فصل: سنة خمس وخمسين وسبعمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة خمس وخمسين وسبعمائة:

شهر الله المحرم أوله يوم الأحد وفي ثامن عشره: قدم الحاج، ولم يتفق بمثل هذا فيما سلف، وهلك جماعة من المشاة، وقدم الشريف ثقبة مقيداً، فسجن.
وفي ثامن عشريه: قدم الأمير شيخو، ممن معه من بلاد الصعيد وكان من خبره أن العربان بالوجه القبلى خرجوا عن الطاعة، وسفك بعضهم دماء بعض، وقطعوا الطرقات، وأخذوا أموال الناس، وكسروا مغل الأمراء والأجناد. وقتلوا الكاشف طغاى، وكسروا مجد الدين موسى الهذبانى، وأخذوا خامه وقماشه، وقتلوا بعض أجناده. وقام في البهنساوية ابن سودى، وحشد على بنى عمه، وقتل منهم نحو الالفي رجل، وأغار على البلاد، وأكثر من القتل والنهب. ونافق أيضاً ميسرة بالأطفيحية، واقتتل مع ابن مغنى قتالاً كبيراً فاستمر هذا البلاء بالصعيد سنة كاملة، هلك فيها من العربان خلائق كثيرة، فمازال السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون يسوس الأمر حتى سكنت تلك الفتن، وتتبع أهل الفساد، وحرث ديارهم بالأبقار، وأفناهم بالقتل. ثم ثاروا بعد ذلك، وركبوا على بيبغا الشمسى الكاشف، وحاربوه، وتجمعوا على الفساد، ثم تبع ذلك قيام الأحدب، واسمه محمد بن واصل، ولم يكن أحدب ولكن أقفص، فشهر لذلك بالأحدب، وقام الأحدب هذا في عرب عرك بناحية، وقاتل بنى هلال. فلما تغافل أهل الدولة بعد موت السلطان الناصر محمد بن قلاوون عن أهل النواحي، قلت مهابة الكشاف والولاة عندهم، فخرجوا عن الحد، وقطعوا الطرقات براً وبحراً حتى تعذر سلوكها. ومالوا على المعاصر والسواقي، فنهبوا حواصلها من القنود والسكر والأعسال، وذبحوا الأبقار.
وادعى الأحدب السلطنة، وجلس في جتر أخذه من قماش الهذبانى، وجعل خلفه المسند، وأجلس العرب حوله، ومد السماط بين يديه، فنفذ أمره في الفلاحين. وصار الجندي إذا انكسر له خراج قصده، وساله في خلاصه من فلاحه، فيكتب لهورقة لفلاحه وأهل بلده، فيصل بها إلى حقه، ويرسل مع مماليك الكاشف والوالي بالسلام عليه، ويأمره أن يقول: إن كانت لك حاجة قضيتها لك. وحدثته نفسه بتملك الصعيد، وقويت نفسه بتأخر ولاة الأمور عنه، وأقام له حاجباً وكاتباً.
فلما عظم أمره عقد الأمراء المشور بين يدي السلطان الملك الصالح، في مستهل شوال سنة أربع وخمسين وسبعمائة، في أمر عرب الصعيد. وقرروا تجريد العسكر لهم، صحبة الأمير سيف الدين شيخو العمرى رأس نوبة، ومعه اثنى عشر مقدماً. بمضافيهم من أمراء الطبلخاناه والعشرات، وهم أسندمر العمرى وطشتمر القاسمي، وقطلوبغا الطرخانى، وأرلان، وبزلار أمير سلاح، وكلتاى أخو طاز، واصر على بن أرغون النائب، وتنكز بغا، وجركتمر، ويلجك قريب قوصون، وقطلوبغا الذهبى، وأن يتوجه كلتاى وابن أرغون النائب نحو الشرق بالإطفيحية، ويتوجه يلجك إلى الفيوم، وبزلار وأرلان نحو الواح، ويتوجه الأمير شيخو ببقية الأمراء إلى جهة قوص، ويتأخر في صحبة السلطان عند سفره الأمير طاز، والأمير صرغتمش، والأمير قجا أمير شكار. فيتوجه السلطان نحو البهنسا كأنه يتصيد، وأن يكون السفر في ذي القعدة، فيتوجه الأمراء أولاً، ثم يركب السلطان بعدهم.
فطار الخبر إلى عامة بلاد الوجه القبلي، فأخذ العربان حذرهم، فمنهم من عزم على الدخول بأهله إلى بلاد النوبة، ومنهم من اختفي في موضع أعده ليأمن فيه على نفسه ومنهم من عزم على الحج وقدم إلى مصر، ففطن بهم أعداؤهم، ودلوا عليهم الأمراء. فقبض على جماعة ممن قدم مصر نحو العشرة، وأخذ ما معهم. ثم ركب الأمير شيخو إلى بركة الحاج في عدة وافرة، وأحاط بالركب، وتتبع الخيام وغيرها بعد ما حذر من أخفي العرب، فقبض على جماعة منهم، وقتل من عرف منهم بفساد، وأطلق من شكر حاله.
ثم توجه الأمراء في ذي القعدة، وعدى السلطان. ممن معه من بقية الأمراء إلى بر الجيزة، فكبست بلاد الجيزة، بعد ما كتب لمتوليها ومشايخها وأرباب أدراكها أنهم لا يخفون أحداً من العرب، ولا من أولادهم ونسائهم، فأخذ الصالح والطالح. وقبض الأمراء على الخيول والسيوف، حتى لم يبق ببلاد الجيزة فرس ولا سيف، وأحضروا أصحابها إلى الوطاق. واستدعى الوالي ومشايخ العربان، وعرض من قبض عليه، فمن عرفوه أنه من أهل البلاد أفرج عنه، ومن لم يعرفوه قيد وحمل إلى القاهرة فسجن بها. وعرضت الخيول، فمن عرف فرسه من الفلاحين رسم له ببيعها في سوق الخيل تحت القلعة، وحمل ثمنها إلى الديوان مما عليه من الخراج. ورسم بمثل ذلك فيما يحضر من خيول فلاحي بقية النواحي، أي أن الفلاح يبيعها ويورد ثمنها فيما عليه من الخراج، إما الأمير أو للجندي. فامتثل ذلك وعمل به، وسيقت خيول المفسدين، ومن لم يعرف له صاحب حمل إلى إصطبل السلطان.
وندب الأمير عز الدين أزدمر كاشف الوجه البحري للسفر إلى عمله، فكبس البلاد المتجوهة، والتي تعرف بأنها مأوى المفسدين في عامة الشرقية والوجه البحري بأجمعه. وأحسن أزدمر التدبير في ذلك، فإنه كتب لجميع الولاة أن يلاقوه في البر والبحر، وواعدهم يوماً عينه. وكان الوالي بالغربية في بره، والكاشف والولاة وأرباب الأدراك مقابله، ومنعوا الناس كلهم من ركوب النيل، فأخذ الوالي عرباً كثيراً، وكبس بلاداً عديدة، وأخذ منها المفسدين، فوسط وسمر جماعات منهم، وسير إلى القاهرة مائة وخمسين رجلاً في الحديد، ومائة وعشرين فرساً، وسلاحاً كثيراً. وأرسل متولي البحيرة من خيل عريها ستمائة وأربعين فرساً، فلم يتأخر في الوجه البحري فرس واحد من خيول العربان. ورسم لقضاة البر وعدوله بركوب البغال والأكاديش.
وتوجه السلطان بعد رحيل الأمراء من الجيزة إلى البهنسا، فتولى الكبسات الأمير طاز والأمير صرغتمش، وتتبعوا الرجال، وعاقبوا النساء والصبيان حتى دلوهم على أماكنهم، فأخرجوهم من المطامير، وسفكوا دماء كثيرة. وقبضوا على عدة رجال، فأودعوهم الحديد، وحازوا من الخيل والسلاح شيئاً كثيراً.
