فصل: ومات في هذه السنة من الأعيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة اثنتين وستين وستمائة:

استفتح السلطان هذه السنة بالجلوس في دار العدل فأحضرت إليه ورقة مختومة مع خادم أسود تتضمن مرافعة في شمس الدين شيخ الحنابلة، إنه يبغض السلطان ويتمني زوال دولته، لأنه ما جعل للحنابلة نصيبا في المدرسة التي أنشأها بجوار قبة الملك الصالح، ولا ولي حنبليا قاضيا، وذكر أشياء فادحة فيه. فبعث السلطان بها إلى الشيخ، فأقسم إنه ما جري منه شيء، وإنما هذا الخادم طردته من خدمتي. فقال السلطان: ولو شتمتني أنت في حل وأمر فضرب الخادم. مائة عصا.
وفي المحرم: نودي بالقاهرة ومصر أن امرأة لا تتعمم بعمامه ولا تتزيا بزي الرجال، ومن فعلت ذلك بعد ثلاثة أيام سلبت ما عليها من الكسوة وطلب الطواشي شجاع الدين مرشد الحموي إلى قلعة الجبل، وأنكر عليه السلطان اشتغال مخدومه صاحب حماة باللهو، وقرر معه إلزام الأجناد بإقامة البزك وتكميل العدد، وكتب له تقليدا وسافر إلى حماة. وقدم للأمير جلال الدين يشكر ابن الدوادار المجاهد دوادار الخليفة ببغداد وكان قد تأخر حضوره فأحسن إليه السلطان وأعطاه إمرة طبلخاناه.
وفي يوم الأحد الخامس من صفر: اجتمع أهل العلم بالمدرسة الظاهرية بين القصرين عند تمام عمارتها، وحضر القراء وجلس أهل كل مذهب في إيوانهم. وفوض تدريس الحنفية للصدر مجد الدين عبد الرحمن بن الصاحب كمال الدين بن العديم، وتدريس الشافعية للشيخ تقي الدين محمد بن الحسن بن رزين، والتصدير لإقراء القرآن للفقيه كمال الدين المحلي، والتصدير لإفادة الحديث النبوي للشيخ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدمياطي. وذكروا الدروس ومدت الأسمطة، وأنشد جمال الدين أبو الحسين الجزار يومئذ:
ألا هكذا يبني المدارس من بني ** ومن يتغالى في الثواب وفي الثنا

لقد ظهرت الظاهر الملك همة ** بها اليوم في الدارين قد بلغ المني

تجمع فيها كل حسن مفرق ** فراقت قلوبا للأنام وأعينا

ومذ جاورت قبر الشهيد فنفسه ** النفيسة منها في سرور وفي هنا

وما هي إلا جنة الخلد أزلفت ** له في غد فاختار تعجيلها هنا

وأنشد عدة من الشعراء أيضاً ومنهم السراج الوراق، والشيخ جمال الدين يوسف بن الخشاب، فخلع عليهم وكان يوما مشهودا. وجعل السلطان بهذه المدرسة خزانة كتب جليلة، وبني بجانبها مكتبا للسبيل، وقرر لمن فيه من أيتام المسلمين الخبز في كل يوم والكسوة في فصل الشتاء والصيف.
وفيه ورد الخبر مع الحاج بأنه خطب للسلطان. بمكة، وأن الصدر جمال الدين حسين ابن الموصلي، كاتب الإنشاء المتوجه إلى مكة، تسلم مفتاح الكعبة وقفله بالقفل المسير صحبته، وأباح الكعبة للناس مدة ثلاثة أيام بغير شيء يؤخذ منهم. وفيه قرئ كتاب وقف الخان. بمدينة القدس في مجلس السلطان بقلعة الجبل، وحضر قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز قراءته، وكتب به عدة نسخ. ووقف السلطان أيضاً اصطبلين تحت القلعة، يعرف أحدهما بجوهر النوبي، على وجوه البر.
وفيه ورد الخبر بأنه رتب. بمدينة الخليل السماط والرواتب للمقيمين والواردين، وكان قد بطل ذلك من مدة أعوام كثيرة.
