فصل: سنة ثلاث وثمانمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة ثلاث وثمانمائة:

أهل المحرم، بيوم الأحد، تاسع عشرين مسرى: والأردب القمح من خمسين إلى ما دونها، والشعير والفول بثلاثين فما دونها. والدينار الأفرنتي بتسعة وعشرين درهماً.
وفي ثالثه: خلع على الأمير تغري برمش السيفي متولي الشرقية، لولاية القاهرة، عوضاً عن شهاب الدين أحمد بن الزين.
وفي سادسه: قدم البريد من دمشق بأن تمرلنك نزل على سيواس، وانهزم سليمان ابن أبي يزيد بن عثمان، وقرا يوسف بن قرا محمد إلى جهة برصا، بلد الروم، وأنه أخذ سيواس، وقتل من أهلها جماعة كبيرة.
وفي تاسعه: وردت رسل ابن عثمان، فكتبت أجوبة كتبهم، وسفروا.
وفي يوم الخميس ثاني عشره: استقر القاضي نور الدين على بن الجلال يوسف بن مكي الدميري المالكي في قضاء القضاة المالكية، عوضاً عن قاضي القضاة ولى الدين عبد الرحمن بن خلدون على مال وعد به.
وفي رابع عشره: استدعي إلى حضرة السلطان بالقصر من القلعة قاني باي العلاي، رأس نوبة أحد الطبلخاناه، وأمر بلبس تشريف نيابة غزة، فامتنع من ذلك، فقبض عليه وسلم إلى الأمير أقباي حاجب الحجاب، فأقام عنده إلى آخر النهار، فاجتمع طائفة من المماليك السلطانية يريدون أخذه فخاف، وصعد إلى قلعة الجبل وشاور في أمره، فأخرج عنه، وبقيت عليه إمرته.
وفي سادس عشره: استقر الأمير جركس السودوني،- ويقال له أبو تنم- في نيابة الكرك، عوضاً عن الأمير بتخاص من غير أن يتسلمها، فسار جركس إليها، ودخلها من غير أن ينازعه شعبان بن أبي العباس، وأقام بها، وقد عمها الخراب، وتلف أكثر القرى، لشدة ما كان من بتخاص وابن أبي العباس من الفتن والحروب.
وفي عشرينه: استقر محمد بن العادلي والي منوف، وعزل علاء الدين بن حمزة.
وفي رابع عشرينه استقر: بلبان وإلى أسوان، وعزل علي بن قرط.
وفي خامس عشرينه: ورد البريد من حلب بأخذ تمرلنك سيواس وملطية.
وفي سادس عشرينه: قدم البريد من حلب بوصول أوائل عسكر تمرلنك إلى عين تاب، فأدركوا المسلمين. وفيه انتهت زيادة ماء النيل إلى تسعة عشر ذراعاً واثني عشر إصبعاً، وثبت إلى سابع عشر توت.
وفي ثامن عشرينه: استقر الأمير شهاب الدين أحمد بن الوزير الأمير ناصر الدين محمد بن رجب بن كلفت في شد الدواوين، عوضاً عن الشريف علاء الدين على البغدادي. وفيه استدعى الخليفة، وقضاة القضاء، والأمراء، وأعيان الدولة، وأعلموا أن تمرلنك وصل إلى سيواس وأخذها، ووصلت مقدمته إلى مرعش وعين تاب والقصد أخذ مال من التجار إعانة على النفقة في العساكر. فقال القضاة: أنتم أصحاب اليد، وليس لكم معارض، وإن كان القصد الفتوى فلا يجوز أخذ مال أحد، ويخاف من الدعاء على العساكر إن أخذ مال التجار، فقيل لهم نأخذ نصف الأوقاف نقطعها للأجناد البطالين، فقيل وما قدر ذلك ومتى اعتمد في الحرب على البطالين من الأجناد؟ خيف أن يأخذوا المال؟ ويميلون عند اللقاء مع من غلب وطال الكلام حتى استقر الرأي على إرسال الأمير أسنبغا الحاجب لكشف الأخبار، وتجهيز عساكر الشام إلى جهة تمرلنك.
وفي سلخه: استقر الأمير مبارك شاه حاجباً ثانياً، عوضاً عن دقماق نائب حماة، وأضيف إلى تغري برمش وإلى القاهرة الحجوبية على عادة ابن الزين. واستقر ناصر الدين محمد بن الأعسر كاشف الفيوم وواليها كاشف البهنساوية والأطفيحية وعزل أسنبغا.
شهر صفر، أوله الثلاثاء: وفي خامسه: استقر حسام الدين بن قراجا العلاي والي الجيزة، وصرف خليل بن الطوخي.
وفيه سار الأمير أسنبغا لكشف أخبار تمرلنك. وأنعم على أقبغا الجمالي نائب- كان- بنيابة غزة، ثم بطل ذلك.
وفي رابع عشره: قدم البريد من حلب بكتاب النائب وكتاب أسنبغا، أن تمرلنك نزل على قلعة بهسنا، بعدما ملك المدينة، وأنه يحاصرها، وقد وصلت عساكره إلى عينتاب، فوقع الشروع في حركة السفر.
وفي حادي عشرينه: خلع علي بدر الدين محمد بن محمد بن مقلد القدسي الحنفي بقضاء الحنفية بدمشق، عوضاً عن تقي الدين عبد الله بن يوسف بن أحمد بن الحسين بن سليمان بن فزارة، المعروف بابن الكفري.
وفي رابع عشرينه: خرج الأمير يلبغا السالمي إلى شبرا الخيام- من ضواحي القاهرة- وكسر بها من جرار الخمر أربعة وأربعين ألف جرة، وأراق ما فيها، وخرب بها كنيسة للنصارى. وعاد في أخره ومعه عدة أحمال من جرار الخمر، فكسرها عند باب زويلة وتحت القلعة.
ومن حينئذ تلاشى حال أهل شبرا ومنية الشيرج، فإن معظم أموالهم كان من عصير الخمر وبيعه.
وفي سادس عشرينه: استقر طيبغا الزيني كاشف الوجه البحري، وعزل ابن طرنطاي.
شهر وبيع الأول، أوله الأربعاء: وفي ثانيه: عمل السلطان المولد النبوي على العادة.
وفي ثالثه: علق جاليش السفر، وأخذ العسكر في أهبة السفر. وذلك أنه قدم البريد من أسنبغا أن تمرلنك نزل على بزاعة ظاهر حلب، فبرز نائب طرابلس بسبعمائة فارس إلى حاليش تمرلنك، وهم نحو ثلاثة آلاف. وترامي الجمعان بالنشاب، ثم اقتتلوا، وأخذ من التتار أربعة، وعاد كل من الفريقين إلى موضعه فوسط الأربعة على أبواب مدينة حلب. وأما دمشق فإن أهل محلاتها اجتمعوا في ثانية، ومعهم أهل النواحي، بالميدان وحملوا الصناديق الخليفتية، وشهروا السيوف، ولعبوا بين يدي النائب، ثم انفضوا. وخرج في ثالثه القضاة في جمع كبير، ونادوا بقتال تمرلنك، وتحريض الناس عليه، وعرض النائب العشران بالميدان، وفرض على البساتين والدور مالاً، وقدم الأمير أسنبغا من القاهرة في سابعه بتجهيز العساكر وغيرهم لحرب تمرلنك. فقرئ كتاب السلطان بذلك في الجامع، ونودي في تاسعه بألا يؤخذ من أحد شيء مما فرض على الدور وغيرها.
وفيه قدم رسول تمر بكتابه للمشايخ والأمراء والقضاة بأنه قدم في عام أول إلى العراق، يريد أخذ القصاص ممن قتل رسله بالرحبة ثم عاد إلى الهند لما بلغه ما ارتكبوه من الفساد، فأظفره الله بهم. فبلغه موت الظاهر، فعاد وأوقع بالكرج. ثم قصد، لما بلغه قلة أدب هذا الصبي- أبي يزيد بن عثمان- أن يعرك أذنه، ففعل بسيواس وغيرها من بلاده ما بلغكم. ثم قصد بلاد مصر ليضرب بها السكة، ويذكر اسمه في الخطة، ثم يرجع بعد أن يقرر سلطان مصر بها. وطلب أن يرسل إليه أطلمش ليدركه، إما بملطية أو حلب أو دمشق، وإلا فتصير دماء أهل الشام وغيرهم في ذمتكم، مخرج نائب صفد في رابع عشره، وخرجت الأطلاب في نصفه.
وقدم الخبر من حلب بنزول تمر على بهسنا فأخذ الناس في الرحيل من دمشق، فمنعهم النائب من ذلك، ورحل النائب من برزه في ثاني عشرينه يريد حلب، فلقيه نائب طرابلس في طريقه.
وكان من خبر أخذ تمرلنك مدينة حلب، أنه لما نزل على عين تاب، بعث إلى دمرداش نائب حلب يعده باستمراره في نيابة حلب، ويأمره بمسك الأمير سودن نائب الشام. فلما قدم عليه الرسول بذلك أحضره إلى نواب ممالك الشام، وقد حضروا إلى حلب وهم: سودن نائب دمشق، وشيخ المحمودي نائب طرابلس ودقماق نائب حماة، وألطنبغا العثماني نائب صفد، وعمر بن الطحان نائب غزة بعساكرها، فاجتمع منهم بحلب نحو ثلاثة آلاف فارس منهم عسكر دمشق ثمانمائة فارس، إلا أن الأهواء مختلفة، والآراء مفلولة، والعزائم محلولة والأمر مدبر. فبلغ رسول تمرلنك الرسالة دمرداش، فأنكر مسك سودن نائب دمشق. فقال له الرسول إن الأمير- يعني تمرلنك- لم يأت إلا بمكاتبتك إليه، وأنت تستدعيه أن ينزل على حلب، وأعلمته أن البلاد ليس بها أحد يدفع عنها. فحنق منه دمرداش، وقام إليه وضربه، ثم أمر به فضربت رقبته. ويقال أن كلام هذا الرسول كان من تنميق تمرلنك ومكره، ليغرق بذلك بين العساكر. ونزل تمر على جبلان خارج حلب، يوم الخميس تاسع ربيع الأول. وزحف يوم الجمعة، وأحاط بسور حلب، وكانت بين الحلبيين وبينه في هذين اليومين حروب.
فلما أشرقت الشمس يوم السبت حادي عشره، خرجت نواب الشام بالعساكر وعامة أهل حلب إلى ظاهر المدينة وعبوا للقتال. ووقف سودن نائب دمشق في الميمنة، ودمرداش في الميسرة، وبقية النواب في القلب، وقدموا أمامهم عامة أهل حلب. فزحف تمرلنك بجيوش قد سدت الفضاء، فثبت الأمير شيخ نائب طرابلس، وقاتل- هو وسودن نائب دمشق- قتالاً عظيماً، وبرز الأمير عز الدين أزدمر أخو أينال اليوسفي، وولده يشبك ابن أزدمر في عدة من الفرسان، وأبلوا بلاء عظيماً. وظهر عن أزدمر وولده من الإقدام ما تعجب منه كل أحد، وقاتلا قتالاً عظيماً، فقتل أزدمر وفقد خبره، وثخنت جراحات يشبك، وصار في رأسه فقط زيادة على ثلاثين ضربة بالسيف، سوى ما في بدنه، فسقط بين القتلى، ثم أخذ وحمل إلى تمرلنك.