فحشد الأحدب بن واصل شيخ عرك جموعه، وصمم على لقاء الأمراء، وحلف أصحابه على ذلك. وقد اجتمع معه عرب منفلوط، وعرب المراغة وبني كلب وجهينة وعرك، حتى تجاوزت فرسانه عشرة آلاف فارس تحمل السلاح، سوى الرجالة المعدة، فإنها لا تعد ولا تحصى لكثرتها. وجمع الأحدب مواشي أصحابه كلهم وأموالهم وغلالهم وحريمهم وأولادهم، وأقام ينتظر قدوم العسكر.
فقدم الأمير شيخو بمن معه حتى نزل سيوط، ومعه الولاة والكشاف، فتلقها أهلها وعرفوه أمور العرب، وما هم عليه من العزم على اللقاء والمحاربة، وكثرة جمعهم. فاستراح الأمير شيخو، وقدمت عليه عرب الطاعة، وهولوا عليه بكثرة جمع المارقين حتى داخله الوهم، وبعث يستدعي بالعسكر من القاهرة. فعرض الأمير سيف الدين قبلاى نائب السلطنة مقدمي الحلقة ومضافيهم، وعين منهم تسعين مقدماً، وأضاف إلى كل مقدم جماعة. وعرضت أوراق بأسمائهم على السلطان والأمراء، فاختاروا منهم خمسة وعشرين مقدماً، مع كل مقدم من مضافيه عشرون جندياً، فتكون عدتهم خمسمائة فارس؛ ورسم بتجهيزهم. وأعيد جواب الأمير شيخو بذلك، فرد جوابه بأن في حضور نجدة من القاهرة ما يوجب طمع العربان في العسكر، وظنهم أن ذلك من عجزهم عن اللقاء، وأشار بإبطال تجريد النجدة، فبطلت.
ثم رحل الأمير شيخو عن سيوط، وبعث الأمير مجد الدين الهذبانى ليؤمن بنى هلال أعداء عرك، ويحضرهم ليقاتلوا عرك أعداءهم. فانخدعوا بذلك، وفرحوا به، وركبوا بأسلحتهم، وقدموا في أربعمائة فارس، فما هو الا أن وصلوا إلى الأمير شيخو فأمر بأسلحتهم وخيولهم فأخذت بأسرها، ووضع فيهم السيف، فأفناهم جميعاً. وركب الأمير شيخو من فوره، وصعد عقبة أدفو في يوم وليلة، فلما نزل إلى الوطاة قدم عليه نجاب من أمراء أسوان بأن العرب قد نزلوا في برية بوادي الغزلان، فالبس العسكر الة الحرب.
وقدم الأمير سودون أحد أمرأء الطبلخاناه في مائة من مماليك الأمراء طليعة، وساروا. فلما كان قبيل العصر التقت الطليعة بفئة من طلائع العرب، فبعث سودون يخبر الأمير شيخو بذلك، وقاتلهم فانهزموا، ثم عادوا للحرب مراراً حتى كلت خيول الترك، ولم يبق الا أن تأخذهم العرب. فأدركهم الأمير شيخو، وقد ساق لما أتاه الخبر سوقاً عظيماً ممن معه، وامتلأ الجو من غبارهم. وهبت ريح، فحملت الغبار والقته في وجوه العرب حتى صار أحدهم لا يرى رفيقه، مع رؤيتهم بريق الأسنة ولمعان السيوف. فخارت قواهم، وانهزموا بأجمعهم، بعد ما استعدوا للقاء استعداداً محكماً. فقدموا الرجالة بالدرق أمام الفرسان، لتلقى عنهم السهام، وقامت الفرسان من ورائهم بأسلحتها، وأوقفوا حريمهم من ورائهم. وصار الرجل منهم يصدم ابنه وأخاه وهو لا يلوى على شيء. فركب الترك أقفيتهم، ومن وقت الغروب عند الهزيمة، يقتلون ويأسرون حتى أعتم الليل، وباتوا متحارسين، فلم يعد أحد من العرب اليهم. وعند ارتفاع النهار جرد الأمير شيخو طائفة في طلبهم، فأحاطوا بمال كثير ما بين مواشي وقماش، وحلى ونقود، وعروض وأقوات، وأزواد وروايا ماء. وسبوا حريمهم وأولادهم، فاسترقوا كثيراً منهم، وصار إلى الأجناد والغلمان منهم شيء كبير، باعوا منه عدداً كثيراً بالقاهرة، بعد عودهم.
وهلك من العرب خلائق بالعطش، ما بين فرسان ورجالة وجدهم المجردون في طلبهم، فسلبوهم. وصعد كثير منهم إلى الجبال، واختفوا في المغائر، فقتل العسكر وأسر، وسبا عدداً كثيراً، وارتقوا إلى الجبال في طلبهم، وأضرمرا النيران في أبواب المغائر فمات بها خلق كثير من الدخان. وخرج اليهم جماعة، فكان فيهم من يلقى نفسه من أعلى الجبل ولا يسلم نفسه، ويرى الهلاك أسهل من أخذ العدو له. فهلك في الجبال أمم كثيرة وقتل منهم بالسيف ما لا يحصى كثرة، حتى عملت عدة حفائر وملئت من رممهم، وبنى فوقها مصاطب ضربت الأمراء رنوكها عليها، وأنتنت البرية من جيف القتلى ورمم الخيل.
ثم فرق الأمير شيخو الأمراء في البلاد لكبسها، فطرقوا عامة النواحي، وقبضوا على جماعة كثيرة قتلوا منهم خلقاً كثيراً، وأحضروا خلقاً إلى الأمير شيخو فأقاموا على هذا عدة أيام، حتى لم يبق ببلاد الصعيد بدوي. ثم نصبت الأخشاب على الطرقات، وعلق فيها أعداد وافرة ممن شنق ووسط من العرب، فكان أولها طما وأخرها منية ابن خصيب. ثم عاد الأمير شيخو. ممن معه، وصحبته نحو الالفي رجل في الحديد، فلم يصل إلى القاهرة منهم سوى ألف ومائتين، وهلك باقيهم بالجوع والتعب. فلما نزل طموة خرج اليه الأمراء بأجمعهم، وعملوا له الولائم العظيمة مدة أيام. ثم سافر الأمير شيخو منها في موكب جليل، والأسرى بين يديه، والخيول والجمال والسلاح، حتى صعد القلعة، وكان يوماً مشهوداً. وأثنى عليه من كان معه، بإحسانه اليهم ونفقاته فيهم، فكانت مدة غيبته نحو ثلاثة أشهر، وأقل ما قيل إنه قتل في هذه الواقعة زيادة على عشرة الاف رجل.
ثم قدمت الأسرى التي أحضرت مع الأمير شيخو، أو من بعث به الكشاف والولاة، وفيهم ابن ميسرة الثائر بالأطفيحية، فأفرج عن جماعة منهم. وسمو ابن ميسرة وثلاثة عشر من أكابر العربان، ومائة وأربعون رجلاً من شرارهم، وشهروا. وقيد جماعة وسخروا في العمل. وعرضت الدواب، فكانت الفا وثلاثمائة فرس، والفا وخمسمائة جمل، وسبعمائة حمار، وأغناماً كثيرة، سوى ما نهبه العبيد وأكلوه. وعرض السلاح، فكان مائة حمل رماح، وثمانين حمل سيوف، وثلاثين حمل درق. وكتب لجميع ولاة الأعمال وكشافها الا يدعوا في جميع النواحي فرساً لبدوي ولا لفلاح سوى أرباب الأدراك، فإنه يترك لكل واحد منهم فرس. فركب الولاة إلى البلاد، وأخذوا ما بها من الخيول، وسيروها إلى اصطبل السلطان. فكان الرجل إذا حضر وادعى ملك شيء سلم اليه، بعد ما تظهر صحة دعواه، والزم بعد تسليمه بأن يبيعه ويعطى ثمنه مما عليه من الخراج، فكثرت الخيول بالقاهرة، واستوفى الأجناد خراجهم قبل أوانه.
فكانت هذه الواقعة من أعظم حوادث الصعيد، وأشنع محنها، ولذلك سقتها في هذا الموضع كما هي، وإن كان قد تقدم في السنة الحالية طرف منها، لأن حكايتها متوالية أبين لها، وأكثر فائدة لمن وقف عليها.
وقد مدح الأمير شيخو غير واحد عند قدومه، منهم ناصر الدين النشائي أحد كتاب الإنشاء، فقال قصيدة أولها:
صعودك للصيد له سعود ** به نجزت من النصر الوعود

