فصل: سنة ثمان وأربعين وسبعمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة ثمان وأربعين وسبعمائة:

يوم الثلاثاء أول المحرم: ركب السلطان في أمرائه الخاصكية، ولعب بالكرة في الميدان تحت القلعة، فغلب الأمير ملكتمر الحجازي، فلزم بعمل وليمة في سرياقوس للسلطان، ذبح فيها خمسمائة رأس غنم، وعشرة أفراس، وعمل أحواضاً مملوءة بالسكر المذاب، وجمع سائر أرباب الملهى؛ وحضر إليه السلطان والأمراء.
وفيه قدم كتاب أسندمر العمرى نائب طرابلس يسأل الإعفاء، فأجيب إلى ذلك. وخلع على الأمير منكلى بغا الفخري أمير جاندار، واستقر في نيابة طرابلس، وسار في يوم الإثنين حادي عشريه.
وفي هذا الشهر: وقف جماعة للسلطان، وشكوا من بعد الماء وانحساره عن بر مصر والقاهرة حتى غلت روايا الماء. فرسم بنزول المهندسين لكشف ذلك، فكتب تقدير ما يصرف على الجسر مبلغ مائة ألف وعشرين ألف درهم، جبيت من أرباب الأملاك المطلة على النيل، حسابا عن كل دراع خمسة عشر درهماً، فبلغ قياسها سبعة آلاف ذراع وستمائة ذراع. وقام باستخراج ذلك وقياسه محتسب القاهرة ضياء الدين يوسف ابن خطيب بيت الآبار.
وفيه توقفت أحوال الدولة من كثرة رواتب الخدام والعجائز والجواري، وأخذهم بأرض بهيتت من الضواحي، وبأرض الجيزة وغيرها، بحيث أخذ مقبل الرومي عشرة آلاف فدان من شاسع البحيرة، قام السلطان والأجناد بكلفة جسورها.
وفيه فرق السلطان نصف إقطاع منكلى بغا الفخري، وتأخر نصفه.
وفيه قدم الأمير بيغرا من كشف الجسور؛ فخلع عليه، واستقر أمير جاندار عوضاً عن منكلى بغا الفخري.
وفيه قدم الأمير أسندمر العمري من طرابلس، فأنعم عليه ببقية إقطاع مكلى بغا الفخري وفي خامس عشريه: قدم الحاج، وأخبروا برخاء أسعار مكة، وحسن سيرة الشريف عجلان.
وفيه قدم تجار اليمن والهند، وكان الفلفل قد عز وجوده بالقاهرة حتى بلغ الرطل ستة وأربعين درهما، ولم يعهد مثل ذلك فيما سلف، فأبيع عند قدوم الحاج بخمسة دراهم الرطل.
ووقع اختلاف في أمر الوقوف بعرفة، فإن الوقفة كانت عند أهل مكة يوم الجمعة، على ما ثبت بمكة على قاضيها، بحضور قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة، وغيره من حجاج مصر والشام والعراق. وكان يوم عرفة بمصر والإسكندرية يوم الخميس، فقام الشيخ علاء الدين علي بن عثمان التركماني الحنفي في الإنكار على ابن جماعة، وأفتى أن حج الناس فاسد، ويلزم من وقف بالناس يوم الجمعة بعرفة جميع ما أنفقه الحجاج من الأموال، وأنه يجب على الحجاج كلهم أن يقيموا محرمين لا يطئوا نسائهم ولا يمسوا طيبا حتى يقفوا بعرفة مرة أخرى. وشنع بذلك عند الأمراء، وأظهر الحزن على الناس، والأسف على ما أنفقوه من أموالهم. فشق ذلك على الأمير طغيتمر الدوادار، من أجل أن زوجته حجت فيمن حج، وأخذ خط ابن التركمان بما تقدم ذكره. فغضب الشافعية، وأنكروا مقالته وردوها. وقصد ابن جماعة أن يعقد مجلساً في ذلك، ويطلب ابن التركماني ويدعى عليه بما أفتى به، مما لا يوجد في كتب الحنفية، فراجعه الناس عن ذلك مخافة الشناعة.
وفيه رسم لمقبل الرومي أن يخرج إتفاقا وسلمى والكركية حظايا السلطان من القلعة، بما عليهن من الثياب، من غير أن يحملن شيئاً من الجوهر والزركش، وأن يقلع عصابة اتفاق عن رأسها ويدعها عنده. وكانت هذه العصابة قد اشتهرت عند الأمراء وشنعت قالتها، فإنه قام بعملها ثلاثة ملوك: الصالح إسماعيل، والكامل شعبان والمظفر حاجي، وتنافسوا فيها، واعتنوا بجواهرها، حتى بلغت قيمتها زيادة على مائة ألف دينار مصرية وسبب ذلك أن الأمراء الخاصكية قرابغا وصمغار وغيرهما بلغهم إنكار الأمراء الكبار والمماليك على السلطان شدة شغفه بالنسوة الثلاث المذكورات، وأنهماكه على اللهو بهن، وانقطاعه إليهن بالدهيشة عن الأمراء، وإتلافه الأموال العظيمة في العطاء لهن ولأمثالهن، فعرفا السلطان إنكار الأمراء عليه إعراضه عن تدبير الملك، وخوفوه عاقبة ذلك؛ فتلطف به، وصوب ما أشاروا به عليه من الإقلاع عن اللهو بالنساء وأخرجهن وفي نفسه حزازات لفراقهن، تمنعه من الهدوء والصبر عنهم؛ فأحب أن يتعوض عنهن. بما يلهيه ويسليه واختار صنف الحمام، وأنشأ حضيراً بأعلى الدهيشة، ركبه على صوار وأخشاب عالية، وملأه بأنواع الحمام؛ فبلغ مصروف الحضير خاصة سبعين ألف درهم.
وقدم البريد من حلب بأن صاحب سيس جهز مائتي أرمني إلى ناحية أياس، فلما قربوا من كوار ليهجموا على قلعتها قاتلهم أربعون من المسلمين؛ فنصرهم الله على الأرمن، وقتلوا منهم خمسين، وأسروا ثلاثين، وهزموا باقيهم. فقتل بكوار عدة ممن أسر، وحمل بقيتهم إلى حلب؛ فكتب بالإحسان إلى أهل كوار والإنعام عليهم.
واتفق بمدينة حلب أن الأمير بيدمر البدري لما قدمها ترفع على الأمراء، وعزل الولاة والمباشرين، بعدما أخذ تقادمهم، واستبدل بهم غيرهم بمال قاموا له به؛ واشتدت وطأة حاشيته.
على الناس بظلمهم وسوء معاملتهم. ثم بلغه أن رجلاً من الأعيان مات عن ابنة وترك مالا جزيلا، وأوصى أن تتزوج ابنته بابن عمها. فرغب بعض الناس في زواجها، وبذل لأوليائها مالا كثيراً حتى زوجوها منه بغير رضاها فلم ترض به وكرهته كراهة زائدة، حتى قالت لأهلها: أن لم تطلقوني منه وإلا كفرت؛ فأحضروها إلى بعض القضاة، وجددوا إسلامها. فطلب الأمير بيدمر ابن عمها، وضربه بالمقارع ضرباً مبرحاً، وضرب المرأة أيضاً ضربا شنيعاً، وقطع أنفها وأذنيها، وشهرها بحلب؛ فتألم الناس لها ألماً كبيراً، ووصل خبرها إلى أمراء مصر، فقام صمغار وقرابغا وأصحابهما قياما كبيراً في الإنكار على بيدمر.
وصادف مع ذلك ورود كتاب الأمير أرغون شاه نائب صفد، يتضمن أن ابن طشتمر كاتب أرتنا نائب الروم بأن يتوجه إليه، وأن يقيم عنده فظفر الأمير أرغون شاه بقاصده، وأخذ منه الكتاب، وقبض على ابن طشتمر وسجنه بالقلعة، فأجيب بالشكر والثناء وكتب إليه أصحابه بأن يبعث تقدمة للسلطان حتى يتهيأ نقلته إلى غير صفد، فبعث سبعة أفراس وعقد جوهر. بمائة ألف درهم، وغير ذلك من الأصناف؛ فأعجبت السلطان، وشكره. فأخذ صمغار وقرابغا وأصحابهما في ذكر بيدمر نائب حلب وكراهة الناس له، وما فعله بالمرأة وابن عمها، وتحسين ولاية أرغون شاه عوضه؛ فإنه سار في أهل صفد سيرة جميلة، ولم يقبل لأحد تقدمة، وجلس للحكم بين الناس، وأنصف في حكمه حتى أحبه أهل صفد. فرسم بقدوم أرغون شاه ليستقر في نيابة حلب، وحضور الأمير بيدمر من حلب فقدم أرغون شاه صحبة طنيرق، فأكرمه السلطان، وخلع عليه يوم الإثنين تاسع عشرى صفر بنيابة حلب، عوضاً عن بيدمر البدري؛ ورسم ألا يكون لنائب الشام عليه حكم، وأن تكون مكاتباته للسلطان، وكنب لنائب الشام بذلك.