وفيه سار السلطان إلى وسيم ومضى إلى الغربية، فصار يسير منفردا في خفية ويسال عن وإلى الغربية الأمير بن الهمام وعن سيرة نوابه وغلمانه ومباشريه، فذكرت له عنه سيرة سيئة، فقبض عليه وأدبه وأقام غيره، وشكى إليه من ظلم بعض المباشرين النصارى، فأمر به فشنق من أجل إنه تكلم. بما يوجب ذلك. ودخل السلطان دمياط، ثم عاد إلى أشموم، وسار من المنزلة إلى الشرقية. وفيه سأل الفرنج أن يؤذن لهم في زراعة ما بيدهم من بلاد الشام وتقويتها بجملة من الغلال، فتقررت الهدنة معهم إلى أيام، وأذن لهم ذلك فزرعوا.
وفي يوم الجمعة حادي عشريه: مات الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك المنصور أبو إبراهيم بن الملك المجاهد شيركوه بن الأمير ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادي بن مروان صاحب حمص، عن غير ولد ولا أخ ولا ولي عبد. فبعث السلطان إلى الأمير عز الدين بيليك العلائي أحد الأمراء، فتسلمها في سابع عشريه وحلف الناس بها للملك الظاهر، وتسلم الرحبة أيضاً، وبعث السلطان إليها عشرين ألف دينار عينا، وولي مدينة حران الأمير جمال الدين الجاكي، وولي مدينة الرقة أميرا آخر. وورد الخبر بأن متملك جزيرة دهلك ومتملك جزيرة مواكن، يتعرضان إلى أموال من مات من التجار فسير السلطان إليها أحد رجال الحلقة رسولا، ينكر عليهما.
وفي هذه السنة: بلغ ثمن القرط الذي قضمته الخيول السلطانية وجمال المناخات بأرض مصر، ما مبلغه خمسون ألف دينار.
وفي هذه السنة: ارتفعت الأسعار. بمصر، فبلغ الأردب القمح نحو المائة درهم نقرة، فأمر السلطان بالتسعير فاشتد الحال وعدم الخبز.
وبلغ القمح مائة درهم وخمسة دراهم الأردب، والشعير إلى سبعين درهما الأردب، والخبز ثلاثة أرطال بدرهم، واللحم كل رطل بدرهم وثلث، وبلغ بالإسكندرية الأردب القمح ثلاثمائة وعشرين درهما من الورق.
ثم اشتد الحال بالناس حتى أكلوا ورق اللفت والكرنب ونحوه، وخرجوا إلى الريف فأكلوا عروق الفول الأخضر.
فلما كان يوم الخميس سابع ربيع الآخر. نزل السلطان إلى دار العدل وأبطل التسعير، وكتب إلى الأهراء ببيع خمسمائة أردب كل يوم لضعفاء الناس، ويكون البيع من ويبتين إلى ما دون ذلك حتى لا يشتري من يخزن.
ونودي للفقراء فاجتمعوا تحت القلعة، ونزل الحجاب إليهم فكتبوا أسمائهم، ومضى إلى كل جهة حاجب فكتب ما بقي في القاهرة ومصر من الفقراء، وأحضروا عدتهم فبلغت ألوفا.
فقال السلطان: والله لو كانت عندي غلة تكفي هذا العالم لفرقتها.
ثم أخذ ألوفا منهم، وأعطي لنواب ابنه الملك السعيد مثل ذلك، وأمر في ديوان الجيش فكتب باسم كل أمير جماعة على قدر عدته، وأعطي الأجناد والمفاردة من الحلقة والمقدمين والبحرية، وعزل التركمان ناحية والأكراد ناحية. وأمر أن يعطي كل فقير كفايته مدة ثلاثة أشهر، وأعطي للتجار طائفة من الفقراء، وأعطي الأغنياء على اختلاف طبقاتهم كل أحد بقدر حاله. وأمر أن يفرق من الشون السلطانية على أرباب الزوايا في كل يوم مائة أردب، بعد ما يعمل خبزا بجامع ابن طولون.