وأرسل نحوهم فرسان حرب ** ضراغمة تحافهم الأسود

فخاضوا فيهم بالسيف حتى ** غدوا وهم قتيل أو شريد

ومهدت البلاد فزال عنها ** ظلام الظلم وابتهج الوجود

وقال الفخر عبد الوهاب كاتب الدرج، من أبيات:
قدوم سعيد مبهج وإياب ** به حف للنصر العزيز ركاب

مضيت مضى السهم في غزو عصبة ** بغاة وغازى المفسدين يتاب

ومن كان قتل النفس بعض ذنوبه ** فليس له الا السيوف عتاب

فلم تنجهم أرض ولا عصمتهم ** مغائر ما بين الصخور صعاب

وقال الأمير عز الدين أزدمر الكاشف قصيدة منها:
حسام عزمك بردى الأسد في الأجم ** ونور رأيك يهدى الناس في الظلم

وحين أصبح أمر العرب مختلفاً ** فليس يعرف منه خلف من أمم

سالت عليهم جيوش الله يقدمها ** شيخو لمؤبد بالصمصامة الخدم

سعى اليهم ونصر الله يقدمه ** في بحر جيش بموج الخيل منتظم

والأرض ترجف تحت الخيل من فرق ** والخيل تمشى على الأشلاء والرمم

فأوقع السيف في الأعداء منتصراً ** لله حتى غدوا لحما على وضم

ولم يدع دار بغى غير دائرة ** ولا منار شقاق غير منهدم

وكان الأحدب قد نجا بنفسه، فلم يقدر عليه، ومن حينئد أمنت الطرقات براً وبحراً، فلم يسمع بقاطع طريق بعدها. ووقع الموت فيمن تأخر في السجون من العربان، فكاد يموت منهم في اليوم من عشرين إلى ثلاثين، حتى فنوا الا قليلاً.
وقدم الخبر من المدينة النبوية أن الشريف مانع بن على بن مسعود بن جماز وأولاد طفيل جمعوا ونازلوا المدينة، يريدون قتل الشريف فضل بن قاسم بن قاسم بن جماز فامتنع بها، وهم يحارصرونه اثني عشر يوماً مرت بينهم فيها حروب، فانهزموا ومضو من حيث أتوا.
وفيه أخرج الأمير ساطلمش تركاش منفياً، لسوء سيرته.
وفيه ضربت عدة من شهود الزور، وحلقت لحاهم، وشهروا في القاهرة، وكان يوماً شنيعاً.
وفيها أخرج ابن طشتمر الساقي منفياً إلى طرابلس، لانهماكه في اللعب.
وفي شهر ربيع الأول: قدم محمد بن واصل الأحدب، شيخ عرك من بلاد الصعيد، طائعاً. وكان من خبره أنه لما نجا وقت الهزيمة. وأخذت أمواله وحرمه، ترامى بعد عود العسكر على الشيخ المعتقد أبى القاسم الطحاوى فكتب الشيخ في أمره إلى الأمير شيخو، يسال العفو عنه وتأمينه. على أنه يقوم بدرك البلاد، ويلتزم بتحصيل جميع غلالها وأموالها، وما يحدث بها من الفساد فإنه مواخذ به، وأنه يقابل نواب السلطان من الكشاف والولاة فكتب له أمان سلطاني، وكوتب بتطييب خاطره وحضوره أمناً، فسار ومعه الشيخ أبو القاسم. فأكرم الأمراء الشيخ، وأكرموا لأجله الأحدب، وكان دخوله يومًا مشهوداً.
وتمثل الأحداب بين يدي السلطان. وأنعم عليه السلطان والبسه تشريفاً وناله من الأمراء إنعام كثير، وضمن منهم درك، البلاد على ما تقدم ذكره، فرسم له بإقطاع. وعاد الأحدب إلى بلاده بعد ما أقام نحو شهر، وقد البسه السلطان تشريفاً ثانياً ثم توجه الشيخ أبو القاسم الطحاوي أيضاً بعد أيام، وكان نزوله بزاوية العربان من القرافة، فجددها الأمير شيخو تجديداً حسناً.
وفيه توجه الناصر بن المجاهد صاحب اليمن عائداً إلى أبيه بمن معه، بعد أربعة أشهر من قدومه. وأخذ معه كثير من الصناع والمخايلين والشعبذين والمساخر وأرباب الملاهى، وتحفا عديدة قامت عليه بأموال جزيلة وأنعم عليه السلطان والأمراء بغير نوع من الهدايا والتحف السنية، والبسوه الخلع الجليلة، وبالغوا في إكرامه. وجهروا له ما يحتاج اليه من المراكب، وكتب إلى ولاة الأعمال بإكرامه، فسار في البحر.
وفي حادي عشر رجب: أفرج عن الأمير سيف الدين منجك، والأمير علاء الدين مغلطاي أمير أخور. وكان المعتنى بالأمير منجك الأمير شيخو، والمعتنى بالأمير مغلطاي الأمير طاز. فتوجه اليهما الأمير جنتمر أخو طاز، وحملهما من الإسكندرية، فكان دخولهما يوماً مشهوداً، بعد ما أقاما بسرياقوس عشرة أيام، والتقادم ترد اليهما، وتمد لهما الأسمطة العظيمة بالهمة الجليلة، فانعما على متسفرهما الأمير جنتمر بسبعة الاف دينار.
وفيه قدم البريد من حلب بتعذر مسير القوافل من كثرة فساد العرب وقطعهم، الطريق، وأن سيف بن فضل تعجز عن مقاومة عرب فياض بن مهنا، وأن الأمير أرغون الكاملي نائب حلب أخرج مقدماً من مقدميه في تجريدة لحفظ الطريق مع بعض الأمراء، فكبسه العرب وقاتلوه، فقتل في المعركة، وأن سيف بن فضل عمر بن موسى ابن مهنا لما الزمهما الأمير أرغون الكاملى نائب حلب بتحصيل من قتل المذكور ادعوا أنهم من غير عربهم.
وكان فياض لما كتب اليه بالحضور اعتذر عن ذلك، والتزم بدرك البلاد وكف أسباب الفساد، وبعث ابنه إلى السلطان رهينة بمصر. فحضر سيف وعمر بقود كبير، من جمال وخيل، فاعتنى الأمير طاز بسيف، ومازال حتى خلعه عليه وعلى عمر، وأستقرا في الإمرة. فتوجه ولد فياض من مصر إلى أبيه، وأخبره بذلك، فاشتد حنقه، وكثر قطعه الطريق، وعزم على المسير إلى أولاد قراجا بن دلغادر وإحضارهم بجمائعهم لأخذ حلب. فانحصر الأمير أرغون الكاملي نائب حلب، وضاق ذرعه. فلما قدم كتابه اقتضى الرأي إرسال الأمير جنتمر أخي طاز إلى الأمير فياض، وكتبت على يده عدة كتب من السلطان والأمراء، بتطمين خاطره والحلف له الا يتعرض له بسوء. فركب الأمير جنتمر في عشرة سروج على البريد، ولقى فياضاً، ومازال به حتى أذعن له ووكب معه، بعد ما بالغ في إكرامه، وأكثر من التقادم السنية له، وقدم إلى القاهرة في عاشر جمادى الآخرة.
وفيه أخذ الأمير صرغتمش من دار ابن زنبور بالقاهرة ما كان بها من الرخام، فوجد في زواياها من أواني الصيني والنحاس ومن القماش وغيره شيئاً كثيراً.
وفيه قدم عدة من النصارى بالغربية، ووقفوا بدار العدل من القلعة للسلطان، وسالوا إعادة كنيسة النحريرية التي هدمها العامة وعملوها مسجداً. فلم يجابوا لذلك، وطردوا بعد ضربهم، وكتب إلى متولى الناحية أن يعمل لهذا المسجد مناراً يؤذن فيه للصلوات الخمس، وتجدد عمارة المسجد، فامتثل ذلك.
وفي شهر ربيع الآخر: وقفت أحوال ديوانى الخاص والدولة، حتى إن السلطان كان إذا استدعى بشيء من الخاص يقول بدر الدين ناظر الخاص: ما تم حاصل، وليس لي مال. وتأخر من الدولة ما يصرف للحوالج كاشية وأرباب المرتب ونفقات مماليك السلطان. فكثر الإنكار على بدر الدين ناظر الخاص، وأسمعه الأمراء ما يكره، فالتجأ إلى الأمير صرغتمش وكان يعضده، وذكر له ما هو فيه من العجز. فوعده الأمير صرغتمش بتخليصه، وأسر اليه أن يتمارض في بيته أياماً حتى يدبر أمره مع السلطان والأمراء. فانقطع بدر الدين عن الخدمة، وأظهر أنه مريض، فلم يبق أحد من أهل الدولة حتى عاده على العادة. ثم بعد أيام انقطع الوزير الصاحب موفق الدين أبو الفضل عبد الله بن سعيد الدولة لوعك أصابه؟؟؟ فتعطلت أشغال السلطنة. وأخذ الأمير صرغتمش يحدث الأمراء في إعفاء بدر الدين ناظر الخاص، فاستدعى تاج الدين أحمد بن الصاحب أمين الملك عبد الله بن غنام، وعرض عليه السلطان نظر الخاص، فتمنع تمنعاً زائداً، فلم يوافقه الأمير طاز، والبسه التشريف في يوم الخميس رابع عشره، فولي الخاص عوضاً عن بدر الدين.
ثم كان موت الوزير موفق الدين في يوم الجمعة ثاني عشريه، فتعين الأمير ناصر الدين محمد بن بيليك المحسنى وطلب الأمير ناصر الدين لذلك، فامتنع أشد الامتناع، وجرت بينه وبين تاج الدين ناظر الخاص مفاوضة في مجلس السلطان، سببها أنه قال: أما ثم من يصلح للوزارة الا الأمير ناصر الدين، فحنق منه، وقال له: ما يصلح الا أنت، فتكون الوزارة مضافة للخاص كما كان من قبلك. فامتنع تاج الدين من ذلك، وانفض المجلس، فأخذ الأمير طاز بحسن لناظر الخاص التحدث في الوزارة، ويعده بمساعدته، وهو يأبى.
