فصل: ومات في هذه السنة من الأعيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة خمس وسبعين وستمائة:

في المحرم: سار السلطان من الكرك، فدخل إلى دمشق في رابع عشره، وقدم عليه عدة من أمراء الروم مغاضبين للبرواناه، وهو معين الدين سليمان بن على بن محمد بن حسن، وكان منهم الأمير حسام الدين بينجار الرومي، وبهادر ولده، وأحمد بن بهادر، واثنا عشر من أمراء الروم بأولادهم ونسائهم، من جملتهم قرمشي وسكتاي ابنا قراجين بن جيفان نوين، فأحسن السلطان إليهم، وبعث حريمهم إلى القاهرة، وأجري عليهم الأرزاق، ثم وصل الأمير سيف الدين جندر بك صاحب الأبلستين، والأمير مبارز الدين سوار بن الجاشنكير، في كثير من أمراء الروم، فتلقاهم السلطان بنفسه وأكرمهم ثم كتب السلطان إلى الأمراء بمصر يستشيرهم في بعث عسكر إلى الروم، وأن يحضر الأمير بيسري والأمير أقش. مما يتفق الرأي عليه، فحضرا على البريد، ووصل أيضاً الأمير سنقر الأشقر، وتتابع وصول حريم أمراء الروم، فأكرمهم السلطان وجهزهم إلى القاهرة، وسار السلطان إلى حلب، وجرد منها الأمير سيف الدين بلبان الزيني الصالحي في عسكر، فوصلوا إلى عين تاب.
وعاد السلطان من حلب إلى مصر، فدخل قلعة الجبل في رابع عشر ربيع الأول، ورسم بتجهيز مهمات العرض، فأخذ الناس في التجهيز، وغلت الخيول والأسلحة، وعدم صناع صقل العدد من القاهرة لاشتغالهم بالعمل عند الأمراء، وعز وجود صناع النشاب ومقومي الرماح.
وفي خامس جمادى الأولى: وقع العرض، فركبت العساكر بكمالها في يوم واحد وقد لبسوا أجمل العدد، وقصد السلطان بركوبهم في يوم واحد حتى لا يستعير أحد من أحد شيئا، وفرق السلطان على مماليكه العدد الجليلة، وركب الأمراء الروميون ومن حضر من الرسل، وعرض الجميع على السلطان، ونزلوا من الغد في الوطاقات للعب، وقد لبس المماليك السلطانية الجواشن والخوذ، وعملت الأبرجة الخشب على الفيلة، ودخلوا في الحلقة وساقوا. ثم نصب القبق بالميدان الأسود تحت القلعة ورموا النشاب، وأنعم السلطان على كل من أصاب القبق من الأمراء بفرس من الجنائب الخاص، بسرجه ولجامه وتشاهيره بالمراوات الفضة وغيرها، وأنعم على من أصاب من المماليك والأجناد بالخلع. كل ذلك والسلطان يسعى، وقد تنوع في لامات حربه، وصار يأخذ بقلوب الناس ويحسن إليهم وساق السلطان بالرمح أحسن سوق حتى تعجبوا من فروسيته، إلى أن انقضي النهار على هذا.
وفي اليوم الثالث: ركب السلطان، ولعب الناس ورموا في القبق، والسلطان يطاعن بالرمح. وفي الغد ترتب العسكر من جهتين، واصطدما وتطاعنت الفرسان، وكان السلطان بينا يراه الناس آخرا قد شاهدوه أولا، وهو لا يسأم من الكر والفر، وشاهد الناس منه ومن الملك السعيد ما يبهر العقول، وتواصل الطعن بغير جراح، والسلطان بين تلك الصفوف لا يخاف.