وتوجه الأمير أرغون شاه إلى حلب في يوم الخميس ثالث ربيع الأول، فقدم دمشق على البريد في سادس عشره، ونزل مصر معين الدين حتى قدم طلبه من صفد في أبهة زائدة، وخيوله بسروج ذهب مرصعة وكنابيش ذهب، وقلائد مرصعة.
وكان بيدمر قد رأى في منامه المرأة التي فعل بها ما فعل، وهى تقوله له: أخرج عنا، وكررت ذلك ثلاث مرات، وقالت له: قد شكوتك إلى الله تعالى، فعزلك فأنتبه مرعوباً، وبعث إليها لتحالله، وبذل لها مالا فلم تقبله، وامتنعت من محاللته. فقدم خبر عزله بعد ثلاثة أيام من رؤياه، وقدم إلى القاهرة صحبة طنيرق؛ وقد أوصل طنيرق الأمير أرغون شاه إلى حلب، وسر به أهل حلب سروراً كبيراً.
وفيه ارتفعت الأسعار بالشام، فبلغت الغرارة بدمشق مائتين وخمسين درهماً؛ وذلك أن الجراد انتشر من بعلبك إلى البلقاء، ورعى الزروع.
وفيه كثر عبث العربان بأرض مصر، وكثر سفكهم للدماء، ونهب الغلال من الأجران، مع هيف الغلة.
وفيه اشتد احتراق النيل، وقل ماؤه حتى تأخر حمل الغلال في المراكب فارتفع السعر من ثلاثين درهماً الأردب من القمح إلى خمسة وخمسين، وبلغ الشعير خمسة وعشرين درهماً الأردب، والفول عشرين درهماً.
وفيه استقر أمير علي بن طغربل حاجبا بدمشق عوضاً عن أياس؛ واستقر أياس في نيابة صفد.
وفيه ورد الخبر باختلال مراكز البريد بطريق الشام، فأخذ من كل أمير مقدم ألف أربعة أفراس، ومن كل أمير طبلخاناه فرسان، ومن كل أمير عشرة فرس واحد وكشف عن البلاد المرصدة برسم البريد، فوجدت ثلاث بلاد منها وقف إسماعيل بعضها، وأخرج باقيها إقطاعات، فأخرج السلطان عن عيسى بن حسن الهجان بلداً تعمل في كل سنة عشرين ألف درهم، وثلاثة آلاف أردب غلة، وجعلها مرصدة لمراكز البريد.
وفيه قدم الخبر بأن أرتنا نائب الروم بعث يستدعي أحمد بن مهنا، وأرسل إليه هدية، فأبى أن يجيب.
واتفق أن أخا سيف بن فضل قصد فياض بن مهنا، وقد سار إليه من دمشق بمبلغ ثمانين ألف درهم ثمن خيول قدمها للسلطان، فأخذه منه وقصد قتله. فركب فياض لما بلغه ذلك وأغار على جمال سيف وآل فضل وساقها، وهي نحو خمسة عشر ألف بعير فبعث سيف يطلب من نائبي دمشق وحلب عسكراً يقاتل آل مهنا فلم ينجداه.
وفيه كتب الأمير أرغون شاه نائب حلب في حق سيف، فإنه لا طاقة له بآل مهنا فرسم بقدوم سيف وآل مرا، وقدوم أحمد بن مهنا؛ ووعد أحمد بالإمرة، وخرج الأمير قطلوبغا الذهبي لذلك.
وفيه قدم ابن الأطروش من دمشق، وقد عزل من الحسبة، وكتب نائب الشام يذم فيه وفي عصر يوم الأحد تاسع عشر ربيع الآخر: قتل الأمير آقسنقر الناصري، والأمير ملكتمر الحجازي؛ وأمسك الأمير، بزلار، والأمير صغار، والأمير أيتمش عبد الغني.
وسبب ذلك أن السلطان لما أخرج إتفاق وغيرها من عنده، وتشاغل عنهن بالحمام، صار يحضر إلى الدهيشة والأوباش، وتلعب بالعصا لعب صباح، ويحضر الشيخ علي بن الكسيح مع حظاياه، فيسخر له، وينقل إليه أخبار الناس. فشق ذلك على الأمراء، حدثوا ألجيبغا وطينرق، وكانا عمدة السلطان وخاصكيته فيما يفعله السلطان، وأن الحال قد فسد فعرفا السلطان ذلك، فاشتد حنقه وأطلق لسانه، وقام إلى السطح وذبح الحمام بحضرتهما، وقال: والله لأذبحنكم كما ذبحت هذه الطيور، وأغلق باب الدهيشة؛ وأقام غضبانا يومه وليلته. وكان الأمير غرلو قد تمكن منه، فأعلمه بما وقع، فوقع في الأمراء وهونهم عليه، وجسره على الفتك بهم، والقبض على الأمير آقسنقر الناصري النائب. فأخذ السلطان في تدبير ما يفعله، وقرر ذلك مع غرلو. ثم بعث السلطان بعد أيام طنيرق إلى الأمير آقسنقر الناصري النائب، في يوم الأربعاء خامس ربيع الآخر، ويعرفه أن قرابغا القاسمي وصمغار وبزلار وأيتمش عبد الغني قد اتفقوا على الفتنة، وعزمي أن أقبض عليهم، فوعد برد الجواب غداً على السلطان في الخدمة وأشار عليه من الغد بالتثبت في أمرهم حتى يصح له ما قيل عنهم فعرفه السلطان من الغد يوم الجمعة بأنه صح له بإخبار بيبغاروس، وبين له أنهم تحالفوا على قتله فأشار عليه أن يجمع بينهم وبين بيبغاروس، حتى يحاققهم بحضرة الأمراء يوم الأحد.
وكان الأمر على خلاف هذا، فإنه اتفق مع غرلو، وعنبر السحرتى مقدم المماليك، على مسك الأمير آقسنقر الناصري، والأمير ملكتمر الحجازي يوم الأحد، وأظهر للنائب أنه يريد القبض على قرابغا وصمغار، وبزلار وأيتمش.
فلما كان يوم الأحد تاسع عشره: حضر الأمراء والنائب إلى الخدمة بعد العصر، ومد السماط، وإذا بالقصر قد ملئ بسيوف مسللة من خلف آقسنقر والحجازي، وأحيط بهما وبقرابغا، وأخذوا إلى قاعة هناك فضرب الحجازي بالسيوف، وبضع هو وآقسنقر وفر صمغار وأيتمش عبد الغنى، فركب صمغار فرسه من باب القلعة ومر، واختفى أيتمش عند زوجته. فخرجت الخيل وراء صمغار، حتى أدركوه خارج القاهرة وأخذ أيتمش من داره فارتجت القاهرة، وغلقت الأسواق وأبواب القلعة. وكثر الإرجاف إلى أن خرج النائب أرقطاى والوزير نجم الدين محمود بن شروين قريب المغرب، فاشتهر ما جرى.
وفيه رسم بالقبض على مرزه علي، وعلى محمد بن بكتمر الحاجب وأخيه، وأولاد أيدغمش، وأولاد قمارى. وأخرجوا إلى الإسكندرية، وهم وبزلار وأيتمش وصمغار، لأنهم من ألزام الحجازي ومعاشريه، فسجنوا بها.
وفيه أخرج آقسنقر والحجازي في ليلة الإثنينعشريه على جنويات، فدفنا بالقرافة وأصبح الأمير شجاع الدين غرلو وقد جلس في دست عظيم، ثم ركب وأوقع الحوطة على بيوت الأمراء المقتولين والممسوكين وأموالهم، وطلع بجميع خيولهم إلى الإصطبل السلطاني، ونزل ومعه ناظر الخاص حتى أخرج حواصلهم. وضرب غرلو عبد العزيز الجوهري صاحب آقسنقر، وعبد المؤمن أستاداره بالمقارع، وأخذ منهما مالاً جزيلا. فخلع عليه السلطان قباء من ملابسي آقسنقر بطراز زركش عريض، وأركبه حصان الججازي بسرج ذهب وخلا به يأخذ رأيه فيما. يفعله. فأشار عليه بأن يكتب إلى نوابي، الشام بما جرى، ويعدد لهم ذنوبا كثيرة على الأمراء الذين قبض عليهم. فكتب السلطان إلى الأمير يلبغا اليحياوي نائب الشام، على يد الأمير آقسنقر المظفري أمير جاندار. وقدم آقسنقر المظفر على الأمير يلبغا اليحياوي في ثامن عشريه، فكتب يلبغا بتصويب رأي السلطان فيما فعله، وهو في الباطن غير ذلك. وعظم على الأمير يلبغا قتل ملكتمر الحجازي وآقسنقر الناصري، وتوحش خاطره، وجمع الأمراء بعد يومين بدار السعادة، وأعلمهم بما ورد عليه. وكتب يلبغا إلى النواب بذلك، فبعث الأمير ملك آص إلى حمص وحلب، وبعث الأمير طيبغا القاسمي إلى طرابلس؛ فجاءه ليلة الجمعة مستهل جمادى الأولى من زاده وحشه، فلم يصبح له بدار السعادة أثر غير نسائه. وانتقل يلبغا يوم الجمعة إلى القصر، فنزل به، وشرع في الاستعداد للخروج عن طاعة السلطان، ونزل إلزامه حوله بالميدان.
