فصل: سنة خمس وثلاثين وثمانمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة أربع وثلاثين وثمانمائة:

أهل شهر الله المحرم بيوم الأربعاء: والأسعار رخيصة؛ القمح كل أردبين- وشيء- بدينار، والشعير والفول كل أربعة أرادب بدينار هرجة.
وفي يوم الخميس عاشره- وثاني بابة-: انتهت زيادة النيل إلى تسعه عشر ذراعاً وعشرين إصبعاً، ونقص من الغد.
وفي ثامن عشره: قدم الأمراء المجردون، وهم قرقماش حاجب الحجاب، وأركماس الدوادار، وبقية الأمراء.
وفي ثالث عشرينه: قدم ركب الحاج الأول، وقدم المحمل ببقية الحاج في رابع عشرينه، وقد هلك كثير منهم- ومن جمالهم وحميرهم- عطشاً فيما بين أكره وينبع، وهم متوجهون إلى مكة.
وفي سابع عشرينه: برز الأمراء المجردون إلى ظاهر القاهرة، وهم الأمير الكبير شارقطلوا، والأمير أينال الجكمي، والأمير تمراز الدقماقي، والأمير أقبغا التمرازي، والأمير مراد خجا، في عدة من أمراء الطبلخاناه والعشرات، ومن المماليك السلطانية خمسمائة مملوك، وسبب تجردهم أن قرا يلك نزل في أول هذا الشهر على معاملة ملطية فنهبها وحرقها، وحصر ملطية، فخرج إليه الأمير سودن من عبد الرحمن نائب الشام بالعساكر الشامية، وأردف بالعسكر المذكور.
شهر صفر، أوله الجمعة: فيه رسم بعود الأمراء والمماليك المجردين فرجعوا من خانكاه سريا قوس، واستعيدت منهم النفقات التي أنفقت فيهم، فاحتاجوا إلى رد الأمتعة والأزواد على من ابتاعوها منهم، واحتاجوا إلى استعادة ما أنفقوه على غلمانهم، وقد تصرف الغلمان فيما أخذوه، فاشتروا منه احتياجهم، ودفعوا منه إلى أهاليهم، فنزل من أجل هذا بالناس ضرر كبير. وفي هذا الشهر: نزل الفول إلى خمسين درهماً الأردب، والشعير إلى ستين درهماً الأردب، والقمح إلى مائة وثلاثين درهماً الأردب. هذا والذهب. بمائتين وثمانين درهماً الدينار. وفي يوم الاثنين حادي عشره ركب السلطان من قلعة الجبل في موكب جليل ملوكي، احتفل له، ولبس قماش الركوب كما كان يلبس الظاهر برقوق، وهو قباء أخضر. بمقلب أحمر، وعلى رأسه كلفتاه، وجر الجنائب، وصاحت الجاويشية وهو سائر، وحوله الطبردارية، حتى عبر من باب زويلة، فشق القاهرة وخرج من باب الشعرية يريد الصيد، فبات ليلة الثلاثاء وعاد يوم الثلاثاء آخر النهار. ولم يركب منذ تسلطن للصيد سوى هذه الركبة.
وكانت الدراهم الأشرفية التي يتعامل الناس بها في القاهرة ومصر، ويصرف كل درهم منها بعشرين من الفلوس- زنتها رطل وأوقية وثلث أوقية- قد كثر فيها أنواع من الدراهم، وهي البندقية ضرب الفرنج، والقرمانية ضرب بني قرمان أصحاب الروم، واللنكية ضرب بلاد العجم، والقبرسية ضرب قبرس، والمؤيدية التي ضربت في الأيام المؤيدية شيخ، والدراهم الزغل وهي عمل الزغلية فترد عند النقد لكثرة ما فيها من الغش، فنودي في يوم الأحد رابع عشرينه أن لا يتعامل بشيء من الدراهم سوى الأشرفية. وكان قد نودي. بمثل ذلك فيما تقدم، وعمل به الناس مدة، ثم ترخصت الباعة في التعامل بها كلها، لما جمعوه منها في أيام النهي عنها، حتى مشت في أيدي الناس، وتعاملوا بها، فلما نودي بالمنع منها عاد الأمر كما كان، فخسر أناس عدة خسارات، وأخذت الباعة وغيرها في جمعها لتتربص بها مدة، ثم تخرجها شيئاً فشيئاً، لعلمهم أن الدولة لا تثبت على حال، وأن أوامرها لا تمضي.
في خامس عشرينه: ركب السلطان للصيد، ورمي الجوارح، وعاد من الغد. وتكرر ركوبه لذلك مراراً.
وفي هذا الشهر: توقف التجار في أخذ الذهب، من كثرة الإشاعة بأنه ينادي عليه، فنودي في يوم السبت سلخه أن يكون سعر الدينار الأشرفي. بمائتين وخمسة وثلاثين، والمشخص بمائتين وثلاثين، وهدد من زاد على ذلك بأن يسنبك في يده، فعاد الضرر في الخسارة على كثير من الناس، لانحطاط سعر الدينار خمسين درهماً.
شهر ربيع الأول، أوله السبت: في رابعه: جمع الصيارفة والتجار، وأشهد عليهم أن لا يتعاملوا بالدراهم القرمانية، ولا الدراهم اللنكية، ولا القبرسية، وأن هذه الثلاثة أنواع تباع بالصاغة على حساب وزن كل درهم منه بستة عشر درهماً من الفلوس، حتى يدخل بها إلى دار الضرب، وتعمل دراهم أشرفية خالصة من الغش، ونودي بذلك وأن تكون المعاملة بالدراهم الأشرفية والدراهم المؤيدية، والدراهم البندقية، فإن هذه الثلاثة فضة خالصة ليس فيها نحاس بخلاف الدراهم التي منع من المعاملة بها، فإن عشرتها إذا سبكت تجيء ستة، لما فيها من النحاس. واستقر الذهب الأشرفي. بمائتين وثمانين، والأفرنتي. بمائتين وسبعين، وأخذت الدنانير الأفرنتية في القلة، لكثرة ما يسبك منها في دار الضرب، وتعمل دنانير أشرفية، فإنها بوزن الأفرنتية، وسعرها عشرة دراهم على الأفرنتي.
