهرة، ورحل في يوم الثلاثاء ثالثه، ورتب بالقلعة سيف الدين أيتمش المحمدي. فلما كان ثامنه قدم البريد برحيل التتار ليلة سادس عشرى رمضان من الرحبة، وعودهم إلى بلادِهم بعدما أقاموا عليها من أول رمضان، ففرق السلطان العساكر في قانون وعسقلان، وعزم على الحج. ودخل السلطان دمشق في تاسع عشره، وخرج منها ثاني ذي القعدة إلى الكرك، وكان قد أقام بدمشق أرغون النائب للنفقة على العساكر وغير ذلك من الأعمال، وكلف الصاحب أمين الدين بن الغنام بجمع المال اللازم. ودخل السلطان الكرك في ثامن ذي القعدة، وتوجه إلى الحجاز في أربعين أميراً.
وفيها خرج الصاحب أمين الدين عبد الله بن الغنام من القاهرة يوم الثلاثاء ثالث عشرى شوال، ودخل دمشق وأقام بها بعد توجه السلطان ليحصل الأموال، فأوقع الحوطة على الوزير والمباشرين، وطالب محيي الدين بن فضل اللّه بمال كبير عمل به أوراقاً، وأغلظ عليه وأحاط بموجوده، وتتبع حواشيه؛ وصادر أمين الدين أكثر الناس.
وأما القاهرة فإن الأمير علم الدين سنجر الخازن نقل من ولاية البهسنا إلى ولاية القاهرة، أقام الأمير أيتمش المحمدي نائب الغيبة الحرمة، ومنع الأكابر من الهجرة وأنصف الضعفاء منهم. وحج بالركب المصري الأمير مظفر الدين قيدان الرومي.
وفيها استقر في نيابة قلعة دمشق عز الدين أبيك الجمالي، عوضاً عن بلبان البدري، ثم كتب بأن يكون بلبان شريكاً له، فباشرا جميعاً.
وفيها قدت هدية الأشكري.

.ومات في هذه السنة ممن له ذكر:

ضياء الدين أحمد بن عبد القوي بن عبد الرحمن القرشي الإسنائي المعروف بابن الخطيب. الفقيه الشافعي، وكانت وفاته ببلدة أدفو في شوال، وهو في الطريق إلى الحج، فحمل إلى سنا فدفن بها.
ومات تاج الدين أحمد بن محمد بن أبي نصر الشيرازي، محتسب دمشق وناظر الدواوين بها، في رجب عن بضع وخمسين سنة.
ومات عماد الدين أبو العباس أحمد بن قاضي القضاة شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد بن سرور المقدسي الفقيه الحنبلي، في جمادى الآخره بمصر، ومولده ببغداد سنة سبع وثلاثين وستمائة.
ومات زين الدين حسن بن عبد الكريم بن عبد السلام الغماري الفقيه أبو محمد المالكي، سبط زيادة بن عمران، وكانت وفاته في شوال بمصر، قرأ القرآن، وكان خيراً فاضلاً.
ومات نور الدين على بن نصر اللّه بن عمر القرشي- المعروف بابن الصواف- الخطيب الفقيه الشافعي، في رجب بمصر. ومات أبو الحسن علي بن محمد بن هارون ابن محمد بن هارون الثعلبي الدمشقي- قارئ المواعيد- الفاضل الصالح، في ربيع الآخر بمصر عن ست وثمانين سنة، ومات نور الدين أحمد بن الشيخ شهاب الدين عبد الرحيم ابن عبد عز الدين بن عبد الله بن رواحة الأنصاري الحموي بحماة، وكان فاضلاً ديناً، ومات الملك المنصور نجم الدين غازي بن المنصور ناصر الدين أرتق بن إيلغازي بن البن بن تمر تاس بن ايلغازي بن أرتق الأرتقي، صاحب ماردين، في تاسع رجب، وكانت إمرته نحو عشرين سنة، وكان مهاباً، فقام بعده ابنه الملك العادل علي، وأقام سبعة عشر يوماً، ثم ملك أخو الملك الصالح شمس الدين بن الملك المنصور.
ومات الملك المظفر شهاب الدين غازي بن الناصر صلاح الدين داود بن المعظم عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب، يوم الإثنين ثاني عشر رجب بالقاهرة، عن نيف وسبعين سنة، وقد حدث، وماتت امرأته ابنة عمه الملك المغيث بعده، فحرجت الجنازتان معاً، وكان قد حج، وقدم القاهرة من طريق القدس بعدما زاره، ومولده بالكرك في عاشر جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين وستمائة، وكان ديناً متواضعاً فاضلاً. ومات الأمير علم الدين سنجر الصالحي أمير آخور بدمشق، عن مال كبير جداً، مات شرف الدين محمد بن موسى بن محمد بن خليل القدسي في خامس عشر شعبان بالقاهرة، وكان يباشر التوقيع في الإنشاء، ويكتب الخط المليح، ويقول الشعر، ويغلب عليه الهجاء، مع تفننه في علوم كثيرة.
ومات تاج الدين عبد الرحيم بن تقي الدين عبد الوهاب بن الفضل بن يحيي السنهوري، في يوم الثلاثاء، سابع عشر ربيع الآخر، وباشر نظر النظار بديار مصر ستين سنة، وعرضت عليه الوزارة غير مرة فأباها، وكان أميناً كثير الخير، ولم ينكب قط، وعاش مائة وتسع سنين، عزل قبل موته.
