فصل: سنة ثلاث وتسعين وستمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة إحدى وتسعين وستمائة:

في رابع عشر صفر: وقع حريق في بعض خزائن قلعه الجبل، تلف فيه كثير من الكتب وغيرها.
وفي جمادى عشر ربيع الأول: ختم بالقبة المنصورية. ونزل السلطان وتصدق بمال كثير.
وفي يوم الجمعة تاسع عشريه: خطب الخليفة الحاكم بأمر الله بجامع قلعة الجبل خطة بليغة حث فيها على الجهاد، وصلي بالناس صلاة الجمعة.
وفيه نودي بالنفير للجهاد، وخرج السلطان في الثامنة من يوم السبت ثامن ربيع الآخر بجميع عساكره فورد البريد بأن التتار أغاروا على الرحبة واستاقوا مواشي كثيرة، وخرجت إليهم تجريدة من دمشق.
وفي يوم السبت سادس جمادى الأولى: دخل السلطان إلى دمشق، وأنفق في العساكر يوم الاثنين ثامنه.
وفي نصفه: تزوج الأمير سنقر الأعسر بابنه الصاحب شمس الدين بن السلعوس، على صداق جملته ألف وخمسمائة دينار، المعجل مبلغ خمسمائة دينار.
وفيه وصل الملك المظفر صاحب حماة، وعرض السلطان عساكره، وقدم جيش الشام فسار إلى حلب.
ثم خرج السلطان من دمشق في الخامسة من يوم الإثنين سادس عشره، فدخل حلب في ثامن عشريه، وخرج منها في رابع جمادى الآخرة يريد قلعة الروم فنزل عليها يوم الثلاثاء ثامنه، ونصب عشرين منجنيقا ورمي عليها، وعملت النقوب وعمل الأمير سنجر الشجاعي نائب دمشق سلسلة وشبكها في شراريف القلعة وأوثق طرفها بالأرض، فصعد الأجناد فيها وقاتلوا قتالاً شديداً، ففتح الله القلعة يوم السبت حادي عشر رجب عنوة، وقتل من بها من المقاتلة، وسبي الحريم والصبيان، وأخذ بترك الأرمن وكان بها فأسر. وكانت مدة حصارها ثلاثة وثلاثين يوما، وقد سماها السلطان قلعة المسلمين فعرفت بذلك، وحمل إليها زردخاناه وألفا ومائتي أسير، واستشهد عليها الأمير شرف الدين بن الخطير. فلما وردت البشائر إلى دمشق بفتح قلعة الروم زينت البلد ودقت البشائر، ورتب السلطان الأمير سنجر الشجاعي نائب الشام لعمارة قلعة المسلمين، فعمر ما هدمته المجانيق والنقوب، وخرب ربضها.
وعاد السلطان راجعاً في يوم السبت ثامن عشره، فأقام بحلب إلى نصف شعبان، وعزل قرا سنقر عن نيابة حلب، وولي عوضه الأمير سيف الدين بلبان الطباخي المنصوري، ورتب بها الأمير عز الدين أيبك الموصلي شاد الدواوين ورحل السلطان إلى دمشق، فدخلها في الثانية من بوم الثلاثاء عشري شعبان، وبين يديه بترك الأرمن صاحب قلعة الروم وعدة من الأسري.
وفيه خرج الأمير بدر الدين بيدرا نائب السلطنة بديار مصر ومعه معظم العسكر إلى جبال كسروان من جهة الساحل، فلقيهم أهل الجبال وعاد بيدرا شبه المهزوم، واضطرب العسكر اضطرابا عظيما، فطمع أهل الجبال فيهم، وتشوش الأمراء من ذلك وحقدوا على بيدرا ونسبوه أنه أخذ منهم الرشوة. فلما عاد إلى دمشق تلقاه السلطان وترحل له عند السلام عليه، وعاتبه سرا فيما كان منه، فمرض بيدرا حتى أشفي على الموت، وتحدث أنه سقي السم، ثم عوفي وتصدق في رمضان بصدقات جمة، ورد أملاكا اغتصبها لأربابها، وأطلق عدة من سجونه، وجمع الناس في عاشره بجامع بني أمية وعمل مهما لقراءة ختمة كريمة.
وفي خامس عشر شهر رمضان: توفي محيي الدين محمد بن عبد الله بن عبد الظاهر صاحب ديوان الإنشاء، وهو بدمشق، فأجري السلطان معلومه على ولده علاء الدين على، وجعله من جملة كتاب الإنشاء. وأقر السلطان في ديوان الإنشاء تاج الدين أحمد بن سعيد بن محمد بن الأثير التنوخي الحلبي، عوضاً عن ابن عبد الظاهر.
وفيه كثر موتان الجمال حتى حمل الأمراء أثقالهم على الخيل، فأذن السلطان لضعفاء العسكر في العود إلى القاهرة، فساروا من دمشق في ثاني عشريه. وحضر الأمير علم الدين سنجر الدواداري من قلعة الجبل بعدما أفرج عنه، فأنعم عليه بإمرة في ديار مصر.
وفي ليلة عيد الفطر: فر الأمير حسام الدين لاجين الصغير من داره بدمشق، خوفا من السلطان لما بلغه من أنه يريد القبض عليه، فنودي بدمشق من أظهر لاجين فله ألف دينار ومن أخفاه شنق، وركب السلطان في خاصته وترك سماط العيد، وساق في طلب لاجين وأخذ عليه الطريق، ثم عاد بعد العصر في أسوأ حال من التعب، ولم يجد له أثرا فقلق. واتفق أن لاحين نزل على طائفة من العرب، فقبضوه وأحضروه إلى السلطان فاعتقله. وقبض السلطان على الأمير ركن الدين بيبرس طقصوا حمي لاجين، وحمل هو ولاجين إلى قلعة الجبل بمصر.
وفي سادسه: استقر الأمير عز الدين أيبك الحموي في نيابة دمشق، عوضاً عن الشجاعي واستقر الأمير سيف الدين طغريل الإيغاني نائباً بالفتوحات، عوضاً عن بلبان الطباخي بحكم انتقاله إلى نيابة حلب.
وفيه قدم الشجاعي من قلعة المسلمين بعدما عمر ما هدم منها، فشق عليه عزله عن دمشق.
وفي الثلث الآخر من ليلة الثلاثاء تاسعه: خرج السلطان من دمشق عائدا إلى مصر، بعدما رسم لجميع أهل الأسواق أن يخرج كل واحد منهم وبيده شمعة موقودة عند ركوب السلطان، فخرجوا بأجمعهم ورتبوا من باب النصر إلى مسجد القدم، فعندما ركب السلطان أشعلت تلك الشموع دفعة واحدة، فسار بينها حتى نزل مخيمه. ونقل محيي الدين بن النحاس من نظر دواوين دمشق إلى نظر الخزانة، عوضاً عن أمين الدين بن هلال، وأقيم في نظر دواوين دمشق جمال الدين بن إبراهيم بن صصرى، واستقر الأمير شمس الدين قرا سنقر الجوكندار المنصوري مقدم المماليك السلطانية.