وكان قفجاقي الأصل، طويل القامة أسمر اللون، في عينيه زرقة وبإحدى عينيه نقطة صغيرة، صوته جهوريا، وكان شجاعا عسوفا عجولا. وكان قد حضر من البلاد مع تاجر إلى حماة ومعه مملوك آخر، فلما عرضا على الملك المنصور محمد صاحب حماة لم يعجبه، وأبيع بدمشق بثمانمائة درهم، فرد مشتريه لبياض في إحدى عينيه، فاشتراه الأمير علاء الدين أيدكين البندقدار مملوك الملك الصالح نجم الدين أيوب، وهو بحماة معتقل بها، وأقام في خدمته مدة ثم أخذ منه الملك الصالح فترقي في الخلع، وتنقلت به الأحوال إلى ملك مصر والشام.
وكانت الأمراء تخافة مخافة شديدة، حتى إنه لما مرض لم يدخل أحد منهم عليه إلا بإذن. وكان مقداما خفيف الركاب طول أيامه يسير على الهجن وخيول البريد لكشف القلاع والنظر في الممالك، فركب للعب الكرة في الأسبوع يومين بمصر ويوما بدمشق، وفي ذلك يقول سيف الدولة المهمندار من أبيات يمدحه بها:
يوما بمصر ويوما بالحجاز وبالشام ** يوما ويوما في قري حلب

وكانت عدة عسكره اثني عشر ألفا، ثلثها بمصر وثلثها بدمشق وثلثها بحلب. وكان هؤلاء خاصته، فإذا غزا خرج معه أربعة آلاف يقال لهم جيش الزحف، فإن احتاج استدعى أربعة أخرى، فان اشتد به الأمر استدعى الأربعة آلاف الثالثة. وافتتح من البلاد قيسارية وأرسوف وهدمها، وفتح صفد وعمرها، وفتح طبرية ويافا والشقيف وأنطاكية وخربها. واستولي على بغراس والقصير وحصن الأكراد والقرين وحصن عكار وصافيتا ومرقية وحلبا، وناصف الفرنج المرقب وبانياس وأنطرسوس، وأخذ من متملك سيس دربساك ودركوش وتلميش وكفر دنين ورعبان ومرزبان، وملك دمشق وعجلون وبصري، وصرخد والصلت وحمص، وتدمر الرحبة وتل باشر، وصهيون وبلاطنس، وقلعة الكهف والقدموس والدينقة العليقة والخوابي والرصافة ومصياف، والكرك والشوبك وبلاد الحلب وشيزر وبلاد النوبة وبرقة، وسائر إقليم مصر والشام، وملك قيسارية من بلاد الروم. وقد قال فيه بعض الأدباء:
تدبر الملك من مصر إلى يمن ** إلى العراق وأرض الروم والنوبي

وله عدة أوقاف بمصر: منها وقف الطرحاء لتغسيل فقراء المسلمين وتكفينهم ودفنهم، وهو من أكثر الأوقاف نفعا، ومنها تربة الظاهرية بالقرافة، والمدرسة الظاهر بخط بين القصرين من القاهرة، والجامع الظاهري خارج باب الفتوح من القاهرة. وعمر السلطان بيبرس الجسر الذي يسلك عليه إلى دمياط، وأنشأ عليه ست عشرة قنطرة، وعمر قنطرة بحر انصباب السيل، ووقفوا وقفة رجل واحد. وقدم السلطان عدة من مماليكه وخواصه، فقاتلوا قتالا شديدا، ثم ردفهم بنفسه، وحمل وحملت العساكر معه حملة شديدة. فترجل التتار عن خيولهم، وقاتلوا قتال من يطلب الموت حتى عظم القتل فيهم، فولي طائفة منهم وأدركهم العسكر فأحاط بهم. ونجا معين الدين سليمان البرواناه زعيم الروم، فانهزم أصحابه، وصار هو إلى قيسارية فوصلها بكرة يوم الأحد ثاني عشر ذي القعدة، وأشار على سلطانها غياث الدين كيكاوس بن كيخسرو وجماعة الأمراء بالخروج منها، فإن التتر المنهزمين متى دخلوا قيسارية قتلوا كل من فيها حنقا على المسلمين، ثم أخذ البرواناه السلطان غياث الدين كيكاوس بن كيخسرون صاحب الروم، وجماعة من أعيان البلد، وصار بهم إلى توقات، وبينها وبين قيسارية مسيرة ثلاثة أيام.