ومات قاضي القضاة شمس الدين أبو عبد اللّه محمد بن إبراهيم بن داود بن حازم الأذرعي الحنفي بدمشق، وهو معزول.
ومات الشيخ عمر بن الشيخ أبي عبد اللّه بن النعمان، بمصر يوم الأربعاء خامس عشرى رمضان.
ومات شهاب الدين غازي بن أحمد الواسطي بحلب، في ثامن عشر ربيع الآخر، ولى نظر الدواوين بمصر مدة، ثم نقل إلى نظر حلب، وولي نظر دمشق ونظر الصحبة، وكتب بديوان الإنشاء مدة.
ومات الفقيه نجم الدين أبو عبد الله محمد بن الفقيه جمال الدين عبد العزيز بن أحمد ابن عمر بن جعفر بن اللهيب، في خامس عشر جمادى الآخرة.
ومات بطرابلس الأمير علاء الدين مغلطاي البهائي، وقد رسم بالقبض عليه، فمات قبل وصول البريد بيوم.

.سنة ثالث عشرة وسبعمائة:

في أول المحرم: قدم الأمير سيف الدين قجليس من الحجاز إلى القاهرة مبشرا بعود السلطان.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشره: قدم السلطان من الحجاز إلى دمشق، بعد دخوله إلى المدينة لنبوية، وتوجهه على الكرك وكان دخوله إلى دمشق يوماً مشهوداً، بلغت فيه أجر البيوت مبلغاً زائداً، حتى إن بيتاً أخذت أجرته للنظر إلى السلطان في مدة من بكرة النهار إلى الظهر ستمائة درهم. وعبر السلطان وهو على ناقة وعليه لشت من ملابس العرب بلثام، وبيده حربة، ولعب يوم السبت في الميدان بالكرة. ثم أخذ في الإنعام على بعض رجال دولته، فولى شمس الدين عبد الله بن غبريال بن سعيد نظر دمشق على قاعدة الوزراء، وكان ناظر البيوت؛ ونقل الأمير بدر الدين بكتوت القرماني من شد الدواوين بدمشق إلى نيابة الرحبة، عوضاً عن بدر الدين موسى الأزكشي. وخلع السلطان على الأمراء الذين كانوا صحبته بالحجاز، وعدتهم نحو الأربعين أميراً، وأفرج عن المصادرين، وأعاد الفخر إلى نظر الجيش بديار مصر، وأعاد قطب الدين موسى بن شيخ السلامية إلى نظر الجيش بدمشق.
وصار السلطان إلى مصر في سابع عشريه، بعد أن أقام بدمشق خمسة عشر يوماً، وصلى بالجامع الأموي الجمعة مرتين. وقدم قلعة الجبل في يوم الجمعة ثاني عشر صفر، وكان يوماً مشهوداً.
وفيها نقل الأمير بدر الدين محمد بن فخر الدين عيسي التركماني من ولاية الجيزة إلى شد الدواوين، واستقر فخر الدين أياز الشمسي في شد الدواوين بدمشق، عوضاً عن القرماني، واستقر كريم الدين أكرم بن الخطيري- كاتب الحميدي- المعروف بكريم الدين الصغير، في نظر الدواوين، رفيقاً لتقي الدين أسعد كاتب برلغي ابن أمين الملك مستوفي الحاشية.
وفيها ابتدأ السلطان بعمارة الميدان تحت القلعة، فاختطه من باب الإسطبل إلى نحو باب القرافة، ووزع عمله على الأمراء، فنقلت جمالهم الطين إليه حتى امتلأ وغرس فيه النخل والأشجار، وحفرت فيه الآبار وركبت عليها السواقي، وأدير عليه سور من حجر، وبنى خارجه حوض ماء للسبيل. فلما فرغت عمارته لعب السلطان فيه مع الأمراء بالكرة، وخلع عليهم وشملهم الإنعام الكثير.
وفيها اجتمع القضاة في حادي عشر ربيع الآخر بالمدارس الصالحية بين القصرين للنظر في الشهود، وأقيم منهم جماعة.
وفيها عمل السلطان أيضاً أربع سواقي على النيل تنقل الماء وترميمه على الماء الجاري من النيل إلى السور حتى يصل إلى القلعة، ورم السور وأزال شعثه، فكثر الماء بقلعة الجبل، وزاد البئر الظاهري المجاور لزاوية تقي الدين رجب. بأن عمل عليه نقالة إلى بئر الإسطبل، واهتم بعمل مصالح الجسور التي بالنواحي والترع.
وفيها قبض على الصاحب أمين الدين عبد الله بن الغنام في يوم الخميس سابع عشرى جمادى الأولى، وألزم بحمل ثلاثمائة ألف درهم، وذلك بسعي كريم الدين الكبير وبدر الدين بن التركماني. وأغرق السلطان به، وقيل له إنه أخذ مالاً كثيراً من المصادرين بمصر والشام.
وفيها أبطلت الوزارة، فلم يل أحد بعد أمين الدين، ونقل كريم الدين أكرم الصغير من ديوان الجيش إلى نظر الدولة، شريكاً للتقي أسعد بن أمين الملك كاتب برلغي كما تقدم، واستقر شرف الدين الخيري كاتب سلار، والتاج إسحاق، الموقف أخو الخيري، مستوفي الدولة. فانفرد كريم الدين الكبير بالتمكن من السلطان، وصارت الأمور كلها منوطة به، وركب بجنيبين، وخلع عليه أطلس بطرز زركش، وأشهد على السلطان أنه ولاه جميع ما ولاه اللّه تعالى، وكاتبه الملوك المجاورة مثل ما كاتبوا السلطان.