ولم يمض غير ساعة حتى ولت العساكر تريد المدينة، وركب أصحاب تمر أقفيتهم، فهلك تحت حوافر الخيل من الناس عدد لا يدخل تحت حصر، فإن أهل حلب خرجوا حتى النساء والصبيان، وازدحم الناس مع ذلك في دخولهم من أبواب المدينة، وداس بعضهم بعضاً، حتى صارت الرمم طول قامة، والناس تمشي من فوقها.
وتعلق نواب المماليك بقلعة حلب، ودخل معهم كثير من الناس، وكانوا قبل ذلك قد نقلوا إلى القلعة سائر أموال الناس بحلب. واقتحمت عساكر تمرلنك المدينة وأشعلوا بها النيران، وجالوا بها ينهبون ويأسرون ويقتلون. واجتمع بالجامع وبقية المساجد نساء البلد، فمال أصحاب تمر عليهن، وربطوهن بالحبال، ووضعوا السيف في الأطفال فقتلوهم بأجمعهم، وأتت النار على عامة المدينة فأحرقتها. وصارت الأبكار تفتض من غير تستر ولا احتشام، بل يأخذ الواحد الواحدة ويعلوها في المسجد والجامع، بحضرة الجم الغفير من أصحابه، ومن أهل حلب، فيراها أبوها وأخوها ولا يقدر أن يدفع عنها، لشغله بنفسه.
وفحش القتل، وامتلأ الجامع والطرقات برمم القتلى، واستمر هذا الخطب من صحوة نهار السبت إلى أثناء يوم الثلاثاء، والقلعة قد نقب عليها من عدة أماكن، وردم خندقها، ولم يبق إلا أن تؤخذ. فطلب النواب الأمان، ونزل دمرداش إلى تمرلنك، فخلع عليه ودفع إليه أماناً، وخلعاً للنواب، وبعث معه عدة وافرة إلى النواب، فأخرجوهم. ممن معهم، وجعلوا كل اثنين في قيد وأحضروا إليه، فقرعهم ووبخهم، ودفع كل واحد منهم إلى من يحتفظ به. وسيقت إليه نساء حلب سبايا. وأحضرت إليه الأموال، ففرقها على أمرائه. واستمر بحلب شهراً. والنهب في القرى لا يبطل، مع قطع الأشجار، وهدم البيوت وجافت حلب وظواهرها من القتلى، بحيث صارت الأرض منهم فراشاً، لا يجد أحد مكاناً يمشي عليه إلا وتحت رجليه رمة قتيل. وعمل من الروس منابر عدة، مرتفعة في السماء نحو عشرة أذرع، في دور عشرين ذراعاً، حرز ما فيها من رءوس بني آدم، فكان زيادة على عشرين ألف رأس. وجعلت الوجوه بارزة يراها من يمر بها.
ثم رحل تمر عنها، وهي خاوية على عروشها، خالية من ساكنها وأنيسها، قد تعطلت من الأذان، وإقامة الصلوات. وأصبحت مظلمة بالحريق، موحشة، قفراء مغبرة، لا يأويها إلا الرخم. وأما دمشق، فأنه لما قدم عليهم الخبر بأخذ حلب، نودي في الناس بالتحول إلى المدينة والاستعداد للعدو، فاختبط الناس، وعظم ضجيجهم وبكاؤهم، وأخذوا ينتقلون في يوم الأربعاء نصفه من حوالي المدينة إلى داخلها. واجتمع الأعيان للنظر في حفظ المدينة.
فقدم في سابع عشره المنهزمون من حماه، فعظم الخوف، وهم الناس بالجلاء، فمنعوا منه، ونودي من سافر نهب. فورد في ثامن عشره الخبر بنزول طائفة من العدو على حماه، فحصنت مدينة دمشق، ووقف الناس على الأسوار، وقد استعدوا، ونصبت المناجنيق على القلعة، وشحنت بالزاد.
فقدم الخبر في ثاني عشرينه بأخذ قلعة حلب، وبوصول رسل تمر بتسليم دمشق، فهم نائب الغيبة بالفرار، فرده العامة رداً قبيحاً، وماج الناس وأجمعوا على الجلاء. واستغاث الصبيان والنساء فكان وقتاً شنعاً، ونودي من الغد لا يشهر أحد سلاحاً، وتسلم البلاد لتمر، فنادى نائب القلعة بالاستعداد للحرب، فاختلف الناس. فقدم الخبر بمجيء السلطان، ففتر عزم الناس عن السفر، ثم تبين أن السلطان لم يخرج من القاهرة.
وفي ثامن عشره: فرقت الجمال بقلعة الجبل على المماليك السلطانية.
وفي عشرينه: نودي بالقاهرة وظواهرها على أجناد الحلقة أن يكونوا يوم الأربعاء ثاني عشرينه في بيت الأمير يشبك الدوادار للعرض عليه، فانزعج الناس، ووقع عرض الأجناد من يوم الأربعاء.
وفي خامس عشرينه: ورد الخبر بهزيمة نواب الشام، وأخذ تمرلنك حلب ومحاصرته القلعة، فقبض على المخبر، وحبس. ووقع الشروع في النفقة للسفر، فأخذ كل مملوك ثلاثة آلاف وأربعمائة درهم. وخرج الأمير سودن من زاده، والأمير أينال حطب على الهجن في ليلة الأربعاء تاسع عشرينه، لكشف هذا الخبر.
وفي هذا الشهر: أيضاً أخذت مدينة حماه وكان من خبرها أن مرزه شاه ابن تمرلنك، نزل عليها بكرة يوم الثلاثاء رابع عشره، وأحاط بسورها، ونهب المدينة، وسبي النساء والأطفال، وأسر الرجال، ووقع أصحابه على النساء يطؤوهن ويفتضوا الأبكار جهاراً، من غير استتار، وخربوا جميع ما خرج عن السور. وقد ركب أهل البلد السور، وامتنعوا بالمدينة، وباتوا على ذلك. فلما أصبحوا يوم الأربعاء فتحوا باباً واحداً من أبواب المدينة، ودخل ابن تمر في قليل من أصحابه ونادي بالأمان. فقدم الناس إليه أنواع المطاعم فقبلها، وعزم أن يقيم رجلاً من أصحابه على حماه، فقيل له أن الأعيان قد خرجوا منها، فخرج إلى مخيمه، وبات به. ودخل يوم الخميس ووعد الناس بخير، وخرج. ومع ذلك، فإن القلعة ممتنعة عليه.
فلما كان ليلة الجمعة نزل أهل القلعة إلى المدينة وقتلوا من أصحاب مرزه شاه رجلين كانا أقرهما بالمدينة، فغضب من ذلك وأشعل النار في أرجاء البلد، واقتحمها أصحابه يقتلون ويأسرون وينهبون، حتى صارت كمدينة حلب، سوداء، مغبرة، خالية من الأنيس.
وفيه تكاثر جمع الناس بدمشق، بمن فر إليها من مملكة حلب وحماه وغيرها، واضطربت أحوال الناس بها، وعزموا على مفارقتها، وخرجوا منها شيئاً بعد شيء، يريدون القاهرة.
وفيه ركب شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني وقضاة القضاة، والأمير أقباي حاجب الحجاب، والأمير مبارك شاه الحاجب. ونودي بين أيديهم بالقاهرة من ورقة تتضمن أمر الناس بالجهاد في سبيل الله لعدوكم الأكبر تمرلنك، فإنه أخذ البلاد، ووصل إلى حلب، وقتل الأطفال على صدور الأمهات، وأخرب الدور والمساجد والجوامع، وجعلها إسطبلات للدواب، وهو قاصدكم، يخرب بلادكم، ويقتل رجالكم وأطفالكم، ويسبي حريمكم. فاشتد جزع الناس وكثر صراخهم، وعظم عويلهم، وكان يوماً شديداً.
شهر ربيع الآخر، أوله الجمعة: في ثالثه: قدم الأمير أسنبغا السيفي الحاجب، وأخبر بأخذ تمرلنك مدينة حلب وقلعتها، باتفاق دمرداش معه، وأنه بعد أن قبض عليه أفرج عنه. وحكي ما نزل من البلاء بأهل حلب، وأنه قال لنائب الغيبة بدمشق أن يخلي بين الناس وبين الخروج منها، فإن الأمر صعب وأن النائب لم يمكن أحداً من المسير. فخرج السلطان في يومه، ونزل بالريدانية ظاهر القاهرة، وتبعه الأمراء والخليفة والقضاة إلا قاضي القضاة جمال الدين يوسف الملطي الحنفي، فإنه أقام لمرضه. وألزم الأمير يشبك قاضي القضاة ولى الدين عبد الرحمن بالسفر إلى دمشق، فخرج مع العسكر وتعين الأمير تمراز أمير مجلس لنيابة الغيبة. وأقام من الأمراء الأمير جكم من عوض في عدة من الأمراء. وأمر تمراز بعرض أجناد الحلقة، وتحصيل ألف فرس وألف جمل، وإرسال ذلك مع من يقع عليه الاختيار من أجناد الحلقة.
وفيه استقر الأمير أرسطاي من خجا علي في نيابة الإسكندرية، عوضاً عن أمير فرج بعد موته. وكان أرسطاي منذ أفرج عنه مع الأمير نوروز قد أقام بثغر الإسكندرية بطالاً. فوردت إليه الولاية بالتقليد والتشريف.
وفي خامسه: نودي على أجناد الحلقة بالحضور للعرض في بيت الأمير تمراز، وهدد من تأخر عن الحضور. وخرج البريد إلى أعمال ديار مصر بالوجهين القبلي والبحري بجمع أقوياء أجناد الحلقة من الريف، وبتجهيز العربان للخروج إلى حلب تمرلنك.
وفي بكرة يوم الجمعة ثامنه: سار الجاليش، وفيه من الأمراء والأكابر نوروز رأس نوبة، وبكتمر الركني أمير سلاح، ويلبغا الناصري، وأقباي حاجب الحجاب، وأينال باي بن قجماس، وبيبرس الأتابك ابن أخت السلطان الظاهر.
وفي عاشره: رحل السلطان ببقية العساكر.
وفي ثاني عشره: قدم الخبر إلى دمشق بوصول جماعة تمرلنك قريباً من حمص، فأنزعج الناس، وأخذوا في الاستعداد وحمل الناس أموالهم إلى القلعة، وجفل جماعة من الناس بقدوم الأمير دمرداش نائب حلب إلى دمشق، في يوم السبت رابع عشرينه، فاراً من تمرلنك. وخرج لملاقاة السلطان فقدم من الغد الناس- وقد جفلوا- من بعلبك وأعمالها، بنسائهم ومواشيهم، لنزول تمر عليهم، فخرج كثير من أهل دمشق في ليلة الأربعاء ثامن عشرينه.
وفي رابع عشره: استقر البدر محمود العينتابي في حسبة القاهرة بسفارة الأمير جكم، وعزل البخانسي.
وفي خامس عشره: استقر الأمير أسنبغا الحاجب في كشف الجسور بالأشمونين. وخليل الشرفي جسور المنوفية، وقجماس والي العرب في كشف جسور الغربية.