وأخذ السلطان المظفر حاجي يستميل المماليك بتفرقة المال فيهم، وأمر جماعة وأنعم على غرلو بإقطاع أيتمش عبد الغني وتقدمته، وأصبح هو المشار إليه في الدولة، وعظمت نفسه إلى الغاية.
وفيه أخرج ابن طقزدمر على إمرة طبلخاناه بحلب، لكثرة لعبه؛ وأنعم بتقدمته على الأمير طاز.
وفيه تولى غرلو مبيع قمش الأمراء وسائر موجودهم.
وفيه قدم الخير بكثرة حشود العربان بالصعيد وبلاد الفيوم، وشدة فسادهم، وتعذر السفر من قطعهم الطرقات على المسافرين. فلم يعبأ السلطان بذلك، لاشتغاله بلهوه، وتلفته إلى أخبار نواب الشام، لتخوفه من خروجهم عن طاعته للقبض على الأمراء وقتلهم فقدمت أجوبتهم. بما يظهر منه تصويب رأي السلطان فيما فعله، فلم يطمئن ورسم بخروج العسكر إليه.
وفيه رسم السلطان بخروج العسكر إلى البلاد الشامية ورسم في عاشر جمادى الأولى بسفر سبعة أمراء مقدمين، وهم طيبغا المجدي، وملك الجمدار، والوزير نجم محمود بن شروين، وطنغرا، وأيتمش الناصري الحاجب، وكوكاي، والزراق، ومعهم مضافوهم من الأجناد. وكتب بطلب الأجناد من النواحي، وكان وقت إدراك المغل؛ فصعب ذلك على الأمراء، وارتجت القاهرة بأهلها لطلب السلاح وآلات للسفر.
وكتب السلطان إلى أمراء دمشق ملطفات على أيدي النجابة بالتيقظ لحركات الأمير يلبغا اليحياوي، فأشار الأمير أرقطاى؛ النائب بطلب يلبغا ليكون. بمصر، فإن أجاب وإلا أعلم بأنه قد عزل من نيابة الشام بأرغون شاه نائب حلب. فكتب بطلبه على يد الأمير سيف الدين أراى أمير آخور؛ وعند سفر أراي قدمت كتب نائب حماة ونائب طرابلس ونائب صفد بأن يلبغا دعاهم للقيام معه على السلطان لقتله الأمراء، وبعثوا للسلطان بكتبه إليهم. فكتب السلطان لأرغون شاه نائب حلب أن يتقدم لعرب آل مهنا بمسك الطرقات على يلبغا، وأعلمه أنه ولاه نيابة الشام؛ فقام أرغون شاه في ذلك أتم قيام، وأظهر ليلبغا أنه معه.
ولما وصل الأمير سيف الدين أراى إلى الأمير يلبغا اليحياوي، في يوم الأربعاء سادس جمادى الأولى، إذا في كتاب السلطان طلب يلبغا ليكون رأس أمراء المشورة، وأن نيابة الشام أنعم بها على أرغون شاه نائب حلب وظن الأمير يلبغا اليحياوي أن استدعاءه حقيقة، وقرأ كتاب السلطان، فأجاب بالسمع والطاعة، وأنه إذا وصل الأمير أرغون شاه إلى دمشق توجه منها إلى مصر، وكتب الجواب بذلك، وأعاد الأمير سيف الدين أراى سريعا. فأتت قصاد أمراء دمشق إلى الأمير سيف الدين أراى في عوده، لتعرف فيما جاء به عليهم، فأعلمهم بعزل يلبغا بأرغون شاه، فتحللت عزائم الأمراء عن يلبغا. وتجهز يلبغا وبزر إلى الجسورة ظاهر دمشق، في خامس عشره وكانت ملطفات السلطان وردت إلى الأمراء في عشية يوم الخميس بإمساكه فركبوا وقصدوه، ففر منهم بمماليكه وأهله، وهم في أثره إلى خلف ضمير.
وأما الأمير سيف الدين أراى فأنه قدم إلى السلطان، فقدم الخبر في غد قدومه بأن يلبغا جمع ثقاته من أمراء الشام وأغراهم بالسلطان، وأنه إن مضى إليه قتله كما قتل الأمراء، وأنه جمع أمره على التوجه إلى أولاد دمرداش ببلاد الشرق.
وركب الأمير يلبغا في يوم الجمعة خامس عشره، ومعه الأمير قلاوون، والأمير سيفه، والأمير محمد بن بك بن جمق، في مماليكهم؛ وخرجوا بآلة الحرب، فاضطرب الناس بدمشق. وركب العسكر في طلبه، وقد سار نحو القريتين ودخل البرية حتى وصل حماة، بعد أربعة أيام وخمس ليالي. فركب الأمير قطليجا نائب حماة بعسكره، وتلقاه ودخل به إلى المدينة، وقبض عليه وعلى من معه؛ وكتب بذلك إلى السلطان فسر به سروراً كبيراً وأمر بإبطال التجريدة؛ وكتب بحمله إلى مصر.
ثم خرج الأمير منجك السلاح دار لقتله، فلقى آقجبا الحموي وصحبته يلبغا اليحياوي وأبوه، وقد نزل بقاقون. فصعد منجك مع يلبغا إلى قلعتها، وقتله في يوم الجمعة عشريه وجهز رأسه إلى السلطان. وتوجه منجك إلى حماة، وجهز الأمير قراكر والأمير أسندمر أخوى يلبغا اليحياوي، والأمير طقطاى دواداره، والأمير جوبان مملوكه، إلى السلطان مقيدين؛ وكان أبوه الأمير طابطا حمل مقيداً من فاقون إلى السلطان.
وفيه قدم الخبر بأن أحمد بن مهنا وفياضاً وفوازاً وقمارى كانوا بحلب لما قبض على يلبغا بحماة، فركبوا بجمعهم يريدون آل مرا، وقد نزلوا قريباً من سيف بن فضل فركب سيف بآل مرا وآل علي إلى لقائهم، فلم يطقهم وفر، فنهبوا أبياته، وأخذوا منها خمسمائة حمل دقيق، وساقوا خمسة عشر ألف بعير. ومر سيف على وجهه إلى القاهرة، فطلع إلى السلطان وبكى بين يديه بكاء كثيراً، فتنكر السلطان على أولاد مهنا. فقدم كتاب الأمير أرغون بالثناء عليهم، لخدمتهم السلطان في أمر يلبغا أتم الخدمة، وقدم أحمد بن مهنا عقيب ذلك، فلم ير من السلطان إقبالاً.
وفي يوم الأحد خامس عشريه: أخرج بالوزير نجم الدين محمود، والأمير بيدمر البدري نائب حلب كان، والأمير طغيتمر الفخري الدوادار، إلى الشام وسببه أن غرلو لما كان شاد الدواوين حقد على الوزير نجم الدين وعلى طغيتمر الدوادار، فحسن للسلطان أخذ أموالهما. فذكر السلطان للنائب أرقطاى عنهما وعن بيدمر أنهم كانوا يكاتبون يلبغا اليحياوي، فأشار عليه بإبعادهم عنه، وأن يكون الوزير نائب غزة، وبيدمر نائب حمص، وطغيتمر بطرابلس؛ فأخرجهم أرقطاى على البريد. فلم يعجب غرلو ذلك، وأكثر من الوقيعة في الأمير أرقطاى النائب حتى غير السلطان عليه، ومازال به حتى بعث أرغون الإسماعيلي نائب غزة بقتلهم. فدخل أرغون الإسماعيلي معهم إليها وقت العصر، فقتلوا ليلاً؛ وتمكن غرلو من أموالهم.
وتزايد أمر غرلو، واشتدت وطأته؛ وكتر إنعام السلطان عليه حتى لم يكن يوم إلا وينعم عليه وأخذ غرلو في العمل على علم الدين بن زنبور ناظر الخاص وعلى علاء الدين علي بن فضل الله كاتب السر، وحسن للسلطان القبض عليهما وأخذ أموالهما؛ فتلطف الأمير أرقطاى النائب في أمرهما حتى كف عنهما. فلم يبق أحد من أهل الدولة حتى خاف غرلو، ورجع يصانعه بالمال.
وفيه توجه مقبل الرومي لقتل المسجونين بالإسكندرية بإشارة غرلو، فقتل أرغون العلائي وقرابغا القاسمي، وتمر الموساوى، وصمغار، وأيتمش عبد الغني.
وفيه أفرج عن أولاد قمارى وأولاد أيدغمش؛ وأخرجوا إلى الشام.
وفيه قدم الأمير منكلى بغا الفخري من طرابلس، وأنعم عليه بتقدمة ألف واستمر السلطان على الأنهماك في لهوه، وصار يلعب في الميدان تحت القلعة بالكرة في يومي الأحد والثلاثاء، ويركب إلى الميدان على النيل في يوم السبت. فلما كان آخر ركوبه الميدان رسم بركوب الأمرء المقدمين. بمضافيهم، ووقوفهم صفين من الصليبة إلى فوق الإصطبل، ليرى العسكر. فضاق الموضع عنهم، فوقف كل مقدم بخمسة من مضافيه وجمعت أرباب الملهى ورتبوا في عدة أماكن بالميدان؛ ونزلت أم السلطان في جمعها، وأقبل الناس من كل جهة. فبلغ كراء كل طبقة في ذلك اليوم مائة درهم، وكل بيت كبير لنساء الأمراء مائتي درهم وكل حانوت خمسين درهما، وكل موضع إنسان بدرهمين، فكان يوماً لم يعهد في ركوب الميدان.