ثم قال السلطان: هؤلاء المساكين قد جمعناهم اليوم وانقضي نصف النهار، فادفعوا لكل منهم نصف درهم يتقوت به خبزا، ومن غد يتقرر الحال ففرق فيهم جملة كبيرة. وأخذ الصاحب بهاء الدين طائفة العميان، وأخذ الأتابك جماعة التركمان، فلم يبق أحد من الخواص ولا من الطاشي ولا من الحجاب، ولا من الولاة وأرباب المناصب وذوي المراتب وأصحاب المال، حتى أخذ جماعة من المساكين. وقال السلطان للأمير صارم الدين السعودي وإلى القاهرة: خذ مائة فقير أطعمهم لله. فقال الأمير: قد فعلت ذلك، وأخذتهم دائماً. فقال السلطان: ذلك فعلته ابتداء من نفسك، وهذه المائة خذها لأجلي فأخذ مائة مسكين أخرى.
وشرع الناس في فتح المخازن وتفرقة الصدقات، فانحط السعر عشرين درهما الأردب، وقلت الفقراء. واستمر الحال إلى شهر رمضان، فدخل المغل الجديد وانحل السعر في يوم واحد أربعين درهما الأردب.
وفي اليوم الذي جلس فيه السلطان بدار العدل، رفعت إليه قصة ضمان دار الضرب فيها بوقف الدراهم، وسألوا إبطال الدراهم الناصرية، وأن ضمانهم مبلغ مائتي ألف وخمسين ألف درهم، فأمر السلطان أن يحط من ضمانهم مبلغ خمسين ألف درهم، وقال: لا نؤذي الناس في أموالهم.
وفي العشرين من ربيع الآخر: كانت زلزلة عظيمة هدمت عدة أماكن.
وفي ثالث عشريه: رسم بمسامحة بنات الأمير حسام الدين لاجين الجوكندار العزيزي. بما وجب للديوان في تركة أبيهن وكان قد مات بدمشق في رابع عشر المحرم وهو مبلغ أربعمائة ألف درهم نقرة، خارجا عن ماله من الأملاك والغلال والخيل. وكتب السلطان بذلك إلى الشام، وقصد بدلك أن يفهم أمراءه أن من مات في خدمته وحفظ يمينه، ينظر في أمر ورثته ويبقي عليهم ما يخلفه.
ومات الأمير شهاب الدين القيمري نائب السلطنة بالفتوحات الساحلية، فأعطي ابنه إقطاعه وهو مائة طواش.
ولما أسر الفرنج الأمير شجاع الدين والي سرمين أبقي السلطان إقطاعه بيد إخوته وغلمانه، كل ذلك استجلابا للقلوب.
وفيه ورد الخبر أن هيتوم ملك الأرمن جمع وسار إلى هرقلة، ونزل على قلعة صرخد. فخرج البريد من قلعة الجبل إلى حماة وحمص بالمسير إلى حلب، فخرجوا وأغاروا على عسكر الأرمن، وقتلوا منهم وأسروا. فانهزم الأرمن واستنجدوا بالتتار، فقدم منهم من كان في بلاد الروم وهم سبعمائة فارس فلما وصلوا إلى حارم رجعوا من كثرة الثلج، وقد هلك منهم كثير.
وورد الخبر بأن خليج الإسكندرية قد انسد وامتلأت فوهته بالطين، وقل الماء في ثغر الإسكندرية بهذا السبب، فسير السلطان الأمير عز الدين أمير جاندار فحفره، وبعث الأمير جمال الدين موسى بن يغمور الأستادار لحفر بحر جزيرة بني نصر عند قلة ريها.
وفي جمادى الأول: سافر الأمير سيف الدين بلبان الزيني أمير علم إلى الشام برسم تجهيز مهمات القلاع، وعرض عساكر حماة وحلب ورجال الثغور، وإلزام الأمراء بتكميل العدد والعدة، وإزاحة الأعذار بسبب الجهاد. وكتب على يده عدة تذاكر. بما يعتمده، وأن يحمل من دمشق خزانة كبيرة إلى البيرة برسم نفقاتها. ورحلت جماعة من عرب خفاجة كانوا قد وردوا بكتب من جماعتهم بالعراق، يخبرون فيها بأنهم أغاروا على التتار حتى وصلت غاراتهم باب مدينة بغداد، ويخبرون بأحوال مدينة شيراز، فأجيبوا وأحسن إليهم. وفيه توجه قصاد إلى الملك بركة، وأسلم عالم كبير على يد السلطان من التتار الواصلين ومن الفرنج المستأمنين والأسري ومن النوبة القادمين من عند ملكها، ففرق فيهم في يوم واحد الأمير بدر الدين الخازندار مائة وثمانين فرسا.