وفي عشرينه: دخل السلطان مدينة غزة واستقر بالأمير تغري بردى من أسنبغا في نيابة دمشق، وبأقبغا الجمالي في نيابة طرابلس، وبتمربغا المنجكي في نيابة صفد، وبطولو من علي شاه في نيابة غزة، وبصدقة بن الطويل في نيابة القدس، وبعثهم إلى ممالكهم. وسار الجاليش من غزة في رابع عشرينه.
وسار السلطان في سادس عشرينه، وقد انضم إليه كثيرة ممن فر من البلاد الشامية.
وفي آخره: استقر الأمير تمراز نائب الغيبة بمنكلي بغا- مملوك مبارك شاه- في ولاية البهنسا، عوضاً عن يلبغا الزيني. فلما حضر إلى الأمير يلبغا السالمي نزع عنه الخلعة، وضربه بالمقارع ومقترح، ووكل به. فلما أصبح خلع عليه، وأذن له في السفر إلى ولايته، وذلك بعد ما دخل عليه في أمره، فراعى الأمير تمراز، وتلافي ما وقع منه، فلم يرض هذا تمراز، وحقد عليه حقداً زائداً.
شهر جمادى الأول، أوله السبت: في ثانيه: قدم البريد من السلطان، بأنه قد ورد خمسة من أمراء طرابلس بكتاب أسندمر نائب الغيبة، يتضمن أن أحمد بن رمضان التركماني، وابن صاحب الباز، وأولاد شهري، ساروا وأخذوا حلب، وقتلوا من بها من أصحاب تمرلنك، وهم زيادة على ثلاثة آلاف فارس. وأن تمرلنك بالقرب من سليمة، وأنه بعث عسكراً إلى طرابلس، فثار بهم أهل القرى وقتلوهم عن أخرهم بالحجارة، لدخولهم بين جبلين، وأنه قد حضر إلى الطاعة خمسة من أمراء المغل، وأخبروا بأن نصف عسكر تمرلنك على نية المصير إلى الطاعة السلطانية. وأن صاحب قبرس، ووزيره إبراهيم كرى، وصاحب الماغوصة، وردت كتبهم بانتظار الإذن في تجهيز المراكب في البحر لقتال تمرلنك.
وفيه استقر تمراز بناصر الدين محمد بن خليل الضاني في ولاية مصر. وعزل عمر بن الكوراني. وفيه قبض الأمير يلبغا السالمي على متا بترك النصارى ليعاقبه، وألزمه بمال ليأخذ عنه بضائع، فحلف أنه ليس عنده مال، وأن سائر ما يرد إليه من المال يصرفه في فقراء المسلمين وفقراء النصارى، فوكل به.
وفي ثالثه: قدم الأمير تغري بردى- نائب الشام- دمشق.
وفيه جفل أهل قرى دمشق إليها لوصول طائفة من أصحاب تمرلنك نحو الصنمين.
وفي سادسه: قدم السلطان دمشق بعساكره، وقد وصلت أصحاب تمرلنك إلى البقاع.
وفي عاشره: اقتتل بعض العسكر مع التمرية.
وفي يوم السبت خامس عشره: نودي في القاهرة ومصر أن الأمير يلبغا السالمي أمر أن نساء النصارى يلبسن أزراراً زرقاً. ونساء اليهود يلبسن أزراراً صفراً.
وأن النصارى واليهود لا يدخلون الحمامات إلا وفي أعناقهم أجراس وكتب على بترك النصارى بذلك إشهاداً، بعد أن جرت بينه وبينه عدة محاورات، حتى أشهد عليه بالتزام ذلك، إلزامه سائر النصارى بديار مصر، وألزم سائر مدولبي الحمامات ألا يكونوا يهودياً ولا نصرانياً من الدخول بغير جرس في عنقه، فقام الأمير تمراز في معارضته.
وفي يوم السبت: هذا نزل تمرلنك إلى قطا فملأت جيوشه الأرض، وركب طائفة منهم إلى العسكر وقاتلوهم، فخرج السلطان من دمشق يوم الثلاثاء ثامن عشره إلى يلبغا، فكانت وقعة انكسرت ميسرة العسكر، وانهزم أولاد الغزاوي وغيرهم إلى ناحية حوران، وجرح جماعة، وحمل تمر حملة منكرة، ليأخذ بها دمشق، فدفعته عساكر السلطان.
وفي عشرينه: نادي الأمير تمراز بالقاهرة من كانت له ظلامة فعلية ببيت الأمير وأن اليهود والنصارى على حالهم، كما كانوا في أيام الملك الظاهر. فبطل ما أمر به السالمي.
وفيه أمر السالمي أن يضرب دنانير الذهب محررة الوزن، على أن كل دينار مثقال، سواء عزم على إبطال المعاملة بالدنانير الأفرنتية المشخصة، فضرب الدينار السالمي، وتعامل الناس به عدداً، ونقش عليه السكة الإسلامية.
وفي ثاني عشرينه: قدم البريد من السلطان أنه دخل دمشق يوم الخميس سادسه، وأقام بقلعتها إلى يوم السبت ثامنه، ثم خرج إلى مخيمه ظاهر المدينة عند قبة يلبغا. فحضر جاليش تمرلنك وقت الظهر من جهة جبل الثلج، وهو نحو ألف فارس، فسار إليهم مائة فارس من عساكر السلطان، وكسروهم وقتلوا منهم جماعة، وأنه حضر في تلك الليلة عدة من التمرية للطاعة، وأخبروا بنزول تمر على البقاع العزيزي فلتكونوا على حذر، فإن تمر كثير الحيل والمكر فدقت البشائر بقلعة الجبل ثلاثة أيام.
وفي خامس عشرينه: قدم البريد من السلطان، فاستدعي الأمير تمراز شيخ الإسلام البلقيني وولده جلال الدين عبد الرحمن قاضي العسكر، ومن تأخر بالقاهرة من الأعيان، وقرئ عليهم كتاب السلطان بأنه قدم إلى دمشق في سادسه، وواقع طائفة من العسكر في ثامنه، أصحاب تمرلنك، وأن مرزه شاه بن تمر، وصهره نور الدين قتلا. وقتل قرايلك بن طرالي التركماني، وأن السلطان حسين بهادر- رأس ميسرة تمرلنك وابن بنته- حضر إلى الطاعة في ثالث عشره، ومعه جماعة كبيرة، فخلع عليه، وأركب فرساً بسرج وكنفوش من ذهب، وأنزل دار الضيافة بدمشق، وأن تمر نازل تحت جبل الثلج، وقد أرسل في طلب الصلح مراراً، فلم نجبه لأنه بقي في قبضتنا، ونحن نطاول معه الأمر حتى يرسل إلينا الأمراء المقبوض عليهم، وما أخذه من حلب وغيرها. وأن الأمير نعير دخل في الطاعة، وقدم إلى عذراء وضمير. وأن الأمير شهاب الدين أحمد بن الشيخ توجه إلى الأغوار، وجمع خلقاً كثيراً، منهم عيسى بن فضل أمير آل علي، وبني مهدي، وعرب حارثة، وابن القان، والغزاوي، فصدفوا من التمرية زيادة على ألفي فارس، فقاتلوهم وقتلوا أكثرهم، وأخذوا منهم ذهباً ولؤلؤاً كبيراً. وأنه قد مات من أصحاب تمر بالبرد أكثر من ثلاثة آلاف نفس.
وقرئ أيضاً كتاب آخر بأن الأمير يلبغا السالمي لا يحكم إلا فيما يتعلق بالاستادارية خاصة، ولا يحكم في شيء مما كان يحكم فيه بين الأخصام مما يتعلق بالأمور الشرعية، وما يتعلق بالأمراء والحجاب، وأن الحاكم في هذه الأشياء الأمير تمراز نائب الغيبة. وسبب هذا أن السالمي- لما مات قاضي القضاة جمال الدين يوسف الملطي في تاسع عشر ربيع الآخر- كتب إلى السلطان يسأل في الإذن له بالتحدث في الأحكام الشرعية، فأجيب إلى ذلك، وكتب إليه به، فأقام له نقيباً كنقباء القضاة، وحكم بين الناس، في الأمور الشرعية، فشق هذا على تمراز، وكاتب السلطان في إبطال هذا، فكتب إليه بذلك. ولما قرئ على من حضر، نودي بالقاهرة ومصر أن من وقف ليلبغا السالمي في شكوى عوقب، ومن كانت له ظلامة أو شكوى أو أخذ منه السالمي شيء، فعليه بالأمير الكبير تمراز. ودقت البشائر أيضاً بالقلعة.
وفي سابع عشرينه: استدعي الأمير تمراز شمس الدين محمد البرقي الحنفي- أحد موقعي قضاة الحنفية- وتحدث معه في أمر السالمي، فكتب محضراً بقوادح في السالمي، وكتب فيه جماعة. وبلغ ذلك السالمي، وكان قد خرج من القاهرة، فحضر يوم الأحد سلخه إلى عند الأمير تمراز، وتفاوضا مفاوضة كبيرة، آلت إلى أن أصلح بينهما الأمير مبارك شاه الحاجب، والأمير بيسق أمير أخور. وعاد السالمي إلى منزله، وطلب البرقي وضربه عريا ضرباً مبرحاً، وأمر به أن يشهر كذلك، فقام الناس وشفعوا فيه حتى رده من الباب، وطلب جماعة من اليهود والنصارى وضربهم، وشهرهم، ونادي عليهم هذا جزاء من يخالف الشرع الشريف. وطلب دوادار وإلى القاهرة، وضربه لكونه نادى بما تقدم ذكره في حقه، فهرب الوالي إلى بيت تمراز واحتمي به، خوفا على نفسه.
شهر جمادى الآخرة، أوله الاثنين: في أوله خلع الأمير تمراز على ناصر الدين محمد بن ليلى بولاية مصر. فلما حضر إلى السالمي نزع عنه الخلعة وضربه عرياناً، وشهره وهو ينادي عليه هذا جزاء من يلي من عند غير الأستادار، ومن يلي بالبراطيل، فأدركه أحد مماليك تمراز وسار به إليه. فلما رآه مضروباً اشتد حنقه، وعزم على الركوب للحرب، فما زال به من حضر حتى أمسك عن إقامة الحرب. واشتدت العداوة بينهما.
وفيه قدم من أخبر باختلاف الأمراء على السلطان، وعوده إلى مصر، فكثر خوض الناس في الحديث، وكان من خبر السلطان أن تمرلنك بعث إليه وإلى الأمراء في طلب الصلح، وإرسال أطلمش من أصحابه، وأنه يبعث من عنده من الأمراء والمماليك، فلم يجب إلى ذلك. وكانت الحرب بين أصحاب تمر وطائفة من عساكر السلطان في يوم السبت ثامن جمادى الأولى كما تقدم. ثم كانت الحرب ثانياً في يوم الثلاثاء حادي عاشره. وفي كل ذلك يبعث تمرلنك في طلب الصلح فلا يجاب.
وفي يوم الأربعاء ثاني عشره: اختفي من الأمراء والمماليك السلطانية جماعة منهم الأمير سودن الطيار، والأمير قاني باي العلاي، وجمق أحد الأمراء.