وفي أثناء ذلك استعفى الأمير شيخو من التحدث في أمر الدولة، فتقرر الحال على أن ينفرد السلطان بتدبير دولته، من غير أن يعارضه أحد في ذلك، ويستبد بالمملكة وحده، كما كان أبوه وحده. واجتمع الأمراء وسائر أهل الدولة بين يدي السلطان، وفاوضوه في ذلك، فوافق غرضه، فإنه كان في حصر شديد، ليس له أمر ولا نهى ولا تصرف في شيء من أمور الدولة، وهو محجور عليه مع الأمير شيخو. فقلدوه الأمور، والتزموا بطاعته فيما يرسم به. فصار مباشرو الدولة يدخلون على السلطان، وينهون له الأحوال، فيمضيها بأمره ونهيه.
واختص السلطان بالأمير طاز، وتقدم اليه أن ينظر في أمور الدولة من غير أن يظهر ذلك. فاشتهر بين الأمراء وغيرهم أن استعفاء الأمير شيخو من التحدث في أمور الدولة، واستقلال السلطان بالأمر، إنما هو بتدبير طاز وقيامه فيه مع السلطان، فإن السلطان كان له ميل كبير إلى الأمير طاز، وشغف بحب أخيه جنتمر وفتن به وكان ذلك مما لا يخفي على شيخو، فرأى أن ترك التحدث في الدولة من تلقاء من نفسه خير من عزله عنه. فلما استبد السلطان بأمره منع الأمير شيخو الوزير وناظر الخاص وأمثالهما من الدخول اليه، واستأذن السلطان في الإقامة بإصطبله عدة أيام ليشرب دواء. فخلا تاج الدين ناظر الخاص بالأمير طاز، وعرفه كثرة ما على الدولة من الكلف، وأنها لا تفى بذلك، وقرر معه أن يوفر من المصاريف جلة. وكتب تاج الدين ما على الدولة من المصروف، فكانت جملة ما أطلقه الصاحب موفق الدين لزوجته اتفاق وخدامها ومن يلوذ بها سبعمائة ألف درهم في كل سنة. ثم كتب تاج الدين استيمارا بما يترتب صرفه، وأخذ عليه خط السلطان، وعين صهره فخر الدين ماجد بن قزوينة لنظر الدولة، فطلب وخلع عليه شريك فخر الدين بن السعيد. فكان المتوفر من معاليم المباشريين جملة كثيرة، فإنه لم يدع مباشراً الا وفر من معلومه نصفه أو ثلثيه، ولم يراع منهم أحداً، لا من مباشرى الدولة، ولا مباشرى الخاص، ولا مباشرى الإسكندرية ودمياط، وجيع أعمال الوجه القبلى والوجه البحرى. ثم عزل تاج الدين كثيراً من مباشرى المعاملات، فإنه كان في كل معاملة ستة مباشرين وأكثر، فجعل في كل معاملة ثلاثة مباشرين، ورتب لكل منهم نصف معلوم. ووفر تاج الدين معلومه على نظر الخاص، وباشر الخاص بمعلوم الجيش. فشمل هذا كل من له معلوم في بيت السلطان، من متجر وغيره، ما خلا الموقعين والأطباء، فإن الموقعين عنى بهم كاتب السر علاء الدين على بن فضل الله، وكان عظيماً في الدولة، فلم يتعرض تاج الدين لشيء من معاليمهم، وأقرها بكمالها. وأما الأطباء فاعتنى بهم الأمير طاز، فانه أمير مجلس، وهم من تعلقه. وأما من عدا هؤلاء، فإنه حاصصه على مباشرى صرغتمش وطاز وشيخو، فجاء جملة المتوفر نحو سبعمائة ألف درهم، في كل سنة. فشق ذلك على الأمراء، وكرهوا قطع الأرزاق، وتشاءموا بهذا الفعل. واشتهر ذلك بين الناس، فتنكرت قلوبهم، وكثر دعاؤهم وابتهالهم إلى الله تعالى.
ثم إن تاج الدين اتهم بدر الدين ناظر الخاص بأنه حوى مالاً كثيراً من جهة تركة ابن زنبور، ومازال به حتى حمل من بيته وهو مريض إلى القلعة، والزم بحمل مال كبير، فحمل بدر الدين المال مدة أيام، ومات يوم الثلاثاء رابع عشرى جمادى الأولى في قاعة الصاحب بالقلعة، بعد موت الصاحب موفق الدين بشهر ويومين. فقام الأمير صرغتمش في مساعدته، ومنع من الحوطة على موجوده، وكان بدر الدين قد خلف سعادة جليلة مما حصله من جهة ابن زنبور.
وفي سادس عشر جمادى الأولى: قدم ابن رمضان التركمانى، المستقر عوضاً عن قراجا بن دلغادر، وقدم للسلطان والأمراء ألف أكديش. فرسم له بالإمرة على التركمان، وأنعم له بالإقطاع، وأنعم على عدة من أصحابه بإمرات، ما بين عشرات وطبلخاناه، وعاد إلى بلاده.
وفيه رسم بعمل أوراق بالرزق الأحباسيه التي في إقطاعات الأمراء، وفي غير ذلك من أراضي مصر، مما هي موقوفة على الكنائس والديارات، فجاءت خمسة وعشرين ألف فدان. فأنعم على كل أمير بما في إقطاعه من ذلك، ورسم لجماعة من الفقهاء بشىء من هذه الرزق.
وفي هذه السنة: كانت واقعة النصارى، وذلك أنهم كانوا قد تعاظموا، وتباهوا بالملابس الفاخرة، ومن الفرجيات المصقولة والبقيار الذي يبلع ثمنه ثلاثمائة درهم، والفرط التي تلفها عبيدهم على رؤوسهم. بمبلغ ثمانين درهماً الفوطة. وركبوا الحمير الفره ذات الأثمان الكثيرة، ومن ورائهم عبيدهم على الأكاديش. وبنوا الأملاك الجليلة في مصر والقاهرة ومتنزهاتها، واقتنوا الجواري الجميلة من الأتراك والمولدات، واستولوا على دواوين السلطان والأمراء، وزادوا في الحمق والرقاعة، وتعدوا طورهم في الترفع والتعاظم. وأكثروا من أذي المسلمين وإهانتهم، إلى أن مر بعضهم يوماً على الجامع الأزهر بالقاهرة، وهو راكب بخف ومهماز وبقيار طرح سكندرى على رأسه، وبين يديه طرادون يبعدون الناس عنه، وخلفه عدة عبيد على أكاديش، وهو في تعاظم كبير. فوثب به طائفة من المسلمين، وأنزلوه عن فرسه، وهموا بقتله، فخلصه الناس من أيديهم.
وتحركت الناس في أمر النصارى وماجوا، وانتدب عدة من أهل الخير لذلك، وصاروا إلى الأمير طاز الشريف أبى العباس الصفراوي، وبلغوه ما عليه النصارى مما يوجبه نقض عهدهم، وانتدبوه لنصرة الإسلام والمسلمين. فانتفض الأمير طاز لذلك، وحدث الاصرين شيخو وصرغتمش وبقية الأمراء في ذلك بين يدي السلطان، فوافقوه جميعاً، وكان لهم يومئذ بالإسلام وأهله عناية. ورتبوا قصة على لسان المسلمين، قرئت بدار العدل على السلطان بحضرة الأمراء والقضاة وعامة أهل الدولة. فرسم بعقد مجلس للنظر في هذا الأمر، ليحمل النصارى واليهود على العهد الذي تقرر في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وطلب بطرك النصارى ورئيس اليهود، وحضرت قضاة القضاة وعلماء الشريعة، وأمراء الدولة، وجىء بالبطرك والرئيس، فوقفا على أرجلهما وقرأ العلائى على ابن فضل الله كاتب السر نسخة العهد الذي بيننا وبين أهل الذمة، بعد ما الزموا بإحضاره، وهو الا يحدثوا في البلاد الإسلامية وأعمالها ديراً ولا كنيسة ولا صومعة، ولا يجددوا منها ما خرب، ولا يمنعوا من كنائسهم التي عاهدوا عليها أن ينزل بها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونه. ولا يكتموا غشاً للمسلمين، ولا يعلموا أولادهم القرآن، ولا يمنعوهم من الإسلام إن أرادوا، وإن أسلم أحدهم لا يردوه. ولا يتشبهوا بشيء من ملابس المسلمين ويلبس النصراني منهم العمامة الزرقاء عشر أذرع فما دونها، واليهودي العمامة الصفراء كذلك، ويمنع نساؤهم من التشبه بنساء المسلمين. ولا يتسموا بأسماء المسلمين، ولا يكتنوا بكناهم، ولا يتلقبوا بالقابهم، ولا يركبوا على سرج، ولا يتقلدوا سيفاً، ولا يركبوا الخيل والبغال، ويركبون الحمير عرضاً بالكف من غير تزيين ولا قيمة عظيمة لها. ولا ينقشوا خواتمهم بالعربية، وأن يجزوا مقادم رؤوسهم، والمرأة من النصارى تلبس الإزار المصبوغ أزرق، والمرأة من اليهود تلبس الإزار المصبوغ بالأصفر. ولا يدخل أحد منهم الحمام الا بعلامة مميزة عن المسلم في عنقه، من نحاس أو حديد أو رصاص أو غير ذلك، ولا يستخدموا مسلماً في أعمالهم. وتلبس المرأة السائرة خفين أحدهما أسود والآخر أبيض، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم، ولا يرفعوا بناء قبورهم، ولا يعلوا على المسلمين على المسلمين في بناء، ولا يضربوا بالناقوس الا ضرباً خفيفاً، ولا يرفعوا أصواتهم في كنائسهم. ولا يشتروا من الرقيق مسلماً ولا مسلمة، ولا ما جرت عليه سهام المسلمين، ولا يمشوا وسط الطريق توسعة للمسلمين، ولا يفتنوا مسلماً عن دينه، ولا يدلوا على عورات المسلمين. ومن زنى بمسلمة قتل، ومن خالف ذلك فقد حل منه ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.