وفي جمادى الآخرة: قبض على جاسوسين من التتار. وتنجز البرج الذي بناه السلطان في قارة، وشرع في بناء برج أكبر منه لحفظ الطرقات من عادية الفرنج. واهتم ملك الأرمن بالمسير إلى بلاد الشام، وأعد ألف قياء تتري وألف سراقوج، ألبسها الأرمن ليوهم إنهم نجدة من التتر ولما ورد الخبر بذلك خرج البريد إلى دمشق بخروج عسكرها إلى حمص، وخروج عسكر حماة، وألا يخرج عربان الشام في هذه السنة إلى البرية. فخرجت العساكر، ووالت الغارات من كل جهة، فانهزم الأرمن، ونزل العسكر على أنطاكية فقتل وأسر وغنم، وأغار العسكر أيضاً ببلاد الساحل على الفرنج حتى وصل إلى أبواب عكا.
وشرع السلطان البناء في شقيف تيرون، وكان قد خرب من سنة ثمان وخمسين وستمائة، فلما تم بناؤه حمل إليه زردخاناه وذخائر، وبعث إلى عسكر الساحل مائتي ألف درهم فرقت فيهم. وورد البريد بأن جماعة من شيراز، ومن أمراء العراق وأمراء خفاجة، وصلوا وافدين إلى الأبواب السلطانية.
وفي أول رجب: رفعت قصة بأن على باب المشهد الحسيني مسجدا إلى جانبه موضع من حقوق القصر قد بيع بستة آلاف درهم حملت إلى الديوان. فأمر السلطان بردها وعمل الجميع مسجدا، وأمر بعمارته، ووقف أحد الجند بيتيم معه ذكر إنه وصيه، فقال السلطان لقاضي القضاة. إن الأجناد إذا مات أحدهم استولي خشداشيته على موجوده، ويجعل اليتيم من الأوشاقية، فإذا مات اليتيم أخذ الوصي موجوده، أو يكبر اليتيم فلا يجد شيئا ولا تقوم له حجة على موجوده، أو يموت الوصي فيذهب مال اليتيم في ماله، والرأي أن أحدا من الأوصياء لا ينفرد بوصية، وليكن نظر الشرع شاملا، وأموال اليتامى مضبوطة، وأمناء الحكم يحاققون على المصروف. وطلب السلطان نواب الأمراء ونقباء العساكر وأمرهم بذلك، فاستمر الحال عليه.
وفي ثالثه: قدم الوافدون من شيراز، ومقدمهم الأمير سيف الدين بكلك، ومعهم سيف الدين اقتبار الخوارزمي جمدار جلال الدين خوارزم شاه، وغلمان أتابك سعد، وهم شمس الدين سنقرجاه ورفقته. ووصل صحبتهم مظهر الدين وشاح بن شهري، والأمير حسام الدين حسين بن ملاح أمير العراق، وكثير من أمراء خفاجة. فتلقاهم السلطان بنفسه، وأعطي سيف الدين بكلك إمرة طبلخاناه، وأحسن إلى سائرهم.
وفي شعبان: أمر السلطان الأمراء والأجناد والمماليك بعمل العدد الكاملة، فوقع الاهتمام من كل أحد بعمل ذلك، وكثر الازدحام بسوق السلاح، وارتفع سعر الحديد وأجر الحدادين وصناع آلات السلاح، ولم يبق لأحد شغل إلا ذلك، حتى صار العسكر لا ينفق متحصله في شيء سوي السلاح، ولا يشتغل أحد منهم إلا بنوع من أنواع الحرب كالرمح ونحوه، وتفننوا في أنواع الفروسية. وورد كتاب أمير المدينة النبوية إنه سار مع كسوة الكعبة حتى علقها في البيت.
وفي شهر رمضان: تنجزت كسوة قبر النبي صلي الله عليه وسلم، وتعين سفرها مع الطواشي جمال الدين محسن الصالحي. ووقع الشروع في تجهيز الشمع والبخور والزيت والطيب. وخرج البريد إلى الأمير ناصر الدين القيمري بالغارة على قيسارية وعثليث فساق إلى باب عثليث ونهب وقتل وأسر، ثم ساق إلى قيسارية ففعل مثل ذلك بالفرنج. وكان الفرنج قد قصدوا يافا، فخافوا ورجعوا عنها.