ومن الخاصكية يشبك العثماني، وقمج الحافظي، وبرسبغا الدوادار، وطرباي في آخرين، فوقع الاختلاف عند ذلك بين الأمراء. وأتاهم الخبر بأن الجماعة قد توجهوا إلى القاهرة، ليسلطوا الشيخ لاجين الجركسي، فركب الأمراء في أخر ليلة الجمعة حادي عشرينه، وأخذوا السلطان، وخرجوا بغتة من غير أن يعي والد على ولده. وساروا على عقبة دمر، يريدون مصر من جهة الساحل، ومروا بصفد، فاستدعوا نائبها الأمير تمربغا المنجكي وأخذوه معهم إلى غزة. وتلاحق بهم كثير من أرباب الدولة. فأدرك السلطان الأمراء الذين اختفوا بدمشق: سودن الطار، وقاني باي ومن معهما بغزة. فما أمكن إلا مجاملتهم، وأقام بغزة ثلاثة أيام، وتوجه إلى القاهرة، بعدما قدم بين يديه آقبغا الفقيه أحد الدوادارية. فقدم إلى القاهرة يوم الاثنين ثاني جمادى الآخرة، وأعلم بوصول السلطان إلى غزة، فارتجت البلد، وكادت عقول الناس أن تختل. وشرع كل أحد يبيع ما عنده، ويستعد للهروب من مصر. فلما كان يوم الخميس خامسه، قدم السلطان إلى قلعة الجبل، ومعه الخليفة وأمراء الدولة ونحو الألف من المماليك السلطانية، ونائب دمشق الأمير تغري بردى، وحاجب الحجاب بها الأمير باشا باي، وغالب أمرائها، ونائب صفد، ونائب غزة، وهم في أسوأ حال، ليس مع الأمير سوى مملوك أو مملوكين فقط، وفيهم من هو بمفرده، ليس معه من يخدمه. وذهبت أموالهم وخيولهم وجمالهم وسلاحهم، وسائر ما كان معه، مما لو قوم لبلغت قيمته عشرات آلاف ألف دينار. وشوهد كثير من المماليك لما قدم وهو عريان. وكان الأمير يلبغا السالمي قد تلقي السلطان بالكسوة له، وللخليفة، وسائر الأمراء.
وأما دمشق فإن الناس بها أصبحوا يوم الجمعة بعد هزيمة السلطان، ورأيهم محاربة تمرلنك، فركبوا أسوار المدينة ونادوا بالجهاد، وزحف عليهم أصحاب تمر، فقاتلوهم من فوق السور، وردوهم عنه، وأخذوا منهم عدة من خيولهم. وقتلوا منهم نحو الألف، وأدخلوا رءوسهم إلى المدينة، فقدم رجلان من قبل تمر، وصاحا بمن على السور: أن الأمير يريد الصلح، فابعثوا رجلاً عاقلاً حتى نحدثه في ذلك. فوقع اختيار الناس على إرسال قاضي القضاة تقي الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح الحنبلي، فأرخى من السور، واجتمع بتمرلنك وعاد إلى دمشق، وقد خدعه تمرلنك، وتلطف معه في القول، وقال: هذه بلدة الأنبياء، وقد أعتقتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة عن أولادي. فقام ابن مفلح في الثناء على تمر قياماً عظيماً، وشرع يخذل الناس عن القتال، ويكفهم عنه، فمال معه طائفة من الناس، وخالفته طائفة، وقالت: لا نرجع عن القتال. وباتوا ليلة السبت على ذلك، وأصبحوا وقد غلب رأي ابن مفلح، فعزم على إتمام الصلح، وأن من خالف ذلك قتل.
وفي الوقت، قدم رسول تمر إلى سور المدينة في طلب الطقزات، وهي عادة تمر إذا أخذ مدينة صلحاً أن يخرج إليه أهلها من كل نوع من أنواع المآكل والمشارب والدواب والملابس تسعة، يسمون ذلك طقزات، فإن التسعة بلغتهم يقال لها طقز. فبادر ابن مفلح واستدعي من القضاة والفقهاء والتجار حمل ذلك، فشرعوا فيه حتى كمل وساروا به إلى باب النصر ليخرجوه إلى تمرلنك، فمنعهم نائب القلعة من ذلك، وهددهم بحريق المدينة عليهم. فلم يلتفتوا إلى قوله، وتركوا باب النصر، ومضوا إلى جهة أخرى من جهات البلد. وأرخوا الطقزات من السور، وتدلي ابن مفلح ومعه كثير من الأعيان وغيرهم، وساروا إلى مخيم تمرلنك، وباتوا به ليلة الأحد. ثم عادوا بكرة الأحد وقد استقر تمر منهم بجماعة في عدة وظائف، ما بين قضاة قضاة، ووزير، ومستخرج الأموال، ونحو ذلك، ومعهم فرمان، وهو ورقة فيها تسعة أسطر، تتضمن أمان أهل دمشق على أنفسهم، وأهليهم خاصة. فقري على منبر جامع بني أمية، وفتح من أبواب المدينة باب الصغير فقط، وقدم أمير من أمراء تمرلنك، فجلس به ليحفظ البلد ممن يعبر إليها وأكثر ابن مفلح ومن كان معه من ذكر محاسن تمرلنك وبث فضائله، ودعا العامة إلى طاعته، وموالاته، وحثهم بأسرهم على جمع المال الذي تقرر جمعه وهو ألف ألف دينار، ففرض ذلك على الناس كلهم، وقاموا به من غير مشقة لكثرة أموالهم. فلما كمل المال، حمله ابن مفلح وأصحابه إلى تمر، ووضعوه بين يديه. فلما عاينه غضب غضباً شديداً، ولم يرض به، وأمر بابن مفلح ومن معه أن يخرجوا عنه، فاخرجوا، ووكل بهم. ثم ألزموا بحمل ألف تومان، والتومان عبارة عن عشرة آلاف دينار من الذهب، إلا أن سعر الدينار عندهم يختلف، فتكون جملة ذلك عشرة آلاف ألف دينار، فالتزموا بها، وعادوا إلى البلد، وفرضوه على الناس، فجبوا أجرة مساكن دمشق كلها عن ثلاثة أشهر، وألزموا كل إنسان من ذكر وأنثى، وحر وعبد، وصغير وكبير بعشرة دراهم. وألزم مباشر كل وقف من سائر الأوقاف بمال، فأخذ من أوقاف جامع بني أمية ألف درهم، ومن بقية أوقاف الجوامع والمساجد والمدارس والمشاهد والربط والزوايا شيء معلوم، بحسب ما اتفق، فنزل بالناس في استخراج هذا بلاء عظيم. وعوقب كثير منهم بالضرب، وشغل كل أحد بما هو فيه، فغلت الأسعار، وعز وجود الأقوات، وبلغ المسد من القمح- وهو أربعة أقداح- إلى أربعين درهماً فضة. وتعطلت الجمعة والجماعة من دمشق كلها، فلم تقم بها جمعة إلا مرتين، الأولى في يوم الجمعة تاسع عشر جمادى الآخرة، ودعا الخطب فيها بجامع بني أمية للسلطان محمود، ولولي عهده ابن الأمير تيمور كركان، ثم شغل الناس بعدها عن الدين والدنيا بما هم فيه. وذلك أنه نزل شاه الملك- أحد أمراء تمر- بجامع بني أمية، ومعه أتباعه، وادعى أنه نائب دمشق، وجمع كل ما كان في الجامع من البسط والحصر، وستر بها شرفات الجامع، وصلى الناس الجمعة في شمالي الجامع، وهم قليل. وشاهدوا أصحاب شاه ملك يلعبون في الجامع بالكعاب، ويضربون بالطنابير. ثم بعد الجمعتين منعوا من إقامة في الجمعة بالجامع، فصلى طائفة الجمعة بعد ذلك بالخانقاه السميساطية، فتعطلت سائر الجوامع والمساجد من إعلان الأذان، وإقامة الصلاة. وبطلت الأسواق كلها، فلم بيع شيء إلا ما كان مما يورد ثمنه في الجباية المقررة.
وزاد بالناس البلاء أن أصحاب تمر لا يأخذون إلا الدراهم والدنانير لا غير، وردوا الفلوس، فانحطت وصار ما كان بخمسة دراهم لا يحسب الناس فيه فيما بينهم غير درهم واحد.
هذا ونائب القلعة ممتنع بها، وقد حاصره تمر، فخرب ما بين القلعة والجامع بالحريق وغيره. ثم إن النائب سلم بعد تسعة وعشرين يوماً. فلما تكامل حصول المال الذي هو بحسابهم ألف تومان، حمل إلى تمر، فقال لابن مفلح وأصحابه: هذا المال بحسابنا، إنما هو ثلاثة آلاف دينار. وقد بقي عليكم سبعة آلاف ألف دينار، وظهر أنكم قد عجزتم. وكان تمر لما خرجت إليه الطقزات، وفرض للجباية الأولى التي هي ألف ألف دينار، قرر مع ابن مفلح وأصحابه أن ذلك على أهل البلد، وأن الذي تركه العسكر المصري من المال والسلاح والدواب وغير ذلك لا يعتد به لهم، وإنما هو لتمر. فخرج الناس إليه بأموال أهل مصر. وبدا منهم في حق بعضهم بعضاً من المرافعات أنواع قبيحة، حتى صارت كلها إليه. فلما علم أنه قد استولى على أموال المصريين ألزمهم بإخراج أموال الذين فروا من التجار وغيرهم إلى دمشق خوفاً منه. وكان قد خرج من دمشق عالم عظيم، فتسارعوا إلى حمل ذلك إليه، وجروا على عادتهم في النميمة بمن عنده من ذلك شيء، حتى أتوا على الجميع. فلما صار إليه ذلك كله ألزمهم أن يخرجوا إليه سائر ما في المدينة من الخيل والبغال والحمير والجمال، فاخرج إليه جميع ما كان في المدينة من الدواب، حتى لم يبق بها شيء من ذلك. ثم ألزمهم أن يخرجوا إليه جميع آلات السلاح، جليلها وحقيرها، فتتبعوا ذلك، ودل بعضهم على بعض، حتى لم يبق بها من آلات القتال وأنواع السلاح شيء. ثم بعد حمل الفريضتين ورميه ابن مفلح ومن معه بالعجز عن الاستخراج، قبض على أصحاب ابن مفلح، وألزمهم أن يكتبوا له جميع خطط دمشق وحاراتها وسككها، فكتبوا ذلك ودفعوه إليه، ففرقه على أمرائه. وقسم البلد بينهم، فساروا إليها، ونزل كل أمير في قسمه، وطلب من فيه، وطالبهم بالأموال، فكان الرجل يوقف على باب داره في أزرى هيئة، ويلزم بما لا يقدر عليه من المال، فإذا توقف في إحضاره عذب بأنواع العذاب من الضرب وعصر الأعضاء، والمشي على النار، وتعليقه منكوشاً، وربطه بيديه ورجليه، وغم أنفه بخرقة فيها تراب ناعم، حتى تكاد نفسه تخرج، فيخلى عنه حتى يستريح، ثم تعاد عليه العقوبة. ومع هذا كله تؤخذ نساوه وبناته وأولاده الذكور، وتقسم جميعهم على أصحاب ذلك الأمير، فيشاهد الرجل المعذب امرأته وهي توطأ، وابنته وهي تقبض بكارتها، وولده وهو يلاط به، فيصير هو يصرخ مما به من ألم العذاب، وابنته وولده يصرخون من ألم إزالة البكارة، وإتيان الصبي، وكل هذا نهاراً وليلاً، من غير احتشام ولا تستر. ثم إذا قضوا وطرهم من المرأة، والبنت والصبي، طالبوهم بالمال، وأفاضوا عليهم أنواع العقوبات، وأفخاذهم مضرجة بالدماء. وفيهم من يعذب بأن يشد رأس من يعاقبه بحبل ويلويه حتى يغوص في الرأس، وفيهم من يضع الحبل على كتفي المعذب ويديره من تحت إبطه، ويلويه بعصا حتى ينخلع الكتفين. وفيهم من يربط إبهام اليدين من وراء الظهر ويلقي المعذب على ظهره، ويذر في منخريه رماداً سحيقاً، ثم يعلقه بإبهام يديه في سقف الدار، ويشعل النار تحته. وربما سقط في النار فسحبوه منها، وألقوه حتى يفيق، فيعذب أو يموت، فيترك.