وفيها أخذ كريم الدين الكبير مع السلطان في العمل على الوزير، وأغراه بالأسعد غبريال كاتب نائب السلطنة، وأنه كثير الظلم، وأنه نقل إلى أستاذه أموراً تضر الدولة، وأغراه بالعلم كبيبه كاتب منكلي بغا. وما زال كريم الدين الكبير بالسلطان حتى سلم الأسعد إلى الأمير علم الدين سنجر الخازن متولي القاهرة، ليخلص منه المال، وسلم العلم كبيبه إليه أيضاً، وضربا قدام السلطان، وضرب معهما أمين الدين بن الغنام بالعصي، إلا غبريال فإنه ضرب بالمقارع. وأوقعت الحوطة على موجود غبريال، وسلم هو وأمين الدين إلى شاد الدواوين، ورسم لمجد الدين سالم أن يتولى بيع موجودهما وحمله إلى بيت المال، فأقام البيع نحو شهر. وحمل من أمين الدين نحو ثلاثماثة ألف درهم من ثمن المبيع، ولم يوجد له نقد ألبته؛ ثم أفرج عنه. وأما غبريال فإن الخازن والي القاهرة عاقبه حتى هلك بعد أسبوع. وما زال أمين الدين ملازماً لداره إلى يوم السبت تاسع عشرى ذي الحجة، فاستدعى وأخلع عليه، واستقر ناظر النظار عوضاً عن الصاحب ضياء الدين النشائي، ونقل النشائي إلى نظر الخزانة، عوضاً عن سعد الدين الحسن بن عبد الرحمن الأقفهسي بعد وفاته.
ولما استقر أمين الدين في نظر النظار، ودخل عليه مجد الدين سالم ليهنه، والمجلس غاص بالناس، نظر أمين الدين إلى الحاضرين، وقال: هذا القاضي مجد الدين تفصل في حقي. حيث كان يتولى أمري في بيع حواصلي، وباع حتى زبادي المطبخ. فالتفت إليه المجد على الفور، وكان مقداماً جريئاً، وقال له: يا مولانا أني والّه تفضلت عليك، وأحسنت إليك غاية الإحسان، وخدمتك أتم خدمة، وبعت من زبادي ونحاس وفرش بمبلغ ثلاثمائة ألف درهم، وما تحدثنا في ظهور درهم ولا دينار، بل سكتنا، ونحن سكوت إلى الآن. فلم يجب أمين الدين سوى بقول حسبنا اللّه.
وفيها ولى السلطان الأمير بدر الدين محمد بن كندغدي بن الوزيري نيابة دار العدل وشد الأوقاف، بسبب قصة رفعت في الأوقاف. وكان ابن الوزيري أميناً حاد الخلق عارفاً بالأمور. فباشر الأوقاف في داره يوم الثامن من ربيع الأول.
وجلس ابن الوزيري بدار العدل في يوم السبت خامس عشرى ربيع الأول، وجلس القضاة الأربعة بين يديه بدار العدل، ورفعت إليه القصص، وصرف الأمور، وطلب سائر مباشري الأوقاف وألزمهم بعمل الحساب مدة عشرين سنة بالأوقاف، وطلب موادع الحكم وتشدد عليهم. فقلق القضاة من ذلك، وسألوه الاغضاء عن ذلك؛ فتمادى في الطلب، وأخرق بعدة من المباشرين، وضربهم لفساد حسابهم. فقام قاضي بدر الدين محمد بن جماعة في العمل عليه- وكان عارفاً بالسعي، وله في ذلك أياد وتراتيب- ووافق رفاقه وصار إلى القاضي كريم الدين الكبير بنفسه، وترامى عليه، ثم اجتمع بالفخر ناظر الجيش، وبعلاء الدين كاتب السر، وبعدة من الخاصكية، وما زال بهم حتى خيلوا السلطان من ابن الوزيري أنه شرس الأخلاق، وله أغراض فاسدة، وقصده إهانة القضاة، وأهل العلم وحط أقدارهم، وقد كثر الدعاء على لسلطان بسببه. فلما تكاثر ذكر ذلك لدى السلطان، وبلغه عدة حكايات عنه، ومنعه من التحدث في الأوقاف، ومن حينئذ بدت عداوة ابن جماعة لفتح الدين محمد بن سيد الناس، واشتد الأمر بينهما إلى أن بلغ السلطان ذلك وتسلط الشهاب أحمد بن عبد الدائم الشارمساحي الشاعر علي ابن جماعة، وهجاه بعدة قصائد بعثها إليه، ورتب هو وابن سيد الناس القصيدة التي أولها: تري يسمع السلطان شكوى المدارس، وعدتها ستون بيتاً، فحبسه ابن جماعة بسببها، لأنه أقذع فيها، وشهرها في الناس إلى أن قرئت على السلطان، فقام أيدغدي شقير في حقه، وأخرجه من السجن.
وفي يوم السبت ثاني جمادى الأولى: استقر صدر الدين بن المرحل في تدريس الزاوية المجدية بالجامع العتيق، عوضاً عن جلالي الدين على بن عبد الله العسلوجي بحكم عزله.
وفي يوم الثلاثاء رابعة: أوفى النيل، وهو أخر أيام النسيء قبل المفرد ثم قدم المفرد بعد الوفاء في يوم الخميس سادسه.