وقدم السلطان إلى القاهرة يوم الأربعاء ثاني ذي القعدة، ودخل من باب النصر، وصعد إلى القلعة من باب زويلة. وقد عمل من الزينة والقلاع والتهاني شيء كثير، وأوقد من الشموع ما يجل وصفه، فإن الناس احتفلوا لذلك احتفالا عظيما فاق جميع ما تقدم في معناه. وولي صحابه ديوان الإنشاء عماد الدين إسماعيل بن أحمد بن سعيد ابن محمد بن الأثير بعد وفاة والده، فإن والده لم يقم في كتابة السر إلا نحو شهر، ومات بغزة عند عوده من دمشق في تاسع عشر شوال.
وفي ذي القعدة: ندب الوزير ابن السلعوس العلم ابن بنت العراقي لمرافعة تقي الدين ابن بنت الأعز، وعقد له مجلس وادعي عليه العلم المذكور بعظائم، فاستمر في المحنة بقية السنة.
وفي آخر ذي الحجة: قبض على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير سيف الدين جرمك الناصري، والأمير سيف الدين الهاروني، والأمير بدر الدين بكتوت، واعتقلوا.

.ومات فيها من الأعيان:

الملك المظفر قرا أرسلان بن السعيد غازي بن المنصور أرتق بن إيلغازي بن ألبي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق، صاحب ماردين بعدما ملك ثلاثا وثلاثين سنة.
ومات الأمير سنقر الأشقر عن سبعين سنة.
وتوفي كاتب السر فتح الدين أبو عبد الله محمد بن محيي الدين أبي الفضل عبد الله بن عبد الظاهر، عن أربع وخمسين سنة بدمشق.
وتوفي كاتب السر تاج الدين أبو العباس أحمد بن. شرف الدين أبي الفضل سعيد ابن محمد بن سعيد بن الأثير الحلبي، بغزة.
ومات مجد الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الطبري المكي الشافعي بالقدس، عن اثنين وستين سنة، قدم القاهرة.
وتوفي كاتب الإنشاء بدمشق سعد الدين أبو الفضل سعد الله بن مروان أبي عبد الله الفارقي، وهو في عشر الستين.
وتوفي كمال الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن محمد بن عبد الباقي بن أمين الدولة الحلبي بالقاهرة عن سبعين سنة.
وتوفي فخر الدين أبو عمرو عثمان بن خضر بن غزي عامر الأنصاري المصري المؤدب، في جمادى الآخرة وهو في عشر الثمانين، وقد حدث عن ابن باقا ومكرم الفارسي.
وفيها قبض الأمير بكتوت على الشريف راجح بن إدريس من ينبع وحمله إلى مصر وكانت الخطبة بمكة للأشرف خليل إلى آخر ربيع الأول، ثم انقطعت لانقطاع أخبار مصر، فلما قدم الحجاج وهم قليل حج أبو نمي، وقدم حاج الشام في ركبين وكانت جفلة بعرفة وعز الماء، فأبيعت الراوية بأربعة دنانير مكية.

.سنة اثنين وتسعين وستمائة:

في ليلة أول المحرم: أخرج من في الجب من الأمراء: وهم سنقر الأشقر وجرمك والهاروني وبكتوت وبيبرس وطقصوا ولاجين، وأمر بخنقهم قدام السلطان، فخنقوا بأجمعهم حتى ماتوا. وتولي خنق لاجين الأمير قرا سنقر، فلما وضع الوتر في عنقه انقطع، فقال: يا خوند مالي ذنب إلا حميي طقصوا وقد هلك، وأنا أطلق ابنته. وكان قرا سنقر له به عناية، فتلطف به ولم يعجل عليه، لما أراد الله من أن لاجين يقتل الأشرف ويملك موضعه، وانتظر أن تقع به شفاعة. فشفع الأمير بدر الدين بيدرا في لاجين، وساعده من حضر من الأمراء، فعفي عنه ظنا أنه لا يعيش، فحمل وكان من أمره ما سيذكره إن شاء الله.
وفي أول المحرم: استقر الأمير عز الدين أيبك الخازندار المنصوري في نيابة طرابلس والحصون، عوضاً عن طغريل الإيغاني، فسار من القاهرة.
وفي رابعه: سار السلطان من قلعة الجبل إلىالصعيد، واستخلف الأمير بيدرا النائب بقلعة الجبل وهو مريض. فانتهي السلطان إلى مدينة قوص ونادي هناك بالتجهيز لغزو اليمن. وكشف الوزير السلعوس الوجه القبلي، فوجد الجاري في ديوان الأمير بيدرا من الجهات عما هو في إقطاعاته، وما اشتراه وما حماة أكثر مما هو جار في الخاص السلطاني، ووجد الشون السلطانية بالوجه القبلي خالية من الغلال وشون بيدرا مملوءة. فأبلغ ذلك إلى السلطان وأغراه ببيدرا حتى تغير عليه، فبلغ الخبر بيدرا فخاف وأخذ يتلافي الأمر، وجهز تقدمة جليلة منها خيمة أطلس أحمر بأطناب حرير وأعمدة صندل محلاة ومفصلة بفضة مذهبة وبسطها من حرير، وضربها بناحية العدوية مع ما أعده. فلما عاد السلطان نزل بها ولم يكترث بالتقدمة، وطلع إلى القلعة، فارتجع عدة من جهات بيدرا للخاص السلطاني.
وفي صفر: وقع بغزة والرملة ولد والكرك زلازل عظيمة هدمت ثلاثة أبراج من قلعة الكرك، وتوالت الأمطار والسيول حتى خربت طواحين العوجاء وتكسرت أحجارها، ووجد في السيل أحد عشر أسداً موتي، وزلزلت أيضاً البلاد الساحلية فانهدمت عدة أماكن، فلما ورد الخبر بذلك خرج الأمير علاء الدين أيدغدي الشجاعي من في دمشق لعمارة ما تهدم بمرسوم شريف. وورد كتاب الأمير عز الدين أيبك الرومي من قلعة المسلمين بطلب ثلاثين سراقوجا، حتى إذا وجه لكشف أخبار العدو لبسها من يبعثه فلا يعرف من هم.
وفيه عبي السلطان برسم الأمير حسام الدين مهنا بن عيسي ملك العرب تعبئة قماش حرير بسبب زواج ابنته، وأمر بعمل تعبئة لوالدته أيضاً، وجهز ذلك على يد حاجبه من الخزانة. ورسم السلطان ببناء بئر في العريش وأخرج لها عدة من الغواصين، فلما تم بناؤها ركب عليها ساقية.
وفيه قتل علاء الدين البريدي وإلى الأشمونين نفسه، فاستقر عوضه بكتمر الموسكي. وقبض على الأمير عز الدين أزدمر العلائي أحد أمراء دمشق، وحمل إلى القاهرة فقدم أول ربيع الأول.
وفيه رسم بتجهيز العساكر إلى دمشق، فسار بها الأمير بيدرا، ثم سار الوزير بالخزائن. وركب السلطان على الهجن في أول جمادى الأولى ومعه جماعه من أمرائه وخواصه، وسار إلى الكرك من غير الدرب الذي يسلك منه إلى الشام، فرتب أحوالها. وتوجه إلى دمشق، فقدمها في تاسع جمادى الآخرة بعد وصول الأمير بيدرا والوزير بثلاثة أيام، فأمر بالتجهيز إلى بهسنا وأخذها من الأرمن أهل سيس. فقدم رسل سيس يطلبون العفو، فاتفق الحال معهم على تسليم بهسنا ومرعش وتل حمدون، فسار الأمير طوغان وإلى البر بدمشق معهم ليتسلما، وقدم البريد إلى دمشق بتسليمها في أول رجب، فدقت البشائر.