واستمر هذا البلاء مدة تسعة عشر يوماً، آخرها يوم الثلاثاء ثامن عشرين رجب، فهلك فيها بالعقوبة ومن الجوع خلق لا يدخل عددهم تحت حصر.
فلما علموا أنه لم يبق في المدينة شيء له قدر، خرجوا إلى تمرلنك، فأنعم بالبلد على أتباع الأمراء، فدخلوها يوم الأربعاء آخر رحب، ومعهم سيوف مشهورة، وهم مشاة، فنهبوا ما بقي من الأثاث وسبوا نساء دمشق بأجمعهن، وساقوا الأولاد والرجال، وتركوا من عمره خمس سنين فما دونها، وساقوا الجميع مربطين في الحبال. ثم طرحوا النار في المنازل، وكان يوماً عاصف الريح، فعم الحريق البلد كلها، وصار لهب النار يكاد أن يرتفع إلى السحاب، وعملت النار ثلاثة أيام، آخرها يوم الجمعة.
وأصبح تمر يوم السبت ثالث رجب راحلاً بالأموال والسبايا والأسري، بعدما أقام على دمشق ثمانين يوماً، وقد احترقت كلها، وسقطت سقوف جامع بني أمية من الحريق، وزالت أبوابه، وتفطر رخامه، ولم يبق غير جدره قائمة. وذهبت مساجد دمشق، ومدارسها، ومشاهدها، وسائر دورها، وقياسرها، وأسواقها، وحماماتها، وصارت أطلالاً بالية، ورسوماً خالية، قد أقفرت من الساكن، وامتلأت أرضها بجثث القتلى، ولم يبق بها دابة تدب، إلا أطفال يتجاوز عددهم آلاف، فيهم من مات، وفيهم من يجود بنفسه.
وأما بقية أمراء مصر وغيرهم، فإنهم لما علموا بتوجه السلطان من دمشق خرجوا منها طوائف طوائف، يريدون اللحاق بالسلطان، فأخذهم العشير، وسلبوهم ما معهم، وقتلوا خلقاً كثيراً. وظفر أصحاب تمرلنك بقاضي القضاة صدر الدين محمد بن إبراهيم المناوي الشافعي، فسلبوه ما عليه من الثياب، وأحضروه إلى تمرلنك، فمرت به محن شديدة، آلت إلى أن غرق بنهر الزاب، وهو في الأسر.
وكان قاضي القضاة ولى الدين عبد الرحمن بن خلدون المالكي بداخل مدينة دمشق. فلما علم بتوجه السلطان تدلى من سور المدينة، وسار إلى تمرلنك فأكرمه وأجله، وأنزله عنده، ثم أذن له في المسير إلى مصر، فسار إليها وتتابع دخول المنقطعين بدمشق إلى القاهرة في أسوأ حال، من المشي والعري والجوع، فرسم لكل من المماليك السلطانية بألف درهم، وجامكية شهرين.
وأما السلطان فإنه لما استقر بقلعة الجبل أعاد شمس الدين محمد البخانسي إلى حسبة القاهرة، وصرف العينتابي في يوم السبت سابع جمادى الآخرة.
وفيه أذن للأمير يلبغا السالمي أن يتحدث في كل ما يتعلق بالمملكة، وأن يجهز عسكراً إلى دمشق لقتال تمرلنك، فشرع في تحصيل الأموال، وفرض على سائر أراضي مصر فرائض، فجبي من إقطاعات الأمراء، وبلاد السلطان وأخبار الأجناد، وبلاد الأوقاف عن عبرة كل ألف دينار خمسمائة درهم ثمن فرس، وجبي من سائر أملاك القاهرة ومصر وظواهرها أجرته عن شهر، حتى أنه كان يقوم على الإنسان في داره التي هو يسكنها، ويؤخذ منه أجرتها.
وجبي من الرزق- وهي الأراضي التي يأخذ مغلها قوم من الناس على سبيل البر- عن كل فدان من زراعة القمح، أو الفول، أو الشعير عشرة دراهم، وعن الفدان من القصب، أو القلقاس، أو النيلة- ونحو ذلك من القطاني- مائة درهم. وجبي من البساتين عن كل فدان مائة درهم. واستدعي أمناء الحكم والتجار، وطلب منهم المال على سبيل القرض.
وصار يكبس الفنادق وحواصل الأموال في الليل، فمن وجد صاحبه حاضراً فتح مخزنه، وأخذ نصف ما يجد من نقود القاهرة، وهي الذهب والفضة والفلوس. وإذا لم يجد صاحب المال أخذ جميع ما يجده من النقود. وأخذ ما وجد من حواصل الأوقاف، ومع ذلك فإن الصيرفي يأخذ عن كل مائة درهم- تستخرج مما تقدم ذكره- ثلاثة دراهم. ويأخذ الرسول الذي يحضر المطلوب ستة دراهم، وإن كان نقيباً أخذ عشرة دراهم. فاشتد الضرر بذلك، وكثر دعاء الناس على السالمي، وانطلقت الألسنة بذمه، وشنعت القالة فيه، وتمالأت القلوب على بغضه.
وفيه خلع على الأمير نوروز الحافظي، والأمير يشبك الشعباني، واستقرا مشيري الدولة، مدبري أمورها. وخلع على الأمير بهاء الدين أرسلان بن أحمد لنقابة الجيش، عوضاً عن أسندمر لانقطاعه بالشام.
وفي ثاني عشره: خلع على القاضي أمين الدين عبد الوهاب بن قاضي القضاة شمس الدين محمد بن أحمد بن أبي بكر الطرابلسي قاضي العسكر، واستقر في قضاء القضاة الحنفية بديار مصر، عوضاً عن الجمال يوسف الملطي بعد وفاته وعلى القاضي جمال الدين عبد الله الأقفهسي، واستقر في قضاء القضاء المالكية بديار مصر، عوضاً عن نور الدين علي بن الجلال بعد موته أيضاً، وعلى ناصر الدين محمد بن خليل الضاني، واستقر أمير طبر، عوضاً عن الصارم إبراهيم بحكم انقطاعه، فصار والي مصر والقرافتين أمير طبر.
وفيه قدم من الشام ثلاثمائة من المماليك المنقطعين بأسوأ حال، من المضي والعري والجوع، وشكوا من العشير.
وفي تاسع عشره: قبض على المهتار عبد الرحمن، وألزم بما أخذه من العشير وغيرهم، ثم أفرج عنه بعد أيام.
وفي حادي عشرينه: قدم قاضي القضاة موفق الدين أحمد بن نصر الله الحنبلي من الشام، في أسوأ حال. وقدم أيضاً قاضي قضاة دمشق علاء الدين علي بن أبي البقاء الشافعي. وحضر أيضاً كتاب تمرلنك على يد أحد مماليك السلطان، يتضمن طلب أطلمش أطلندي، وأنه إذا قدم عليه أرسل من عنده من النواب والأمراء والأجناد والفمهاء، وقاضي القضاة صدر الدين المناوي ويرحل، فطلب أطلمش من البرج الذي هو مسجون فيه بقلعة الجبل، وأنعم عليه بخمسة آلاف درهم، وأنزل عند الأمير سودن طاز أمير أخور، وعين للسفر معه قطلوبك العلاي، والأمير ناصر الدين محمد بن سنقر الأستادار.
وفيه توجه الأمير بيسق أمير أخور رسولاً إلى تمرلنك بكتاب السلطان.
وجد الأمير يلبغا السالمي في تحصيل الأموال، وعرض أجناد الحلقة، وألزم من كان منهم قادراً على السفر بالخروج إلى الشام، وألزم العاجز عن السفر بإحضار نصف متحصل إقطاعه في السنة. وألزم أرباب الغلال المحضرة للبيع في المراكب النيلية أن يؤخذ منهم عن كل أردب درهم، وأن يؤخذ من كل مركب من المراكب التي تتنزه فيها الناس مائة درهم.
شهر رجب، أوله الثلاثاء: فيه بلغت الدنانير السالمية ثلاث آلاف دينار، وأمر السالمي أن يضرب دنانير أيضاً، منها ما زنته مائة مثقال ومثقال، ومنها ما وزنه تسعون مثقالاً ومثقال، وهكذا ينقص عشرة مثاقيل إلى أن يكون منها دينار زنته عشرة مثاقيل، فضرب من ذلك جملة دنانير.
وفي ثالثه: خلع على علم الدين يحيى بن أسعد، الذي يقال له أبو كم، واستقر في الوزارة، عوضاً عن الصاحب فخر الدين ماجد بن غراب، لاستعفائه من الوزارة. وفيه ورد الخبر بأن دمرداش نائب حلب تخلص من تمرلنك، وجمع وأخذ حلب وقلعتها من التمرية، وقتلهم.
وفي خامسه: استقر الطواشي فارس الدين شاهين الحلبي نائب المقدم في تقدمة المماليك، عوضاً عن الطواشي شمس الدين صواب السعدي جنكل. واستقر الطواشي زين الدين فيروز من جرحي، مقدم الرفرف، نائب المقدم.
وفي سابعه: حضر من عربان البحيرة إلى خارج القاهرة ستة آلاف فارس. ومن الشرقية ابن بقر، والتزم بألفين وخمسمائة فارس، ومن العيساوية وبني وائل ألف وخمسمائة فارس، فانفق فيهم الأمير يلبغا السالمي الأموال، ليتجهزوا إلى حرب تمرلنك.
وفي ثامنه: قدم قاصد الأمير نعير، لأنه قد جمع عرباناً كثيرة، ونزل على تدمر، وأن تمرلنك رحل من ظاهر دمشق إلى القطيفة.
وفي رابع عشره: قبض على الأمير يلبغا السالمي، وعلى شهاب الدين أحمد بن عمر ابن قطينة، وسلما للقاضي سعد الدين إبراهيم بن غراب، ليحاسبهما على الأموال المأخوذة من الناس في الجبايات.
وفي ثامن عشره: استقر سعد الدين إبراهيم بن غراب أستادار السلطان عوضاً عن السالمي، مضافاً إلى ما بيده من وظيفتي نظر الجيش والخاص. ولبس جبة من حرير بوجهين، أحدهما أحمر والآخر أخضر، بطراز ذهب عريض في عرض ذراع وثمن، وترفع عن لبس التشريف، ولم يغير زي الكتاب.