وفيه جري السلطان على عادته في إجراء الصدقات مطابخ القاهرة ومصر برسم الفقراء، فكان يصرف في كل ليلة من ليالي رمضان جملة كبيرة من الخبز واللحم المطبوخ، وجري أيضاً على عادته في عتق ثلاثين نسمة على عادة ملوك الماضين، سوي من أعتقه من مماليكه. وورد الخبر بأن الفرنج أخذوا أخيذة كبيرة للمسلمين، فكتب إلى نواب الشام بالاجتهاد في ردها، فورد كتاب الأمير ناصر الدين القيسري بأن الفرنج ردوها، وكانت تشتمل على عالم كبير من الناس وجملة من المواشي. فسمع في ساعة ردها من اختلاف الأصوات بدعاء الرجال والنساء وبكاء الأطفال، ما تكاد ترق له الحجارة.
وقدم البريد من البيرة أن صارم الدين بكتاش الزاهدي أغار على باب قلعة الروم مرارا.
وورد كتاب الملك شارل أخي الفرنسيس ملك الفرنج، ومعه هدية وكتاب أستاداره: بأن مندوبه أمره أن يكون أمر الملك الظاهر نافذا في بلاده،. وأن أكون نائب الملك الظاهر كما أنا نائبه.
وفي يوم الجمعة خامس عشريه: قرئ مكتوب في جامع مصر بإبطال ما قرر على ولاية مصر من الرسوم، وهي مائة ألف درهم وأربعة آلاف درهم نقرة. وورد الخبر بأن الأشكري عوق الرسل إلى الملك بركة بالهدية عن المسير إليه، حتى هلك أكثر ما معهم من الحيوان، فأحضر السلطان البطاركة والأساقفة، وسألهم عمن خالف الأيمان وما كتب به الأشكري، فأجابوا بأنه يستحق أن يحرم من دينه، فأخذ السلطان خطوطهم بذلك، وأخرج لهم حينئذ نسخ أيمان الأشكري، وقال: إنه قد نكث بإمساك رسلي، ومال إلى جهة هولاكو. ثم جهز إليه الراهب الفيلسوف اليوناني، ومعه قسيس وأسقف، بحرمانه من دينه، وكتب له كتابا أغلظ فيه. وكتب السلطان أيضاً إلى الملك بركة كتابا وسيره إلى الأمير فارس الدين أقوش السعودي المتوجه بالهدية إلى الملك بركة. فلما وصلوا إلى الأشكري أطلقهم لوقته، فساروا إلى الملك بركة.
وقدم البريد من البلاد الشامية بأن عدة من التتار ومن الأتراك والبغاددة قد قصدوا البلاد مستأمنين، فأمر السلطان بجمع الأمراء وأعلمهم بذلك، وقال: أخشى أن يكون في مجيئهم من كل جهة ما يستراب منه، والرأي أن نخرج إليهم، فإن كانوا طائعين عاملناهم. بما ينبغي، وإلا فنكون على أهبة. ومن احتاج من العسكر إلى شيء أعطيته، وما أنا إلا كأحدكم يكفيني فرس واحد، وجميع ما عندي من خيل وجمال ومال كله لكم ولمن يجاهد في سبيل الله.
فأشار الأمراء عليه بسلطنة ولده، ليكون مقيما بديار مصر في غيبته.
فلما كان يوم الخميس ثالث عشر شوال: أركب السلطان ابنه الملك السعيد بشعار السلطنة، وخرج بنفسه في ركابه وحمل الغاشية راجلا بين يديه، فأخذها منه الأمراء، ورجع إلى مقر ملكه ولم تزل الأمراء والعساكر في خدمته إلى باب النصر، ودخلوا به من القاهرة رجالة يحملون الغاشية، وقد زينت المدينة أحسن زينة، واهتم الأمراء بنصب القباب: فسار الملك السعيد، والأمير عز الدين أيدمر الحلي راكب إلى جانبه وقد تقرر أن يكون أتابكه، والنياب الأطلس والعتابي تفرش تحت فرسه، حتى عاد إلى قلعة الجبل ولم يبق أمير حتى فرش من جهته الثياب الحرير، فاجتمع من ذلك أحمال تفرقها المماليك السلطانية. وكتب القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر تقليد الملك السعيد، بتفويض عهد السلطنة له.