وأما السلطان فإنه نزل بعد هزيمة التتار في منزلتهم، وأحضر إليه من أسر من أمراء المغول، فعفا عنهم وأطلقهم. وقتل في المعركة الأمير ضياء الدين بن الخطير، والأمير سيف الدين قيران العلائي أحد مقدمي الحلقة، وسيف الدين قفجاف الجاشنكير، وعدة من العسكر، وجرح جماعة. وقتل قتاوون مقدم التتار في المعركة، وأمر السلطان بقتل من أسر من التتار، وأبقي من أسر من أمراء الروم وأعيانهم معه، وفيهم أم البرواناه، وابنه مهذب الدين على وابن ابنته.
وجرد السلطان الأمير سنقر الأشقر في جماعة، لإدراك المنهزمين من التتر وللتوجه إلى قيسارية، وكتب معه كتابا إلى أهل قيسارية بالأمان وإخراج الأسواق والتعامل بالدراهم الظاهرية، فمر الأمير سنقر بفرقة من التتار معهم البيوت، فأخذ منهم جانبا، وأدركه الليل فتفرق من بقي منهم.
ورحل السلطان في يوم السبت حادي عشره يريد قيسارية الروم، فاستولي في طريقه على عدة بلاد. وفي يوم الأربعاء خامس عشرة تلقاه أهل قيسارية من العلماء والأكابر والنساء والأطفال، واحتف به الفقراء الصوفية وتواجدوا، إلى أن قرب من دهليز السلطان غياث الدين صاحب الروم وخيامه، وقد نصبت في وطاة بالقرب من المناظر التي كانت لملوك الروم، فترجل وجوه العساكر المصرية والشامية على طبقاتهم، ومشوا بين يديه إلى أن وصلها، وارتفعت الأصوات بالتكبير والتهليل، وأقبل الروم من كل جهة، وضربت نوبة آل سلجوق على عادتها، وحضر أصحاب الملاهي كما هي عادة الروم، فنهوا عن الضرب بالآلت وعن الغناء أيضاً، وقيل لهم: هذه الهيئة لا تتفق عندنا، وما هذا موضع الغناء، بل موضع الشكر. وشرع السلطان في إنفاق المال، وعين لكل جهة شخصان وكتب إلى أولاد قرمان أمراء التركمان، وأكد عليهم في الحضور، واستمال النازحين، فما خرج البرواناخ عن المطاولة إلى أن علم السلطان منه إنه لا يحضر.
وركب السلطان في يوم الجمعة سابع عشريه وعلى رأسه جتر بني سلجوق، ودخل قيسارية دار السلطة، وعبر القصور وجلس على آل سلجوق، وأقبل الناس للهناء وقبلوا الأرض، وحضر القضاه والفقهاء والوعاظ والقراء والصوفية وأعيان قيسارية وذوو المراتب، على عادة الملوك السلجوقية في أيام الجمع، ووقف أمير المحفل- وهو عندهم ذو حرمة ومكانة، ويلبس أكبر ثوب وعمامة- فرتب المحفل على قدر الأقدار، وانتصب قائما بين يدي السلطان منتظرا ما يشير به. وقرأ القراء أحسن قراءة، ورفعوا أصواتهم بالتلحين العجيب إلى أن فرغوا، فانشد أمير المحفل بالعربية والعجمية مدائح في السلطان، ومد سماط الطعام فأكل من حضر، ثم أحضرت دراهم عليها السكة الظاهرية. وتهيأ السلطان لصلاة الجمعة، وقام السلطان إلى الجامع، وخطب الخطب بنعوته وصلي، وخطب له الخطباء بجوامع قيسارية وهي سبعة، فلما قضي السلطان صلاة الجمعة، حمل إليه ما تركته كرجي خاتون امرأة البرواناه من الأموال التي لم تقدر على حملها معها، وما خلفه سواها ممن انتزح معها، وظهر لها ولزوجها معين لدين البرواناه موجود نفيس، فأخذ السلطان ذلك.