في تاسعه: ركب السلطان للصيد، وعاد من الغد.
شهر ربيع الآخر، أوله الأحد: أهل هذا الشهر والسلطان والأمراء في الاهتمام بحركة السفر لمحاربة قرا يلك والأسعار رخيصة جداً.
وفي سادسه: برز الأمير شاهين الطويل- أحد الأمراء العشرات- ليسير إلى طريق الحجاز، ومعه كثير من البناة والحجارين والآلات والأزواد والأمتعة، لإصلاح المياه التي فيما بين القاهرة ومكة، وحفر آبار في المواضع المعطشة، فساروا في نحو المائة بعير.
وفي سابعه: نودي بأن الفضة على ما رسم به، وأن لا يتعامل بالقرمانية ولا اللنكية، وأن الدينار الأشرفي بمائتين وثلاثين، والأفرنتي بمائتين وخمسة وعشرين. وحذر من خالف ذلك، فتزايدت المضرة لكثرة التناقض، وعدم الثبات على الأمر، واستخفاف العامة براعيها، وقلة الاهتمام بما يرسم به.
شهر جمادى الأولى، أوله الثلاثاء: في سابعه: برز سعد الدين إبراهيم بن المرة ناظر جدة يريد التوجه إلى مكة فسار معه ركب فيه جماعة ممن يريد الحج والعمره، تبلغ عدة جمالهم نحو الألف وخمسمائة جمل، ثم رفعوا من بركة الحاج في ثاني عشره، فلما وصلوا إلى الوجه- وكنت فيهم بأهلي- وجدنا فيما بين الوجه وأكره عدة موتى، ما بين رجال ونساء، ممن هلك في عطشة الحاج، فدفن منهم نحو الألف، وترك ما شاء الله.
وفي رابع عشرينه: خلع على قاضي القضاة شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن حجر، وأعيد إلى قضاء القضاة بديار مصر، عوضاً عن قاضي القضاة علم الدين صالح ابن البلقيني.
شهر جمادى الآخرة، أوله الأربعاء:
في تاسع عشره: عارض ركب المعتمرين رفقة ابن المرة عرب زبيد، فانحنا في غير وقت النزول، وكادت الفتنة أن تثور، حتى صولحوا على مائة دينار، قام بها ابن المرة من ماله، ولم يكلف أحد وزن شيء، فلما نزلنا رابغ أهلينا بالعمرة، ونحن على تخوف وسرنا، فبينما نحن فيما بين الجرينات وقديد أغار علينا، ونحن سائرون ضحى، الشريف زهير بن سليمان بن زيان بن منصور بن جماز بن شيحة الحسيني، في نحو مائة فارس وعدة كثيرة من المشاة، وقاتلنا فقاتله القوم صدراً من النهار، والجمال مناخة بأحمالها، فقتل منا رجلان، ومن العرب نحو العشرة، وجرح كثير، ثم وقع الصلح معه على ألف ومائة دينار أفرنتية، وعلى ثياب جوخ وصوف وعبي بنحو أربعمائة دينار، فكف الناس عن القتال بعد ما تعين الظفر لزهير، وبتنا بأنكد ليلة من شدة الخوف، والمال يجبى من كل أحد بحسب حاله، فمنهم من جبي منه مائة دينار، ومنهم من أخذ منه دينار واحد، وحمل ذلك من الغد، وسرنا فقدمنا مكة ولله الحمد في يوم الثلاثاء ثامن عشرينه، فكانت مدة سيرنا من القاهرة إلى مكة- شرفها الله تعالى- ستة وأربعين يوماً.
وفي هذا الشهر: استقر جانبك الناصري الإسكندرية، بعد موت الأمير شهاب الدين أحمد الدوادار، وأصله من مماليك الأمير يلبغا الناصري، ثم عمل في الأيام المؤيدية رأس نوبة المقام الناصري إبراهيم ابن السلطان، وصار من جملة الأمراء وولي كشف الجسور بالغربية.
وفيه أندر المنجمون بكسوف الشمس، فنودي بالقاهرة أن يصوم الناس ويفعلوا الخير، فلم يظهر الكسوف، ووقع الإنكار على من أنذر به، ثم قدم الخبر بحدوث كسوف الشمس بجزيرة الأندلس، حتى استولى على جرم الشمس كله، إلا مقدار الثمن منه، وذلك بعد نصف النهار من ثامن عشرينه.
شهر رجب، أوله السبت: في سابع عشره: أدير محمل الحاج على العادة.