وفيه أخرج سيف بن فضل من القاهرة مرسماً عليه، لكلام نقله عن الأمير أرقطاى النائب وفي يوم الخميس سابع جمادى الآخر: وصل رأس يلبغا اليحياوي.
وفي يوم الجمعة خامس عشره: قبض على غرلو، وقتل. وسبب ذلك شدة كراهة الأمراء أرباب الدولة لسوء أثره فيهم، فأنه كان يخلو بالسلطان ويشر عليه بما يمضيه، فلا يخالفه في شيء وعمله السلطان أمير سلاح، فخرج عن الحد في التعاظم، وجسر السلطان على قتل الأمراء، وقام في حق الأمير أرقطاى النائب يريد القبض عليه وقتله، وأخذ المماليك الناصرية والصالحية والكاملية بكمالهم، واستمالهم لتجديد دولة مظفرية. وقرر مع السلطان أن يفوض إليه أمور المملكة، ليقوم عنه بتديرها، ويتوفر السلطان على لذاته. وأغراه أيضاً بالجيبغا وطنيرق، وهما أخص الناس بالسلطان، حتى تغير عليهما. وبلغ ذلك ألجيبغا، وتناقله المماليك، فتعصبوا عليه، وراسلوا الأمراء الكبار حتى حدثوا السلطان في أمره، وخوفوه عاقبته، فلم يعبا السلطان بقولهم، فتنكروا بأجمعهم على السلطان، وصاروا إلباً عليه بسبب غرلو، إلى أن بلغه ذلك عنهم من بعض ثقاته. فاستشار الأمير أرقطاى النائب في أمر غرلو، وعرفه ما يخاف من غائلته، فلم يشر عليه بشيء، وقال له: لعل الرجل قد كثرت حساده على تقريب السلطان له، والمصلحة التثبت في أمره كان الأمير أرقطاي النائب عاقلا سيوسا، يخشى من معارضة غرض السلطان فيه. فاجتهد ألجيبغا وعدة من الخاصكية في التدبير على غرلو، وتخويف السلطان منه ومن عواقبه، حتى أثر قولهم في نفسه. وأقاموا أحمد شاد الشرابخاناه- وكان مزاحا- للوقيعة فيه فأخذ في خلوته مع السلطان بذكر كراهة الأمراء لغرلو وموافقة المماليك لهم وأنه يريد أن يدبر الدولة ويكون نائب السلطان، وليتوثب بذلك على المملكة ويصير سلطاناً، ويخرج قوله هذا في صورة السخرية والضحك. وبالغ في ذلك على عدة فنون من الهزؤ إلى أن قال: وإن خلاه السلطان رحنا كلنا الحبوسات من بعده فانفعل السلطان لكلامه، وقال: أنا الساعة أخرجه وأعمله أمير آخور ثم مضى أحمد إلى الأمير أرقطاى النائب، وعرفه ما كان منه، وما قاله السلطان، وجسره على الوقيعة في غرلو. فاستشار السلطان الأمير أرقطاى النائب في غرلو ثانيا، فأثنى عليه وشكره، فعرفه وقوع الخاصكية فيه، وأنه قصد أن يعمله أمير آخور، فقال أرقطاي غرلو شجاع جسور، لا يليق أن يكون أمير آخور فكأنه أيقظ السلطان من رقدته، وأخذ معه فيما يوليه، فأشار بولايته غزة، فقبل السلطان ذلك وقام عنه فاصبح السلطان بكرة يوم الجمعة، وقد بعث طنيرق إلى الأمير أرقطاى النائب بأن يخرج غرلو إلى غزة. فلم يكن غير قليل حتى طلع غرلو على عادته إلى القلعة، وجلس على باب القلة، فبعث الأمير أرقطاي النائب بطلبه فقال: مالي عند النائب شغل وما لأحد معي حديث غير أستاذي السلطان وأرسل النائب يعرف السلطان جواب غرلو له بطلبه، فغضب السلطان، وقال لمغلطاى أمير شكار والأمراء أن يعرفوه عن السلطان بتوجهه إلى غزة، وإن امتنع يمسكوه. فلما صار غرلو داخل القصر لم يحدثوه بشيء، وقبضوا عليه وقيدوه، وسلموه لألجيبغا، فأدخله إلى بيته بالأشرفية فلما خرج السلطان لصلاة الجمعة على العادة قتلوا غرلو، وهو في الصلاة واخذ السلطان بعد عوده من الصلاة يسأل عنه، فقالوا عنه أنه قال: ما أروح مكاناً فأراد سل سيفه وضرب الأمراء به، وأنهم تكاثروا عليه فلما سلم نفسه حتى قتل. فعز قتله على السلطان، وحقد عليهم قتله، ولم يظهره لهم وتقدم السلطان بإيقاع الحوطة على حواصله، فكان يوما عظيماً بالقلعة والمدينة، معظم الناس إلى تحت القلعة، فشوهد يومئذ من اجتماعهم أمر مهول. وأخرج غرلو حتى دفن بباب القرافة، فأصبح وقد خرجت يده من الأرض، فأتاه الناس أفواجاً ليروه ونبشوا عليه، وجروه بحبل في رجله إلى تحت القلعة. وأتوا بنار ليحرقوه، وصار لهم ضجيج عظيم. فبعث السلطان عدة من الأوجاقية قبضوا على كثير منهم، فضربهم الوالي بالمقارع، وأخذ منهم غرلو ودفن؛ ولم يظهر له كبير مال.
وفيه قدم الخبر بدخول الأمير أرغون شاه إلى دمشق، في يوم الثلاثاء سابع عشره صحبة متسفرة الأمير آقسنقر جاندار فعرض يوم دخوله أهل السجون، ووسط وسمر منهم عدة من أرباب الجرائم، وألزم جميع من له إقطاع بحلب أو حماة أو طرابلس أو غيرها من البلاد الشامية أن يتوجه إلى محل خدمته، ولا يقيم بغيره، وأنعم الأمير أرغون شاه على متسفره بخمسة عشر فرساً، منها خمس عربيات مسرجات ملجمات، وأحد عشر إكديش، وجارية بخمسة آلاف درهم وأربعين ألف درهم، ومائة قطعة قماش وتشريف النيابة بكماله وسيفه المحلى، وكتب له بألف أردب غلة من مصر، وكان الأمير أرغون شاه أعطاء بحلب ألف وخمسمائة دينار. فأقام آقسنقر بدمشق نحو ثلاثة أشهر ولم يسأله في ولاية ولا عزل إلا أجابه، فرجع بمال عظيم.
وفيه أفرج عن ابن طشتمر من صفد، وأنعم عليه بإمرة في دمشق.
وفيه نقل أمير مسعود بن خطير من نيابة غزة إلى نيابة طرابلس عوضاً عن الأمير منكلى بغا الفخري.
وفيه استقر الأمير فخر الدين أياس حاجب دمشق في نيابة حلب، عوضاً عن الأمير أرغون شاه.
وفيه خرج السلطان إلى سرياقوس على العادة، فأقام أياما وعاد.
وفي يوم الإثنين سادس عشر رجب: أخرج لاجين أمير آخور إلى دمشق، على إقطاع قلاوون.
وفيه أخرج منجك السلاح دار واستقر حاجباً بدمشق، عوضاً عن أمير علي بن طغربل وفيه أنعم على اثني عشر من المماليك بإمرات، ما بين طبلخاناه وعشرات بمصر والشام.
وفيه أعيد الأطروش إلى الحسبة، عوضاً عن الضياء، ورتب للضياء ما يقوم به.
وفيه عمل الإستيمار بما على الدولة من الكلف، وما يتحصل. فوجدت الكلف ثلاثة أمثال ما كانت في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون، ومرتب الحوائج خاناه في كل يوم مقدار اثنين وعشرين ألف رطل لحم، ونفقات المماليك مبلغ مائتين وعشرين ألف درهم، بعدما كانت تسعين ألف درهم. فرسم السلطان بقطع ما استجد من الرواتب بعد موت السلطان الناصر محمد، فمازال به الأمير أرقطاى النائب يخوفه سوء عاقبة قطع الأرزاق، ويعرفه أن أحداً من الملوك ما قرئ عليه الإستيمار وقطع شيئاً إلا وأصابه ما يكره في دولته، حتى رسم باستمرار الرواتب على حالها.
وفيه وزع على مباشري الجهات مبلغ ستمائة ألف درهم، خص مقدمي الدولة منها مائة ألف درهم.
وفيه رسم أن يكون في كل معاملة شاهد وكاتب؛ واستقر قطلوابغا شاد الجهات بالقاهرة، وابن المزوالي شادا بجهات مصر.
وفيه قدم على بن طغربل من دمشق.
وفيه أنعم على الأمير بيبغا روس عند قدومه من سرحة العباسة بألفي دينار، ومائة قطعة قماش، وأربعة أرؤس خيل بسروج ذهب.