وفي سادس عشرينه: استقر جمال الدين عبد الله المنجكي في ولاية البهنسا، وعزل منكلي بغا الزيني وفي سلخه: ورد الخبر بأن ابن عثمان وصل إلى قيصرية، من بلاد الروم.
شهر شعبان، أوله الخميس: فيه قدم قاضي القضاة ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون من دمشق، وقد أذن له تمرلنك في التوجه إلى مصر، وكتب له بذلك كتاباً عليه خطه، وصورته تيمور كركان، وأطلق معه جماعة بشفاعته فيهم، منهم القاضي صدر الدين أحمد بن قاضي القضاة جمال الدين محمود القيصري، ناضر الجيش، وكان قد خرج مع السلطان من جملة موقعي الدست.
وفي ثانيه: جاء دمشق جراد كثير جداً، ودام أياماً.
وفي ثالثه: توجه تمرلنك من دمشق بعساكره، فعز القمح بدمشق، واقتات من تأخر بها من منابت الأرض.
وفي خامسه: برز الأمراء الذين كانوا بالقاهرة في غيبة السلطان بدمشق، للمسير لحرب تمرلنك، وهم: الأمير تمراز أمير مجلس، والأمير أقباي حاجب الحجاب، والأمير جرباش الشيخي، والأمير تمان تمر، والأمير صوماي الحسني. وامتنع الأمير جكم من السمر، فبطل سمر الأمراء أيضاً.
وفي سابعه: قدم الأمير سيف الدين شيخ المحمودي نائب طرابلس هارباً من تمرلنك، فتلقاه الأمراء، وقدموا إليه الخيول، بالسروج الذهب، والكنابيش الذهب، والقماش، والجمال، وغير ذلك، وفي ثامن عشره: أفرج عن ابن قطينة، ولزم داره.
وفي تاسع عشره: قدم الأمير دقماق المحمدي نائب حماه فاراً من تمرلنك، فأنعم عليه أيضاً. مما يليق به. وفيه برز الأمير تغري بردى من بشبغا نائب الشام للمسير إلى دمشق. وخرج بعده نواب البلاد الشامية وأمراؤها وأجنادها، وسائر أعيانها. وخلع على الأمير القاضي سعد الدين إبراهيم بن غراب جبة حرير بوجهين مطرزة، باستقراره فيما بيده عند استعفائه من الأستادارية. وعلى جمال الدين يوسف بن القطب بقضاء الحنفية بدمشق، عوضاً عن محيي الدين محمود بن الكشك.
وفي ثامن عشرينه: استقر تمربغا المنجكل في نيابة صفد، وخرج إليها واستقر تنكز بغا الحططي في نيابة بعلبك وناصر الدين محمد بن الطويل في كشف الوجه البحري، وعزل طيبغا الزيني.
وفي رابع عشرينه: قبض على مملوكين، فأقرا أنهما اتفقا مع جماعة من المماليك- سموهم- على إثارة فتنة وقتل الأمراء، فعفي عنهما، ولم يتحرك في ذلك ساكن. وفيه نودي ألا يقيم بديار مصر عجمي، وأجلو ثلاثة أيام، وهدد من تأخر بعدها، فلم يتم من ذلك شيء. ولهج الناس بالكتابة على الحيطان من نصرة الإسلام قتل الأعجام.
وفي سادس عشرينه: أعيد نور الدين علي بن عبد الوارث البكري إلى حسبة مصر، وصرف شمس الدين محمد الشاذلي.
وفي يوم الخميس تاسع عشرينه: خلع على القاضي ناصر الدين محمد بن الصالحي أحد نواب الحكم، واستقر في قضاء القضاة الشافعية بديار مصر، على مال التزم به، وذلك بعدما أيس من حضور الصدر محمد بن إبراهيم المناوي، فنزل في خدمته أكابر الأمراء، مثل الأمير يشبك الدوادار وغيره، حتى جلس بالمدرسة بين القصرين، وحكم على العادة، ثم سار إلى داره.
شهر رمضان، أوله الجمعة: إلى ثاني عشره: استقر جنتمر التركماني النظامي نائب الوجه القبلي، وعزل علاء الدين علي بن غلبك بن المكللة.
وفي رابع عشره: استقر على ابن بنت معتوق في ولاية منفلوط، وعزل أحمد ابن علي بن غلبك.
وفي ثامن عشره: خلع على الأمير شيخ المحمودي بنيابة طرابلس على عادته عوضاً عن آقبغا الجمالي، وعلى دقماق المحمدي بنيابة صفد، عوضاً عن تمربغا المنجكي، وأنعم على تمربغا بإمرة مائة بدمشق. وفيه قدم حاج المغرب، وفيهم رسل صاحب تونس بهدية، منها ستة عشر فرشاً، قدمت للسلطان، وقدم معهم نحو ثلاثمائة فرس للبيع.
وفي هذا الشهر: توقفت أحوال الناس بسبب الذهب، فإنه أشيع أنه يطرح على الصيارف، ويؤخذ في الدينار الأفرنتي المشخص مبلغ تسعة وثلاثين درهماً من الفلوس. وكان قد بلغ بين الناس إلى ثمانية وثلاثين درهماً، فتناقص حتى صار إلى خمسه وثلاثين درهماً، والدينار المختوم المصري إلى ثمانية وثلاثين.
وقدم الخبر أن الفرنج أخذوا ستة مراكب موسقة قمحاً، سار بها المسلمون من دمياط إلى سواحل الشام، ليباع بها، من كثرة ما أصابها من القحط والغلاء من نوبة تمرلنك، فرسم بخروج جماعة من الأمراء إلى ثغور مصر، فخرج الأمير آقباي حاجب الحجاب والأمير بكتمر، والأمير جرباش في عدة من الأمراء وغيرهم، وتفرقوا في الثغور.
وفي ثالث عشرينه: أعيد قاضي القضاة ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون إلى قضاء المالكية، وصوف جمال الدين عبد الله الأقفهسي. واستقر مجد الدين سالم الحنبلي في قضاء القضاة الحنابلة، عوضاً عن موفق الدين أحمد بن نصر الله بعد وفاته، بعد أن طلب هو والشيخ علاء الدين علي بن محمد بن علي بن عباس بن فتيان البعلبكي المعروف بابن اللحام الحنبلي، الوارد من دمشق إلى عند الأمير يشبك الدوادار، وعرض عليهما ولاية القضاء، فامتنعا، وصار كل منهما يقول: لا أصلح، وإنما يصلح هذا لدينه وعلمه. فكثر العجب من ذلك. واستقر الأمر لسالم، وخلع عليه، وركب إلى الصالحية في موكب حمل.
شهر شوال، أوله الأحد: فيه أفرج عن الأمير يلبغا السالمي، وهو متضعف بعدما عصر، وأهين إهانة بالغة.
وفي هذا اليوم: كثر تحرز الأمراء من بعضهم بعضاً، وتحدث الناس بإثارة فتنة بينهم.
وفي خامس: وصل الأمير تغري بردى نائب الشام إلى دمشق، ومن معه من العسكر.
وفي سابعه: استقر الأمير طولو من على شاه في نيابة الإسكندرية، عوضاً عن الأمير أرسطاي، واستقر الأمير باشا باي من باكي حاجباً ثانياً بديار مصر على خبز سودن الطيار بطبلخاناه. واستقر تمر البربري مهمنداراً، عوضاً عن ألطبغا العثماني. واستقر كل من سودن الطيار، وألطبغا سيدي حاجباً بحب.
وفيه استدعي السلطان الأمراء إلى القلعة، وقال لهم: قد كتبنا مناشير جماعة من الخاصكية بإمريات بالشام من أول رمضان، فلم لا يسافروا، فقال الأمير نوروز: ما هذا مصلحة، إذا أرسل السلطان هؤلاء من يبقى.
ووافقه سودن المارديني على ذلك. فقال السلطان: من رد مرسومي فهو عدوي، فسكت الأمراء، وأمر السلطان بالمناشير أن تبعث إلى أربابها.
فلما نزلت إليهم امتنعوا من السفر، ومنهم من رد منشوره، فغصب السلطان وأصبح الجماعة يوم الأحد وقد اتفقوا مع الأمراء، وصاروا إلى الأمير نوروز، وتحدثوا معه في ألا يسافروا، فاعتذر إليهم، وبعثهم إلى سودن المارديني رأس نوبة، فحدثوه في ذلك. وما زالوا به حتى ركب إلى الأمير يشبك الدوادار، وحدثه في ألا يسافروا، فأغلظ في الرد عليه، وهددهم بالتوسيط إن امتنعوا، وبعثه إلى السلطان ليحدثه في ذلك، فصعد القلعة وسأل السلطان في إعفائهم من السفر، وأعلمه أنه قد اتفق منهم نحو الألف تحت القلعة وهم مجتمعون. فبعث السلطان إليهم أحد الخاصكية يقول لهم: نحن ما خليناكم بلا رزق، بل عملناكم أمراء. فما هو إلا أن بلغهم ذلك، ثاروا عليه وضربوه، حتى كاد يهلك. وبينما هم في ضربه إذا بالأمير قطلوبغا الكركي، والأمير أقباي الخازندار، نزلا من القلعة فمال عليهم المماليك يضربونهم بالدبابيس، إلى أن سقط قطلوبغا، فتكاثر عليه مماليكه، وحملوه إلى بيته، ونجا أقباي إلى بيت الأمير يشبك. وماجت البلد، فنودي آخر النهار أن الأمراء والمماليك السلطانية يطلعون من غد إلى القلعة، ومن لم يطلع حل دمه وماله للسلطان. فطلع الأمير يشبك ونوروز، وآقباي الخازندار، وقطلوبغا الكركي إلى القلعة بعد عشاء الآخرة، وباتوا بها إلا نوروز، فإنه أقام معهم ساعة ثم نزل. وطلع أيضاً غالب المماليك. وأصبحوا يوم الاثنين تاسعه، فطلع جميع الأمراء والمماليك، إلا الأمير جكم، وسودن الطيار، وقاني باي العلاي، وقرقماش الأينالي، وتمربغا المشطوب، وجمق، في عدة من أعيان المماليك، منهم يشبك العثماني، وقمج، وبرسمبغا، وطراباي، وبقية خمسمائة مملوك، فإنهم لبسوا السلاح، ووقفوا تحت القلعة حتى تضحى النهار، ثم مضوا إلى بركة الحبش، ونزلوا عليها. فبعث الأمير يشبك الدوادار- نقيب الجيش- إلى الشيخ لاجين قبض عليه، وحمله إلى بيت آقباي حاجب الحجاب، فوكل به من أخرجه من القاهرة إلى بلبيس وقبض على سودن الفقيه، أحد دعاة الشيخ لاجين، وأخرج إلى الإسكندرية فسجن بها. وما زال الأمير جكم ببركة الحبش إلى ليلة الأربعاء، فاستدعي الأمير يشبك الدوادار سائر الأمراء، فلما صاروا إلى القلعة وكل بهم من يحفظهم حتى مضى جانب من الليل، استدعى سودن طاز أمير أخور من الإسطبل ليحضر إلى عند الأمراء بالقلعة. وقد وقع الاتفاق على أن سودن طاز إذا طلع قتل هو والأمراء الموكل بهم، فأتى بعض الخاصكية إلى سودن طاز، وقال له: فز بنفسك. فلم يكذب الخبر، وأخذ الخيول التي بالإسطبل السلطاني، وركب بمماليكه ولحق بالأمير جكم على بركة الجيش. فارتج القصر السلطاني. ولحق كل أمير بداره، وركبوا بأجمعهم ودقت الكوسات، فلما أصبح نهار الأربعاء نزل السلطان من القصر إلى الإصطبل، وطلع إليه الأمراء، وبعث إلى الأمير جكم بأمان، وأنه يتوجه إلى صفد نائباً بها، فقال: نحن مماليك السلطان، وهو أستاذنا وابن أستاذنا، لو أراد قتلنا ما خالفناه، وإنما لنا غرماء، يخلونا وإياهم.