شهر شعبان، أوله الاثنين:
في حادي عشره: كانت زلزلة عظيمة شديدة، بعد صلاة الظهر، بجزيرة الأندلس، وبمرج أغرناطة، سقطت بها أبنية كثيرة على سكانها فهلكوا، وخسف بثلاث بلاد كبيرة في مرج أغرناطة- وهي بلد همدان وبلد أوطورة وبلد دارما- فابتلعت الأرض هذه البلاد بأناسها وبقرها وغنمها وسائر ما فيها، حتى صار من يمر من حولها يقول كان هنا بلد كذا وبلد كذا، وانخسف في كثير من البلاد عدة مواضع، وسقط نصف قلعة أغرناطة، وتهدم كثير من الجامع الأعظم، وسقط أعلى منارته، ورؤى حائط الجامع يرتفع ثم يرجع، ومقدار ارتفاعه نحو عشرة أذرع، ارتفع كذلك مرتين، وخاف رجل عند حدوث الزلزلة، فأخذ ابنه وأراد أن يخرج من باب داره، فالتصق جانبا الباب، وانفرج الحائط فخرج من ذلك الفرج هو وابنه وامرأته، فعاد الحائط كما كان، وتراجع جانبا الباب إلى حالهما قبل الزلزلة، وأقامت الأرض بعد ذلك نحو خمسة وأربعين يوماً تهتز، حتى خرج الناس إلى الصحراء ونزلوا في الخيم خوفاً من المدينة أن تسقط مبانيها عليهم، وكان هذا كله بعد وصول السلطان المخلوع أبي عبد الله محمد الأيسر من تونس إلى الأندلس، وحصره قلعة أغرناطة سبعة أشهر، وقتله الأجناد والرجال حتى فنيت العدد والأموال، فبلغ ذلك ملك قشتالة الفنشي فجمع عساكره من الفرنج، وركب البحر إلى قرطبة يريد أخذ أغرناطة من المسلمين، فاشتد البلاء عليهم لقلة المال بأغرناطة، وفناء عسكرها في الفتنة، وموت من هلك في الزلزلة، وهم زيادة على ستة آلاف إنسان، ونزل الفرنج عليهم، فلقوهم في يوم الجمعة عاشر رمضان من هذه السنة، وقاتلوهم يومهم ومن الغد، قتل من المسلمين نحو الخمسة عشر ألف، وألجأهم العدو إلى دخول المدينة، وعسكر بإزائها على بريد منها، وهم نحو خمسمائة وثمانين ألف، وقد اشتد الطمع في أخذها، فبات المسلمون ليلة الأحد في بكاء وتضرع إلى الله، ففتح عليهم الله تعالى، وألهمهم رشدهم، وذلك أن الشيخ أبا زكريا يحيى بن عمر ابن يحيى بن عمر بن عثمان بن عبد الحق- شيخ الغزاة- خرج من مدينة أغرناطة في جمع ألفين من الأجناد، وعشرين ألفاً من المطوعة، وسار نصف الليل على جبل الفخار. حتى أبعد عن معسكر الفرنج إلى جهة بلادهم، ورفع إمارة في الجبال يعلم بها السلطان بأغرناطة، فلما رأى تلك العلامات من الغد خرج يوم الأحد، بجميع من بقي عنده إلى الفرنج، فثاروا لحربهم، فولى السلطان بمن معه من المسلمين، كأنهم قد انهزموا، والفرنج، تتبعهم، حتى قاربوا المدينة، ثم رفعوا الأعلام الإسلامية، فلما رآها الشيخ أبو زكريا نزل بمن معه إلى معسكر الفرنج، وألقي فيه النار، ووضع السيف فيمن هنالك، فقتل وأسر وسبى، فلم يدع الفرنج إلا والصريخ قد جاءهم، والنار ترتفع من معسكرهم، فتركوا أهل أغرناظة ورجعوا إلى معسكرهم، فركب السلطان بمن معه أقفيتهم، يقتلون ويأسرون، فبلغت عدة من قتل من الفرنج ستة وثلاثون ألفاً، ولحق باقيهم ببلادهم، بعد ما كادوا أن يملكوا أغرناطة.
وبلغت عدة من أسر المسلمون من الفرنج نحو اثني عشر ألفاً، ويقول المكثر إنه قتل ومات وأسر من الفرنج في هذه الكائنة زيادة على ستين ألفاً. وكان سبب هذه الحادثة أنه وقع بين ملك القطلان صاحب برجلونة، وبين ملك قشتالة صاحب أشبيلية وقرطبة، فجمع القشتيلي، وسار لحرب القطلاني، حتى تلاقى الجمعان، فمشى الأكابر بين الملكين في الصلح، فاعتذر القشتيلي بأنه أنفق في حركته مالاً كثيراً، فأشير عليه بأخذ ما أنفقه من المسلمين، بأن يغزوهم فإنهم قد ضعفوا، وما زالوا حتى تقرر الصلح، ونزل على أغرناطة، وكان ما تقدم ذكره.
وفي شهر رمضان: هذا ابتدأت في إسماع كتاب إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأحوال والحفدة والمتاع صلى الله عليه وسلم من أول يوم فيه بقراءة- المحدث الفاضل تقي الدين محمد بن محمد بن فهد الهاشمي، بالمسجد الحرام تجاه الميزاب، وكان جمعاً موفوراً. شهر شوال، أوله الثلاثاء: في يوم الأربعاء تاسعه- الموافق لسادس عشرين بؤونة-: أخذ قاع النيل، فجاء ستة أذرع وثلاثة أصابع، ونودي عليه من الغد بزيادة ثلاثة أصابع، واستمرت الزيادة.
وفي حادي عشرينه: خرج محمل الحاج إلى الريدانية خارج القاهرة، صحبة الأمير قرا سنقر، ورفع منها إلى بركة الحجاج، وحج القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش، عظيم الدولة ومدبرها، وحجت خوند جلبان زوجة السلطان أم ولده، في تجمل كبير بحسب الوقت.
وفي هذا الشهر: اتفقت حادثة غريبة، وهو أنه اجتمع بأجران كوم النجار بالغربية، من الفيران، عدد لا يحصيه إلا الله تعالى، واقتتلوا من العصر إلى قريب عشاء الآخرة، فوجد من الغد نحو خمسة آلاف فار ميت، فجمعوا، وأحرقوا، وأفسد الفار مقاتي البطيخ ونحوه، وأكلوا الغلال وهي في سنبلها، وأكلوا أكثر ما في جرون نواحي الغربية، بحيث أن بعض النواحي لم ترد بذارها وكان يجتمع في المواضع الواحد أكثر من ثلاثمائة فأر.
شهر ذي القعدة، أوله الخميس: في يوم الاثنين ثاني عشره- الموافق له تاسع عشرين أبيب-: كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً. وركب الأمير قرقماس حاجب الحجاب حتى خلق المقياس وفتح الخليج على العادة.
وفيه زاد النيل اثني عشر إصبعاً من الذراع السابعة عشر، وفي هذا نادرتان من نوادر النيل، إحداهما الوفاء قبل مسرى، وقد أدركنا ذلك وقع مرتين. والثانية زيادة هذا القدر في يوم الوفاء ولم يدرك مثل ذلك، واستمرت زيادة النيل والنداء عليه في كل يوم.