واستقر الأمير بدر الدين بكتاش في نيابة بهسنا، وعين لها قاض وخطيب، واستخدم لها رجال وحفظة. وقدم الأمير طوغان ومعه رسل سيس بالحمل والتقادم إلى دمشق في ثاني عشريه بعد توجه السلطان، فتبعوه.
وكان السلطان قد خرج في ثاني رجب إلى حمص ومعه جماعة من العسكر، وقد سير ضعفة العسكر إلى القاهرة، ثم سار من حمص إلى سلمية، وطرق مهنا بن عيسي بن مهنا بن مانع بن حديثة بن غضية بن فضل بن ربيعة أمير آل فضل، وقبض عليه وعلى إخواته محمد وفضل ووهبة، وبعثهم مع الأمير حسام الدين لاجين إلى دمشق، فقدمها لاجين في سابعه. وقدم السلطان في يومه أيضاً، فأقام في إمرة العرب الأمير شمس الدين محمد بن أبي بكر بن على بن حديثه بن غضية بن فضل بن ربيعة أمير آل على. وبعث السلطان الأمير عز الدين أيبك الأفرم، أمير جاندار إلى الشوبك، فهدم قلعتها ولم يبق منها إلا قلتها فقط.
وفي شهر رجب: وقع ببعلبك أمطار وسيول خارجة عن الحد، ففد من كرومها ومزارعها ومساكنها ما تزيد قيمته على مائة ألف دينار.
وفي حادي عشره: سار الأمير بيدرا بالعساكر والوزير ابن السلعوس بالخزائن من دمشق، ثم ركب السلطان في خواصه يوم السبب ثالث عشره، فقدم غزة بكرة الأربعاء سابع عشره، ودخل قلعة الجبل في ثامن عشريه، وقدم الأمير بيدرا بمن معه أول شعبان. وفيه ولي طوغان وإلى البر بدمشق نيابة قلعة المسلمين، وولي أسندمر كرجي بر دمشق.
وفي شعبان: استقر شمس الدين أحمد السروجي الحنفي في قضاء القضاة الحنفية بالقاهرة، بعد وفاة قاضي القضاة معز الدين نعمان بن الحسن بن يوسف الخطيبي الأرزنكاني.
وفي أول شهر رمضان: أفرج عن تقي الدين ابن بنت الأعز، بعدما اشتد به البلاء واعتقل في سجن الحكم وتوعد بالقتل، فعاد إلى بيته بالشافعي من القرافة، ومدح ابن السلعوس بقصدة أراد إنشادها بنفسه فحلف الوزير عليه، فأنشدها أخوه علاء الدين. ثم إنه ثبتت براءته مما رمي به، وتوجه إلى الحج مع الركب.
وفي يوم السبت ثاني شوال: قبض على الأمير عز الدين أيبك الأفرم أمير جاندار، وأحبط على جميع موجوده بمصر والشام.
وفي ذي الحجة: رسم بعمل المهم لختان الأمير ناصر الدين محمد أخي السلطان، فنصب القبق تحت القلعة مما يلي باب النصر في العشرين منه، وفرقت الأموال والخلع على من أصاب في رميه، وكان قد رسم بعرض العساكر بحضور الأمير بيدرا، فأقامت في العرض أياماً، فرمي بيدرا بتغاضيه، وأن بعض العسكر يستعير العدة، فرسم بعرض الجميع جملة واحدة في الميدان، فكان يوماً مشهوداً. وممن أصاب في رمي القبق الأمير بيسري، فأنعم عليه بخمسة وثلاثين ألف دينار عيناً سوي الخلع وغيرها، وختن الأمير محمد وأولاد الأمراء في يوم الإثنين في ثاني عشريه، ونثر الأمراء الذهب حتى امتلأت الطشوت منه.
وفي آخر ذي الحجة: استقر في كتابة السر القاضي شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله العمري عوضاً عن عماد الدين إسماعيل بن الأثير.
وفي هذه السنة: خطب الشريف أبو نمي بمكة للملك الأشرف، بعدما كان يخطب فيها لصاحب اليمن، ونقش السكة أيضاً باسمه، وجهز بذلك محاضر مع، ابن القسطلاني.
وفيها قدم رسل كيختو ملك التتار بكتابه يتضمن إنه يريد الإقامة بحلب، فإنها مما فتحه أبوه هولاكو، وإن لم يسمح له بذلك أخذ بلاد الشام. فأجابه السلطان بأنه قد وافق القان ما كان فح نفسي، فإني كنت على عزم من أخذ بغداد، وقتل رجاله، فإني أرجو أن أردها دار إسلام كم كانت، وسينظر أينا يسبق إلى بلاد صاحبه وكتب إلى بلاد الشام بتجهيز الإقامات وعرض العساكر.
وفيها وقف الحجاج يوم الإثنين والثلاثاء، ولم يصلوا الجمعة من خوف العطش لقلة الماء. وحلف أمير الركب الشريف أبا نمي يمينا إنه يتوجه إلى السلطان، وكان قد أعطاه ألف دينار عيناً، بعث بها إليه السلطان من مصر.
وفيها تلف في البحر ستة عشر مركباً من جلاب اليمن، أكثرها من عدن.

.ومات في هذه السنة من الأعيان:

الملك الأفضل على بن المظفر محمود بن المنصور محمد بن المظفر عمر بن شاهنشاه ابن أيوب بن شادي صاحب حماة، وهو متوجه إلى القاهرة، عن سبع وخمسين سنة.
ومات الأمير علم الدين سنجر الحلبي الثائر بدمشق، وهو من أبناء الثمانين بالقاهرة.
وتوفي قاضي القضاة الحنفي معز الدين أبو عبد الله النعمان بن الحسن بن يوسف الخطيبي، بالقاهرة.
وتوفي محيي الدين أبو الفضل عبد الله بن رشيد الدين محمد عبد الظاهر بن نشوان ابن عبد الظاهر السعدي الكاتب، لسان ديوان الإنشاء، عن اثنتين وسبعين سنة بالقاهرة.
وتوفي شهاب الدين أبو المعالي أحمد بن الحافظ جمال الدين أبو حامد محمد بن على ابن محمود بن أحمد بن على بن الصابوني المحمودي، بالقاهرة عن اثنتين وستين سنة.
وتوفي كمال الدين أبو عباس أحمد بن زيد الدين أبي عبد الله محمد بن رضي الدين أبي محمد عبد القادر بن هبة الله بن عبد القادر بن عبد الواحد بن طاهر بن يوسف بن النصيبي الحلبي بها، عن ثلاث وثمانين سنة، له رحلة.
وتوفي قدوة الشام أبو إسحاق إبراهيم بن قدوة الشام يوسف المدعو عبد الله بن يونس بن إبراهيم بن سلمان الأرموي الزاهد، عن سبع وسبعين سنة بدمشق.
وتوفي الأديب كمال الدين أبو الحسن على بن على بن محمد بن المبارك بن سالم ابن الأعمي الدمشقي بها، عن اثنتين وثمانين سنة.