وبعث البرواناه يهنئ السلطان بيبرس بجلوسه على تخت الملك، فكتب إليه أن يفد عليه ليقره مكانه، فبعث يسأل النظرة إلى خمسة عشر يوما. ورجا البرواناه بذلك أن يصل الملك أيضاً وكان قد أرسل يستحثه على القدوم بنفسه ليدرك الملك الظاهر وهو ببلاد الروم، فلما بلغ السلطان ذلك خرج من قيسارية في ثاني عشريه، بعد ما أعطي الأمراء والخواص الخيول والأموال. ولما وصل السلطان إلى خان كيقباد بعث إلى الأرمن بجهة الرمانة لأمير طيبرس الوزيري، فحرق وقتل وسبي من بها من الأرمن وعاد، وسبب ذلك أنهم كانوا قد أخفوا جماعة من التتر، فسار السلطان إلى الأبلستين، ومر على مكان المعركة ليري رمم القتلى من التتار، فذكر أهل الأبلستين إنهم عدوا من القتلى ستة آلاف وسبعمائة وستين، وضاع الحساب بعد ذلك، فأمر السلطان بجمع من قتل من عساكره ودفنوا، وترك منهم قليلا بغير دفن، وقصد بذلك نكاية التتار في إظهار كثرة من قتل منهم وقلة من قتل من عسكره، ثم رحل.
ودخل السلطان إلى الدربند في رابع ذي الحجة، وأصاب الناس فيه مشقة عظيمة، ونزل بحارم في سادسه وعيد هناك، فورد كتاب الأمير شمس الدين محمد بن قرمان أمير التركمان، يتضمن أنه جمع التركمان وحضر في عشرين ألف فارس وثلاثين ألف راجل متركشة للخدمة، فوجد السلطان قد عاد، وحضر أيضاً أمراء بني كلاب، ووفود التركمان، ثم رحل السلطان طالبا دمشق.
وقدم الملك أبغا بن هولاكو بالتتار لمحاربة السلطان، فوافاه البرواناه في الطريق. وكان السلطان قد رحل فتبعه أبغا، وسار إلى الأبلستين حتى عاين القتلى بالمعركة وليس فيهم من الروم ولا من عساكر السلطان إلا القليل، مع كثرة رمم التتار التي هناك فشق عليه ذلك، وكان قد وشي إليه بالبرواناه إنه هو الذي كاتب الملك الظاهر حتى أقدمه إلى بلاد الروم، فخنق لقلة عدد قتلي الروم. وعاد أبغا إلى قيسارية، فنهبها وقتل من ببلاد الروم من المسلمين، وأغار التتار مسيرة سبعة أيام، فيقال إنه قتل من الفقهاء والقضاة والرعايا ما يزيد على مائتي ألف نفس، ولم يقتل أحدا من النصارى. وكل القتل من أرزن الروم إلى قيسارية، فيقال إن عدة القتلى كانت خمسمائة ألف، ثم سار أبغا ومعه السلطان غياث الدين صاحب الروم، ووكل بالبرواناه من يحفظه. وسار السلطان بيبرس من حارم إلى أنطاكية، ونزل بمروجها.

.ومات في هذه السنة من الأعيان:

الأمير عز الدين إيغان المعروف بسم الموت، أيحد أمراء مصر، وهو بقلعة الجبل مسجونا، فدفن خارج باب النصر. وفيها حج الصاحب تاج الدين حنا، وكان بمكة غلاء عظيم.