وكل من مات من اليهود والنصارى والسامرة، ذكراً كان أو أنثى، يحتاط عليه ديوان المواريث الحشرية، بالديار المصرية وأعمالها وسائر الممالك الإسلامية، إلى أن يثبت ورثته ما يستحقونه بمقتضى الشرع الشريف. فإذا استحق يعطونه. بمقتضاه، وتحمل البقية لبيت مال المسلمين، ومن مات منهم ولا وارث له يحمل موجوده لبيت المال. ويجرى على موتاهم الحوطة من ديوان المواريث ووكلاء بيت المال مجرى من يموت من المسلمين، إلى أن تبين مواريثهم.
وكان هذا العهد قد كتب في رجب سنة سبعمائة في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون، فلما انتهى العلائى على بن فضل الله كاتب السر من قراءته تقلد بطرك النصارى وديان اليهود حكم ذلك، والتزما بما فيه، وأجابا بالسمع والطاعة.
ثم جال الحديث في أمر اليهود والنصارى وإعادة وقائعهم الماضية، وأنهم بعد التزامهم أحكام العهد يعودون إلى ما نهوا عنه. فاستقر الحال على أنهم يمنعون من الخدم في جميع الأعمال، ولا يستخدم نصراني ولا يهودي في ديوان السلطان، ولا في شيء من دواوين الأمراء، ولو تلفظ بالإسلام، على أن أحداً منهم لا يكره على الإسلام، فإن أسلم برضاه، لا يدخل منزله، ولا يجتمع بأهله، الا إن اتبعوه في الإسلام، ويلزم أحدهم إذا أسلم. بملازمة المساجد والجوامع. وأن تكون عمامة النصراني واليهودي عشر أذرع، ويلزموا بزيادة صبغها، والا يستخدموا مسلماً، وأن يركبوا الحمير بالآكل، وإذا مروا بجماعة من المسلمين نزلوا عن دوابهم، وأن يكون قيمة حمار أحدهم أقل من مائة درهم، وأن يلجأوا إلى أضيق الطرق، ولا يكرموا في مجلس، وأن تلبس نساؤهم ثياباً مغيرة الزي إذا مررن في الطرقات، حتى أخفافهن تكون في لونين، ولا يدخلن حمامات المسلمين مع المسلمات. وكتب بذلك كله مراسيم سلطانية سار بها البريد إلى البلاد الإسلامية، فكان تاريخها ثاني عشري جمادى الآخرة، وقرىء منها مرسوم. بمجلس السلطان في يوم الخميس خامس عشريه. وركب من الغد يوم الجمعة سادس عشريه الأمير سيف الدين قشتمر الحاجب، ومعه الشريف شهاب الدين المنشيء بالمراسيم السلطانية إلى البلاد الإسلامية.
وقرىء مرسوم بجامع عمرو من مدينة مصر، وآخر بجامع الأزهر من القاهرة، فكان يوماً عظيماً هاجت فيه حفاظ المسلمين، وتحركت سواكنهم، لما في صدورهم من الحنق على النصارى، ونهضوا من ذلك المجلس بعد صلاة الجمعة، وثاروا باليهود والنصارى، وأمسكوهم من الطرقات، وتتبعوهم في المواضع وتناولوهم بالضرب، ومزقوا ما عليهم من الثياب، وأكرهوهم على الإسلام، فيضطرهم كثرة الضرب والإهانة إلى التلفظ بالشهادتين خوف الهلاك. فإنهم زادوا في الأمر حتى أضرموا النيران، وحملوا اليهود والنصارى، والقوهم فيها. فاختفوا في بيوتهم، حتى لم يوجد منهم أحد في طريق ولا ممر، وشربوا مياه الآبار لامتناع السقائين من حمل الماء من النيل اليهم.
فلما شنع الأمر نودي في القاهرة ومصر الا يعارض أحد من النصارى أو اليهود، فلم يرجعوا عنهم. وحل بهم من ذلك بلاء شديد، كان أعظمه نكاية لهم أنهم منعوا من الخدم بعد إسلامهم، فإنهم كانوا فيما مضى من وقائعهم إذا منعوا من ذلك كادوا المسلمين لإظهار الإسلام، ثم بالغوا في إيصال الأذي لهم بكل طريق، بحيث لم يبق مانع يمنعهم لأنه صار الواحد منهم فيما يظهر مسلماً ويده مبسوطة في الأعمال، وأمره نافذ، وقوله ممتثل. فبطل ما كانوا يعملون، وتعطلوا عن الخدم في الديوان، وامتنع اليهود والنصارى من تعاطى صناعة الطب. وبدل الأقباط جهدهم في إبطال ذلك، فلم يجابوا اليه.
ثم لم يكف الناس من النصارى ما مر بهم حتى تسلطوا على كنائسهم ومساكنهم الجليلة التي رفعوها على أبنية المسلمين، فهدموها. فازداد النصارى واليهود خوفاً على خوفهم، وبالغوا في الاختفاء، حتى لم يظهر منهم أحد في سوق ولا في غير. ثم وقعت قصص على لسان المسلمين بدار العدل تتضمن أن النصارى استجدوا في كنائسهم عمال، ووسعوا بناءها، وتجمع من الناس عدد لا ينحصر، واستغاثوا بالسلطان في نصرة الإسلام، وذلك في يوم الاثنين رابع عشر رجب. فرسم لهم أن يهدموا الكنائس المستجدة، فنزلوا يداً واحدة وهم يضجون. وركب الأمير علاء الدين على بن الكوراني والى القاهرة ليكشف عن صحة ما ذكروه، فلم يتمهلوا بل هجموا على كنيسة بجوار قناطر السباع، وكنيسة للأسرى في طريق مصر، ونهبوهما وأخذوا ما فيهما من الأخشاب والرخام وغير ذلك، ووقع النهب في دير بناحية بولاق التكرور. وهجموا على كنائس مصر والقاهرة، وأخربوا كنيسة بحارة الفهادين من الجوانية بالقاهرة. وتجمعوا لتخريب كنيسة بالبندقانيين من القاهرة، فركب والي القاهرة، فركب والي القاهرة ومازال حتى ردهم عنها، وتمادى هذا الحال حتى عجزت الحكام عن كفهم.
فلما كان في أخريات رجب بلغ الأمير صرغتمش أن بناحية شبرا الخيام كنيسة فيها أصبع الشهيد التي ترمى كل سنة في النيل، فتحدث مع السلطان فيه. فرسم بركوب الحاجب والوالي إلى هذه الكنيسة وهدمها، فهدمت ونهبت حواصلها، وأخد الصندوق الذي فيه أصبع الشهيد، وأحضر إلى السلطان وهو بالميدان الكبير قد أقام به كما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. فأضرمت النار، وأحرق الصندوق. بما فيه، ثم ذرى رماده في البحر.
وكان يوم رمى هذا الأصبع في النيل من الأيام المشهودة، فإن النصارى كانوا يجتمعون من جميع الوجه البحري ومن القاهرة ومصر في ناحية شبرا، وتركب الناس المراكب في النيل، وتنصب الخيم التي يتجاوز عددها الحد في البر، وتنصب الأسواق العظيمة، ويباع من الخمر ما يودون به ما عليهم من الخراج، فيكون من المواسم القبيحة. وكان المظفر بيبرس قد أبطله كما ذكره، فأكذب الله النصارى في قولهم أن النيل لا يزيد ما لم يرم فيه أصبع الشهيد، وزاد تلك السنة حتى بلغ إلى أصبع من ثمانية عشر ذراعاً. ثم سعت الأقباط حتى أعيد رميه في الأيام الناصرية، كما تقدم، فأراح الله منه بإحراقه. وأخذ عباد الصليب في الإرجاف بأن النيل لا يزيد في هذه السنة، فاظهر الله تعالى قدرته، وبين للناس كذبهم، بأن زاد النيل زيادة لم يعهد مثلها كما سيأتي ذكره.
وكثرت الأخبار من الوجه القبلي والوجه البحري بدخول النصارى في الإسلام، ومواظبتهم المساجد، وحفظهم للقرآن، حتى أن منهم من ثبتت عدالته وجلس مع الشهود. فإنه لم يبق في جميع أعمال مصر كلها قبليها وبحريها كنيسة حتى هدمت، وبنى مواضع كثير منها مساجد. فلما عظم البلاء على النصارى، وقلت أرزاقهم، رأوا أن يدخلوا في الإسلام. ففشا الإسلام في عامة نصارى أرض مصر، حتى أنه أسلم من مدينة قليوب خاصة في يوم واحد أربعمائة وخمسون نفراً، وممن أسلم في هذه الحادثة الشمس القسى، والخيصم. وحمل كثير من الناس فعلهم هذا على أنه من جملة مكرهم، لكثرة ما شنع العامة في أمرهم، فكانت هذه الواقعة أيضاً من حوادث مصر العظيمة.
ومن حينئذ اختلطت الأنساب بأرض مصر، فنكح هؤلاء الذين أظهروا الإسلام بالأرياف المسلمات، واستولدوهن، ثم قدم أولادهم إلى القاهرة، وصار منهم قضاة وشهود وعلماء، ومن عرف سيرتهم في أنفسهم، وفيما ولوه من أمور المسلمين، تفطن لما لا يمكن التصريح به.
وفي يوم السبت ثاني عشري رجب: ركب السلطان إلى الميدان الكبير المطل على النيل، بعد كسر الخليج من العادة، وعاد من أخره إلى القلعة. ثم ركب السلطان السبت الثاني إلى الميدان. وأقامبه ومعه الأمير شيخو، والأمير طاز، والأمير صرغتمش، وبقية الأمراء الخاصكية. وعمل السلطان به الخدمة في يومي الإثنين والخميس، كما تعمل بالإيوان في القلعة، ولم يتقدمه أحد إلى مثل هذا.