وفي هذا الشهر: استجد بعيون القصب من طريق الحجاز بئر حفرت بإشارة القاضي زين الدين عبد الباسط، فعظم النفع بها. وذلك أنني أدركت عيون القصب، وتخرج من بين الجبلين ماء يسيح على الأرض، فينبت فيه القصب الفارسي وغيره شيء كثير، ويرتفع في الماء حتى يتجاوز قامة الرجل في عرض كبير، فإذا نزل الحاج عيون القصب أقاموا يومهم على هذا الماء يغتسلون منه ويردون ثم انقطع هذا الماء، وجفت تلك الأعشاب فصار الحاج إذا نزل هناك، احتفروا حفائر يخرج منها ماء رديء إذا بات ليلة واحدة في القرب نتن فأغاث الله العباد بهذه البئر، وخرج ماؤها عذباً. وكان قبل ذلك بنحو شهرين قد حفر الأمير شاهين الطويل بئرين بموضع يقال له زعم وقبقاب وذلك أن الحاج كان إذا ورد الوجه، تارة يجد فيه الماء، وتارة لا يجده. فلما هلك الناس من العطش في السنة الماضية، بعث السلطان بشاهين هذا كما تقدم ذكره، فحفر البئرين بناحية زعم، حتى لا يحتاج الحاج إلى ورود الوجه، فيروي الحاج منهما، وعم الانتفاع بهما، وبطل سلوك الحاج على طريق الوجه من هذه السنة.
شهر ذي الحجة، أوله السبت: في ثاني عشرينه: خلع على تاج الدين عبد الوهاب بن الخطير، واستقر في نظر الديوان المفرد، عوضاً عن الصاحب تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم بعد موته. وابن الخطير هذا من نصارى القبط، وله بيتوته مشهورة. كان اسمه جرجس، وتلقب بالشيخ التاج، وترقى في الخدم الديوانية، وباشر ديوان الأمير برسباي في الأيام المؤيدية شيخ، فألزمه بالإسلام، فأسلم وتسمى تاج الدين عبد الوهاب، وخدم بديوان الخاص وبالديوان المفرد، فلما تسلطن الأشرف برسباي، رقاه، وولاه نظر الاصطبل، عوضاً عن بدر الدين محمد بن مزهر لما ولاه كتابة السر، وأضاف إليه عدة رتب، منها أستادار المقام الناصري ابن السلطان، فشكرت سيرته من عفته وأمانته ورفقه بالفلاحين، ولين جانبه، وحسن سياسته، مع كثرة بره وإحسانه، بحيث لا يوجد في أبناء جنسه من يدانيه فكيف يساويه. وإن أراد الله عمارة البلاد جعل إليه تدبير أمرها.
وفي يوم السبت سلخه: قدم مبشرو الحاج، وقد مات كبيرهم الأمير فارس بينبع، وكان مجرداً. بمكة على طائفة من المماليك، وهو أحد أمراء العشرات.

.ومات في هذه السنة من الأعيان:

مجد الدين إسماعيل بن أبي الحسن بن علي بن عبد الله البرماوي الشافعي، في يوم الأحد خامس عشر ربيع الآخر. ومولده في حدود الخمسين وسبعمائة. مهر في الفقه والعربية، وعدة فنون، وتصدى للأشغال سنين كثيرة، وخطب بجامع عمرو بن العاص بمصر.
ومات الأمير شهاب الدين أحمد الدوادار بن الأقطع نائب الإسكندرية، في يوم الأحد تاسع عشر جمادى الآخرة كان أبوه من الأوشاقية في الاصطبل السلطاني. وترقى أحمد هذا في الخدم حتى اتصل بالأمير برسباي، وعمل دواداره، فرقاه في سلطته، وعمله من جملة الأمراء، ثم ولاه نيابة الإسكندرية.
ومات برهان الدين إبراهيم بن علي بن إسماعيل بن الظريف أمين الحكم، في يوم السبت خامس عشر شوال، عن نحو ستين سنة.
ومات سراج الدين عمر بن منصور البهادري في يوم السبت ثاني عشر شوال وقد برع في الفقه والنحو، وناب في الحكم عن القضاة الحنفية، وانفرد بالتقدم في علم الطب، فلم يخلف بعده مثله.
ومات الصاحب تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم، في يوم الخميس العشرين من ذي الحجة. وقد ولي أستادار وولي الوزارة، ونكب غير مرة.

.سنة خمس وثلاثين وثمانمائة:

شهر الله المحرم، أوله الأحد: في عاشره- الموافق لعشرين مسرى-: انتهت زيادة النيل إلى عشرين ذراعاً واثني عشر إصبعاً، ثم نقص خمسة عشر إصبعاً، وزاد ونقص إلى حادي عشرينه، وهو أول بابه. ثم لم يناد عليه لاستمرار النقص.
وفي ثاني عشرة: قدم الأمير طرباي نائب طرابلس، فأكرمه السلطان وأعاده إلى محل كفالته، فسار بعد خمسة أيام.
وفي ثالث عشرينه: قدم القاضي زين الدين عبد الباسط، وصحبته خوند جلبان، وبقية الركب الأول، وقدم بعدهم من الغد محمل الحاج صحبة الأمير قرا سنقر، وقدمت معهم، وقد عسف الأمير الناس في المسير، مع ما أصابهم من العطش في توجههم.
شهر صفر، أوله الثلاثاء: في خامسه: انتشر بآفاق السماء جراد كثير، كفى الله شره.
وفي نصفه: خلع على الأمير أقبغا الجمالي، وأعيد إلى كشف الوجه القبلي، عوضاً عن مراد خجا، وقد ساءت سيرته، ومبالغته في ظلم الناس.
وقدم الخبر بأن الخراب شمل البلاد من توريز إلى بغداد، مسيرة خمسة وعشرين يوماً بالأثقال، وأن الجراد وقع بتلك البلاد حتى لم يدع بها خضراً، مع شدة الوباء وانتهاب الأكراد ما بقي، وأن الغلاء شنع عندهم حتى أبيع المن من لحم الضأن- وهو رطلان بالمصري- بدينار ذهب، وأبيع لحم الكلب كل من بستة دراهم، وقد كثر الوباء ببغداد والجزيرة وديار بكر، ومع ذلك فقد عظم البلاء بأصبهان بن قرا يوسف بناحية الحلة والمشهد.