وفي يوم الإثنين سابع عشره: اجتمع الأمراء والقضاة والفقهاء، وقرئ التقليد المذكور، وشرع في ختان الملك السعيد، فأمر السلطان الناس بالتأهب للعرض عليه بالأسلحة وآلات الحرب. وقدمت طائفة من جهة التتار المستأمنة، فكتب السلطان إلى أمراء خفاجة بخدمتهم. وظهر كوكب الذؤابة بالشرق وذؤابته نحو الغرب. وصار يطلع قبيل الفجر، ويتقدم قليلا قليلا حتى صار يطلع مرتفعا، وأضاء ذنبه كثيرا ولم يتغير عن منزلة الهقمة وبعده منها إلى جهة المشرق نحو رمح طويل. واستمر من آخر رمضان إلى أول ذي القعدة، وكان يظهر له قبل بروزه شعاع عظيم في الجو، وظهر أيضاً في الغرب مما يلي الشمال، بعد عشاء الآخرة في ليال عديدة من أخريات رمضان وأوائل شوال، خطوط مضيئة شبه الأصابع مرتفعة في جو السماء. واحمرت الشمس في رابع شوال قبيل الغروب، وذهب ضؤها حتى صارت كأنها منكسفة إلى أن غربت، فلما كان بعد عشاء الآخرة أصاب القمر مثل ذلك.
وأحضر من المقس ظاهر القاهرة طفل ميت، له رأسان وأربع أعين وأربع أرجل وأربع أيدي، وجد بساحل المقس.
وفيه قتل الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل صاحب الكرك، وورد الخبر بوصول الرسل إلى الملك بركة، وإكرامه إياهم وتجهيزه لهم.
وفي أول ذي القعدة: جلس السلطان لعرض العساكر عند طلوع الشمس، وقد ملأوا الدنيا، فساق كل أمير في طلبه وهو لابس لامة حربه، وجروا الجنائب وعليها عدد الحرب، وأمر السلطان ألا يلبس أحد في هذا اليوم إلا شعار الحرب. مما زال السلطان جالسا على الصفة التي بجانب دار العدل، والعساكر تسوق وهي لابسة، وديوان الجيش بين يديه، والعساكر تعبر خمسة، ثم عبرت عشرة عشرة. وكاد الناس يهلكون من الزحام وحمو الحديد، فعبروا بغير حساب. وهلك عدة من الناس في الزحام، منهم أيبك مملوك الأمير عز الدين أيدمر الحلي، فدفن ثم نبش ودفن في قبر آخر. فقال في ذلك القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر:
ما نقلوا أيبك من قبره ** لحادث كلا ولا عن ثبور

لكنه في يوم عرض قضى ** والعرض لابد له من نشور

وأراد السلطان بركوب العسكر في يوم واحد حتى لا يقال إن أحدا استعار شيئاً، فكان من يعرض يدخل من باب القرافة، ويخرج من جهة الجبل إلى باب النصر إلى الدهليز المضروب هناك. فلما قرب غروب الشمس ركب السلطان بقباء أبيض لا غير، وساق في وسط العساكر اللابسة ومعه يسير من سلاح داريته وخواصه إلى الدهليز، فنزل به ورتب المنازل، ثم عاد إلى القلعة وقت المغرب. ثم إن الناس اهتموا باللعب، ولبسوا خيولهم النشاهير والبرلسم البحرية، والمراوات والأهلة الذهب والفضة، والأطلس الخطابي.
ونزل السلطان وجانبه تجر، فكان منظرا يبهر العيون حسنه. وكان الذي دخل في المراوات من البنود الأطلس الأصفر قيمته عشرة آلاف دينار، وما تجدد بعد ذلك لا يحصي. وساق السلطان إلى ميدان العيد وقدامه جنائبه، وشرط لكل أمير يصيب القبق فرسا من الجنائب بما عليه من التشاهير، وخلعة لكل مفردي أو مملوك أو جندي. وساق هو والأمراء، ثم المفاردة والبحرية والظاهرية والحلقة والأجناد، ودخل الناس بالرماح بكرة النهار. ونزل السلطان وقت الصلاة للصلاة وإطعام الطعام، ثم ركب الناس ولبسوا، وركب السلطان لرمي النشاب وأعطي وخلع.