وكانت العامة في طول إقامته بالميدان لا يبرحون على الحيطان للفرجة هناك، وتجمع منهم عالم عظيم، ونصبت هناك أسواق كثيرة، فصاروا يخوضون فيما لا يعنيهم ويتكلمون في الليل بكل فاحشة، في حق كبراء الدولة، ويقولون ليسمع السلطان: قم اطلع قلعتك، ما جرت بذا عادة، واحترس على نفسك، وإياك تأمن لأحد. فلما كثر هذا وشبهه من كلامهم، وسمعه منهم الأمراء، اشتد حنقهم، وأمروا مماليكهم فركبوا، وأوقعوا بهم ضرباً بالدبابيس والعصى، ففروا هاربين، والقوا أنفسهم في البحر، وتفرقوا في كل جهة. فقبض منهم جماعة، وأسلموا لوالى القاهرة، ورسم له بأن يتتبع غوغاء العامة حيث كانوا، فهجم أماكنهم، وقبض على جماعة كثيرة وسجنهم. فاظهر النصارى الشماتة بهم، وتجاهروا بأن هذا عقوبة من الله لهم بما فعلوه معهم. فشق هذا على الأمراء، وأمروا بأن يفرج عنهم حتى لا يشمت بهم أهل الكفر، فأطلقوا، وخرج عدة منهم إلى الأرياف.
وركب السلطان في يوم السبت ثالث شعبان- بعد ما لعب بالكرة على عادته- إلى القلعة. فلما اسثقر بها حسن له ناظر الخاص أن ينقل ما بخزانة الخاص من التحف التي قدمها النواب وغيرهم إلى داخل الدار، فحملت كلها. ثم كتب ناظر الخاص أسماء جماعة لهم أموال، من جملتهم خالد بن داود مقدم الخاص، وأغرى السلطان به. فأخذ الأمير قجا أمير شكار في الدفع عن خالد، وكان يعنى به، ثم أعلم خالداً بما كان، فالتزم له خالد أن يحصل للسلطان أموالاً عظيمة من ودائع ابن زنبور أضعاف ما يطلب منه، على أن يعفى من تقدمة الخاص، وينعم عليه بإقطاع، ويبقى من جملة الأجناد فأتقن له أمير شكار ذلك مع السلطان، فأجاب السلطان سؤاله، واستدعى خالد والبسه الكلفتاه، ومكنه مما يريد. فنزل خالد وقبض على جماعة من الزام ابن زنبور، فدلوه على صندوق قد أودع عند قاضى الحنفية بالجيزة، فركب اليه، وأخذه منه، فوجد فيه مصاغاً وزراكش. فأخذ خالد في تتبع حواشي ابن زنبور حتى أخذ منهم ما ينيف على مائة ألف دينار، فاشتكى ناظر الخاص من فعله نكاية بالغة.
فلما كان في شهر رمضان خرج السلطان إلى ناحية سرياقوس على العادة، ومعه والدته وحريمه، وجميع الأمراء وغيرهم من أهل الدولة، وتأخر الأمير شيخو بإصطبله لوعك به. فكثر لهو السلطان ولعبه، وشغفه بالأمير جنتمر حتى أفرط، وجمع عليه الأمير قجا أمير شكار وأخوته.
ومال السلطان إلى جهة الأمير طاز وأعرض عن الأمير شيخو والأمير صرغتمش. وصار يركب النيل في الليل، ويستدعى أرباب الصنائع، من الطباخين والخراطين والقزازين، ونصب له نول قزازة، وعمل هذه الأعمال بيده، فكان إذا رأى صناعة من الصناعات عملها في أيسر زمن بيده. وعمل لخوند قطلوبك أمه مهما طبخ فيه الطعام بيده، وعمل لها جميع ما يعمل في الموكب السلطاني، ورتب لها الخدام والجواري، ما بين حمدارية وسقاة، ومنهم من حمل الغاشية والقبة والطريق وأركبها في الحوش بزي الملك وهيئة السلطنة. وخلع وأنفق، ووهب شيئاً كثيراً من المال. ثم شد في وسطه فوطة، ووقف فطبخ الطعام في هذا المهم بنفسه، ومد السماط بين يديها بنفسه، فكان مهما يخرج عن الحد في كثرة المصروف، فأنكر ذلك الأمير شيخو، وكتم ما في نفسه. فلما عاد السلطان في آخر الشهر من سرياقوس إلى القلعة، وقد بلغ شيخو أن السلطان قد اتفق مع إخوة طاز على أن يقبض عليه وعلى صرغتمش يوم العيد. وكان طاز قد توجه إلى البحيرة في هذه الأيام، بعد ما قرر مع السلطان ما ذكر، فركب السلطان في يوم الأحد أول شوال لصلاة العيد في الإصطبل على العادة، وقرر مع كلتاي وجنتمر واصر عمر ما يفعلونه، وأمر بمائة فرس فشدت وأوقفت، فلم يحضر شيخو صلاة العيد، وكان قد بلغه جميع ما تقرر، فباتوا ليلة الاثنين على حذر، وأصبحوا وقد اجتمع مع الأمير شيخو من الأمراء صرغمتش وطقطاى ومن يلوذ بهم، وركبوا إلى تحت الطبلخاناه، ورسموا للاصر علم بضرب الكوسات، فضربت حربياً. فركب جميع العسكر تحت القلعة بالسلاح وصعد الأمير تنكربغا والأمير أسنبغا المحمودي إلى القلعة، وقبضا على السلطان وسجناه مقيداً، فزال ملكه في أقل من ساعة وصعد الأمير شيخو ومن معه من الأمراء إلى القلعة، وأقامت أطلابهم على حالها تحت القلعة. وقبض الأمير شيخو على إخوة الأمير طاز، واستشار فيمن يقيمه للسسلطة، وصرح هو ومن معه بخلع الملك الصالح صالح، فكانت مدة سلطنته ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام، فسبحان من لا يزول ملكه.
السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون الالفي ولما قبض على الملك الصالح وخلع اقتضى رأى الأمير شيخو- وسائر الأمراء- إعادة السلطان حسن، لما كان يبلغهم عنه من ملازمته في مدة حبسه للصلوات الخمس والإقبال على الاشتغال بالعلم حتى إنه كتب بخطه كتاب دلائل النبوة للبيهقي.
فاستدعوا الخليفة وقضاة القضاة، وأحضروا السلطان من محبسه، وأركبوه بشعار المملكة، ومشى الأمراء كلهم، وسائر أرباب الدولة في ركابه، حتى جلس على تخت الملك، وبايعه الخليفة، فقبلوا له الأرض على العادة، وذلك في يوم الإثنين ثاني شهر شوال. وبات الأمراء في الأشرفية من القلعة. وأرسل الأمير صرغتمش، والأمير تقطاى الدوادار، إلى الأمير طاز ليخبراه. مما وقع، فصارا اليه، ولقياه بالطرانة، وقد رجع. وبلغه الخبر، فعرفاه ما كان في غيبته، وأقبلا معه إلى حيث أرادا تعدية النيل، فأرسل الله ريحاً عاصفاً منعت المعادى من المسير. فأقاموا على الشط- والريح قوية- إلى بعد العصر، ثم عدوا إلى مدينة مصر.
ونزل الأمير طاز بالمدرسة المعزية ليفطر، فإنه كان صائماً. وبلغ إخوته ومن يلوذ به مجيئه، فأخذوا في تدبير أمورهم، فلم يجدوا إلى ذلك سبيلا، لاحتراز الأمير شيخو منهم، والتوكيل بهم. الا أن الأمير كلتا ركب في عدة من مماليكه- ومماليك أخيه الأمير طاز- يريد ملتقاه، فأنكر شيخو ذلك.
واتفق أن مماليكه ظفروا. بمملوكين من أصحاب كلتا لابسين، وأحضروهما إلى شيخو. فركب الأمير بلجك في عدة من مماليكه، والتقاه بعد العصر عند باب اصطبل طاز، فلم يطق محاربته. لكثرة جمعه، فرجع، فرموه بالنشاب وساروا إلى لقاء طاز. وبعث الأمير شيخو. بمماليك كل من الاصرين صرغتمش وتقطاى ليلتقوهما، فجدوا في المسير حتى لقوهما عند الرصد بعد المغرب، وهما مع الأمير طاز. فما هو الا أن أتت أطلاب الاصرين، رفس كل منهما فرسه، ودكس من جانب طاز، وصار في طلبه بين مماليكه، فإنهما كانا لما رأيا مماليك كلتا قد أقبلوا إلى لقاء طاز وهم ملبسين، خافا على أنفسهما. وفي الحال وقعت الضجة ولم يبق الا وقوع الحرب. فتفرقت مماليك طاز عنه لقلة عددهم، فإن الأطلاب صارت تتلاحق من قبل الأمير شيخو شيئاً بعد شيء، فطلب طاز أيضاً نجاة نفسه وولى بفرسه، فلم يعرف أين يذهب. وأقبلت الأمراء إلى الأمير شيخو، فأركب الأمير قطلوبغا الطرخانى في جماعة من الأمراء لحراسة الطرقات، فتفرقوا في عدة جهات، وبات بقية الأمراء في الأشرفية من القلعة، ووقفت عدة وافرة تحت القلعة.
وبات السلطات والأمير شيخو على باب الإصطبل، فكانوا طول ليلتهم في أمر مريج وظلوا يوم الخميس وليلة الجمعة كذلك. ففي أثناء ليلة الجمعة حضر الأمير تقطاى الدوادار- وصحبته الأمير طاز- إلى عند الأمير شيخو. وكان طاز قد التجأ إلى بيت تقطاى، فإن أخت طاز كانت تحته، فقام اليه الأمير شيخو وعانقه، وبكى بكاء كثيراً، وتعاتبا، وأقام عنده ليلته تلك. وركب به يوم الجمعة إلى القلعة، فأقبل عليه السلطان، وطيب خاطره، ورسم له بنيابة حلب، عوضاً عن الأمير أرغون الكاملى. فلبس طاز التشريف في يوم السبت سابعه، وسار من يومه ومعه الأمير شيخو وصرغتمش، وجميع الأمراء لوداعه، فسال أن تكون إخوته صحبته، فأجيب إلى ذلك، وأخرجوا اليه، بحيث لم يتأخر عنه أحد من حاشيته، وعاد الأمراء، ومضى لمحل نيابته. وسجن الملك الصالح صالح حيث كان أخوه الملك الناصر حسن مسجوناً.