وفي مستهل شعبان: خرج الأمير طيبغا المجدي، والأمير أسندمر العمري، والأمير أرغون الكاملي، والأمير بيبغا روس، والأمير بيبغا ططر، إلى الصيد، ثم خرج الأمير أرقطاى النائب بعدهم إلى الوجه القبلي بطور السلطان. ورسم السلطان لهم ألا يحضروا إلى العشر الأخير من رمضان.
فخلا الجو للسلطان، وأعاد حضير الحمام، وأحضر إليه عدة من عبيده، وأعاد أرباب الملاعيب من الصراع، والثقاف، والشباك وجرى السعاة، والنطاح بالكباش، ومناقرة الديوك والقمارى وغير ذلك من أنواع الفساد، ونودي بإطلاق اللعب بذلك في القاهرة ومصر. فصار للسلطان اجتماعات بالأوباش وأراذل الطوائف، من الفراشين والبابية، ومطيري الحمام؛ فكان يقف معهم ويراهن على الطير الفلاني والطيرة الفلانية.
وبينا هو ذات يوم معهم عند حضير الحمام وقد سيبها، إذ أذن العصر بالقلعة والقرافة فجفلت الحمام على مقاصرها وتطايرت. فجرد السلطان، وبعث إلى المؤذنين يأمرهم أنهم إذا رأوا الحمام لا يرفعون أصواتهم.
وكان السلطان أيضاً يلعب مع العوام، ويلبس تبان جلد، ويتعرى من ثيابه كلها ثم يلعب معهم بالعصى، ويلعب بالرمح وبالكرة. فيظل نهاره مع الغلمان والعبيد الدهيشة، ويحضر في الليل على العواد، ويأخذ عنه الضرب بالعود، ويتجاهر بما لا يحمد.
وشغف السلطان بكيدا حتى كان لا يكاد يفارقها، واشترى لها أملاك النشو وأخيه رزق الله وصهره المخلص بخط الزربية، فاشتراها لها بمائة ألف درهم. وكانت هذه الزريبة في غاية الحسن، قد أنفق عليها النشو أموالاً عظيمة، وصارت بعد النشو إلى إمرأة الأمير بكتمر الساقي، اشتراها لها الأمير بشتاك بنحو الألف درهم، إلى أن طلبتها كيدا فأرسل السلطان إليها يستوهبها منها، فتركتها له، فرسم لها بمائة ألف درهم، وكاتبها على الأملاك باسم كيدا فلم يهن بها، ووقعت نار في دار رزق الله جعلتها دكاً.
وفيها ارتفع سعر القمح من أربعين درهماً للأردب إلى خمسين، وغلا اللحم وعامة الأصناف المأكولة حتى بلغت مثلى ثمنها. وتوقفت الأحوال، وقلت الغلال، وكثرة قدوم أهل النواحي إلى القاهرة حتى ضاقت بهم فكانوا كذلك مدة سنة، مع كثرة المناسر في البلاد والقاهرة، وقوة المفسدين وقطاع الطريق بأرض مصر وبلاد القدس ونابلس، وفتنة العشير بعضهم مع بعض.
وفي نصفه: توجه ألجيبغا وأحمد شاد الشرابخاناه إلى الصيد، فأخذ السلطان في التدبير على أخيه حسين ليقتله، وأرصد له عدة خدام ليهجموا عليه عند إمكان الفرصة ويغتالوه، فتمارض واحترس على نفسه، فلم يجدوا منه غفلة.
وفي سابع عشره: استقر في الخلافة أبو بكر بن أبي الربيع سليمان، ونعت بالمتعصم بالله أبي الفتح، بعد موت أبيه.
وفي أخريات شعبان: قدم الأمراء والأمير أرقطاى النائب قبل أوانهم من الصيد شيئاً بعد شيء، وقد بلغهم ما كان من أفعال السلطان في غيبتهم.
وفي يوم السبت رابع رمضان: زلزلت القاهرة مرتين في ساعة واحدة.
وفيه قدم ابن الحراني من دمشق بمال يلبغا اليحياوي، فتسلمه الخدام وأنعم السلطان من ليلته على كيدا حظته بعشرين ألف منه سوى الجواهر واللآلى، ونثر الذهب على الخدام والجواري، فاختطفوه، وهو يضحك منهم، وفرق السلطان على لعاب الحمام والفراشين والعبيد الذهب واللؤلؤ، وصار يحذفه لهم، وهم يترامون عليه ويأخذونه، بحيث لم يدع منه شيئاً سوى القماش والتفاصيل والآنية والعدد، فإنها صارت إلى الخزانة. فكانت جملة ما فرقه السلطان ثلاثين ألف دينار وثلاثمائة ألف درهم، وجواهر وحلياً، وزركشاً ومصاغاً، قيمته زيادة على ثمانين ألف دينار.
فعظم ذلك على الأمراء، وأخذ ألجيبغا وطنيرق يعرفان السلطان ما ينكره عليه الأمراء من اللعب بالحمام وتقريب الأوباش، وخوفاه فساد الأمر. فغضب السلطان، وأمر آقجبا شاد العمائر بخراب حضير الحمام، وأحضر الحمام وذبحها واحداً واحداً بيده، وقال لألجيبغا وطنيرق: والله لأذبحنكم كلكم كما ذبحت هذا الحمام، وتركهم وقام. فبات ليلته وأصبح ففرق جماعة من خشداشية ألجيبغا وطنيرق في البلاد الشامية واستمر على إعراضه عن الجميع وقال لحظاياه وعنده معهن الشيخ على الكسيح: والله ما بقى هنا لي عيش وهذان الكذا وكذا بالحياة، يعنى ألجيبغا وطنيرق، فقد أفسدا على ما كان فيه سرور، واتفقا على، ولابد من ذبحهما. فنقل ذلك الشيخ على الكسيح لألجيبغا، فإنه الذي كان أوصله بالسلطان، وقال له مع ذلك: خذ لنفسك، فوالله لايرجع عنك ولاعن طنيرق. فطلب ألجيبغا صاحبه طنيرق حتى عرفه ذلك، فأخذا في التدبير على السلطان، وأخذ السلطان في التدبير عليهما.
وفيه أخرج السلطان الأمير بيبغا روس للصيد بالعباسة، فإنه كان صديقاً لألجيبغا وتنمر السلطان على طنيرق واشتد عليه، وبالغ في تهديده. فبعث طنيرق وألجيبغا إلى طشتمر طلليه، وما زالا به حتى وافقهما. ودار طنيرق على الأمراء، وما منهم إلا من نفرت نفسه من السلطان، وتوقع منه أن يفتك به. وأغراهم طنيرق بالسلطان، فصاروا معه يداً واحدة، وكلموا الأمير أرقطاى النائب في موافقتهم، وأعلموه أنه يريد القبض عليه، وأكثروا من تشجيعه إلى أن أجابهم وتواكدوا جميعاً في يوم الخميس تاسع رمضان على الركوب في يوم الأحد ثاني عشره.
فبعث السلطان في يوم السبت يطلب الأمير بيبغا روس من العباسة، وقرر مع الطواشي عنبر مقدم المماليك أن يعرف المماليك السلاح دارية أن يقفوا متأهبين، فإذا دخل بيبغا روس وقبل الأرض ضربوه بسيوفهم، وقطعوه قطعاً. فعلم بذلك ألجيبغا، فبعث إلى بيبغا يعلمه بما دبره السلطان من قتله، ويعرفه بما وقع من اتفاق الأمراء عليه، بكرة يوم الأحد على قبة النصر. واستعدوا ليلتهم، ونزل ألجيبغا أولهم من القلعة وتلاه بقية الأمراء فكان آخرهم ركوباً الأمير أرقطاى النائب. وتوافوا بأجمهم عند مطعم الطير، وإذا بيبغا قد وصل إليهم، فأحضروا مماليكهم وأطلابهم، وبعثوا في طلب بقية الأمراء، فما ارتفع النهار حتى وقفوا بأجمعهم لابسين آلة الحرب، عند قبة النصر.
فأمر السلطان بدق الكوسات، وبعث الأوجاقية في طلب الأمراء، وجمع عليه طنيرق وشيخو وأرغون الكاملي وطاز، ونحوهم من الخاصكية فحضر إليه أجناد الحلقة ومقدموها، وعدة من الأمراء. وأرسل السلطان يعتب الأمير أرقطاي النائب على ركوبه، فرد جوابه بأن مملوكك الذي ربيته ركب عليك، وأعلمنا فساد نيتك، وقد قتلت مماليك أبيك، وأخذت أموالهم، وهتكت حريمهم بغير موجب، وعزمت على الفتك بمن بقي، وأنت أول من حلف ألا تخون الأمراء، ولا تخرب بيت أحد فرد السلطان الرسول إليه يستخبره عما يريدونه منه حتى يفعله لهم، فأعادوا جوابه أنهم لابد أن يسلطنوا غيره، فقال: ما أموت إلا على ظهر فرسي، فقبضوا على رسوله، وهموا بالزحف إليه، فمنعهم الأمير أرقطاي النائب.
فبادر السلطان بالركوب إليهم، وأقام أرغون الكاملي وشيخو في الميسرة، وأقام عدة أمراء في الميمنة، وسار بمماليكه حتى وصل إلى قريب قبة النصر. فكان أول من تركه الأمير أرغون الكاملي والأمير ملكتمر السعيدي، ثم الأمير شيخو. وأتوا الأمير أرقطاي النائب والأمراء، وتلاهم بقيتهم، حتى جاء الأمير طنيرق، والأمير لاجين أمير جاندار صهر السلطان آخرهم.