.سنة ثلاث وتسعين وستمائة:

في ثالث المحرم: عدي السلطان النيل إلى بر الجيزة يريد البحيرة للصيد، ومعه الأمير بيدرا والوزير ابن السلعوس. واستخلف بقلعة الجبل الأمير على الدين سنجر الشجاعي، وقد اشتدت العداوة بين الأمير بيدرا وبين ابن السلعوس. فوصل السلطان إلى تروجة ونزل بها، وتوجه الوزير إلى الاسكندرية ليعبي القماش ويحصل الأموال، بعدما خلع السلطان عليه طرد وحش. فوجد الوزير أن نواب بيدرا قد استولوا على المتاجر والاستعمالات فكتب يعرف السلطان ذلك ويغريه ببيدرا، وأنه لم يجد بالثغر ما يكفي الإطلاقات على جاري العادة. فاشتد غضب السلطان، وطلب بيدرا وسبه بحضرة الأمراء، وتوعده بأنه لابد أن يمكن ابن السلعوس من ضربه بما لا يذكر. فتلطف بيدرا حتى خرج إلى مخيمه وقد اشتد خوفه، فجمع أعيان الأمراء من خشداشيته ومنهم الأمير لاجين والأمير قرا سنقر ومن يوافقه، وقرر معهم قتل السلطان، فإنه كان قد أذن للأمراء الأكابر أن يخرجوا إلى إقطاعاتهم فساروا إليها وبقي في خواصه إلى يوم تاسوعاء. فتوصل الأمير بيدرا إلى أن أشير على السلطان بتقدم العسكر إلى القاهرة، فبعث الأمير سيف الدين أبا بكر بن الجمقدار نائب أمير جاندار إلى بيدرا يأمره أن يسير تحت الصناجق بالأمراء والعسكر فلما بلغه نائب أمير جاندار الرسالة نفر فيه، ثم قال له السمع والطاعة وقد تبين الغضب في وجهه، فرجع ابن أمير جاندار وحمل الزردخاناه وسار، ورحل الدهليز والعسكر.
وأصبح السلطان يوم عاشوراء، فبلغه أن بتروجة طيراً كثيراً، فساق وضرب حلقة صيد، وعاد إلى مخيمه آخر النهار. ثم لما كان الحادي عشر توجه الناس إلى القاهرة، وحضر بيدرا ومن قرر معه قتل السلطان إلى الدهليز، فلم يخرج السلطان وأعطاهم دستوراً فتوجهوا إلى خيامهم.
وركب السلطان جريدة وليس معه سوي الأمير شهاب الدين أحمد بن الأشل أمير شكار، وأراد أن يسبق الخاصكية، فرأي طيراً فصرع منه بالبندق شيئاً كثيراً ثم التفت إلى أمير شكار وقال. أنا جيعان، فهل معك ما آكل؟ فقال: والله ما معي غير رغيف واحد فرج في صولقي ادخرته لنفسي فقال: ناولنيه فناوله ذلك فأكله كله. ثم قال له: أمسك فرسي حتى أنزل أبول وكان الأمير شهاب الدين ينبسط مع السلطان، فقال: ما فيها حيلة، السلطان ركب حصانا وأنا راكب حجر وما يتفقان. فقال له السلطان: أنزل أنت واركب خلفي حتى أنزل أنا فنزل وناول السلطان عنان فرسه وركب خلفه، فنزل السلطان وقضي حاجته، ثم قام وركب حصانه، ومسك فرس أمير شكار حتى ركب، وأخذا يتحدثان.
فلما كان وقت العصر: بعث بيدرا من كشف له خبر السلطان، فقيل له ليس معه أحد، كشف. بمن وافقه. فلم يشعر السلطان إلا بغبار عظيم قد ثار، فقال لأمير شكار: اكشف خبر هذا الغبار. فساق إليه فوجد الأمير بيدرا وجماعة من الأمراء، فسألهم فلم يجيبوه. ومروا في سوقهم حتى وصلوا إلى السلطان وهو وحده، فابتدرا بالسيف وضربه أبان يده، ثم ضربه ثانيا هد كتفه. فتقدم الأمير لاجين إليه وقال له: يا بيدرا من يريد ملك مصر والشام تكون هذه ضربته وضرب السلطان على كتفه حله، فسقط إلى الأرض، فجاءه بهادر رأس نوبة وأدخل السيف في دبره، واتكا عليه إلى أن أخرجه من حلقه. وتناوب الأمراء ضربه بالسيوف: وهم قرا سنقر، وآقسنقر الحسامي، ونوغاي، ومحمد خواجا، وطرنطاي الساقي، وألطنبغا رأس نوبة، وذلك في يوم الإثنين ثاني عشر المحرم.
فبقي الملك الأشرف ملقي في المكان الذي قتل به يومين، ثم جاء الأمير عز الدين أيدمر العجمي وإلى تروجة، فوجده في موضعه عريانا بادي العورة، فحمله على جمل إلى دار الولاية، وغسله في الحمام وكفنه، وجعله في بيت المال بدار الولاية إلى أن قدم الأمير سعد الدين كوجبا الناصري من القاهرة، وحمله في تابوته الذي كان فيه إلى تربته بالقرب من المشهد النفيسي ظاهر مصر، ودفنه بها سحر يوم الجمعة ثاني عشري صفر.
فكانت مدة سلطنتة ثلاث سنين وشهرين وأربعة أيام، وعمره نحو ثلاثين سنة ومات عن ابنتين، ولم يترك ولدا ذكرا. وكان ملكا كريماً شجاعاً مقداماً، سريع الحركة مظفراً في حروبه: فتح عكا وصور وبيروت وبهسنا وقلعة الروم. وكان مع ما فيه من شدة البادرة حسن النادرة، يطارح الأدباء بذهن رائق وذكاء مفرط، لا يعلم على مكتوب حتى يقرأه كله، ولابد أن يستدرج على الكتاب فيه ما يتبين لهم فيه الصواب، إلا أنه تعاظم في آخر أيامه وصار لا يكتب اسمه وإنما يكتب خ إشارة إلى أول حروف اسمه، ومنع أن يكتب لأحد الزعيمي، وقال. من زعيم الجيوش غيري؟! وأبطل من دمشق مشمسا كان يؤخذ في باب الجابية على كل حمل قمح خمسة دراهم، وكتب بخطه الذي يكتب به العلامة بين أسطر المسموح الذي كتب بإبطال ذلك ما نصه: ولنكشف عن رعايانا هذه الظلامة، ونستجلب الدعاء لنا من الخاصة والعامة،.
وأما الأمراء، فإن الأمير زين الدين كتبغا المنصوري كان قد انفرد ومعه جماعة من الأمراء عن الملك الأشرف وساروا للصيد، وبقي في الدهليز السلطاني من الأمراء سيف الدين برغلي، وركن الدين بيبرس الجاشنكير، وحسام الدين لاحين الأستادار، وبدر الدين بكتوت العلائي، وجماعة من المماليك السلطانية. فلما قتل بيدرا السلطان عاد بمن معه من الأمراء، ونزل بالدهليز وجلس في دست السلطة، وقام الأمراء فقبلوا الأرض بين يديه وحلفوا له، وتلقب بالملك الأوحد وقيل المعظم، وقيل الملك القاهر. ثم قبض بيدرا على الأمير بيسري والأمير بكتمر السلاح دار أمير جاندار، وقصد قتلهما ثم تركهما تحت الاحتياط لشفاعة الأمراء فيهما، وركب إلى الطرانة فبات بها.