وفي هذا اليوم: حضر رسل الملك بركة، فشاهدوا من كثرة العساكر وحسن زيهم واهتمام السلطان وبهجة الخيول وجلالة الفرسان ما بهر عقولهم، ووقفوا بجانب السلطان يشاهدون حركات العساكر وإصابة رميها. واستمر ذلك أياما.
وفي تاسعه: خلع السلطان على الملوك والأمراء والبحرية والحجاب والحلقة، وأرباب العمائم والوزراء والقضاة وذوي البيوت، وحضروا بالخلع، واستمر اللعب بقية النهار. فسألت الرسل عن العساكر، هل هي عساكر مصر والشام، فقيل لهم: هذا عسكر مصر فقط، غير من في الثغور مثل إسكندرية ودمياط ورشيد وقوص، والمجردين والذين سافروا في إقطاعاتهم. فكثر تعجبهم من ذلك.
وفي عاشره: عمل السماط بقلعة الجبل، وحضر الملك السعيد وفي خدمته أولاد الملوك وأولاد الأمراء. فختن الملك السعيد، ثم ختن ابن الأمير عز الدين الحلي الأتابك، وابن الأمير شمس الدين سنقر الأشقر الرومي، وابن الأمير سيف الدين سكز، وابن حسام الدين ابن بركة خان، وابن الملك المجاهد ابن صاحب الموصل، ثم أولاد الملك المغيث صاحب الكرك الثلاثة، وابن فخر الدين الحمصي، وعدة من أولاد الأمراء.
وكان ذلك بعدما عمل لعدة من الأيتام وأبناء الفقراء بمصر والقاهرة كسوة، فاحضروا في هذا اليوم وختنوا. ومنع السلطان الأمراء والخواص من التقدمة التي جرت العادة بها للملوك في مثل هذا المهم، فلم يقدم أحد من الخاصة شيئا ألبتة.
ولما انقضي هذا المهم خرج السلطان إلى الطرانة وسار إلى وادي هبيب ونزل الأديرة التي هناك، ومضى إلى تروجة وسار منها إلى الحمامات، وسلك إلى العقبة وضرب الحلقة برسم الصيد، وأدركه عيد النحر هناك. وجرد جماعة لأخذ عربان بلغه كثرة فسادهم، وأحضر هوارة وعرب سليم، وألزمهم بإشهاد كتب عليهم بعمارة البلاد، وألا يؤوا أحدا من أهل الفساد. ثم عاد إلى ثغر الإسكندرية، وعم المفاردة والأمراء والخواص بتفرقة المال والقماش، ولعب الكرة بالميدان، وزار الشاطبي. ثم سار إلى القاهرة، فنزل تروجة، ورسم بتقديم سيف الدين عطا الله بن عزار على عرب برقة، وألزمه بجباية زكاة المواشي وأخذ عشر الزروع والثمار بفريضة الله، فالتزم بذلك. وأنعم عليه بسنجق ونقارات، وتوجه لحفظ البلاد واستخرج الزكاة والعشور من العربان ببرقة.
ووصل السلطان إلى قلعة الجبل، فقدم شحنة تكريت بجماعة. وجهز السلطان الأمير أمين الدين موسى بن التركماني، ومعه عدة من الرماة والمقاتلة. وخزانة مال وعدة خلع، وكثير من أمراء عربان الكرك وبحريتها، ومبلغ من الغلال والذخائر. فساروا إلى خيبر واستولوا على قلعتها.