وبقي السلطان في نحو عشرين فارساً، فبرز له الأمير بيبغا روس والأمير ألجيبغا، فولى فرسه وأنهزم عنهم، فأدركوه وأحاطوا به. فتقدم إليه بيبغا روس، فضربه السلطان بطير، فأخذ الضربة بترسه، وحمل عليه بالرمح. وتكاثروا عليه حتى قلعوه من سرجه فكان بيبغا روس هو الذي أرداه، وضربه طنيرق جرح وجهه وأصابعه. وساروا به على فرس إلى تربة آقسنقر الرومي تحت الجبل، وذبحوه من ساعته قبل العصر. ولما أنزلوه وأرادوا ذبحه توسل إلى الأمراء، وهو يقول: بالله لا تستعجلوا على قتلي، وخلوني ساعة، فقالوا: فكيف استعجلت على قتل الناس، لو صبرت عليهم صبرنا عليك.
وصعد الأمراء إلى القلعة في يومهم، ونادوا في القاهرة بالأمان والاطمئنان، وباتوا بها ليلة الإثنين، وقد اتفقوا على مكاتبة الأمير أرغون شاه نائب الشام بما وقع، وأن يأخذوا رأيه فيمن يقيمونه سلطاناً. فأصبحوا وقد اجتمع المماليك على إقامة حسين بن الناصر محمد بن قلاوون في السلطة، ووقعت بينه وبينهم مراسلات. فقبض الأمراء على عدة من المماليك، ووكلوا الأمير طاز بباب حسين، حتى لا يجتمع به أحد، وغلقوا باب القلعة، وهم بآلة الحرب يومهم وليلة الثلاثاء. وقصد المماليك إقامة الفتنة فخاف الأمراء تأخير السلطة حتى يستشيروا نائب الشام أن يقع من المماليك ما لا يدرك فارطه، فوقع اتفاقهم عند ذلك على حسن بن الناصر محد بن قلاوون، فتم أمره.
فكانت مدة المظفر حاجي سنة وثلاثة أشهر واثني عشر يوماً، وعمره نحو عشرين سنة وكان شجاعاً جريئاً على الدنيا، منهمكاً في الفساد، كثير الإتلاف للمال.
السلطان الملك الناصر بدر الدين أبو المعالي الحسن بن محمد بن قلاوون الألفي أمه أمة تدعى كدا، ماتت وهو صغير، فربته خوند أردو، ودعوه قماري حتى كان من أمر أخيه حاجي ما كان. وطلب المماليك إقامة حسين في السلطة، وبات ليلة أكثرهم بالمدينة ليخرجوا إلى قبة النصر فقام الأمراء بسلطة حسن هذا وأركبوه بشعار السلطنة، في يوم الثلاثاء، رابع عشرى رمضان، سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، وأجلسوه على تخت الملك بالإيوان، لقبوه بالملك الناصر سيف الدين قمارى.
فقال السلطان للأمير أرقطاى نائب السلطة: يا بة! ما اسمي قمارى، إنما اسمي حسن، فقال أرقطاى: يا خوند! والله إن هذا اسم حسن على خيرة الله فاستقرت سلطنته وحلف له الأمراء على العادة، وعمره يومئذ إحدى عشرة سنة.
وفي يوم الأربعاء خامس عشره: اجتمع الأمراء، وأخرج لهم دينار الشبلي المال، فنقل إلى الخزانة.
وفيه طلب خدام المظفر وعبيده، ومن كان يعاشره من الفراشين ومطيري الحمام، وسلموا لشاد الدواوين على حمل ما أخذوه من المال. فأقر الخدام أن الذي خص كيدا في مدة شهرين نحو خمسة وثلاثين ألف دينار، ومائتين وعشرين ألف درهم وخص، العواد نحو ستين ألف درهم، وخفي الإسكندر بن كتيلة الجنكي نحو الأربعين ألف درهم، وخص العبيد والفراشين ومطيري الحمام نحو مائة ألف درهم. وأظهر بعض الخدام حاصلاً تحت يده، فيه لؤلؤ وجوهر قيمته زيادة على مائة ألف دينار، وفيه تحف وتفاصيل وزركش وبدلات ثياب بنحو مائة ألف دينار.
وفي يوم الخميس سادس عشره: قبض على الأمير أيدمر الرزاق، والأمير قطز أمير آخور، والأمير ملك، وأخرج قطز لنيابة صفد، وفيه قطعت أخباز عشرين خادماً، وخبز عبد على العواد، وإسكندر بن كتيلة الجنكي.
وفيه طلبت دبيقة مغنية عرب الجيزة، وكانت تخايل بالقلعة، وطلبت ضامنة المغاني أيضاً، وألزمتا بمال في نظير ما حصل لهما من بيت المال.
وفي يوم الأحد تاسع عشره: عرضت جميع الجواري اللاتي بالقلعة، ورسم بتزوج من أعتق منهن، وفرق باقيهن.
وفيه قبض على الطواشي عنبر السحرتي، وعلى الأمير آقسنقر أمير جاندار زوج أم المظفر. وفيه عرضت المماليك أرباب الوظائف، وأخرج منهم جماعة.
وفيه أحيط بأموال كيدا، وأموال بقية الحظايا، وأنزلن من القلعة.
وفيه كتبت أوراق. بمرتبات الخدام والعبيد والجواري، وقطعت كلها.
وكان أمراء المشورة والتدبير تسعة، وهم بيبغا روس القاسمي، بألجيبغا المظفري، ومنكلى بغا الفخري، وطشتمر طلليه، وأرقطاى النائب، وطاز، وأحمد شاد الشرابخاناه، وأرغون الإسماعيلي فاستقر شيخو العمري رأس نوبة كبير وشارك الأمراء في تدبير أمور المملكة.
وفيه استقر مغلطاي أمير آخور، عوضاً عن قطز.
وفيه أفرج عن بزلار.
وفيه أنعم على فارس الدين قريب آل ملك بإمرة طبلخاناه.
وفيه جهزت التشاريف لنواب الشام، وكتب إليهم بما وقع.
وفيه وقع الاتفاق على تخفيف الكلف السلطانية، وتقليل المصروف بسائر الجهات، وكتبت أوراق. بما على الدولة من الكلف.
وفيه أخذ الأمراء في تتبع طائفة الجراكسية من المماليك، وقد كان المظفر قربهم إليه بسفارة غرلو، فأنه كان جركسي الجنس. وجلبهم المظفر من كل مكان حتى عرفوا بين الأمراء، وقوى أمرهم، وصار منهم أمراء وأصحاب أخباز وتميزوا بكبر عمائمهم، وعملوا كلفتاه خارجة عن الحد. فطلبوا الجميع، وأخرجوهم منفيين خروجاً فاحشاً. وفي يوم الإثنين ثاني شوال: ركب الأمراء وأهل الدولة إلى الخدمة، وكتبت أوراق من ديوان الجيش بأسماء الذين اشتروا الإقطاعات في الحلقة من أرباب الصنائع، ورسم بقطع أخبازهم فشفع الأمراء في كثير منهم، ولم يقطع غير عشرين جندياً.
وفيه قدم جواب الأمير أرغون شاه نائب الشام بموافقته، ورضاه بما وقع، وغض من فخر الدين أياس نائب حلب. وكان الأمير أرقطاى نائب السلطة قد أراد من الأمراء أن يعفوه من النيابة، ويولوه بلداً من البلاد، فلم يوافقوا على ذلك. فلما ورد كتاب الأمير أرغون شاه نائب الشام يذكر فيه أن أياس يصغر عن نيابة حلب، فأنه لا يصلح لها إلا رجل شيخ كبير القدر له ذكر وشهرة، وطلب الأمير أرقطاى نيابة حلب فأجال الأمراء الرأي في ذلك إلى أن اتفقوا عليه. فلما كان يوم الخميس خامسه واجتمعوا لخدمة، خلع الأمير بيبغا روس القاسمي واستقر في نيابة السلطنة، عوضاً عن أرقطاي وخلع على أمير أرقطاي، واستقر في نيابة حلب عوضاً عن فخر الدين أياس، وخرج بتشريفهما فجلس بيبغا روس في دست النيابة، وبيبغا جالس دونه.
وفي يوم السبت سابعه: قدم أمير منجك اليوسفي السلحدار أخو النائب بيبغا روس من الشام فرسم له بتقدمة ألف، وخلع عليه، واستقر وزيراً وأستادارا. وخرج في موكب عظيم والأمراء في خدمته، فصار حكم مصر للأخوين بيبغا روس ومنجك السلاح دار.
وفي يوم الثلاثاء عاشره: سار أرقطاى متوجها إلى حلب، وصحبته الأمير كشلي الأدريسي متسفرا.