وفيها عمل الروك بالبلاد الشامية، وندب له الأمير علم الدين سنجر الجاولي نائب غزة، وابن معبد، ومعين الدين هبة الله بن حشيش ناظر الجيش بالشام، مع مباشري ديوان الجيوش بمصر. فتوجه الجاولي إلى دمشق، وأمام مع الأمير تنكر النائب إلى أن عملت أوراق بعبرة البلاد ومنحصلها، وما فيها من إقطاع ووقف وملك. وكمل ذلك في ذي الحجة، ونقلت سنة اثنتي عشرة إلى سنة ثلاث عشرة، وجهزت الأوراق إلى السلطان فقرئت عليه؛ فكتب السلطان مثالات جديدة لأمراء دمشق وأجنادها، ووفر عدة قطاعات وبلاد أدخلها في ديوان الخاص، وزاد إقطاع النيا، وكتب بلك مناشير سار بها على البريد الأمير سيف الدين قجليس حتى فرقها على أربابها وعاد.
وفيها توجهت تجريدة إلى مكة صحبة الأمير سيف الدين طقصاي الناصري والي قوص، وسيف الدين بيدوا، وعلاء الدين أيدغدي الخوارزمي، وصاروجا الحسامي، وتوجه دمشق سيف الدين بلبان البدري مع الركب، وأضيف إليهم عدة من الأجناد، وذلك بسبب حميضة بن أبي نمي، فإنه كثر ظلمه.
وفيها قبض على الأميرين عز الدين أيبك الرومي المنصوري، وركن الدين بيبرس الأحمدي أمير جاندار، في رابع عشرى رمضان. وبسبب ذلك مفاوضة جرت بين الأمير علاء الدين أيدغدي شقير وبين أيبك الرومي بحضرة الأمراء على باب القلعة، في انتقال إقطاعات بينهما خرجا فيها عن الحد. فخرج الأمير طغاي وهما في ذلك- والبحيرة بلبان الصرخدي والقلنجي وابن طرنطاي وبيبرس الجمدار، وللصعيد التليلي والمرتيني.
وفيها توجه السلطان في شعبان إلى بلاد الصعيد وقدم في يوم الخميس ثامن عشر شوال.
وفيها توجه من حلب ستمائة فارس عليهم الأمير شهاب الدين قرطاي للغارة على بلاد ماردين ودنيسر لقلة مراعاة صاحب ماردين لما يرسم به. فشن قرطاي الغارة على بلاد ماردين يومين، فصادف قراوول التتار قد قدم إلى ماردين على عادته كل سنة لجباية القطيعة، وهم في ألفي فارس، فحاربهم قرطاي وقتل منهم ستمائة رجل، وأسر مائتين وستين، وقدم بالرءوس والأسرى إلى حلب، ومعهم عدة خيول. فلما قدم البريد سر السلطان سروراً زائداً، وبعث بالتشريف لنائب حلب ولقرطاي.
وقدم الخبر من مكة بقتل أبي الغيث في حرب مع أخيه حميضة، وأن العسكر المجرد إلى مكة واقع حميضة وقتل عدة من أصحابه، فانهزم حميضة وسار يريد بلاد خربندا، فتلقاه خربندا وأكرمه، وأقام حميضة عنده شهراً، وحسن له إرسال طائفة من المغل إلى بلاد الحجاز ليملكها، ويخطب له على منابرها. وقدم العسكر المجرد إلى الحجاز في ثامن عشرى رجب، وكان السلطان قد أنعم على محمد بن مانع بإمرة مهنا، فشن الغارات وأخذ جمال مهنا وطرده. فسار مهنا أيضاً إلى خربندا، فسر به وأنعم عليه. وجرد خربندا مع الشريف حميضة من عسكر خراسان أربعة آلاف فارس، وسار حميضة بهم في رجب يريد مكة. وأخذ خربندا في جمع العساكر لعبور بلاد الشام، فقدر اللّه موته، فخاف مهنا من الإقامة بالعراق، فسار من بغداد وبلغ محمد بن عيسى أخا مهنا سير الشريف حميضة بعسكر المغل إلى مكة، فشق عليه استيلاؤهم على الحجاز، فلما علم بموت خربندا، وخروج أخيه مهنا من بغداد، سار في عربانه وكبس عسكر حميضة ليلاً ووضع فيهم السيف، وهو يصيح باسم الملك الناصر، فقتل أكثرهم. ونجا حميضة، ووقع في الأسر من المغل أربعمائة رجل، وغنم العرب منهم مالاً كثيراً وخيولاً وجمالاً. وكتب وخيولاً وجمالاً. وكتب بذلك إلى السلطان فسر به، وأعاد الإمرة إلى مهنا، واستدعى محمد بن عيسى، فقدم إلى مصر وشمله من إنعام السلطان شيء كثير.
وفيها وصل إلى السلطان مهرة تعرف ببنت الكرتا، كان قد بذل فيها نحو مائتي ألف وتسعين ألف درهم، وضيعة من بلاد حماة، ويقال إنها بلغت كلفها على السلطان ستمائة ألف درهم.
وفيها وعك السلطان أياماً، فلما عوفي ودخل الحمام حلق رأسه كله، فلم يبق أحد من الأمراء والمماليك الناصرية حتى حلق رأسه. ومن يومئذ بطل إرخاء العسكر ذوائب الشعر، واستمر إلى اليوم وجلس السلطان يوم عيد النحر بعد عافيته، وأفرج عن أهل السجون، وطلع الناس للهناء، ونودي بزينة القاهرة ومصر، فكان يوما مشهوداً.