شهر ربيع الآخر، أوله الجمعة: في سابع عشره: نزل عدة من المماليك السلطانية- سكان الطباق- من قلعة الجبل، إلى دار الوزير كريم الدين بن كاتب المناخ أستادار، يريدون الفتك به، وكان علم من الليل، فتغيب واستعد، فلم يظفروا به ولا بداره، وعادوا، وقد أفسدوا فيما حوله فسأل الإعفاء من الأستادارية، فأعفى واستدعى الوزير صاحب بدر الدين حسن بن نصر الله في يوم السبت ثالث عشرينه، وخلع عليه، وأعيد إلى الأستادارية. فكان في ذلك موعظة، وهي أن المماليك كانت جراياتهم ولحومهم وجوامكهم وعليقهم مصروفة، ولا يخطر ببال أحد عزل ابن كاتب المناخ لثباته وسداد أمور الديوان في مباشرته، وانقطاع ابن نصر الله في بيته منذ نكب عدة سنين، فألقى الله في نفس ابن كاتب المناخ الخوف من المماليك، حتى طالب الإعفاء، وألهم الله السلطان ذكر ابن نصر الله، فبعث إليه بالقاضي زين الدين عبد الباسط، والوزير كريم الدين، وسعد الدين ناظر الخاص في يوم الأربعاء يسلمون عليه من قبل السلطان، ويعلموه بأنه عينه أستاداراً، فاعتذر بقلة ماله، وتغير أحواله، وهم يرددون سؤاله في القبول، ويشيرون عليه بذلك، ويحذرونه من المخالفة، فاستمهلهم حتى يستخير الله، فتركوه وانصرفوا، فأشار عليه من يثق به أن يقبل فأجاب، وأرسلوا إليه، فوافقهم على رأيهم.
وفي سابع عشرينه: نودي بأن لا يسافر أحد صحبة ابن المرة إلى مكة، فشق ذلك على الناس لتجهز كثير منهم للسفر.
شهر جمادى الأولى، أوله السبت: في ثامنه: خلع على سعد الدين إبراهيم بن المرة خلعة السفر إلى جدة وحذر من أخذ أحد معه، خوفاً عليهم من العرب.
وفي ليلة الجمعة رابع عشره: خسف جرم القمر جميعه مدة ثلاث ساعات من أول الليل.
وفي سادس عشره: ابتدئ بهدم قصر بيسري بين القصرين، وكان قد أخذ رخامه وعمل في داير الأشرفية المستجدة.
وفي خامس عشرينه: ركب السلطان من القلعة، وعبر القاهرة من باب زويلة، ونزل في بيت عظيم الدولة القاضي زين الدين عبد الباسط، ثم ركب منه بعد ساعة إلى بيت سعد الدين إبراهيم ناظر الخاص، فجلس عنده قليلاً، وعاد إلى القلعة، وأكثر في هذا الشهر- بل في هذه السنة- من الركوب وعبور القاهرة، وإلى الصيد والنزهة، بخلاف ما كان عليه أولاً.
وفي سادس عشرينه: حمل القاضي زين الدين عبد الباسط، والقاضي سعد الدين ناظر الخاص إلى السلطان تقادم جليلة.
وفي هذه الأيام: قدم بيرم التركماني الصوفي صاحب هيت فاراً من أصبهان بن قرا يوسف، وقد قتل السلطان حسين، وملك الحلة، فخرج بيرم من هيت في ستمائة من أصحابه، فيهم ثلاثمائة فارس، فلقيته غزية عرب تلك البلاد، فأخذوا من كان معه، وكان جمعاً غفيراً ما بين تجار وغيرهم ونجا في طائفة معه، فأكرمه السلطان، وأنزله وأجرى له راتباً يليق به، ثم أقطعه بناحية الفيوم إقطاعاً معتبراً.
شهر جمادى الآخرة، أوله الاثنين: في ثانيه: عزل الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، ورسم لأقبغا الجمالي كاشف الوجه القبلي أن يتحدث في وظيفة الأستادارية، ثم خلع عليه من الغد، ولزم ابن نصر الله داره. وسبب ذلك لما بلغ أقبغا عزل ابن كاتب المناخ من الأستادارية سأل في الحضور، فأجيب، وقدم، فسعى في الأستادارية على أن يحمل عشرة آلاف دينار، إن سافر السلطان إلى الشام حمل معه نفقة شهرين، وهي مبلغ أربعين ألف دينار، فأجيب، وأبقى الكشف أيضاً معه، وأضيف إليه كشف الوجه البحري.
وفي عاشره: برز سعد الدين بن المرة يريد السفر إلى جدة، ثم رحل في ثاني عشره، ولم يمكن أحداً من السفر معه، فلم يتمكن إلا إلزامه وحاشيته.
وفي سابع عشرينه: خلع على بدر الدين محمود العينتابي، وأعيد إلى قضاء القضاة الحنفية، عوضاً عن زين الدين عبد الرحمن التفهني، وقد طالت مدة مرضه، فباشر القضاء والحسبة ونظر الأحباس جميعاً.
شهر رجب، أوله الثلاثاء: فيه خلع على الأمير صلاح الدين أستادار ابن الأمير الوزير الصاحب بدر الدين حسن ابن نصر الله، واستقر محتسب القاهرة، عوضاً عن قاضي القضاة بدر الدين محمود العنتابي. وكان الأمير صلاح الدين- منذ نكب هو ووالده- ملازماً لداره، وعمل مع الحسبة حاجباً.
وفي ثالثه: أدير محمل الحاج على العادة، إلا أنه عجل به في أول الشهر لأجل حركة السلطان إلى سفر الشام، فإنه تجهز لذلك هو وأمراؤه.
وفي عشرينه: قدم الأمير سودن من عبد الرحمن نائب الشام باستدعاء، وقدم معه قاضي كمال الدين محمد بن البارزي كاتب السر بدمشق، فباتا في تربة الظاهر برقوق خارج القاهرة، وصعدا من الغد إلى قلعة الجبل، وقبلا الأرض، فلما انقضت الخدمة نزل النائب إلى بيته ولم يخلع عليه، فعلم أنه معزول، وخلع عليه من الغد واستقر أميراً كبيراً عوضاً عن الأمير شارقطلوا، وخلع على شارقطلوا واستقر عوضه في نيابة الشام، ورسم بإبطال الحركة إلى السفر، فبطلت.