ومن غريب ما وقع- مما فيه أعظم معتبر- أنه عمل الطعام للسلطان الملك الصالح ليمد بين يديه على العادة، وعمل الطعام للناصر حسن ليأكله في محبسه، فاتفق خلع الصالح في أق من ساعة وسجنه، وولاية أخيه حسن السلطنة عوضه، فمد السماط بالطعام الذي عمل ليأكله الصالح، فأكله حسن في دست مملكته، وأدخل الطعام- الذي عمل لحسن ليأكله في محبسه- على الصالح، فأكله في السجن الذي كان أخوه حسن فيه. فسبحان محيل الأحوال، لا اله الا هو.
وفيها كان القبض على تاج الدين أحمد بن الصاحب أمين الملك عبد الله بن غنام، ناظر الخاص وناظر الجيش. وعددت له ذنوب، منها أنه لما ولى نظر الجيش- بعد علم الدين بن زنبور- تشدد فيه، مع سلوكه سبيل الأمانة على المعنى. بمنع المقايضات والنزولات، حتى قلت أرزاقهم. ثم لما ولى نظر الخاص بعد بدر الدين- مضافاً إلى الجيش- ثم مات الوزير موفق الدين، مالط إلى جهة طاز والملك الصالح، وأوقع في ذهنهما أنه لا يتمكن من عمل مصالح السلطان مع تحدث الأمير شيخو في أمور الدولة. فنقل ذلك إلى شيخو وصرغتمش، فقام صرغتمش على شيخو حتى استعفي من التحدث في أمور الدولة، وقلدوا السلطان أمرها، فاستقل بالتدبير وحده. وجعل الأمير طاز كأنه يتحدث عنه من غير إظهار ذلك، فاتفق مع الأمير طاز على توفير جملة من المعاليم المستقرة للمباشرين، فوفر منها ما تقدم ذكره، ولم يراع أحداً، فتنكرت القلوب له. ونقل مع هذا الأمير شيخو عنه أنه أغرى الملك الصالح به. وعرفه كثرة متاجره وأمواله، حتى تنكر عليه وعلى الأمير صرغتمش. فلما توطدت دولة الملك الناصر حسن، تفرغ الأمير شيخو لناظر الخاص. وعندما خرج من خزانة الخاص بالقلعة أخذ ووضع في رقبته باسة وجنزير، وكشف رأسه، وتناولته أيدي الناس يضربونه بنعالهم، وهم خدام السلطان ومماليكه بقتله، فلولا من هو موكل به، لأتوا على نفسه، ومازالوا به حتى أدخلوه قاعة الصاحب بالقلعة. وماجت القاهرة ومصر بأهلها لسرورهم بذلك، فكان يوماً معدوداً. ووقع الطلب عليه بحمل المال، وبسطت عليه العقوبات بأنواعها. وتولى تعذيبه عدوه خالد بن داود، فقبض على أخيه كريم الدين ناظر البيوت، وعلى الزامه وأصهاره وأتباعه. وولى مجد الدين موسى الهذبانى شاد الدواوين، فعظمت مصيبتهم وجلت بلاياهم، فإنه أدخل على تاج الدين. بمزين حلق رأسه ثم شق جلدة رأسه بالموسى، وحشى جراحاته من الخنافس. ثم البس رأسه طاسة من نحاس قد أوقد عليه بالنار، حتى اشتدت سخونتها، فعندما أحست الخنافس بالحرارة سعت لتخرج، فلم تجد سبيلاً، فجعلت تنقب في جراحات رأسه حتى هلك، بعد ما رأى في نفسه العبر من كثرة تنوع العذاب الاليم عليه. واعتزل بخبيئة في داره، فنزل الأمير قشتمر الحاحب، ومجد الدين الهذبانى- شاد الدواوين- وخالد بن داود اليها، فوجدوا ستة الاف دينار. وأبيع موجوده، وهدمت داره، فكانت جملة ما أخذ منه عشرة الاف دينار.
واستقر عوضه في نظر الخاص والجيش علم الدين عبد الله بن نقولا، كاتب الخزانة. واستقر كريم الدين أكرم بن شيخ في نظر الدولة ونظر البيوت. واستقر الفخر ابن السعيد- صاحب ديوان الجيش- في كتابة الخزانة عوضه.
وفي هذا الشهر: قدم الأمير أرغون الكاملى نائب حلب، فأكرم إكراماً زائداً، وخلع عليه، وأنعم عليه بإقطاع الأمير طاز من غير زيادة، وهي منية ابن خصيب وناحية أخرى.
وفي يوم الأربعاء سابع عشر ذي القعدة: أخرج الأمير أسندمر العمرى لنيابة حماة، ونقل الأمير سيف الدين طبيرق نائب حماة إلى إمرة بدمشق. ونقل الأمير منجك من صفد إلى نيابة طرابلس، عوضاً عن أيتمش الناصري بعد وفاته.
وفي هذا الشهر: ركب السلطان إلى جهة الأهرام، وعاد فدخل إلى بيت الأمير شيخو، يعوده وقد وعك، فقدم له تقدمة جليلة.
وفيه خلع على الأمير صرغتمش، واستقر في نظر المارستان المنصوري، وكان قد تعطل نظره من متحدث تركي، وانفرد بالكلام فيه القاضي علاء الدين على بن الأطروش وفسد حال وقفه، فإنه كان يكثر من مهاداة أمراء الدولة ومدبريها، ويمهل عمارة رباعه حتى تشعثت فنزل اليه الأمير صرغتمش، ودار فيه على المرضى، فساءه ما رأى من ضياعهم، وقلة العناية بهم، فاستدعى القاضي ضياء الدين يوسف بن أبى بكر بن محمد بن خطيب بيت الآبار وعرض عليه التحدث في المارستان كما كان، عوضاً عن ابن الأطروش. فامتنع من ذلك، فمازال به حتى أجاب. وركبا إلى أوقاف المارستان بالمهندسين، لكشف ما يحتاج اليه من العمارة، فكتب تقدير المصروف ثلاثمائة ألف درهم، فرسم بالشروع في العمارة، فعمرت الأوقاف حتى ترفع ما فسد منها، ونودى بحمايه من سكن فيها، فزاد ريع الوقف في الشهر نحو أربعين ألف درهم، ومنع من يتعرض اليهم، وانصلحت أحوال المرضى أيضاً.
وعرض الأمير صرغتمش جميع مستحقى الوقف من الفقهاء والقراء وغيرهم، وأكثر من سؤالهم، ونقب عن أمورهم، والزمهم بمواظبة وظائفهم.
وفيها انفتح باب السعي عند الأمير شيخو بالبراطيل في الولايات، فسعى جماعة بأموال في عدة جهات، فأجيبوا إلى ذلك، وقرروا فيما أرادوه، وأخذ منهم ما وعدوا به، منهم حاجي أستادار ظهير بغا، استقر في ولاية قوص بمائتين وخمسين ألف درهم، قام بها للسلطان والأمراء. واستقر أيضاً ناصر الدين عمد بن إياس بن الدويدارى في كشف الوجه البحري، عوضاً عن عز الدين أزدمر الأعمى بنحو ستة الاف دينار.
وكان أزدمر قد عمى من اثنتي عشرة سنة، وهو لا يظهر أنه أعمى، ويركب، ويكبس البلاد، ويحضر الخدمة السلطانية مع الأمراء، وله مملوك يكون معه حيث سلك، يعرفه ما يريد، وإذا رأى أحداً يقصده يعرفه به، فيستقبله من بعد ويسلم عليه كأنه يراه. وكذا إذا جلس للحكم أرشده سراً لما لابد منه. ومع ذلك فقد كان لطول مدته وتمرنه صار يعرف أكثر أحوال العربان، ويستحضر أسماءهم، فيقوى بذلك على تمشية أموره، بحيث يخفي على أكثر الناس عماؤه، وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه.
وفيها خرج ركب الحجاج الرجبية، صحبة الأمير عز الدين أزدمر الخازندار، ونزل بركة الجب على العادة في يوم الاثنين حادي عشرين رجب. وسافر فيه الطواشي شبل الدولة كافور الهندي، وقطب الدين هرماس وجماعة من الأعيان. فلما وصل الركب إلى بدر، لقيهم قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة، وقد توجه من المدينة النبويه- وكان مجاوراً بها- يريد مكة ليصوم بها شهر رمضان. وعند نزولهم بطن مرو لقبهم الشريف عجلان أمير مكة. فخلع عليه، ومضوا إلى مكة، فدخلوها معتمرين يوم الخميس تاسع عشرين شعبان، فنودي من الغد مستهل رمضان الا يحمل أحد من بنى حسن والقواد والعبيد سلاحاً بمكة، فامتنعوا من حمله. وكان الرخاء كثيراً كل غرارة قمح- وهي سبع ويبات مصرية- بثمانين درهماً، والغرارة الشعير بخمسين درهماً. الا أن الماء قليل، بحيث نزحت الآبار وانقطعت عين جوبان، فأغاثهم الله بمطر عظيم رووا منه. وحضر أبو القاسم محمد بن أحمد اليمنى- إمام الزيدية الذي ضربه عمر شاه أمير الركب في السنة الخالية- إلى قاضى القضاة عز الدين بن جماعة تائباً مما كان عليه من مذهب الزيدية، فعقد له مجلس بالحرم، حضره أمير الركب وعامة أهل مصر ومكة، وأشهدهم أنه رجع عن مذهب الزيدية، وتبرأ إلى الله تعالى من إباحة دماء الشافعية وأموالهم، وأنه يواظب على صلاة الجمعة والجماعة مع أئمة الحرم، وإن خرج عن ذلك فعل به ما تقتضيه الشريعة، وكتب خطه بذلك،. فقال بعضهم:
استتوبوا الزيدى عن مذهب ** قد كان من قبل به معجبا