وقد سار الأمراء والمماليك السلطانية ومعهم الأمير برغلي، وهم الذين كانوا بالدهليز والوطاق، وركبوا في آثار بيدرا ومن معه يريدون القبض عليه. فبلغ الأمير كتبغا ومن معه مقتل السلطان وسلطنة بيدرا، فلحق بمن معه الأمير برغلي ومن معه من الأمراء والمماليك، وجدوا بأجمعهم في طلب بيدرا ومن معه، وساقوا في تلك الليلة إلى الطرانة وقد لحق بيدرا بسيف الدين أبي بكر بن الجمقدار نائب أمير جاندار، والأمير صارم الدين الفخري، والأمير ركن الدين بيبرس أمير جاندار، ومعهم الزرد خاناه، عند المساء من يوم السبت الذي قتل فيه السلطان، فعندما أدركهم تقدم إليه بيبرس أمير جاندار وقال له: يا خوند هذا الذي فعلته كان. بمشورة الأمراء؟ فقال: نعم أنا قتلته. بمشورتهم وحضورهم، وها هم كلهم حاضرون. ثم شرع يعدد مساوئ الأشرف ومخازيه واستهتاره بالأمراء ومماليك أبيه، إهماله لأمور المسلمين، ووزارته ابن السلعوس، ونفور الأمراء منه لمسكه عز الدين الأفرم وقتل سنقر الأشقر وطقصوا وغيره، وتأميره مماليكه، وقلة دينه وشربه الخمر في شهر رمضان وفسقه بالمردان. ثم سأل بيدرا عن الأمير كتبغا فلم يره فقيل له: هل كان عند كتبغا من هذه القضية علم؟ قال: نعم هو أول من أشار بها.
فلما كان يوم الأحد ثاني يوم قتلة الأشرف: وافي الأمير كتبغا في طلب كبير من المماليك السلطانية عدته نحو الألفي فارس، وجماعة من الحلقة والعسكر ومعهم الأمير حسام الدين لاجين لأاستادار الطرانة وبها بيدرا يريدون قتاله. وميز كتبغا أصحابه بعلائم حتى يعرفوا من جماعة بيدرا، وهم أنهم جعلوا مناديل من رقابهم إلى تحت آباطهم فأطلق بيدوا حينئذ الأميرين بيسري وبكتمر السلاح دار، ليكونا عونا له فكانا عونا عليه. ورتب كتبغا جماعة ترمي بالنشاب، وتقدم بمن معه وحملوا على بيدرا حملة منكرة، وقصد الأمير كتبغا بيدرا وقد فوق سهمه، وقال: يا بيدرا أين السلطان؟ ورماه بسهم وتبعه البقية بسهامهم، فولي بيدرا بمن معه وكتبغا في طلبه حتى أدركه. وقتل بيدرا بعدما قطعت يده ثم كتفه كما فعل بالأشرف، وحملت رأسه علىرمح وبعث بها إلى قلعة الجبل فطيف بها القاهرة ومصر. ووجد في جيب بيدرا ورقة فيها: ما يقول السادة الفقهاء في رجل يشرب الخمر في شهر رمضان، ويفسق بالمرداد ولا يصلي فهل على قاتله ذنب أو لا؟ فكتب جوابها. يقتل ولا إثم على قاتله. وعندما انهزم بيدرا هرب لاجين وقرا سنقر، ودخلا القاهرة فاختفيا.
وكان الذي وصل إلى قلعة الجبل بخبر مقتل السلطان سيف الدين سنكو الدوادار. ولما بلغ الأمير علم الدين سنجر الشجاعي قتل السلطان ضم الحراريق والمعادي وسائر المراكب إلى بر مصر والقاهرة، وأمر ألا يعدي بأحد من الأمراء والمماليك إلا بإذنه، موصل الأمير زين الدين كتبغا ومن معه مت الأمراء والمماليك، بعد قتل بيدرا وهزيمة أصحابه، ملم يجدوا مركباً يعدون به النيل. فأشار على من معه من الأمراء وهم حسام الدين لاجين الأستادار، وركن الدين بيبرس الجاشنكير، وسيف الدين برلغي وسيف الدين طغجي، وعز الدين طقطاي، وسيف الدين قطبة، وغيرهم أن ينزلوا في بر الجيزة بالخيام حتى يراسلوا الأمير سنجر الشجاعي، فوافقوه وضربوا الخيام وأقاموا بها، وبعثوا إلى الشجاعي فلم يمكنهم من التعدية. وما زالت الرسل بينهم وبينه حتى وقع الاتفاق على إقامة الملك الناصر محمد بن قلاوون، فبعث عند ذلك الحراريق والمراكب إليهم بالجيزة، وعدوا بأجمعهم وصاروا إلى قلعة الجبل في رابع عشر المحرم.

.السلطان الناصر ناصر الدين:

السلطان الملك الناصر ناصر الدين محمد بن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي العلائي الصالحي أمه أشلون خاتون ابنة الأمير سكناي بن قراجين بن جنكاي نوين. ولد يوم السبت النصف من المحرم سنة أربع وثمانين وستمائة بقلعة الجبل من مصر، فلما قتل أخوه الملك الأشرف صلاح الدين خليل بالقرب من تروجة، وعدي الأمير زين الدين كتبغا والأمراء، اجتمع بهم الأمير علم الدين سنجر الشجاعي ومن كان بالقاهرة والقلعة من الأمراء الصالحية والمنصورية، وقرروا سلطنة الناصر محمد وأحضروه وعمره تسع سنين سوا في يوم السبت سادس عشر المحرم سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وأجلسوه على سرير السلطنة. ورتبوا الأمير زين الدين كتبغا نائب السلطنة عوضاً عن بيدرا، والأمير علم الدين سنجر الشجاعي وزيراً ومدبراً عوضاً عن ابن السلعوس، والأمير حسام الدين لاجين الرومي الأستادار أطابك العساكر، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير أستادارا، والأمير ركن الدين بيبرس الدوادار دواداراً، وأعطي إمرة مائة فارس وتقدمة ألف، وجعل إليه أمر ديوان الإنشاء في المكاتبات والأجوبة والبريد. وأنفق في العسكر وحلفوا فصار كتبغا هو القائم بجميع أمور الدولة، وليس للملك الناصر من السلطنة إلا اسم الملك من غير زيادة على ذلك، وسكن كتبغا بدار النيابة من القلعة، وجعل الخوان يمد بين يديه.
وأما الشام فإنه كتب إلى دمشق كتاب على لسان الملك الأشرف، ومضمونه: إنا قد استنبنا أخانا الملك الناصر محمداً، وجعلناه ولي عهدنا حتى إذا توجهنا إلى لقاء عدو يكون لنا من يخلفنا ورسم فيه بتحليف الناس للملك الناصر محمد، وأن يقرن اسمه باسم الأشرف في الخطبة. وتوجه بالكتاب الأمير سيف الدين ساطلمش وسيف الدين بهادر التتري، فدخلا دمشق يوم الجمعة رابع عشريه، وجمع الأمير عز الدين أيبك الحموي نائب دمشق الأمراء والمقدمين والقضاة والأعيان وحلفهم، وخطب باسم الملك الأشرف والملك الناصر ولي عهده، وكان ذلك من تدبير الشجاعي، فقدم من الغد البريد إلى دمشق بالحوطة على موجود بيدرا ولاجين وقرا سنقر، وطرنطاي الساقي وسنقرشاه وبهادر رأس نوبة، فظهر قتل الأشرف وإقامة أخيه الناصر بعده.