فلما عاد الرسول بذلك، بكي الأمير يشبك وأقباي الخازندار، وقطلوبغا الكركي، ودار بينهم وبين السلطان كلام كثير، فبعث السلطان بالأمير نوروز الحافظي، وقاضي القضاة ناصر الدين محمد بن الصالحي، وناصر الدين الرماح أمير أخور، إلى الأمير جكم في طلب الصلح، فامتنع من ذلك هو ومن معه، وقالوا: لابد لنا من غرمائنا، وأخروا عندهم الأمير نوروز، وعاد قاضي القضاة والرماح بذلك. فقال السلطان ليشبك دونك وغرماءك. فنزل إلى بيته، وقد اختل أمره. ثم عاد إلى القلعة، فلم يمكن منها، وتخفي عنه المماليك السلطانية، وتركوه وحده تحت الإسطبل السلطاني، فلم يكن غير ساعة حتى أقبل الأمير جكم، وسودن طاز، ونوروز، في عددهم وعديدهم. وصاحب الموكب نوروز وجكم عن يساره، وطاز عن يمنه، وصاروا قريباً من يشبك. فنادي يشبك: من قاتل معي من المماليك يأخذ عشرة آلاف درهم. فأتاه طائفة، فحمل عليه نوروز في من معه، فانهزم إلى داره، وقاتل ساعة، ثم فر، فنهبت داره ودار قطلوبغا وأقباي. وقبض على أقباي، فشفع فيه السلطان، فترك بداره إلى يوم الخميس ثاني عشره، ركب الأمير جكم إليه. وأخذه وصعد به إلى الإسطبل السلطاني، وقيده. وقبض على قطلوبغا من عند الأمير يلبغا الناصري، وقيده. وقبض على جركس المصارع من عند سودن الجلب، وقيده، وبعث الثلاثة إلى مدينة الإسكندرية ليلة السبت رابع عشره. وكتب بإحضار سودن. الفقيه من الإسكندرية. وطلب الأمير يشبك، فلم يقدر عليه، إلى ليلة الاثنين سادس عشره، دل عليه أنه في تربة بالقرافة. فلما أحيط به ألقى نفسه من مكان مرتفع، فشج جبينه، وقبض عليه الأمير جكم، وأحضره إلى بيت الأمير نوروز، ثم سير من ليلته إلى ثغر الإسكندرية، فسجن بها.
وفي يوم الاثنين: خلع على الأمير القاضي سعد الدين إبراهيم بن كراب جبة مطرزة، باستقراره على ما هو عليه.
وفي ثامن عشره: استقر ناصر الدين بن غرلوا نائب الوجه البحري، وعزل ابن مسافر. وألبس الأمير شيخ المحمودي نائب طرابلس قباءنخ، وألبس أيضاً الأمير دقماق نائب صفد قباء السفر، وأذن لهما في السفر إلى ولايتهما.
وإلى تاسع عشره: خلع على الأمير حكم، واستقر دوادار السلطان، مكان الأمير يشبك الشعباني. وعلى سودن من زاده، واستقر خازندازاً، موضع أقباي الكركي. وعلى أرغون من بشبغا، واستقر شاد الشربخاناه، بدل قطلوبغا الكركي. وفيه خرج المحمل مع الأمير قطلوبك العلاي إلى الريدانية، خارج القاهرة. وعمل أمير الركب الأول الأمير بيسق الشيخي، ورسم له أن يقيم بعد انقضاء الحج بمكة، لعمارة ما بقي من المسجد الحرام.
وفي يوم الاثنين ثالث عشرينه: أقبل على دمشق جراد، حجب من كثرته الشمس عن الأبصار، فأتلف جميع ما تنتبه الأرض بعامة أرض الشام كلها، حتى لم يدع بها خضراً من شجر ولا غيره، من غزة إلى الفرات.
وفي سادس عشرينه: استقر يونس الحافظي في نيابة حماة، وعزل ركن الدين عمر ابن الهذباني، واستقر ناصر الدين محمد بن الطبلاوي في ولاية القاهرة، وصرف الأمير الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج، المعروف بوالي قطيا، وعمل أحد الأمراء الحجاب بغير إقطاع، ثم قبض عليه بعد أيام وعصر وأخذ منه مال، ثم أفرج عنه.
وفيه أنعم على الأمير جكم بإقطاع يشبك، وعلى سودن الطيار بإقطاع الأمير جكم، وبإقطاع أقباي الكركي على الأمير قاني باي العلاي، وبإقطاع قطلوبغا الكركي على الأمير تمربغا من باشاه، المعروف بالمشطوب، وبإقطاع جركس المصارع على سودن من زاده بستين فارساً.
شهر ذي القعدة، أوله الثلاثاء: فيه ألزم سعد الدين إبراهيم بن غراب بتجهيز نفقة المماليك، فالتزم أن يحمل منها مائة ألف دينار، وألزم الوزير ناصر الدين محمد بن سنقر، وتاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج، ويلبغا السالمي، بمائة ألف دينار، فشرعوا في تجهيزها. وفيه قبض الأمير شهاب الدين أحمد بن رجب شاد الدواوين على يلبغا السالمي من داره، وحمله إلى بيته، وضربه ضرباً مبرحاً، وبالغ في عصره وتعذيبه، حتى أشرف على الموت، فأبيع موجوده فيما ألزم به.
وفيه جاء رجل جراد غير ذلك إلى دمشق، فعظم به الخطب.
وفي ثالثه: قدم الأمير تمربغا المنحكي نائب صفد إلى دمشق، على إقطاع تقدمة ألف. وقدمت ولاية شمس الدين الأخناي قضاء دمشق.
وفي خامسه: استقر الشهاب أحمد اليغموري الحاجب بدمشق نائب قلعتها، والتزم بعمارتها، فأفرد لها من بلاد دمشق داريا الكبرى وأريحا من الغور، والمواريث الحشرية بدمشق وأعمالها، والرملة والقدس، وغزة ونابلس، والمسابك، ودار الضرب، ونصف متحصل كنيسة قمامة من القدس، وربع العشر، وربع الزكاة، وربع ما يتحصل من دار الوكالة. وأعيد بدر الدين حسن إلى نظر الأحباس بديار وعزل ناصر الدين محمد بن صلاح الدين صالح بن أحمد بن السفاح.
وفي سادس: وهو سابع عشرين بؤونة، أحد شهور القبط أخذ قاع النيل، فجاء أربع أذرع ونصف.
وفي ثاني عشره: خلع على يونس نائب حماة، وعلى علي بن مسافر نائب الوجه البحري، للسفر.
وفي خامس عشره: أفرج عن يلبغا السالمي، فسار من بيت شاد الدواوين إلى داره على حمار.
وفيه ورد الخبر بأن دقماق المحمدي نائب صفد لما قدمها وجد متيريك بن قاسم بن متيريك- أمير حارثة- قد نزل على بلاد صفد، وقسمها.
وكان قد أخذ من أموال الفارين من دمشق إلى مصر في نوبة تمرلنك ما يجل وصفه. فركب عليه وحاربه، فانكسر منه دقماق، وقتل من مماليكه اثنا عشر فارساً، وأسرت أمه، بعدما قتل عدة من عرب حارثة. وأنه استنجد بالأمير شيخ نائب طرابلس، وكان نازلاً على مرج العيون، فرجع إليه، وركبا معاً بمن معهما على متيريك فكسراه، وقتلا جماعة من عربه، وأسرا له ولدين وسطاهما، وأخذا له ستة آلاف بعير، فكتب إلى متيريك بتطييب خاطره.
وكتب إلى شيخ ودقماق برد أباعره عليه، فلم يقبلا ذلك. وقدم الخبر أن نائب حلب أحواله تقتضي أنه قد خرج عن الطاعة.
وفي سادس عشرينه: صعد سعد الدين بن غراب إلى القلعة برسم النفقة، فأنفق في نحو ألف من المماليك، فثاروا به، وقبضوا عليه، وضربوه وعوقوه في مكان، ثم خلى عنه، فنزل إلى داره. وفي هذا الشهر: خربت بغداد. وفيه طمع العربان في بلاد الشام ونهبوا ما فيها.
شهر ذي الحجة، أوله الأربعاء: في ليلة السبت رابعه: اختفى سعد الدين إبراهيم بن غراب، وأخوه فخر الدين ماجد وصهره- أخو زوجته- يوسف بن قطلوبك العلاي، وعدة من ممالكه، فلم يوقف لهم على خبر.
وفي يوم السبت المذكور: فرقت الأضاحي بالحوش من القلعة، على الأمراء وسائر أرباب الدولة، من القضاة والأعيان والمماليك السلطانية، وفي جهات البر من الجوامع والمدارس والخوانك والمشاهد والزوايا، وفي أرباب البيوت من أهل الستر، على العادة في كل سنة. وفيه قدم إلى دمشق نائب حماة، وحريم تغري بردى نائب الشام.
وفي سادسه: خلع على الأمير ناصر الدين محمد بن سنقر البحكاوي، واستقر في أستادارية السلطان، عوضاً عن سعد الدين بن غراب، مضافاً لما معه من الذخرة والأملاك. وأنعم عليه بإقطاع ابن غراب، وإقطاع ابن قطينة. فأرصد الدواليب، وإقطاع يلبغا السالمي للديوان المفرد. وأرصد إقطاع ابن قطينة لخزانة السلطان، يتصرف فيه الخازندارية بأمر السلطان.
وفيه استعفي الأمير سودن من زاده من وظيفة الخازندارية.
وفي سابعه: أضيف إلى الوزير علم الدين- الذي يقال له أبو كم- نظر الخاص مع الوزارة، عوضاً عن سعد الدين بن غراب، وخلع عليه بذلك. وخلع أيضاً على سعد الدين أبي الفرج بن بنت الملكي صاحب ديوان الجيش، واستقر في نظر الجيش، عوضاً عن سعد الدين بن غراب. وفيه ورد الخبر أن نائب الوجه البحري حضر إلى الإسكندرية، وطلب نائبها ليخرج إليه بسبب حفر الخليج فامتنع من الخروج إليه، فانصرف عنه. فكتب إليه أنه إن حضر أحد يطلب الأمراء المسجونين، فليبادر بقتل الأمير يشبك، وإلقاء رأسه إليهم.