وفيه فرغ العمل من بناء الإيوان، وذلك أن السلطان هدم الإيوان الذي بناه أبوه الملك المنصور، وجدده أخوه الملك الأشرف، ثم أنشأ إيواناً جليلاً، وعمل به قبة عالية متسعة ورخمه رخاماً عظيماً، وجعل قدامه دركاة فسيحة، فجاء من أجل المباني الملوكية وأعظمها.
وأما الأمراء الذين توجهوا إلى روك أعمال مصر، فإن كلاً منهم لما نزل بأول عمله استدعى مشايخ البلاد ودللاءها وقياسيها وعدولها وسجلات كل بلد. وعرف متحصلها ومقدار فدنها ومبلغ عبرتها وما يتحصل للجندي من العين والغلة والدجاج والخراف والبرسيم، والكشك والعدس والكعك، ثم قاس تلك الناحية، وكتب بذلك عدة نسخ، ولا يزال يعمل ذلك حتى انتهى أمر عمله. وعادوا بعد خمسة وسبعين يوماً بالأوراق، فتسلمها الفخر ناظر الجيش، ثم طلب السلطان الفخر ناظر الجيش والتقى الأسعد بن أمين الملك- المعروف بكاتب برلغي- وسائر مستوفي الدولة، وألزمهم بعمل أوراق تشتمل على بلاد الخاص السلطاني التي عينها لهم، وعلى إقطاعات الأمراء، وأضاف على عبرة كل بلد ما كان فلاحيها من الضيافة المقررة، وما في كل بلد من الجوالى وكانت الجوالى قبل ذلك إلى وقت الروك ديواناً مفرداً يختص بالسلطان، فأضيف جوالى كل بلد إلى متحصل خراجها.
وأبطلت عدة جهات من المكوس منها ساحل الغلة، وكانت هذه الجهة مقطعة لأربعمائة من أجناد الحلقة سوى الأمراء، ومتحصلها في السنة أربعة آلاف ألف وستمائة ألف درهم، وإقطاع الجندي منها من عشرة آلاف درهم في السنة إلى ثلاثة آلاف، وللأمراء من أربعين ألف إلى عشرة آلاف، واقتنى منها المباشرون أموالاً عظيمة، فإنها أعظم الجهات الديوانية، وأجل معاملات مصر، وكان الناس منها في أنواع من الشدائد لكثرة المغارم والتعب والظلم، فإن أمرها كان يدور ما بين ظلم نواتيه المراكب والكيالين والمشدين والكتاب، وكان المقرر على كل أردب مبلغ درهمين للسلطان، ويلحقه نصف درهم أخر سوى ما ينهب وكان له ديوان في بولاق خارج المقس، وقبله كان خص يعرف بخص الكيالة، فلما ولى ابن الشيخي شد هذه الجهة- قبل أن يلي الوزارة- عمر مكان الخص مقعداً وجلس فيه، وكان في هذه الجهة نحو الستين رجلاً ما بين نظار ومستوفين وكتاب وثلاثين جندياً، وكانت غلال الأقاليم لا تباع إلا فيه.
ومن المكوس التي أبطلها السلطان الناصر أيضاً نصف السمسرة الذي أحدثه ابن الشيخي في وزارته، وهو أن من باع شيئاً فإن دلالته على كل مائة درهم درهمين، يؤخذ منهما درهم للسلطان، فصار الدلال يحسب حسابه، ويخلص درهمه قبل درهم السلطان. ومنها رسوم الولايات والمقدمين والنواب والشرطية، وكانت جهة تتعلق بالولاة والمقدمين، فيجيبها المذكورون من عرفاء الأسواق وبيوت الفواحش، وعليها جند مستقطعة وأمراء، وكان فيها من الظلم والعسف والفساد وهتك الحرم وهجم البيوت ما لا يوصف. ومنها مقرر الحوائص والبغال، وهي تجبى من المدينة وسائر معاملات مصر كلها من الوجهين القبلي والبحري، فكان على كل من الولاة والمقدمين مقرر يحمل في كل قسط من أًقساط السنة إلى بيت المال عن ثمن حياصة ثلاثمائة درهم، وعن ثمن بغل خمسمائة درهم، وكان عليها عدة مقطعين سوى ما يحمل، وكان فيها من الظلم بلاء عظيم. ومنها مقرر السجون، وهو على كل من يسجن ولو لحظة واحدة مبلغ ستة دراهم سوى ما يغرمه، وعلى هذه الجهة عدة من المقطعين ولها ضمان، وكانت تجبى من سائر السجون. ومنها مقر طرح الفراريج، ولها ضمان في سائر نواحي الإقليم، فتطرح على الناس في النواحي الفراريج وكان فيها من الظلم والعسف وأخذ الأموال من الأرامل والفقراء والأيتام ما لا يمكن شرحه، وعليها عدة مقطعين ومرتبات، ولكل إقليم ضامن مفرد، ولا يقدر أحد أن يشتري فروجاً فما فوقه إلا من الضامن. ومنها مقرر الفرسان، وهي شيء يستهديه الولاة والمقدمون من سائر الأقاليم، فيجيء من ذلك مال عظيم، ويؤخذ فيه الدرهم ثلاثة دراهم لكثرة الظالم. ومنها مقرر الأقصاب والمعاصر، وهو ما يجبى من مزارعي الأقصاب وأرباب المعاصر ورجال المعصرة. ومنها رسم الأفراح، هي تجبى من سائر البلاد، وهي جهة بذاتها لا يعرف لها أصل. ومنها حماية المراكب، وهي تجبى من سائر المراكب التي في النيل بتقرير معين على كل مركب يقال له مقرر الحماية، ويجبى من المسافرين في المراكب سواء إن كانوا أغنياء أو فقراء. ومنها حقوق القينات، وهي ما