شهر شعبان، أوله الأربعاء: فيه خلع على الأمير شارقطلوا نائب الشام خلعة السفر، وتوجه إلى مخيمه خارج القاهرة، وخلع على القاضي كمال الدين بن البارزي خلعة السفر، ثم خلع عليه من الغد يوم الجمعة ثالثه، واستقر قاضي القضاة الشافعية بدمشق، عوضاً عن شهاب الدين أحمد بن المحمرة، مضافاً لما بيده من كتابة السر، ولم يعهد مثل ذلك في الجمع بين القضاء وكتابة السر، إلا أنه أخبرني- أدام الله رفعته- أن والده المرحوم ناصر الدين محمد بن البارزي جمع بين قضاء حماة وكتابة السر بها.
شهر رمضان، أوله الخميس: في يوم الثلاثاء ثالث عشره: خلع على الأمير أقبغا الجمالي أستادار، وسبب ذلك أنه سافر إلى بلاد الصعيد، فعاث في البلاد عيث الذئب في زريبة غنم، فصادر أهلها وعاقبهم أشنع عقوبة، حتى أخذ أموالهم، وتعتع ما بقي من الإقليم، فشنعت القالة فيه، فوعد لما قدم أن يحمل عشرين ألف دينار، فحاققه القاضي تاج الدين عبد الوهاب بن الخطير ناظر الديوان المفرد على ما أخذ من أموال النواحي، حتى تسابا بين يدي السلطان، فرسم بمحاسبته، فحقق في جهته خمسة عشر ألف دينار، فخلع عليه تقوية له، ونزل على أنه يحمل ما وجب عليه.
وفي هذه الأيام: أوقعت الحوطة على فلفل التجار بالقاهرة ومصر والإسكندرية، ليشتري للسلطان من حساب خمسين ديناراً الحمل، وكان قد أبيع عليهم فلفل السلطان في أول هذه السنة بسبعين ديناراً الحمل، ورسم بأن يكون الفلفل مختصاً بمتجر السلطان، لا يشتريه من تجار الهند الواردين إلى جدة غيره، ولا يبيعه لتجار الفرنج القادمين إلى ثغر الإسكندرية سواه، فنزل بالتجار من ذلك بلاء كبير.
وفي سادس عشرينه: خلع على دولات خجا، واستقر في ولاية القاهرة، عوضاً عن التاج الشويكي وأخيه عمر. ودولات هذا أحد المماليك الظاهرية، وولي كشف الوجه القبلي فتعدى الحدود في العقوبات، وصار ينفخ بالكير في دبر الرجل حتى تنذر عينيه وتنفلق دماغه إلى غير ذلك من سيء العذاب، ثم ولي كشف الوجه البحري، وكان التاج قد ترفع عن مباشرة الولاية، وأقام فيها أخاه عمر، فشره في المال، حتى كان كلما أتاه أحد بسارق أخذ منه مالاً وخلى عنه، فأمن السراق في أيامه على أنفسهم، وصاروا له رعية يجبى منهم ما أحب، فلما ولي دولات خجا بدأ بالإفراج عن أرباب الجرائم من سجنهم، وحلف لهم أنه متى ظفر بأحد منهم وقد سرق ليوسطنه، رهب إرهاباً زائداً، وركب في الليل، وطاف، وأمضى وعيده في السراق، فما وقع له سارق إلا وسطه، فذعر الناس منه.
وفيه خلع على عمر أخي التاج، واستقر من جملة الحجاب، ليرتفق بمطالع العباد على بلوغ أغراضه ونيل شهواته.
وأكثر دولات خجا من الركوب ليلاً ونهاراً بفرسانه ورجالته، وألزم الباعة بكنس الشوارع، ثم رشها بالماء، وعاقب على ذلك، ومنع النساء من الخروج إلى الترب في أيام الجمع.
وفي هذا الشهر: أجريت العين حتى دخلت إلى مكة، بعد ما ملأت البرك داخل باب المعلاه، ومرت على سوق الليل إلى الصفا وانتهت إلى باب إبراهيم، وساحت من هناك فعم النفع بها، وكثر الخير، لشدة احتياج الناس بمكة، إلى الماء، وقلته أحياناً، وغلاء سعره وتولى ذلك سراج الدين عمر بن شمس الدين محمد بن المزلق الدمشقي، أحد التجار وأنفق فيه من ماله جملة وافرة.
شهر شوال، أوله السبت: في ثالثه: قدم النجاب من دمشق بجواب الأمير شارقطلوا نائب الشام يعتذر عن حضور قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن الكشك. وكان قد كتب بحضوره ليستقر في كتابة السر، عوضاً عن شهاب الدين أحمد بن السفاح بعد موته، ويحمل عشرة آلاف دينار، فامتنع من ذلك واحتج بضعف بصره وآلام تعتريه، فاستدعى السلطان عند ذلك الوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ، ورسم له بكتابة السر.
فلما أصبح يوم الثلاثاء رابعه: خلع عليه خلعة الوزارة، واستقر في كتابة السر مضافاً إلى الوزارة، ولم يقع مثل ذلك في الدولة التركية أنهما اجتمعا لواحد، فنزل في موكب جليل إلى الغاية، وباشر مع بعده عن صناعة الإنشاء وقلة دربته بقراءة القصص والمطالعات الواردة من الأعمال، غير أن الكفاءة غير معتبرة في زماننا، بحيث أن بعض السوقة ممن نعرفه ولي كتابة السر بحماة على مال قام به، وهو لا يحسن القراءة ولا الكتابة، فكان إذا ورد عليه كتاب وهو بين يدي النائب لا يقرأه مع شدة الحاجة إلى قراءته، ليعلم ما تضمنه، ثم يمضي إلى داره حتى يقرأه له رجل أعده عنده لذلك، ثم يعود إلى النائب فيعلموه بمضمون الكتاب، وتداعى بالقاهرة خصمان عند كبير من قضاتها، فقضي على المدعي عليه، فقال له ما معناه أنه حكم بغير الحق، فأمر بإخراجهما حتى ينظر في مسألتهما، ثم طلع بعض كتب مذهبه، فوجد الأمر على ما ادعاه الرجل من خطأ القاضي، فردهما، وقال: وجدنا في الكتاب الفلاني الأمر كما قلت، ولم يبال بما تبين من جهله، ولهذا نظائر لو عددنا ما بلغنا منها، لقام من ذلك سفر كبير مع الحجاب وإعجاب، وفرط الرقاعة، وإلى الله المشتكى.