فاستمر الأمر في الخطبة بالشام على ذلك إلى حادي عشر ربيع الأول، حتى ورد مرسوم ناصري بالخطبة للملك الناصر وحده بالسلطنة، فخطب له كذلك في يوم الجمعة حادي عشر ربيع الأول، وترحم على أبيه المنصور وأخيه الأشرف.
ثم كتب إلى ووقع الطلب على الأمراء الذين كانوا مع بيدرا في قتل الأشرف، فأول من وجد منهم الأمير سيف الدين بهادر رأس نوبة، والأمير جمال الدين أقش الموصلي الحاجب، فضربت أعناقهما وأحرقت أبدانهما في المجاير ثامن يوم سلطنة الناصر. ثم أخذ بعدهما سبعة أمراء: وهم حسام الدين طرنطاي الساقي، ونوغاي السلاح دار، وسيف الدين الناق الساقي السلاح دار، وسيف الدين أروس الحسامي السلاح دار، وعلاء الدين ألطبغا الجمدار، وأقسنقر الحسامي، وناصر الدين محمد بن خوجا ثم قبض على قوش قرا السلاح دار، وذلك في العشرين من المحرم فسجنوا بخزانة البنود من القاهرة، وتولي بيبرس الجاشنكير عقوبتهم ليقروا على من كان معهم، ثم أخرجوا يوم الاثنين ثامن عشره، وقطعت أيديهم بالساطور على قرم خشب بباب القلعة، وسمروا على الجمال وأيديهم معلقة، وشقوا بهم ورأس بيدرا على رمح قدامهم القاهرة ومصر. واجتمع لرؤيتهم من العالم ما لا يمكن حصره، بحيث كادت القاهرة ومصر أن تنهبا. ومروا بهم على أبواب دورهم، فلما جازوا على دار علاء الدين الطنبغا خرجت جواريه حاسرات يلطمن، ومعهن أولاده وغلمانه قد شقوا الثياب وعظم صياحهم. وكانت زوجته بأعلى الدار، فألقت نفسها لتقع عليه فأمسكنها جواريها، وهي تقول. ليتني فداك، وقطعت شعرها ورمته عليه فتهالك الناس من كثرة البكاء رحمة لهم واستمروا على ذلك أياماً: فمنهم من مات على ظهور الجمال، ومنهم من فكت مساميره وحمل إلى أهله ثم أخذ مرة ثانية وأعيد تسميره فمات.
هذا وجواري الملك الأشرف وسيال حواشيه قد لبسن الحداد وتذرعن السخام، وطفن في الشوارع بالنواحات يقمن المأتم، فلم ير بمصر أشنع من تلك الأيام. ثم أخذ بعد ذلك الأمير سيف الدين قجقار الساقي فشنق بسوق الخيل، ولم يوقف لقراسنقر ولا للاجين على خبر ألبتة.
وبلغ الوزير ابن السلعوس وهو بالإسكندرية مقتل الملك الأشرف، فخرج ليلا وسار إلى القاهرة فنزل بزاوية الشيخ جمال الدين أحمد بن محمد بن عبد الله الظاهري خارج القاهرة وبات عنده. ثم ركب منها بكرة بهيئته ودسته إلى داره، فأتاه القضاة والأعيان وسلموا عليه، فجري معهم على عادته من الترفع والكبر، ولم يقم لأحد ولا احتفل بكبير. فقال له بعض أصدقائه: الرأي أن تختفي حتى تسكن الفتنة فقال: هذا لا نفعله ولا نرضاه لعامل من عمالنا، فكيف نختاره لأنفسنا واستمر في بيته والناس تتردد إليه خمسة أيام، وذلك من أجل أن حرم الملك الأشرف بعثن إلى الأمير كتبغا النائب يشفعن فبه، فإنه من أحباب السلطان وأخصائه. فشق ذلك على الشجاعي وتحدث مع كتبغا وغيره من الأمراء، وحرضهم عليه وأغراهم به، فاستدعاه كتبغا في اليوم السادس وهو ثاني عشري المحرم، فركب في دسته على عادته، فعندما دخل إليه قبض عليه وأسلمه للشجاعي فأحاط به، وأنزله من القلعة ماشياً إلى داره والأعوان محيطة به، فلم يمكن من العبور إليها. وأخذه أعدي أعاديه الأمير بهاء الدين قراقوش الظاهري شاد الصحبة ليطالبه بالأموال، فضربه ضرباً شديداً بلغ في مرة واحدة ألفاً ومائة ضربة بالمقارع، فأنكر عليه الشجاعي ذلك ونقل ابن السلعوس إلى الأمير بدر الدين لؤلؤ المسعودي شاد الدواوين، فعاقبه بأنواع العقوبات وعذبه أشد عذاب، واستخرج منه مالاً كثيراًً: منه مبلغ تسعة آلاف دينار تحت يد شخص بالشام، فكتب. التذاكر إلى الشام، وأخذ المبلغ المذكور.
وكانت عقوبة ابن السلعوس في المدرسة الصاحبية بسوبقة الصاحب من القاهرة، وفي كل يوم يضربه لؤلؤ بالمقارع ويخرجه من الصاحبية إلى القلعة وهو على حمار، فيقف له أراذل الناس في طول الطريق ومعهم المداسات المقطعة ويقولون له: يا صاحب علم لنا على هذه ويسمعونه كل مكروه، فينزل به من الخزي والنكال ما لا يعبر عنه. وكان لؤلؤ هذا ممن أنشأه ابن السلعوس، فإنه كان قد طلب من دمشق لما قتل مخدومه الأمير طرنطاي النائب وكان يلي ديوانه بالشام فأحسن إليه ابن السلعوس وولاه شد الدواوين بمصر، وصار يقف في خدمته كأنه بعض النقباء، فلا يسميه إلا لؤلؤ، فقدر الله أنه وقع في يده، فبالغ في إهانته وصارت العقوبة في كل يوم تتزايد عليه والشدائد تتضاعف، ويتولى عقوبته شر الظلمة وأبعدهم من الشفقة، إلى أن مات في يوم السبت عاشر صفر، وقيل خامس عشره، وقيل سابع عشره، وضرب بعد موته ثلاث عشرة مقرعة، ودفن بالقرافة.
وفي تاسع عشر صفر: عزل قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة عن وظيفة القضاء، وأعيد قاضي القضاة تقي، الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز إلى سائر ما كان بيده من المناصب واستقر ابن جماعة في تدريس المدرسة الناصرية بجوار قبة الشافعي من القرافة، وتدريس المشهد الحسيني بالقاهرة.