وكثر في هذه السنة قتل الناس في الخليج، وفقد جماعة، والتبس الأمر في ذلك. ثم ظهر بعد شهر أن امرأة جميلة يقال لها غازية كانت تخرج بزينتها ومعها عجوز، فإذا تعرض لها أحد قالت له العجوز: لا يمكنها المصير إلى أحد، ولكن من أرادها فليأت منزلنا، فإذا وافي الرجل إليها خرج إليه رجال فقتلوه وأخذوا ما معه. وكانت المرأة في كل قليل تنتقل من منزل إلى منزل، حتى سكنت خارج باب الشعرية على الخليج. فأتت العجوز إلى ماشطة مشهورة بالقاهرة واستدعتها إلى فرح، فسارت الماشطة معها بالحلي على العادة ومعها جاريتها، ودخلت الماشطة وانصرفت جاريتها، فقتل الجماعة الماشطة وأخذوا ما كان معها. وجاءت جاريتها إلى الدار تطلب مولاتها فأنكروها، فمضت إلى الوالي وعرفته الخبر، فركب إلى الدار وهجمها فإذا بالصبية والعجوز، فقبض عليهما وعرضهما على العذاب، فأقرتا فحبسهما. واتفق أن رجلا خارجا لفقد أحوالهما، فقبض عليه وعوقب فدل على رفيقه، فإذا هو صاحب أقمنة طوب فعوقب أيضاً. فوجد إنهم كانوا إذا قتلوا أحدا ألقوه في القمين حتى تحترق عظامه، وأظهروا من الدار حفائر قد ملئت بالقتلى، فسمروا جميعا. ثم انطلقت المرأة بعد يومين، فأقامت قليلا وماتت، ثم عملت الدار التي كانوا بها مسجدا، وهو المعروف. بمسجد الخناقة. وفي هذه السنة: وقف السلطان عدة قري بأعمال الشام والقدس، لصرف ريعها في خبز ونعال لمن يرد إلى القدس من المشاة، ومبلغ فلوس. وأنشأ خانا وفرنا وطاحونا، وجعل النظر في ذلك للأمير جمال الدين محمد بن نهار.
وفيها قبض الأشكري صاحب قسطنطينية على عز الدين كيكاوس بن كيخسرو بن كيقباد صاحب بلاد الروم. وسبب وجود عز الدين عند الأشكري هو اختلافه مع أخيه ركن الدين قلج أرسلان، حتى غلبه أخوه ففر منه، وملك أخوه ركن الدين قلج أرسلان بلاد الروم. فمضى عز الدين إلى الأشكري، فأواه وأنزله ومن معه من الأمراء، وقام بأمرهم مدة، حتى بلغه إنهم قصدوا قتله وأخذ المملكة منه، فقبض عليهم واعتقل عز الدين، وكحل أصحابه كلهم فأعماهم.
وفيها ولي محيي الدين أبو المكارم محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان بن الأستاذ الأسدي الشافعي قضاء حلب، عوضاً عن ابن عمه كمال الدين أبي بكر أحمد المتوفي.

.ومات في هذه السنة من الأعيان:

الملك المغيث عمر بن العادل أبي بكر بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب ابن شادي صاحب الكرك، مقتولا بقلعة الجبل، عن ثلاثين سنة.
ومات الملك الأشرف موسى بن المنصور بن إبراهيم بن المجاهد شيركوه بن القاهر محمد بن المنصور بن شيركوه بن شادي صاحب حمص، عن خمس وثلاثين سنة بها، وهو آخر من ملك حمص من أولاد شيركوه.
ومات الأمير حسام الدين لاجين العزيزي الجوكندار بدمشق، عن نحو خمسين سنة. وتوفي قاضي قضاة دمشق عماد الدين أبو الفضائل عبد الكريم بن جمال الدين أبي القاسم عبد الصمد بن محمد بن الفضل. بن الحرستاني الدمشقي الشافعي، وهو معزول وبيده خطابة الجامع وتدريس الحديث بالأشرفية، عن خمس وخمسين سنة بدمشق.
وتوفي قاضي القضاة بحلب كمال الدين أبو بكر أحمد بن زين الدين أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن علوان الأسدي الشافعي، المعروف بابن الأستاذ، عن إحدى وخمسين سنة.
وتوفي شيخ الشيوخ بحماة شرف الدين أبو محمد عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن الأنصاري عن ست وسبعين سنة، في ثامن رمضان، ومولده في جمادى الأولى سنة ست وثمانين وخمسمائة.
وتوفي الرجل الصالح أبو القاسم بن منصور بن يحيي القباري بالإسكندرية، عن خمس وسبعين سنة.