وفي تاسعه: ورد رسول مشايخ تروجة بقدوم سعد الدين بن غراب إليهم، ومعه مثال سلطاني باستخراج الأموال ومسيرهم معه إلى الإسكندرية، وإخراج يشبك والأمراء من السجن، ليحضروا إلى القاهرة بهم فخلع على الرسول، وكتب معه بأخذ ابن غراب ومن معه وإرسالهم إلى القاهرة. وقدم كتاب أرسطاي نائب الإسكندرية بأن سعد الدين بن غراب طلب زعران الإسكندرية، فخرج إليه أبو بكر المعروف بغلام الخدام بالزعر إلى تروجه، فأعطي كل واحد منهم مبلغ خمسمائة درهم، وقرر معهم قتل النائب. فلما بلغ النائب ذلك، وقدموا إلى الإسكندرية، قبض على جماعة منهم، وقتل بعضهم، وقطع أيدي بعضهم، وضرب غلام الخدام بالمقارع، وأنه ظفر بكتاب ابن غراب إلى بعض تجار الإسكندرية وجهزه، وفيه أنه يجتمع بالنائب ويؤكد عليه أن لا يقبل ما يرد عليه من أمراء مصر في أمر يشبك ومن معه، وأنه يجعل باله لا يجري له ما جرى على ابن عرام في قتله الأمير بركة. وورد كتاب مشايخ تروجة بسؤال الأمان لابن غراب، فكتب له السلطان أماناً، وكتب له الأمراء أيضاً- ما خلا الأمير جكم- فإنه كتب إليه كتاباً ولم يكتب أماناً.
وخلع على علي بن غريب الهواري، وعثمان بن الأحدب، وعملا في الإمرة على هوارة ببلاد الصعيد، عوضاً عن محمد بن عمر بن عبد العزيز الهواري، وسارا. واستقر بهاء الدين أرسلان نقيب الجيش، حاجباً.
وفي سادس عشره: خلع على الصاحب الوزير علم الدين، واستقر وكيل الخاص. وخلع على الأمير ناصر الدين محمد بن الطبلاوي وإلى القاهرة، وأضيف إليه ولاية القرافة. وفيه رحل تمرلنك عن بغداد، بعدما هدمها.
وفيه قدم رسل أبي يزيد بن عثمان- ملك الروم- بهدية، فيها عشرة مماليك، وعشرة أرؤس من الخيل، وعشر قطع من الجوخ، وشاربان من الفضة، وعشر قطع فضة، ما بين أطباق وغيرها، وعدة هدايا إلى الأمراء، فقرئ كتابه في العشرين منه.
وفي حادي عشرينه. قدم سعد الدين بن غراب إلى القاهرة ليلاً، ونزل عند صديقه جمال الدين يوسف أستادار بجاس، وهو يومئذ أستادار سودن طاز أمير أخور. فتحدث له مع سودن طاز، وأوصله إليه، فأكرمه وأنزله عنده يومي الثلاثاء والأربعاء، واسترضي له الأمراء وأحضره في يوم الخميس ثالث عشرينه إلى مجلس السلطان، فقبل الأرض وخلع عليه جبة حرير مطرزة على عادته، واستقر في الأستادارية، ونظر الجيش، ونظر الخاص على إقطاعه، وأضيف إليه الذخيرة ودواليب خاص الخاص.
وعزل ناصر الدين محمد بن سنقر، ونزل إلى بيت الأمير جكم الدوادار، فمنعه من الدخول إليه ورده، فصار إلى داره. وما زال حتى دخل مع الأمير سودن من زادة إلى عند الأمير جكم، فقبل يده، فلم يكلمه كلمة، وأعرض عنه، فرضاه بعد ذلك.
وفي يوم الخميس سلخه: أنفق الأمير القاضي سعد الدين بن غراب تتمة النفقة على المماليك السلطانية، فأعطى كل واحد ألف درهم، وعندما نزل من القلعة أدركه عدة من المماليك السلطانية، ورحموه بالحجارة يريدون قتله، فبادر إلى بيت الأمير نوروز واستجار به، فأجاره، حتى انصرف المماليك عن بابه، وتوجه إلى داره.
وفيه نودي على النيل بزيادة ثمانية وأربعين إصبعاً، وتأخر عليه من الوفاء ست عشرة إصبعاً، وفاها في الليل، وبلغ الدينار المصري إلى أربعين درهماً ثم انحط، وبلغ الأفرنتي إلى سبعة وثلاثين ثم انحط.
وفي هذا الشهر كانت وقعة بين الأمير نعير وبين نائب حلب.

.ومات في هذه السنة:

قاضي القضاة موفق الدين أحمد بن قاضي القضاة ناصر الدين نصر الله:بن أحمد بن محمد بن أبي الفتح بن هاشم بن إسماعيل بن إبراهيم العسقلاني الحنبلي، في ثاني عشر رمضان، وكان مشكوراً.
ومات قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن عبد الله النحريري المالكي، وهو معزول، في ثاني عشر رجب.
ومات ناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر بن نجم الدين محمد بن نجم الدين أبي القسم هبة الله بن عبد المنعم بن محمد بن الحسن بن علي بن أبي الكتائب بن محمد بن أبي الطيب العجلي الدمشقي الشافعي، كاتب سر دمشق، يوم الأحد سادس عشرين رجب، في العقوبة بيد التمرية. ولى كتابة سر حلب وطرابلس ودمشق مرات، وأقام بالقاهرة مدة.
ومات الأمير شهاب الدين أحمد بن الحاج عمر بن الزين والي القاهرة، في ثاني عشر ربيع الأول.
ومات شهاب الدين أحمد بن أسد بن طرخان الملكاوي الشافعي بدمشق، في نصف رمضان.
ومات الأمير سيف الدين أسنبغا العلاي، دوادار الملك الظاهر، في سادس عشر جمادى الأولى.
ومات أمير فوج الحلبي، نائب الإسكندرية بها، في آخر ربيع الأول.
ومات الأمير سيف الدين المعروف بسيدي أبي بكر بن الأمير شمس الدين سنقر أبن أخي بهادر الجمالي، في ثالث عشر جمادى الآخرة.
ومات أبو بكر بن الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون في ثالث عشر ربيع الآخرة.
ومات الأمير سيف الدين بجاس النوروزي، في ثاني عشر رجب.
ومات الأمير سودن نائب الشام في آخر رجب، ودفن خارج دمشق بقيده، وهو في أسر تمرلنك.
ومات تقي الدين عبد الله بن يوسف بن أحمد بن الحسين بن سليمان بن فزارة الدمشقي الحنفي، عرف بابن الكفري قاضي القضاة الحنفية بدمشق، في العشرين من ذي القعدة، في محنة تمرلنك.
ومات الوزير كريم الدين عبد الكريم بن عبد الرزاق بن إبراهيم بن مكانس، في خامس عشرين جمادى الآخرة، وهو مصروف عن الوزارة.
ومات العلامة علاء الدين على بن محمد بن عباس بن فتيان البعلبكي الدمشقي، عرف بابن اللحام الحنبلي، يوم عيد الفطر.
ومات نور الدين علي بن عبد العزيز بن أحمد بن الخروبي التاجر الكارمي، في ثاني عشر رجب.
ومات قاضي القضاة نور الدين على بن يوسف بن مكي، المعروف بابن الجلال الدميري، المالكي، باللجون من طريق دمشق، في جمادى الأولى.
ومات الفقيه الجندي قطلوبغا الحنفي، أحد أعيان الحنفية، في نصف جمادى الأولى.
ومات قاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبي البقاء محمد بن عبد البر الخزرجي السبكي الشافعي، وهو مصروف عن القضاء، في سابع عشر ربيع الآخر.
ومات شرف الدين محمد بن محمد الدماميني، قاضي الإسكندرية بها، في آخر المحرم.
ومات شيخ المالكية شرف الدين محمد بن محمد بن إسماعيل بن المكين مدرس الظاهرية المستجدة بين القصرين، في ثاني عشرين ربيع الآخر.
ومات بدر الدين محمد الأقفهسي، ناظر الدولة، في ثالث عشر ربيع الآخر.
ومات قاضي القضاة جمال الدين يوسف بن موسى بن محمد الملطي الحنفي، وهو قاض، في تاسع عشرين ربيع الآخر، ومولده ستة ست وعشرين وسبعمائة.
وهلك بحلب وحماة ودمشق وأعمال الشام في محنة تمرلنك، بالجوع والقتل والحريق، وفي الأسر، عشرات آلاف آلاف.
ومات قاضي القضاة صدر الدين أبو المعالي محمد بن إبراهيم بن اسحق بن إبراهيم ابن عبد الرحمن السلمي المناوي الشافعي، وهو في الأسر مع تمرلنك غريقاً بنهر الزاب، بعد ما مرت به محن شديدة.
ومات بدر الدين محمد بن محمد بن مقلد القدسي الحنفي، قاضي الحنفية بدمشق. مات بغزة، في ربيع الأول. ومولده سنة أربع وأربعين وسبعمائة وكان قد أقام بالقاهرة مدة، وفيها ولي قضاء دمشق، فلم تشكر مباشرته. وكان أولاً ينوب في الحكم بدمشق، وأفتى، ودرس، وبرع في الفقه، وشارك في العقليات.
ومات الملك الأشرف إسماعيل بن الأفضل عباس بن المجاهد علي بن المؤيد داود ابن المظفر يوسف بن منصور عمر بن على بن رسول، في ليلة السبت ثامن عشر ربيع الأول، بمدينة تعز من بلاد اليمن، عن سبع وثلاثين سنة. ولى سلطنة اليمن بعد أبيه، في سنة ثمان وسبعين وسبعمائة. حتى مات. وكان حليماً، كثير السخاء، مقبلاً على العلم، محباً للغرباء، وصنف تاريخاً لليمن. قدم علينا إلى القاهرة ووقفت عليه، وقام بمملكة اليمن بعده ابنه الملك الناصر أحمد.
ومات نور الدين على بن يحيى بن جميع الطائي الصعدي، كبير تجار اليمن بعدد أمين، في ليلة عيد الفطر، وقد جاور الستين، وكان مكيناً عند الأشرف.
ومات برهان الدين إبراهيم بن على التادلي قاضي القضاة المالكية بدمشق، يوم الثلاثاء ثامن عشر جمادى الأولى، في الحرب مع أصحاب تمرلنك. ومولده سلخ سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، ولي قضاء دمشق بعد المازوني سنة ثمان وسبعين، ثم صرف وأعيد، فكانت ولايته التي مات فيها هي العاشرة. وكان قوي اليقين، فاضلاً.
ومات تاج الدين أحمد بن محمد بن عبد الله ويعرف بابن الخراط الإسكندري المالكي بالثغر، في عاشر صفر، حدث بكتاب التيسير في القراءات عن العرادياشي، وبموطأ مالك عنه أيضاً.
ومات ملك دله من بلاد الهند، وهو فيروز شاه بن نصرة شاه، وقام من بعده ابنه محمد شاه. ومات قاضي الحنابلة بدمشق تقي الدين إبراهيم بن العلامة شمس الدين محمد بن مفلح في شعبان، عن اثنتين وخمسين سنة. وكان فقيهاً واعظاً، إلا أنه قام في مصالحة الطاغية تيمور، فلم ينجح، ولم يحمد.