لو لم يدارك نفسه بتوبة ** لعجل الله له مذهبا

وهبت الريح بمكة من قبل اليمن، أظلم عقبيها الحرم، وفشث الأمراض في الناس، حتى لم يكن أحد الا وبه وعك، الا أنه كان سليماً يحصل البرء منه بعد أسبوع. فلما كان شهر شوال ظهر بعد العشاء الآخرة من قبل جبل أبي قبيس، كوكب في قدر الهلال، وأكثر نوراً منه، ومر على الكعبة ثم اختفي بعد ثلاثة درج، فسمع من فقير يماني وهو يقول: لا اله الا الله، القادر على كل شيء، هذا يدل على رجل يكون في شدة، يفرج الله عنه، ورجل يكون في فرج يصير إلى شدة، والله يدبر الأمر بقدرته. وقدم الخبر في أخريات شوال بخلع الصالح وإعادة السلطان حسن، وكان اتفق أيضاً أن الشيخ المعتقد أبا طرطور قال يوماً: لا اله الا الله، اليوم جلس حسن في دست مملكة مصر. ولم يكن عنده سوى الشيخ قطب الدين أبى عبد الله محمد بن أبى الثناء محمود ابن هرماس بن ماضي القدسي، المعروف بالهرماس فقام من فوره إلى أمير الركب عز الدين أزدمر وقاضى القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة وهما بالحرم، فجلس اليهما، ثم أطرق ورفع رأسه وقال: لا اله الا الله، اليوم جلس الملك الناصر حسن في دست مملكة مصر عن الملك الصالح صالح، فور خوا ذلك عندكم. فورخه الأمير عز الدين أزدمر. وقدم الخبر بخلع الصالح وجلوس الناصر حسن في ذلك اليوم بعينه. فمن حينئذ ارتبط الأمير عز الدين أزدمر على الهرماس، وأوصله للسلطان حسن حتى بلغ ما بلغ، ظناً منه أن الكلام المذكور كان من قبله على جهة الكشف، وما كان الا مما تلقفه من الشيخ أبي طرطور، فنسبه إلى نفسه.
وفيها كان من زيادة النيل ما يندر وقوع مثله، فإنه انتهى في الزيادة إلى أصابع من عشرين ذراعاً، فقيل خمسة، وقيل سبعة، وقيل عشرون أصبعاً، من عشرين ذراعاً، ففسدت الأقصاب والنيلة ونحوها من الزراعات، وفسدت الغلال التي بالمطاصر والأجران والمخازن، وتقطعت الجسور التي بجميع النواحي، قبليها وبحريها، وتعطلت أكثر الدواليب وتهدمت دور كثيرة مما يجاور النيل والخلجان، وغرقت البساتين، وفاض الماء حتى بلغ قنطرة قديدار فكانت المراكب تصل من بولاق اليها، ويركب الناس في المراكب من بولاق إلى شبرا ودمنهور.
وغرقت كوم الريش، وسقطت دورها، فركب الأمير علاء الدين على بن الكوراني والي القاهرة، والأمير قشتمر الحاحب، وجماعة. وقطعت أشجار كثيرة، وعمل سد عظيم، حتى رجع الماء عن الحسينية بعد ما أشرفت على الغرق، فإن المطرية والاصرية والمنيا وشبرا مع جميع الضواحي بقوا ملقة واحدة متصلة بالنيل الأعظم، فعز التبن بالنواحي لتلفه كله، وبلغ كل حمل عشرين درهماً في الريف، ووصل في القاهرة كل حمل إلى خمسة وأربعين درهماً، ثم انحط إلى خمسة وعشرين درهماً. وتحسنت الأسعار، فبلغ الأردب القمح إلى ستة وثلاثين درهماً، والأردب الشعير إلى عشرين درهماً، والأردب الفول إلى ستة عشر درهماً. وشرق مع ذلك كثير من بلاد الفيوم، فإن جسرها انقطع، فتوجه الأمير ناصر الدين محمد بن المحسنى والأمير مجد الدين موسى الهذبانى، والأمير عمر شاه- كاشف الجسور- وغيره، حتى سدوه وجبوا من بلاد الفيوم ثلاثمائة ألف درهم، وبنوا زريبة حجر موضع الجسر، حتى أتقنوه، ثم عادوا. وغلا البرسيم الأخصر حتى بلغ الفدان بالضواحي إلى مائتين وخمسين درهماً، وفي غيرها إلى مائتين، من قلة الأتبان. وانحط سعر العسل والسكر، وتلفت الفواكه جميعها وهلكت أشجار أكثر البساتين.

.ومات في هذه السنة من الأعيان ممن له ذكر:

الأمير سيف الدين أيتمش المحمدي الناصري نائب طرابلس في رمضان ترقى في الخدم إلى أمره الناصري قريباً من سنة أربع وعشرين، ثم ولى حاجباً في المحرم سنة أربع وأربعين، وانتقل منها إلى الوزارة في شهر رمضان منها، فاستمر إلى سنة خمس وأربعين وأعيد إلى الحجابة. فلما قتل أرغون شاه نائب دمشق استقر عوضه، فقدم دمشق في جمادى الآخرة سنة خمسين، وأقام بها إلى رجب سنة اثنتين وخمسين، فدعى إلى مصر، وقبض عليه بها، وسجن بالإسكندرية، ثم أفرج عنه بعد يسير، وأخرج إلى صفد، ومنها لحق بيبغ روس فأشار عليه بخبره. فلما قدم السلطان إلى دمشق، وعرفت سيرته الحسنة، ولى نيابة طرابلس، فمات بها. وكان لين العريكة، وطى الجانب.
ومات الأمير علاء الدين مغلطاي- أمير شكار واصر أخور- بطالا بدمشق. كان من خواص الناصري، فترقى في خدمته، حتى صار رأس نوبة كبير أمير مايه، واستقر أمير شكار واصر آخور، ثم قبض عليه وأخرج إلى طرابلس، ثم نقل إلى دمشق، فمات بها في عاشر رمضان، وكان حاد الخلق.
ومات جمال الدين أبو الطب الحسين، ابن قاضى قضاة دمشق تقي الدين أبى الحسن على بن عبد الكافي بن على بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام الأنصاري السبكي، بدمشق، في يوم السبت ثاني شهر رمضان، ومولده. بمصر سنة إحدى وعشرين. كتب بديوان الإنشاء في وزارة أبيه، ثم ولى استيفاء الصحبة. وتقلد في سنة تسع وثلاثين إلى نظر الدولة، واستقر عوضه في استيفاء الصحبة أخوه كريم الدين، حتى أمسك مع أبيه في نوبة النشو وعوقبوا. ثم توجه بعد موت أبيه إلى القدس وأقام به مدة. ثم طلب وولى نظر البيوت، فاستعفى منها، وولى نظر النظار بالشام. ثم استعفى منها أيضاً وقدم القاهرة حتى ولى نظر الجيش بعد ابن زنبور، وأضيف اليه نظر الخاص وكان فاضلاً كريماً درس بعدة مواضع.
توفي تاج الدين أبو الفضايل أحمد بن الصاحب أمين الملك عبد الله بن غنام في رابع شوال تحت العقوبة، كما تقدم. وهو أحد كتاب مصر المعدودة، وكان يخدم جريدته بيده، ولا يحتاج إلى كشف عامل ولا غيره، بل يكاد أن يعمل محاسبة كل أحد من ذهنه لفرط ذكائه وشدة فطنته، مع العفة والأمانة، أو التشدد على الناس، والتوفير من الأرزاق حتى لم يعهد أنه جرى على يده رزق لأحد، بل ما برح يومر المال للسلطان إلى أن كان من أمره ما كان. وكان لا يراعى أحداً، ولا يحابى، ويكثر من المحاققة والضبط.
توفي الأمير سيف الدين أياجى نائب قلعة دمشق وتوفى الشريف علاء الدين أبو الحسن على بن عز الدين حمزة بن الفخر على بن الحسن الحسن بن زهرة بن الحسن بن زهرة الحسيني الحلبي، نقيب الأشراف بحلب. قدم القاهرة، وكتب بديوان الإنشاء مدة، ثم عاد إلى حلب، وولى وكالة بيت المال ونقابة الأشراف لها حتى مات، وقد أناف على السبعين.
وتوفي الوزير الصاحب، موفق الدين، أبو الفضل، هبة الله بن سعيد الدولة إبراهيم، في يوم الجمعة ثاني عشرين ربيع الآخر. وكان كاتباً مجيداً مشكور السيرة. له بر ومعروف. باشر أولاً نظر الدولة ثم تنقل إلى الوزارة فلم يزل وزيراً حتى مات، ودفن بتربته من القاهرة، وكانت جنازته حفلة.
وتوفي متملك الأندلس أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل بن فرج بن الأحمر في صلاة عيد الفطر، طعن بخنجر وهو ساجد، فكانت منيته.
وتوفي قاضي القضاة المالكية ببلاد الشرق عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار بن أحمد الإيجي المطرزي المعروف بالعضد الشيرازي الشافعي مسجوناً في سخط صاحب كرمان ومولده سنة ثمانين وستمائة. وله شرح مختصر ابن الحاجب في الأصول صلى الله عليه وسلم المواقف، وكتاب القواعد الغياثية. وكان إماماً في المعقولات والنحو والأصول والمعاني والبيان، مشاركاً في الفقه. وله سعادة ضخمة، وكلمة نافذة. وولاه أبو سعيد القضاء وسكن سلطانية ثم شيراز. وبينه وبين فخر الدين أحمد بن الحسن الجاربردى مناظرات.