وفي هذه المدة: أحكم الشجاعي أمر الوزارة، فاشتدت مهابة الناس له وقويت نفسه، وأحب أن يستبد بالأمور، فشرع في إعمال التدبير على الأمير كتبغا ليقبض عليه، واستمال الأمراء البرجية والمماليك السلطانية، وفرق فيهم نحو الثمانين ألف دينار سرا، وقرر معهم أن من أتاه برأس أمير من الأمراء الذين مع كتبغا فإنه يعطيه إقطاعه، وأن الأمير علم الدين سنجر البندقداري يقبض على كتبغا إذا جلس على السماط. وكان ممن اطلع على هذا الأمير سيف الدين قنغر التتري الوافد في الدولة الظاهرية وهو من جنس كتبغا، فأعلمه الخبر، فاحترز كتبغا على نفسه وأعلم أصحابه من الأمراء وغيرهم، فلما كان يوم الخميس ثاني عشري صفر اجتمع الأمراء بمساطب باب القلة من قلعة الجبل على العادة، ينتظرون فتح باب القلعة ليركبوا في خدمة الأمير كتبغا في الموكب كما جرت به العادة، فلم يشعروا إلا برسالة قد خرجت على لسان أمير جاندار بطلب جماعة من الأمراء: وهم سيف الدين قبجق، وبدر الدين عبد الله السلاح دار حامل الجتر، وسيف الدين قبليي، وركن الدين عمر السلاح دار أخو تمر، وسيف الدين كرجي، وسيف الدين طرنجي، وقرمشي السلاح دار، وبوري السلاح دار، ولاجين جركسي، ومغلطاي المسعودي، وكرد الساقي، فدخلوا إلى الخدمة السلطانية. وقام بقية الأمراء للركوب، فبينما هم يسيرون تحت القلعة بالميدان الأسود، جاء الأمير قنغر ومعه ابنه جاورجي، فأخبرا النائب كتبغا أن الأمراء الذين استدعوا اعتقلوا، وأن الشجاعي قد دبر أنك إذا طلعت قبض عليك وعلى من معك وقت الجلوس على السماط. فعرف كتبغا الأمراء الذين معه بما قال قنغر وولده، فتوقفوا عن الطلوع إلى القلعة.
واستعجل الأمير علم الدين البندقداري، وعمل ما لا كان ينبغي، وذلك أنه كان في الموكب سيف الدين برلغي أمير مجلس، وركن الدين بيبرس الجاشنكير الأستادار، فلم يشعر بيبرس إلا وضربة دبوس جاءته في رأسه أثرت فيه أثراً بقي فيه بعد ذلك، وقبض عليه وعلى برلغي وبعث بهما إلى الإسكندرية. وعند قبضهما قال سنجر البندقداري لكتبغا النائب في جملة كلام فاوضه به: أين لاجين؟ أحضره فقال كتبغا: ما هو عندي فقال سنجر: والله هو عندك وجرد سيفه ليضرب به كتبغا، فبادره من ورائه بكتوت الأزرق مملوك كتبغا وضربه بسيف حل كتفه، ونزل إليه بقية مماليك كتبغا وذبحوه.
وساق كتبغا ومن معه من الأمراء: وهم بيسري وبكتاش الفخري أمير سلاح وبكتوت العلائي وبهاء الدين يعقوب ونوكاي وأيبك الموصلي والحاج بهادر وأقسنقر كرتيه وبلبان إلى باب المحروق وخرجوا منه، فنزلوا بظاهر السور ولبسوا عدة الحرب. وبعث كتبغا نقباء الحلقة في طلب المقدمين وأجناد الحلقة والتتر والأكراد الشمهرزورية، فحضروا إليه. وركب الشجاعي وخرج إلى باب القلعة، وحرك الكوسات ليحضر إليه الأمراء وأجناد الحلقة، فإنه كان قد صر عدة صرر من ذهب، وراسل المقدمين وأجناد الحلقة يعدهم إذا وافقوا وقاموا معه، فصار من يحضر إليه يعطيه صرة ذهب على قدره، فلم يحضر إليه هذا اليوم إلا من لا يغني ولا يجدي مجيئه شيئا. ثم إن كتبغا بعث إلى السلطان يطلب الشجاعي، وقال له: قد انفرد هذا برأيه في القبض على الأمراء ولابد من حضوره، فإنه بلغنا عنه ما أنكرناه. فأرسل السلطان يعرف الشجاعي بذلك، فامتنع أن يحضر إليه، ورجف كتبغا وأخذ يحاصر القلعة وقطع عنها الماء وباتوا على ذلك. فلما كان يوم الجمعة نزل الأمراء البرجية من القلعة على حمية، وقاتلوا كتبغا ومن معه من العساكر، وهزموهم وساقوا خلفهم إلى البئر البيضاء، ومر كتبغا إلى ناحية بلبيس.
وكان بيسري وبكتاش في عدة من الأمراء لم يركبوا مع كتبغا في هذا اليوم، فلما سمعوا بكسرته شق عليهم ذلك وركبوا إلى البرجية وقاتلوهم، وكسروهم حتى ردوا إلى القلعة. فقدم كتبغا بعد كسرته وانضم مع بيسري وبكتاش، وتلاحق بهم الناس. فجدوا في حصار القلعة حتى طلع الملك الناصر على البرج الأحمر وتراءى لهم، فنزل الأمراء عن خيولهم إلى الأرض وقبلوا له الأرض، وقالوا: نحن مماليك السلطان، ولم تخلع يدا من طاعته، وما قصدنا إلا حفظ نظام الدولة واتفاق الكلمة وإزالة الفساد.
واستمر الحصار سبعة أيام، وفي كل يوم ينزل الشجاعي ومعه الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار والأمير سيف الدين طغجي في عدة من المماليك السلطانية، فيكون بينه وبين كتبغا وأصحابه قتال، إلا أنه يتسلل ممن معه في كل يوم عدة ويصيرون إلى كتبغا. فلما اشتد الحصار طلعت أم السلطان على سور القلعة، وسألت الأمراء عن غرضهم حتى تعمل، فقالوا: ما لنا غرض إلا القبض على الشجاعي وإخماد الفتنة، ولو بقي من بيت أستاذنا بنت عمياء كنا مماليكها، لاسيما وولده الملك الناصر حاضر وفيه كفاية. فانخدعت لقولهم، واتفقت مع الأمراء حسام الدين الأتابك وغلقوا باب القلة من القلعة، وصار الشجاعي بداره من القلعة محصورا. فعند ذلك تفرق عنه أصحابه ونزلوا إلى كتبغا، فلم يجد بدا من طلب الأمان فلم تجبه الأمراء، فتحير وقال: إن كنت أنا الغريم فأنا أتوجه إلى الحبس طوعا مني، وأبرأ مما قيل عني وخرج إلى باب الستارة السلطانية وحل سيفه بيده، وذهب نحو البرج ومعه الأمير بهاء الدين الأقوش والأمير سيف الدين صمغار.
وقيل إن الشجاعي لما أبي الأمراء أن يؤمنوه بعثوا آخر النهار عند العصر جماعة فيهم الأقوش إلى عند أم السلطان، وطلبوا الشجاعي ليستشيروه فيما يفعل، فلما حضر تكاثرت عليه المماليك، ووثب عليه منهم أحد مماليك الأقوش وضربه من ورائه بسيف أطار يده، وثني بأخرى أسقطت رأسه عن بدنه، ورفعت في الحال على السور. وكان عمره نحو خمسين سنة.
ويقال إنه لما حضر قال له السلطان: يا عمي لأي شيء هذا الذي أنتم فيه؟ فقال: لأجلك يا خوند فقال: خلوني أعمل شيئا تبقوا مطمئنين وأنا معكم، وهو أنك تروح يا أمير علم الدين تقعد في مكان بالقلعة وترسل ورائه الأمراء ليطلعوا، وبعد أيام نوفق بينكم، ونعطيك قلعة بالشام تروح إليها ونستريح منهم. فقام الأمراء الحاضرون وقبضوا عليه، وقيدوه وأخرجوه إلى مكان يسجن فيه، فتوجه به الأقوش نحو البرج الجواني.