وفي الخميس ثالث عشره: ابتدأ السلطان بالجلوس في الإيوان بدار العدل من القلعة. وكان قد ترك من بعد الظاهر برقوق الجلوس به في يوم الاثنين والخميس، إلا في النادر القليل، سيما في الأيام المؤيدية شيخ، فتشعث ونسبت عوائده ورسومه، إلى أن اقتضى رأى السلطان أن يجدد عهده، فأزيل شعثه وتتبعت رسومه. ثم جلس فيه، وعزم على ملازمته في يومي الخدمة، ثم ترك ذلك.
وفيه قدم ركب الحجاج المغاربة، وقدم ركب الحاج التكرور أيضاً، وفيهم بعض ملوكهم، فعوملوا جميعاً بأسوأ معاملة من التشدد في أخذ المكوس مما جلبوه من الخيل والرقيق والثياب، وكلفوا مع ذلك حمل مال، فشنعت القالة.
وفي عشرينه: خرج محمل الحاج إلى بركة الحجاج.
وفي حادي عشرينه: أخذ قاع النيل، فكان ستة أذرع، وعشرين إصبعاً.
وفي هذه الأيام: رسم بشراء الغلال للسلطان، فإنها رخيصة، وربما توقفت زيادة النيل، فغلت الغلال، فيكون السلطان أحق بفوائدها، فخرجت المراسيم إلى أعمال مصر بشراء غلال الناس، وألزم سماسرة الغلة بساحل مصر وساحل بولاق أن لا يبيعوا لأحد شيئاً من الغلال، حتى يتكفي السلطان، فكثر من أجل هذا تطلع الناس إلى شراء الغلة، ما كان عدة أشهر وهي كاسدة، وسعر القمح من مائة وثلاثين درهماً الأردب إلى ما دونها، والفول والشعير من ثمانين درهماً الأردب إلى ما دونها، وسائر أسعار المبيعات رخيصة جداً، فالله يحسن العاقبة.
وفي ثاني عشرينه: ابتدئ بالنداء على النيل، فنودي بزيادة أربعة أصابع، وقدم الخبر من مكة المشرفة بأن عدة زنوك قدمت من الصين إلى سواحل الهند، وأرسى منها اثنان بساحل عدن، فلم تنفق بها بضائعهم من الصيني والحرير والمسك وغير ذلك لاختلال حال اليمن، فكتب كبير هذين الزنكين إلى الشريف بركات بن حسن بن عجلان أمير مكة وإلى سعد الدين إبراهيم بن المرة ناظر جدة، يستأذن في قدومهم إلى جدة، فاستأذنا السلطان في ذلك، ورغباه في كثرة ما يتحصل في قدومهم من المال، فكتب بقدومهم إلى جدة وإكرامهم.
شهر ذي القعدة، أوله الاثنين: فيه استدعى قضاة القضاة الأربع، بجميع نوابهم في الحكم بالقاهرة ومصر إلى القلعة، لتعرض نوابهم على السلطان، وقد ساءت القالة فيهم، فدخل القضاة الأربع إلى مجلس السلطان، وعوق نوابهم عن العبور معهم، فانفض المجلس على أن يقتصر الشافعي على خمسة عشر نائباً، والحنفي على عشرة نواب، والمالكي على سبعة، والحنبلي على خمسة، وقد تقدم مثل هذا كثير ولا يتم.
وفي سابعه: خلع على الأمير تاج الدين الشويكي، وأعيد إلى ولاية القاهرة عوضاً عن دولات خجا.
وفي ثامن عشرينه: ورد الخبر بموت جينوس بن جاك صاحب قبرس.
وفيه خلع على عز الدين عبد العزيز بن علي بن العز البغدادي، واستقر في قضاء القضاة الحنابلة بدمشق، عوضاً عن نظام الدين عمر بن مفلح، وخلع عليه من بيت الوزير كاتب السر كريم الدين، ولم يعهد قضاة القضاة يخلع عليهم إلا من عند السلطان، غير أن الوزير أعاد لكنابة السر بعض ما كان من رسومها لوفور حرمته واستبداده، وكان مع ذلك القضاة والفقهاء قد انحط جانبهم، واتضع قدرهم.
شهر ذي الحجة، أوله الثلاثاء: فيه نودي بوفاء النيل ستة عشر ذراعاً وثلاثة أصابع، ووافق ذلك خامس مسرى. وهذا مما يندر وقوعه، فركب الأمير جقمق أمير أخور لفتح الخليج على العادة.
وفي خامس عشرينه: سارت سرية عدتها ستون مملوكاً مع بعض أمراء العشرات إلى قبرس، ومعهم خلعة لجوان بن جينوس باستقراره في مملكة قبرس، عوضاً عن أبيه، نيابة عن السلطان، ومطالبته بما تأخر على أبيه، وهو أربعة وعشرون ألف دينار، وما التزم به في كل سنة، وهو خمسة آلاف دينار.
وفي سادس عشرينه: قدم مبشرو الحاج.
وفي هذا الشهر: كثر تقطع الجسور بالنواحي، فغرقت بلاد عديدة، ودخل الماء إلى كثير من البلاد قبل أوانه، فغرقت الجرون وهي ملآنة بالغلال، وتلف من المقاتي والسمسم والنيلة ما يبلغ قيمته آلاف دنانير، وشرقت عدة بلاد، وكل ذلك من فساد عمل الجسور وأخذ الأموال في النواحي عوضاً عن رجال العمل وأبقارها.
وفيه فرقت عدة بلاد من بلاد الديوان المفرد على جماعة ليعمروها، فإنها خربت من سوء ولاية الأستادارية وعسفهم، وكثرة المغارم، فسلم إلى القاضي زين الدين عبد الباسط وإلى الوزير كريم الدين، وإلى سعد الدين ناظر الخاص، وإلى التاج بن الخطير، كل منهم بلد من البلاد، وسلم إلى آخرين دون هؤلاء عدة بلاد.