كان يأخذه مهتار الطشتخاناه من البغايا ويجمعه من المنكرات والفواحش من أوباش مصر وضمان تجيب بمصر. ومنها شد الزعماء وحقوق السودان وكشف مراكب النوبة، فيؤخذ من كل عبد وجارية مقرر معلوم عند نزولهم في الخانات، وكانت جهة قبيحة شنعة. ومنها متوفر الجراريف، وتجبى من المهندسين والولاة بسائر الأقاليم، وعليها عدة من الأجناد. ومنها مقرر المشاعلية، وهي ما يؤخذ عن تنظيف أسربة البيوت والحمامات والمسامط وغيرها، وحمل ما يخرج منها من الوسخ إلى الكيمان، فإذا امتلأ سرب مدرسة أو مسجد أو بيت لا يمكن شيله حتى يحضر الضامن ويقرر أجرته بما يختار، فمتى لم يوافقه صاحب البيت تركه حتى يحتاج إليه ويبذل له ما طلب. ومنها ثمن العبي التي كانت تستأدى من البلاد. ومنها مقرر الأتبان التي كانت تؤخذ لمعاصر الأقصاب بغير ثمن. ومنها زكاة الرجالة بالديار المصرية. وابطل السلطان أيضاً وظيفتي النظر والاستيفاء من سائر الأعمال في كل بلد ناظر ومستوف وعدة مباشرين، فرسم ألا يستخدم أحد في إقليم لا يكون للسلطان فيه مال، وما كان للسلطان فيه مال يكون في كل إقليم ناظر وأمين حكم لا غير. ورفع السلطان سائر المباشرين. ورسم بالمسامحة بالبواقي الديوانية والإقطاعية من سائر النواحي إلى آخر سنة أربع وسبعمائة. وجعل المال الهلالي لاستقبال صفر سنة ست عشرة، والمال الخراجي لاستقبال ثلث مغل سنة خمس عشرة وسبعمائة.
وأفرد السلطان لخاصة الجيزية وأعمالها وبلاد هو والكوم الأحمر ومنفلوط والمرج والخصوص وعدة بلاد. وأخرجت الجوالى من الخاص، وفرقت في البلاد. وأفردت جهات المكس كلها، وأضيف للوزارة. وأفردت للحاشية بلاد، ولجوامك المباشرين بلاد، ولأرباب الرواتب جهات. وارتجعت عدة بلاد كانت اشتريت، وأدخلت في الإقطاعات. واعتد في سائر البلاد بما كان يهديه الفلاح، وحسب من جملة الإقطاع.
فلما فرغ العمل من ذلك نودي في الناس بالقاهرة ومصر وسائر الأعمال بإبطال ما أبطل من الجهات، وكتبت المراسيم إلى النواحي به، فسر الناس سروراً كبيراً.
وجلس السلطان بالإيوان الذي أنشأه لتفرقة المثالات في يوم الخميس ثاني عشرى ذي الحجة، بعدما دارت النقباء على جميع الأجناد وحضروا ورسم أن يفرق كل يوم على أميرين من المقدمين بمضافيهما. فكان المقدم يقف بمضافيه، ويستدعي السلطان المقدمين كل أحد باسمه، فإذا تقدم المطلوب سأله السلطان: من أين أنت؟ ومملوك من؟ حتى لا يخفى عليه شيء من أمره، ثم يعطه مثالاً على ما قسم له من غير تأمل، وأنبأ السلطان في العرض عن معرفة تامة بأحوال الأجناد وأمراء الجيش.
وكان الأمراء عند العرض قد جلس أكابرهم بخدمته على العادة، وإذا أخذوا في شكر جندي عاكسهم وأعطاه دون ما كان في أملهم له، وأراد بذلك ألا يتكلم أحد في المجلس. فلما فطنوا لذلك أمسكوا عن الكلام والشكر، بحيث لم يتكلم أحد بعدها إلا جواباً له عما يسأل السلطان عنه منهم. وفعل في عرض المماليك مثل عرض الأجناد، فكان المملوك إذا تقدم إليه سأله عن اسم تاجره وعن أصله وفرعه، وكم حضر من مصاف، وكم رأى بيكاراً، وأي قطعة حاصر، فإن أجابه بصدق أنصفه. وكان السلطان يخير الشيخ المسن بين الإقطاع والرواتب، فيعطيه ما يختار، ولم يقطع في العرض العاجز عن الحركة، بل كان يرتب له ما يقوم به عوضاً عن إقطاعه.
واتفق له في العرض أشياء: منها أنه تقدم إليه شاب تام الخلقة في وجهه أثر شبه ضربة سيف، فأعجبه وناوله مثالا بإقطاع جيد، وقال له: في أي مصف وقع في وجهك هذا السيف؟. فقال لقلة سعادته: يا خوند؟ هذا ما هو أثر سيف، وإنما وقعت من سلم. فصار في وجهي هذا الأثر، فتبسم وتركه. فقال الفخر ناظر الجيش: يا خوند؟ ما بقي يصلح له هذا الخبز!. فقال السلطان لا! قد صدقني وقال الحق، وأخذ رزقه، فلو قال أصبت في المصف الفلاني من الذي يكذبه؟ فدعت الأمراء له، وانصرف الشاب بالمثال. وتقدم إليه رجل ذميم الشكل، وله إقطاع ثقيل عبرة ثمانمائة دينار. فأعطاه مثالاً وانصرف. فإذا به عبرة نصف ما كان معه. فعاد وقبل الأرض. فسأله السلطان عن حاجته. فقال: الله يحفظ السلطان! فإنه غلط في حقي، فإن إقطاعي كانت عبرته ثمانمائة دينار، وهذا أربعمائة. فقال السلطان: بل الغلط كان في إقطاعك الأول، فمضى بما قسم له. فلما انتهت تفرقة المثالات في آخر المحرم سنة ست عشرة توفر منها نحو مائتي مثال.