فلما كان في أثناء، الطريق قتله، وقطع رأسه ويده وأخذها في ذيل قرظيته ونزل إلى سوق الخيل والبرجية والمماليك السلطانية محيطة بباب القلعة، فقالوا له: ما معك فقال: خبز سخن أرسله السلطان إلى الأمراء، ليعلموا أن عندنا الشيء بكثرة يريد بذلك النجاة منهم. فظنوه صادقاً وتركوه، ولو علموا بأنه معه رأس الشجاعي لما خلص منهم. فصار إلى الأمراء وناولهم الرأس، فبعثوا في الحال من حلف السلطان والأمراء الذين عنده.
وفتح باب القلعة، وطلع كتبغا والأمراء إلى القلعة وهم راكبون إلى باب القلة، ثاني يوم، ودقت البشائر، وذلك يوم الثلاثاء سابع عشريه. فنودي بعد ذلك بالأمان، ففتحت أبواب القاهرة وكانت كلها مغلقة إلا باب زويلة، وكذلك الأسواق كانت معطلة في هذه المدة.
ثم رفع رأس الشجاعي على رمح وطيف بها القاهرة ومصر، ولم يدعوا زقاقا حتى طافوا بالرأس فيه، وجبوا عليه مالاً كثيراً. وفي الناس من كان يضرب الرأس بالمداسات، ومنهم من يصفعه ويسبه، وصاروا يقولون: هذه رأس الملعون الشجاعي. وسر كثير من الناس لموته، فإنه أكثر من المصادرات، ونوع الظلم والعسف أنواعا.
وفيه أفرج عن الأمراء المعتقلين، وأعيدت لهم إقطاعاتهم وأموالهم، وجددت الأيمان للسلطان ولنائبه الأمير كتبغا. وأنزل من كان ساكنا في الأبراج والطباق بقلعة الجبل من المماليك السلطانية الذين رموا بأنهم أثاروا هذه الفتنة، وأسكنت طائفة منهم في مناظر الكبش بجوار الجامع الطولوني، وطائفة في دار الوزارة برحبة باب العيد من القاهرة، وطائفة في مناظر الميدان الصالحي بأرض اللوق، واعتقلت طائفة.
وفي يوم الخميس تاسع عشريه: استقر في الوزارة الصاحب تاج الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين على بن حنا، واستقر ابن عمه عز الدين الصاحب محيي الدين بهاء الدين في وزارة الصحبة، وصارا يجلسان جميعاً في شباك الوزارة بقلعة الجبل، والصاحب تاج الدين هو الذي يوقع.
وفي سلخه: أفرج عن الأمير عز الدين أيبك الأفرم.
وفي ثالث ربيع الأول: أوقعت الحوطة بدمشق على موجود الأمير علم الدين سنجر الشجاعي، وقبض على نوابه.
وفي العشرين من رجب: حلف نائب دمشق والأمراء بها للسلطان ونائبه وولي عهده الأمير كتبغا، ودعي له معه في الخطبة.
وفي خامس عشريه: ركب الملك الناصر في أبهة الملك، وشق القاهرة من باب النصر حتى خرج من باب زويلة عائدا إلى القلعة، وكتبغا والأمراء يمشون في ركابه، فكان يوماً مشهوداً، ودقت البشائر بالقلعة.
وفي يوم عيد الفطر: ظهر الأمير حسام الدين لاحين الصغير والأمير شمس الدين قرا سنقر المنصوريان من الاستتار: وكانا وقت فرارهما عند وقعة بيدرا قد أطلعا الأمير سيف الدين بتخاص الزيني مملوك الأمير كتبغا بحالهما، فتلطف مع أستاذه كتبغا في أمرهما حتى صار يتحدث مع السلطان إلى أن عفا عنهما، ثم تحدث كتبغا مع الأمير بكتاش في أمرهما، وانتدبه لإصلاح حالهما مع الأمراء، فركب ودار على الأمراء وأعيان المماليك، وأزال ما كان في نفوسهم من الوحشة. وقرر الحال على أنهما يصعدان إلى القلعة يوم العيد، فأتيا سرا إلى بيت الأمير كتبغا بقلعة الجبل، فأخذهما معه ودخل إلى السماط، فقبلا الأرض للسلطان على العادة، فأكرمهما وخلع عليهما وأمرهما كما كانا، ونزلا فحمل الأمراء إليهما من التقادم ما يجل وصفه. وكانت هذه الفعلة من كتبغا مع لاجين كعنز السوء بحثت عن حتفها بظلفها، كما ستراه قريباً من خبرهما إن شاء الله.
وفيه أفرج عن الأمير حسام الدين مهنا بن عيسي وأخوته وأولاده.
وفي هذه السنة: قصر مد النيل ولم يوف، بل كانت نهايته خمسة عشر ذراعاً وثلث ذراع، فغلت الأسعار.
وفيها استقر في قضاء دمشق قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، عوضاً عن قاضي القضاة شهاب الدين محمد الخويي بحكم وفاته.
وفيها سار الشريف أبو نمي أمير مكة يريد مصر حتى يلقي السلطان الملك الأشرف، لأنه حلف على ذلك، فلما نزل ينبع رد إليه الشريف راجح بن إدريس ينبع، وجاءه الخبر بقتل السلطان الملك الأشرف، فرجع من ينبغ إلى مكة.
وغلت الأسعار بمكة، فأبيع المد الملح بستة دنانير مكية، وغلت بها المياه في شعبان ورمضان. وقدم حاج اليمن في كثرة، فبلغت الراوية أربعة دنانير، وحمل الماء من عرفة إلى مكة. ثم أغاث الله بالأمطار وكانت بمني قبله في يوم الأحد، فسار الناس منها يوم الأربعاء ومضوا إلى بلادهم.
وفيها قتل الملك كيختو بن أبغا بن هولاكو. وولي بعده بيدو بن طوغاي بن هولاكو.

.ومات في هذه السنة من الأعيان:

قاضي قضاة الشام شهاب الدين أبو عبد الله محمد بن قاضي القضاة شمس الدين أبي العباس أحمد بن الخليل بن سعادة بن جعفر بن عيسى المهلبي الشهير بابن الخويي الشافعي بدمشق عن سبع وستين سنة، ولي قضاء حلب ودمشق ومصر، ولم يبرح مشكور السيرة.
وتوفي الوزير الصاحب فخر الدين أبو إسحاق إبراهيم بن لقمان بن أحمد بن محمد الشيباني الإسعردي عن إحدى وثمانين سنة، وزر مرتين.
وتوفي الوزير الصاحب شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عثمان بن أبي الرجا بن السلعوس التنوخي، عن خمسين سنة مقتولا.
وتوفي الزاهد المعتقد تقي الدين أبو محمد عبد الله بن على بن محمد بن منجد السروجي بالقاهرة.
وتوفي المحدث شرف الدين أبو على الحسن بن على بن عيسي بن الحسن بن على ابن الصيرفي اللخمي عن نحو سبع وستين سنة.
ومات قبلاي خانة بن طلوي بن جنكزخان ملك الصين، وهو أكبر الخانات والحاكم على كرسي مملكة جنكزخان. وكانت مدته قد طالت، فقام في مملكة الصين بعده ابنه شبردون بن قبلاي.