وكان قد رسم بنقل الأمراء المقتولين بالإسكندرية، فنقلوا إلى القاهرة. ودفن الأمير قمار أخيه الأمير بكتمر الساقى، قبلى القرافة. ودفن الأمير أرغون العلائي بخانكاته من القرافة. ودفن الأمير قوصون بخانكاته داخل باب القرافة. ودفن الأمير بشتاك الجاولي، فوق جبل الكبش. ودفن الأمير ملكتمر الحجازي في يوم الإثنين سابع عشري رمضان، بموضع من قصر الزمرد عند رحبة باب العيد من القاهرة، أنشأته له زوجته ثم عملته مدرسة تعرف اليوم بالحجازية ودفن الملك الأشرف كجك بجماع آقسنقر من التبانة قريباً من القلعة، بجوار قبر زوج أمه آقسنقر. وأخرج يوسف وشعبان ورمضان الناصر محمد، ودفنوا بمواضع أخرى. وسلم الأمير تمر الموساوى لأهله، فدفنوه بتربتهم. ونقل جماعة كثير سواهم، ولم يعهد مثل ذلك في الدولة التركية.
وفيه خلع على الشيخ علاء الدين علي بن الفخر عثمان بن إبراهيم المارديني، المعروف بابن التركماني الحنفي، واستقر في قضاء القضاة الحنفية بمصر، عوضاً عن زين الدين عمر بن عبد الرحمن البسطائي.
وفيه رسم بكتابة أوراق بكلف الدولة، وفر منها مبلغ ستين ألف درهم في كل شهر من جامكية المماليك. وقطعت جوامك الخدم والجواري والبيوتات، ووفر كثير من رواتب لزوجات السلطان وكيدا واتفاق، وقطعت رواتب المغاني. وقطع من الإصطبل السلطاني جماعة، ما بين أمير آخورية وسر آخورية وسياس وغلمان، ووفر من رواتب عليق الخيول نحو خمسين أردبا في اليوم. وقطعت الكلابزية، وكانوا خمسين جوقة كلاب، فاستقروا جوقتين. وقطعت رواتب كثير من الأسرى والعتالين والمستخدمين في العمائر، وأبطلوا العمائر من بيت السلطان.، واستقر مصروف الحوائج خاناه في كل يوم ثمانية عشر ألف درهم، بعدما كان أحداً وعشرين ألف درهم فتوفر منه ثلاثة آلاف درهم.
وفيه رسم ألا يستقر في كل جهة إلا شاد وعامل وشاهد واحد.
واشتد الوزير منجك على أرباب الدواوين، وتكلم فيهم حتى خافوه بأسرهم، وقاموا له بتقادم تليق به؛ فلم يمضى شهر حتى أنس بهم، واعتمد عليهم في أموره كلها.
واستدعى الوزير منجك أيضاً ولاة الأقاليم، والزم آقبغا والي المحلة بمائة ألف درهم، وولى أسندمر القلنجيقى الغربية، ثم عزله وولى قطليجا مملوك بكتمر؛ وولي أسندمر القاهرة، وأضاف له الجهات يتحدث فيها.
وفيه أنعم على أمير أرغون الكاملي بتقدمة ألف، وأنعم بإقطاعه على يلجك ابن أخت قوصون.
وفيه قدم سيف فخر الدين أياس نائب حلب على يد عمر شاه. وقد قبض عمر شاه على أياس، وأحضره إلى القاهرة، فحمل إلى الإسكندرية.
وفيه قدم الخبر بكثرة فساد العربان بالصعيد والفيوم، فخرج ابن طقزدمر ومعه خمسة أمراء طبلخاناه إلى الوجه القبلي، وخرج بكلمش أمير شكار في عده أمراء إلى الفيوم.
وفيه استقر طغيه في ولاية قوص، عوضاً عن إسماعيل الوافدي وقد فر بأمواله من قوص. ثم نقل طغيه إلى كاشف الوجه القبلي، عوضاً عن علاء الدين على بن الكوارنى؛ واستقر ابن المزوق في ولاية قوص. واستقر مجد الدين موسى الهذباني في ولاية الأشمونين، عوضاً عن ابن الزركشي. واستقر قطلومش في ولاية الجيزة.
فتسامع الناس بولاية الوزير منجك الأعمال بالمال، وأنه قد انفتح باب الأخذ والعطاء، فهرعوا إليه من حلب ودمشق وسائر النواحي، ورتب الوزير ببابه جماعة لاستقضاء الناس وقضاء أشغالهم- وفي أول ذي القعدة: قدم الخبر بأن الأمراء المجردين أوقعوا بالعرب، وقتلوا منهم جماعة، ونهبوا ما وجدوه، فانهزم باقيهم إلى جهة الواحات.
وفيه توقفت أحوال الدولة وتحسن السعر، فاتفق الأمراء ورتبوا لنفقة السلطان في كل يوم مائة درهم تكون بيده. فكان خادمه يحضر في كل يوم إلى علم الدين بن زنبور ناظر الخزانة، وهو جالس بخزانة الخاص من القلعة، يطالبه. بمائة درهم، فيكتب لمباشري الخزانة بصرف جامكية السلطان وصلا يأخذه صيرفي الخزانة عنده، ويزن للخادم المائة درهم، فيدخل بها إلى السلطان ليتوسع بها فيما يعن له. وكان هذا راتبه كل يوم ولم يسمع بمثل ذلك أن يكون ملك يجلس على تخت الملك، ويصرف الأمور بالعزل والولاية، وتحمل إليه أموال مصر والشام، ولا يتصرف منها في شيء.
وذلك أن الأمراء تحالفوا- بعد خروج الأمير أرقطاى النائب إلى حلب- أن يكونوا يدا واحدة وكلمتهم واحدة، ولا يدخل بينهم غريب، وأن يكون الأمير شيخو إليه أمر خزانة الخاص، ويراجعه علي الدين عبد الله بن زنبور ناظر الخاص ويتصرف بأمره، وأن يكون الأمير بيبغا روس يتحدث في المملكة، فيخرج الإقطاعات للأجناد والإمرات للأمراء بمصر والشام، وإليه يرجع أمر نواب الشام أيضاً، وأنهم يجتمعون للمشورة بين يدي السلطان فيما يتجدد، وألا يدعوا السلطان يتصرف في المال، ولا ينعم على أحد، ولا يمكن من شيء يطلبه، فمشت الأمور على هذا.
وفيه وقف نحو المائتين ممن كان بخدمة الأمراء للنائب بيبغا روس يشكون البطالة ففرقوا على كل أمير مائة ثلاثة نفر، وعلى كل أمير طبلخاناه اثنين، وعلى كل أمير عشرة واحدا، ومن لم يكن من الأمراء عنده إقطاع محلول يرتب للواحد منهم مائة درهم وأردبين غلة في الشهر. فمن الأمراء من قبل، ومنهم من أبى أن يقبل منهم أحداً وفيه تراسل المماليك الجراكسة والأمير حسين بن الناصر محمد على أن يقيموه سلطانا، فقبض على أربعين من الجراكسة، وأخرجوا على الهجن مفرقين إلى البلاد الشامية ثم قبض على ستة، وضربوا قدام الإيوان بالقلعة ضرباً مبرحاً، وقيدوا وحبسوا بخزانة شمايل.
ثم عملت الخدمة بالإيوان، وتم الاتفاق على أن الأمراء إذا أنفضوا من خدمة الإيوان دخل أمراء المشورة المقدمين إلى القصر، دون من عداهم من بقية الأمراء، ونفذوا الأمور على اختيارهم، من غير أن يشاركهم أحد من الأمراء في ذلك. وكانوا إذا حضروا الخدمة بالإيوان خرج الأمير منكلى بغا الفخري، والأمير بيغرا، والأمير بيبغا ططر، والأمير طيبغا المجدى، والأمير أرلان، وسائر الأمراء، فيمضون لحالهم إلا أمراء المشورة والتدبير، وهم الأمير بيبغا النائب والأمير شيخو العمري، والوزير منجك، والأمير ألجيبغا المظفري، والأمير طاز، والأمير طنيرق، فإنهم يدخلون إلى القصر وينفذون أحوال الدولة بين يدي السلطان، بمقتضى علمهم وحسب اختيارهم، فتمضي الأمور على ذلك، ولا يشاركهم أحد في شيء من أحوال الدولة.
وفيه قدم الأمير كشلى الإدريسي من حلب، في تاسع عشره، بكتاب الأمير أرقطاى نائب حلب أنه قدمها في ثانيه؛ فكانت جملة ما أنعم به عليه من ذهب وخيل وقماش نحو مائة ألف درهم.
وفيه كتب لنائب الشام أرغون شاه أن يعمل برأيه في نيابة دمشق، ويتحكم في جميع الأحوال من غير مشاورة.
وفي مستهل ذي الحجة: قدم الأمراء المجردون الوجه القبلي، وقد أثروا آثارا قبيحة من سفك الدماء ونهب الأموال بغير حق، فإن أرباب الجرائم فروا في البرية فأوقعوا بأصحاب الزروع.
وفيه كتب لطغيه كاشف الوجه القبلي برمي الشعير على بلاد الأمراء والأجناد، وجباية عشرة آلاف أردب منها بسعر عشرة دراهم الأردب؛ فطلب طغيه مقطعي البلاد، وفرق فيهم المال، ولم يعف أحدا.