ثم أخذ السلطان في عرض طباق المماليك، ووفر جوامك عدة منهم ورواتبهم، وأعطاهم الإقطاعات. وأفرد جهة قطيا للعاجزين من الأجناد، وقرر لكل ثلاثة آلاف درهم في السنة. وارتجع السلطان ما كانت البرجية قد اشترته من أراضي الجيزة وغيرها، وارتجع ما كان لبيبرس وبرلغي والجوكندار وغيرهم من المتاجر، وأضاف ذلك للخاص.
وبالغ السلطان في إقامة أيام العرض. وعرف النائب وأكابر الأمراء أنه من رد مثالاً أو تضرر أو شكا ضرب وحبس وقطع خبزه، وأن أحداً من الأمراء لا يتكلم مع السلطان في أمر جندي ولا مملوك، فلم يجسر أحد أن يخالف ما رسم به.
وعين في هذا العرض أكثر الأجناد، فإنهم أخذوا إقطاعات دون التي كانت معهم، وقصد الأمراء التحدث في ذلك مع السلطان، والنائب أرغون ينهاهم عنه. فقدر اللّه أن السلطان نزل إلى البركة لصيد الكركي، وجلس في البستان المنصوري ليستريح، فدخل بعض المرقدارية- وكان يقال له عزيز- ومن عاداته الهزل قدام السلطان والمزح معه، فأخذ يهزل على عادته قدام السلطان والأمراء جلوس، وهناك ساقية والسلطان ينظر إليها. فتمادى عزيز لشؤم بخته في الهزل إلى أن قال: وجدت جندي من جند الروك الناصري وهو راكب إكديش، وخرجه ومخلاة فرسه ورمحه على كتفه، وأراد أن يتم الكلام. فاشتد غضب السلطان. وصاح في المماليك عروه ثيابه، فللحال خلعت عنه الثياب، وربط مع قواديس الساقية، وضربت الأبقار حتى أسرعت في الدوران، وعزيز تارة ينغمر في الماء وتارة يظهر، وهو يستغيث وقد عاين الموت، والسلطان يزداد غضباً. فلم تجسر الأمراء على الشفاعة فيه حتى مضى نحو ساعتين، وانقطع حسه، فتقدم إليه الأمير طغاي والأمير قطلوبغا الفخري وقالا: ياخوند!هذا المسكين لم يرد إلا أن يضحك السلطان، ويطيب خاطره، ولم يرد غير ذلك، وما زالا به حتى أخرج الرجل وقد أشفى على الموت، ورسم بنفيه من أرض مصر، فحمد اللّه سبحانه وتعالى الأمراء على سكوتهم وتركهم الشفاعة في تغيير مثالات الأجناد وفي هده السنة: ظهر ببلاد الصعيد فأر عظيم يخرج عن الإحصاء، بحيث إن مباشري ناحية أم القصور من بلاد منفلوط قتلوا في أيام قلائل من الفأر مبلغ ثلاثمائة وسبعة عشر أردباً ينقص ثلث أردب، واعتبروا أردباً فجاء عدة ثمانية آلاف وأربعمائة فأر، وكل ويبة ألف وأربعمائة فاًر.
وفيها وقعت نار في البرج المنصوري من قلعة الجبل وطباق الجمدارية، فأحرقت شيئاً كثيراً، وذلك في تاسع عشرى شعبان.
وفيها غلقت كنائس اليهود والنصارى بأجمعها في مصر والقاهرة، في يوم السبت سابع عشرى شوال فلما كان يوم الثلاثاء العشرين من ذي الحجة فتحت الكنيسة المعلقة وخلع على بطرك النصارى.
وفيها حج الأمير سيف الدين أرغون النائب، وقاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، مع الركب، وكان أمير الركب عز الدين أيدمر الكوكندي.

.ومات في هذه السنة ممن له ذكر:

شهاب الدين أحمد بن حسين بن عبد الرحمن الأرمنتي المعروف بابن الأسعد، يوم الجمعة رابع عشرى رمضان، وكان فقيهاً شافعياً مشكور السيرة.
ومات جلال الدين إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن بريق بن برعس أبو الطاهر القوصي الفقيه الحنفي، كان متصدراً بجامع أحمد بن طولون، وله فضيلة في الفقه والقراءات والعربية، وصنف وحدث، وله شعر منه:
أقول له ودمعي ليس يرقا ** ولي من عبرتي إحدى الوسائل

حرمت الطيف منك ففاض دمعي ** وطرفي فيك محرم وسائل

ومات تقي الدين سليمان بن حمزة بن عمر بن أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي الحنبلي، قاضي الحنابلة، بدمشق في حادي عشرى ذي القعدة، ومولده سنة ثمان وعشرين وستمائة، وكان فاضلاً واسع الرواية، له معجم في مجلدين، وتخرج به جماعة من الفقهاء، مع الدين والتواضع.