وفيه رسم أن يعلق على كل حانوت من حوانيت الباعة بالأسواق قنديل يضيء الليل، فعمل ذلك.
وفيه كثرت زيادة ماء النيل، فانسلخ ذو الحجة بيوم الأربعاء رابع أيام النسىء، والماء على ثمانية عشر ذراعاً وعشرين إصبعاً.
وهذه السنة: تحول الخراج فيها من أجل أنه لم يقع فيها نوروز، فحولت سنة ست إلى سنة سبع وثلاثين.
وفيها نزل الطاغية النشو بن دون فرنادو بن أندريك بن جوان قتيل الفرس بن فدريك بن أندريك ملك الفرنج القطلان، وصاحب برشلونة، على جزيرة صقلية، في شهر رمضان، وسار ومعه صاحب صقلية في نحو مائتي قطعة بحرية حتى أرسى على جربة في سابع عشر ذي الحجة وملكها. وكان ملك المغرب أبو فارس عبد العزيز غائباً عن تونس في جهات تلمسان، فلما بلغه ترك معظم عسكره وسار على الصحراء حتى دنا من جربة، وكانت بينه وبين الفرنج وقعة كاد يؤخذ فيها، وقتل من الفريقين جماعات كثيرة. وهذا الطاغية النشو مات جده أندريك، وملك بعده ابنه جوبان بن أندريك بن جوبان. خرج فرناندو بن أرندريك من بلد أشبيلية يريد محاربة القطلان أهل برشلونة- وقد مات ملكهم مرتين، فغلبهم، وملك برشلونة وأعمالها، حتى مات، فملك بعده ابنه النشو هذا.
وفيه قدم أحد ملوك التكرور للحج، فسار إلى الطور ليركب البحر إلى مكة، فمات بالطور ودفن بجامعه. وكان خيراً كثير التلاوة للقرآن، فيه بر وإحسان.

.ومات في هذه السنة من الأعيان:

السلطان حسين بن علاء الدولة بن القان غياث الدين أحمد بن أويس. وكان قد أقيم بعد أحمد بن أويس في السلطة ببغداد شاه ولد بن شاه زاده بن أويس، ثم قتل بعد ستة أشهر بتدبير زوجته تندو ابنة السلطان حسين بن أويس، وقامت بالتدبير، ثم خرجت من بغداد بعد سنة فراراً من شاه محمد بن قرا يوسف، ونزلت ششتر في عدة من العسكر، وملك شاه محمد بغداد، فأقيم مع تندو في السلطنة السلطان محمود بن شاه ولد؛ فدبرت عليه وقتلته بعد خمس سنين، وانفردت بمملكة ششتر، وملكت البصرة، بعد حرب شديدة، ثم ماتت بعد انفرادها بثلاث سنين، فأقيم ابنها أويس بن شاه ولد، وقتله أصبهان بن قرا يوسف في الحرب بعد سبع سنين، وأقيم بعده بششتر أخوه شاه محمد بن شاه ولد، فمات بعد ست سنين وقام من بعده حسين بن علاء الدولة وملك البصرة، وواسط، وعامة العراق ما عدا بغداد، فإنها بيد شاه محمد بن قرا يوسف. ولم يزل محارباً لأصبهان بن قرا يوسف حتى نزل عليه أصبهان وحصره بالحلة مدة سبعة أشهر، حتى أخذه وقتله في ثالث صفر من هذه السنة، فانقرضت بمهلكه دولة الأتراك بني أويس من العراق، وصار عراقا العرب والعجم بيد اسكندر وشاه محمد وأصبهان- أولاد قرا يوسف- وقد خرب على بأيديهم.
ومات شرف الدين عيسى بن محمد بن عيسى الأقفهسي الشافعي، أحد نواب الحكم، في ليلة الجمعة سادس عشرين جمادى الآخرة، ومولده في سنة خمسين وسبعمائة. وبرع في الفقه، وناب في الحكم عن العماد أحمد الكركي، ومن بعده من سنة اثنين وتسعين، وكان كثير الاستحضار للفروع.
ومات شهاب الدين أحمد بن صلاح الدين صالح بن أحمد بن عمر المعروف بابن السفاح الحلبي، في ليلة الأربعاء رابع عشر شهر رمضان، عن ثلاث وستين سنة، وباشر هو وأخوه وأبوه كتابة السر بحلب، ولهم بها رياسة وتمكن وأموال، ثم باشر كتابة السر بديار مصر، فلم يسعد ولم ينجب، وكان فيه هوج وطيش.
ومات الصاحب علم الدين يحيى أبو كم الأسلمي، في ليلة الخميس ثاني عشرين رمضان، وقد أناف على السبعين، فباشر نظر الأسواق، وتنقل حتى ولي الوزارة في الأيام الناصرية فرج، وكان يريد الانتفاء من النصرانية، فحج وجاور بمكة، وأكثر من زيارة الصالحين، والله أعلم. بما كانوا عاملين.
ومات قاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن بن علي بن عبد الرحمن التفهني الحنفي، بعد مرض طويل، في ليلة الأحد ثامن شوال، وقد أناف على السبعين. ومولده سنة أربع وستين سبعمائة تخميناً. وقد برع في الفقه والأصول والعربية وولي قضاء القضاة فحسنت سيرته، ولم يترك في الحنفية مثله، ويقال إن بعض جواريه سمعته وقد أوصى بخمسة آلاف درهم لمائة فقير يذكرون الله، قدام جنازته، وسبعة آلاف درهم لكفنه وجهازه ودفنه وقراءة ختمات.
ومات جينوس بن جاك يبروس بن أنطون بن جينوس ملك قبرس، وملك بعده ابنه في حدود سنة ثمانمائة، وقدم إلى القاهرة مأسوراً، ثم أعيد إلى مملكته، وصار نائباً عن السلطان يحمل إليه المال كل سنة.
وقتل نصراني في سابع شوال، ضربت رقبته تحت شباك المدرسة الصالحية، بسبب وقوعه في حق نبي الله داود بعد ما سجن مدة، وعرض عليه الإسلام، فامتنع.