واتفق في هذه السنة حدوث حر شديد لم يعهد مثل بأرض مصر مدة أيام، ثم أعقب الحر ريح من جهة برقه مرت ببلاد البحيرة والغربية تحمل ترابا أصفر بلون الزعفران لبس الزرع لبساً حتى أيس الناس منه. فبعث الله مطراً مدة يوم وليلة غسلت ذلك التراب كله فأصبح من غد يوم المطر وقد جاء تراب أصفر أشد من الأول والزرع مبتل، فلصق بالزروع واستمر عليها. وقد خامر اليأس من الزروع قلوب الناس، وتيقنوا الهلاك، فتدارك الله الناس بلطفه، وبعث نداً كثيراً في الأسحار، فأنحل التراب عن أخره، ولما أدركت الغلال لحقها بعض الهيف.
وفيه قدم كثير من أهل دمشق للسعي من باب الوزير منجك في المباشرات، منهم ابن السلعوس، وصلاح الدين بن المؤيد وابن الأجل، وابن عبد الحق، فولى ابن الأجل نظر الشام وتوجه إلى دمشق، فضربه الأمير أرغون شاه نائب الشام ضرباً مؤلماً، وأخذ خلعته، وكتب بسببه إلى مصر يغض منه؛ فرسم أن من طلب وظيفة بغير كتاب نائب الشام شنق وأخذ ماله.
وفيه استقر جمال الدين محمد بن زين الدين عبد الرحيم المسلاتي في قضاء المالكية بدمشق، عوضاً عن شرف الدين محمد بن أبي بكر بن ظافر بعد وفاته.
وفي هذه السنة: استجد بمدينة حلب قاض مالكي وقاض حنبلي، فولى قضاء المالكية بها شهاب الدين أحمد بن ياسين الرباحي، وولي قضاء الحنابلة بها شرف الدين أبو البركات موسى بن فياض ولم يكن بها قبل ذلك مالكي ولا حنبلي، فاكتمل بها أربعة قضاة.
وفيها كان الغلاء بأرض مصر والشام، حتى بيعت غرارة القمح في دمشق بثلاثمائة درهم؛ ثم أنحط السعر.
وفيها توقف النيل في أوائل أيام الزيادة، فارتفع سعر الغلال. ثم توالت الزيادة حتى كان الوفاء في رابع جمادى الأولى، وهو تاسع مسرى، وانتهت الزيادة إلى ستة عشر ذراعاً واثنين وعشرين إصبعاً. ثم تناقص النيل نحو سبع أصابع إلى عيد الصليب، فرد نقصه وزاد حتى بلغ سبعة عشر وخمس أصابع. هذا وسعر الغلة يتزايد إلى أن بلغ الأردب ستين درهم، ثم تناقص حتى بيع بعشرين درهما.
ومات فيها من الأعيان تقي الدين أحمد بن الجمال سليمان بن محمد بن هلال الدمشقي، بها في ليلة الجمعة سادس رجب. وقد ولي بدمشق وكالة بيت المال والحسبة وتوقيع الدست، ثم نظر النظار؛ وقدم القاهرة غير مرة.
ومات الأمير آقسنقر الناصرى مقتولا، في يوم الأحد تاسع عشر ربيع الآخر وكان السلطان الناصر محمد قد اختص به، وزوجه ابنته، وجعله أمير شكار، ثم نائب غزة وأعيد بعده في أيام الصالح إسماعيل في مصر، وعمل أمير آخور. ثم استقر في نيابة طرابلس مدة، وأحضر إلى مصر في أيام شعبان الكاملي، وعظم قدره ودبر الدولة في أيام المظفر حاجي حتى قتله. وكان كريماً شجاعاً، وإليه ينسب جامع آقسنقر بخط التبانة قريباً مكن القلعة.
ومات الأمير بيدمر البدري مقتولا بغزة، في أوائل جمادى الآخر. وهو أحد المماليك الناصرية، وولي نيابة حلب، واليه تنسب المدرسة الأيدمرية بالقاهرة قريباً من المشهد الحسيني.
وتوفي قاضى الحنفية بدمشق عماد الدين على بن محيى الدين أحمد بن عبد الواحد ابن عبد المنعم بن عبد الصمد الطرسوسي، عن تسع وسبعين سنة، بعدما ترك القضاء لولده وانقطع بداره.
ومات أمير علي بن الأمير قراسنقر.
وتوفي قاضى المالكية وشيخ الشيوخ بدمشق شرف الدين محمد بن أبي بكر بن ظافر عبد الوهاب الهمداني، في ثالث الحرم عن ثلاث وسبعين سنة.
وتوفي الحافظ شمس الدين بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي صاحب التصانيف الكثيرة في الحديث والتاريخ وغير ذلك، في ثالث ذي القعدة ومولده في ربيع الآخر سنة ثلاث وسبعين وستمائة.
ومات الأمير الوزير نجم الدين بن علي بن شروين، المعروف بوزير بغداد، مقتولا بغزة في أوائل جمادى الآخر. قدم من بغداد إلى القاهرة، وولي الوزارة ثلاث مرات فشكرت سيرته، وعرف بالمكارم. وله خانكاه بالقرافة، بجوار تربة كافور الهندي.
ومات قوام الدين مسعود بن محمد بن سهل، الكرماني الحنفي بدمشق، وقد جاوز الثمانين سنة؛ وكان بارعاً في الفقه والنحو والأصول، وله شعر.
ومات الأمير نجم الدين داود بن أبي بكر بن محمد بن الزيبق، بدمشق في سادس رجب؛ وتنقل في ولايات مصر والشام.
ومات أمير بني عقبة بدر الدين شطي بن عبية، ليلة عيد الأضحى؛ وأنعم على ولديه أحمد ونصير بإمرته.
ومات الأمير طرنطاى البشمقدار، في شعبان.
ومات الأمير ملكتمر الحجازي مقتولا، في تاسع عشر ربيع الآخر. وكان من مماليك شمس الدين أحمد بن يحيى بن محمد بن عمر الشهرزوري، فبذل له فيه السلطان الناصر محمد زيادة على مائة ألف درهم، حتى ابتاعه له منه المجد السلامي بمكة، لما حج ابن الشهرزورى. وقدم به المجد السلامي إلى السلطان الناصر محمد فلم ير بمصر أحسن منه ولا أظرف، فعرف بالحجازي، وحظى عند السلطان حتى زوجه بابنته، وكان مدمن الخمر مرتبه منه في كل يوم زنة خمسين رطلاً. لم تسمع منه كلمة فحش قط، ولا توسط بسوء أبدا، مع سخاء النفس وعدم الشر.
ومات الأمير طغيتمر النجمي الدوادار، صاحب الخانكاه النجمية خارج باب المحروق.
ومات الأمير يلبغا اليحياوي نائب الشام قتلا، بقاقون وهو من المماليك الناصرية الذين شغف بهم السلطان الناصر محمد، وعمر له الدار العظيمة التي موضعها الآن مدرسة السلطان حسن، وولي نيابة حلب، ثم نيابة دمشق، وعمر بها الجامع المعروف بجامع يلبغا بسوق الخيل، ولم يكمله، فكمل بعد موته. وكان كريما، يبلغ إنعامه في كل سنة على مماليكه مائة وعشرين فرسا وثمانين حياصة ذهب.
ومات إسماعيل وأولاده قتلا بالإسكندرية.
ومات الأمير أرغون العلائي أحد المماليك الناصرية. رقاه السلطان الملك الناصر محمد، وزوجه أم ابنيه شعبان وإسماعيل، وعمله لالا أولاده فدبر الدولة في أيام ربيبه الصالح إسماعيل، وشكرت سيرته، ثم قام بدولة شعبان الكامل حتى قتل، وإليه تنسب خانكاه العلائي بالقرافة. وكان كريما، ينعم في السنة. بمائتين وثلاثين فرسا، ومبلغ أربعين ألف دينار، على الأمراء، وغيرهم.
وقتل أيتمش عبد الغني، وتمر وقراجا، وصمغار.
وقتل بقلعة الجبل الأمير شجاع الدين غرلو، في خامس عشر جمادى الآخرة. وكان من أرمن قلعة الروم، ويدعى أنه جركسي الجنس. وقدم مصر، وخدم في جملة أوجاقية الأمير بهادر المغربي، وصار بعده أوجاقيا عند الأمير بكتمر الساقي، ثم عمله أمير آخور حتى مات بكتمر ثم خدم الأمير بشتاك، ثم تنكر عليه بشتاك، وضربه لتحامقه، وأخرجه فولى ولاية أشمون، ثم استقر في ولاية القاهرة، وانتقل إلى وظيفة شاد الدواوين، وأحدث مظالم كثيرة. وجمع الجراكسة على المظفر حاجي، لأنهم من جنسة وعظم في الدولة المظفرية حتى قتل كما تقدم.
وقتل السلطان المظفر حاجي في مدة أربعين يوماً أحداً وثلاثين أمير، منهم أحد عشر أمراء ألوف.
وقتل متملك تونس أبو حفص عمر بن أبي بكر بن يحيى بن إبراهيم بن يحيى بن عبد الواحد بن أبي حقص، في جمادى الآخرة؛ فكانت مدته نحواً من أحد عشر شهراً وكان قد بويع أخوه العباس أحمد، في تاسع رمضان سنة سبع وأربعين، ثم قتل بعد سبعة أيام.
ومات الشيخ حسن بن النوين أرتنا ملك الروم، في شوال.