ومات شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم بن عبد السلام بن جميل التونسي المالكي، بالقاهرة ليلة الحادي والعشرين من صفر، عن ست وتسعين سنة، ودفق بالقرافة، ومولده سنة تسع وثلاثين وستمائة، وناب في الحكم بالحسينية خارج القاهرة، ثم ولي قضاء الإسكندرية، وهو أول من درس بالمدرسة المنكوتمرية بالقاهرة.
ومات السيد الإمام العلامة ركن الدين أبو محمد الحسين بن شرف الدين شاه الحسيني العلوي الأستراباذي، عالم الموصل ومدرس الشافعية، وشارح المختصر لابن الحاجب ومقدمي ابن الحاجب والحاوي في المذهب، وله سبعون سنة، وأخذ عن النصير الطوسي، وتقدم عند التتار وتوفرت حرمته، وبرع في علوم المعقولات، وكان يجيد الفقه وغيره.
ومات شرف الدين محمد بن نصر الله القلانسي التميمي الدمشقي، في ثاني عشر المحرم بدمشق ومولده بها سنة ست وأربعين وستمائة، وكان أحد الأعيان الأخيار. ومات الشيخ صفي الدين محمد بن عبد الرحيم بن محمد الأرموي- المعروف بالهندي الأرموي- الفقيه الشافعي، في تاسع عشرى صفر بدمشق، ومولده ثالث ربيع الآخر سنة أربع وتسعين وستمائة، وله تصانيف مفيدة، وقدم من الهند إلى مصر بعد حجه، وسار إلى الروم فأقام بها إحدى عشرة سنة، وسكن دمشق من سنة خمس وثمانين وستمائة وسمع بها ودرس، وكان إماماً عالماً ديناً.
وملت شرف الدين محمد بن تميم الإسكندراني كاتب الملك المؤيد هزبر الدين صاحب اليمن بها، وكان إماماً في الإنشاء، وله نظم.
ومات عز الدين موسى بن على بن أبي طالب الشريف أبو الفتح الموسوي الحنفي العدل، في سابع ذي الحجة بمصر، وانفرد بالرواية عن ابن الصلاح والسخاوي، ورحل الناس إليه.
ومات الأمير عز الدين حسين بن عمر بن محمد بن صبرة، في تاسع عشر رجب بطرابلس، وولي حاجباً بدمشق مدة، وكان مشكوراً.
ومات الشريف أبو الغيث بن أبي نمي.
ومات الأمير علاء الدين أيدغدي شقر الحسامي، أحد مماليك الملك المنصور حسام الدين لاجين، وكان شجاعاً مقداماً عجولاً، أحمق متكبراً واسطة سوء، قتل في أول ربيع الأول.
ومات حسام الدين قرا لاجين المنصوري الأستادار، ليلة الأربعاء ثالث عشر شعبان، وكان جواداً خيراً سليم الباطن، واًنعم بإقطاعه على الأمير جمال الدين أقوش الأشرفي، وتوفرت الأستادارية ومات الأمير سيف الدين جيرجين الخازن تحت العقوبة، يوم السبت عاشر ربيع الآخر.
ومات الأمير بدر الدين موسى بن الأمير سيف الدين أبي بكر محمد الأزكشي، بدمشق في ثامن شعبان، وكان شجاعاً شهماً.
ومات الملك خربندا بن أبغا بن أرغون في سادس شوال، وتسمى بمحمد، وكان رافضياً، قتل أهل السنة، وكان منهمكاً في شرب الخمر متشاغلاً باللهو، وقام بعده ابنه أبو سعيد بعهده إليه، وكان محولاً بإحدى عينيه، عادلاً في رعيته، ملك ثلاث عشرة سنة وأشهراً.
ومات الأمير سيف الدين كستاي الناصر نائب طرابلس بها، وكان حسوراً قوي النفس معجباً بنفسه شديد الكبر، إلا أنه باشر طرابلس بعفة وحرمة مدة شهرين، ثم طلب من الناس التقادم وأَخذها.
ومات الأمير بدر الدين بن الملك المغيث، في ثاني شعبان.
مات بهاء الدين بن المحلي، في خامس شعبان.
ومات الشيخ جمال الدين محمد بن المهدوي المالكي بمصر.
ومات الفقيه شرف الدين بن محيي الدين بن الفقيه نجيب الدين، في تاسع رجب.
ومات الشيخ ناصر الدين أبو عبد اللّه محمد بن أبي الفضل يوسف بن محمد بن عبد الله بن المهتار الكاتب، بدمشق في سادس عشرى ذي الحجة، انفرد برواية علوم الحديث بسماعه من مؤلفه ابن الصلاح، وبرواية الزهد لأحمد بن حنبل، وشيوخه كثيرة، ومولده في رجب سنة سبع وثلاثين وستمائة.
ومات الشيخ تاج الدين أبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه بن الشيخ مرهف، إمام الجامع الجديد الناصري خارج مصر، ليلة الأربعاء خامس عشر رجب.
ومات الشيخ المقرئ أمين الدين بن الصواف، المتصدر بجامع عمرو، بمصر ليلة الجمعة ثاني عشرى شعبان.
ومات الشيخ ابن أبي مفصلة، ليلة الأحد سادس عشر رمضان.
ومات الشيخ زين الدين المهدوي، يوم الخميس تاسع رجب.
ومات الطواشي شبل الدولة كافرر الأقطواني الصالحي، شاد الخزانة السلطانية، ليلة الإثنين رابع عشر ذي القعدة.
ومات فتح الدين بن زين الدين بن وجيه الدين بن عبد السلام، في سابع عشرى ذي القعدة.