وتوفي شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الوهاب بن منصور الحراني الحنفي بدمشق، بعد ما أقام بالقاهرة عينا، وكان قد ولي قضاء بعض الأعمال.
وتوفي بدر أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن القويرة، الحنفي الفقيه الأديب، نحو أربعين سنة بدمشق.
وتوفي فخر الدين أبو الوليد محمد بن سعيد بن محمد بن هشام بن عبد الحق الكناني الشاطبي، الحنفي النحوي الأديب، عن ستين سنة بدمشق.
وتوفي قطب الدين أبو المعالي أحمد بن عبد السلام بن المطهر بن أبي سعد عبد الله ابن محمد بن هبة الله بن على بن المطهر بن أبي عصرون التميمي الموصلي الشافعي، عن ثلاث وثمانين سنة بحلب.
وتوفي الأديب شهاب الدين أبو المكارم محمد بن يوسف بن مسعود بن بركة الشيباني التلمفري، عن اثنتين وثمانين سنة بحماة.
ومات الشيخ العباس خضر بن أبي بكر بن موسى المهراني العدوي الكردي، في محبسه بقلعة الجبل، في يوم الخميس سادس المحرم عن نيف وخمسين سنة، ودفن بزاويته خارج باب الفتوح.
وماس متملك تونس أبو عبد الله محمد المستنصر بن السعيد أبي زكريا يحيي بن عبد الواحد بن أبي حفص، في عاشر ذو الحجة، فكانت مدته ثمانيا وعشرين سنة وخمسة أشهر وعشرة أيام، وبويع بعده ابنه أبو زكريا يحيي الواثق.

.سنة ست وسبعين وستمائة:

في خامس المحرم: دخل السلطان من أنطاكية إلى دمشق بعساكره، ونزل بالقصر الأبلق، فكثرت الأخبار بقدوم أبغا إلى الأبلستين وأنه يريد بلاد الشام، فضرب الدهليز على القصر ليخرج السلطان إلى لقائه، فورد الخبر برجوع ألبغا إلى بلاده فرد الدهليز إلى دمشق.
ولما كان في يوم الخميس رابع عشره: جلس السلطان لشرب القمز، وقد عظم سروره وفرحه وتناهي سعده، فأكثر من الشرب، وانقضي المجلس فتوعك بدنه، وأصبح يشكو فتقيأ، وركب بعد الصلاة إلى الميدان، ثم عاد إلى القصر الأبلق آخر النهار وبات فيه، فلما أصبح وهو يشكو حرارة في باطنه، استعمل دواء لم يكن عن رأي طبيب، فلم ينجح وتزايد ألمه، فاستدعى الأطباء، فانكروا استعماله الدواء، واتفقوا على أخذ مسهل وسقوه فلم يفد، فحركوه بدواء آخر فأفرط به الإسهال، وتضاعفت الحمي ورمي دما يقال إنه كبده، فعولج بجواهر ومات.
وقال الشيخ قطب الدين اليونيني في تاريخه: إن الظاهر كان مولعا بعلم النجوم، فقيل له أنه يموت بدمشق في سنة ست وسبعين هذه ملك بالسم، فاهتم من ذلك ويقال إنه كان فيه حد، فلما دخل معه إلى بلاد الروم الملك القاهر بهاء الدين عبد الملك بن الملك المعظم عيسي بن العادل أبي بكر بن أيوب، أبلي في المصاف بلاءً عظيما أنكي به العدو، وتعجب الناس لعظم شجاعته، فأثر ذلك عند السلطان. واتفق أن السلطان كان منه ذلك اليوم فتور، وظهر عليه الخوف والندم على ما فعله من تورط نفسه وعساكره ببلاد الروم، فأنكر عليه الملك القاهر وقبح فعله، فأسر له السلطان ذلك إلى أن قدم في دمشق، فسمع السلطان الناس تلهج مما فعله الملك القاهر في وقت المصاف، فاشتد حنقه وأخذ يتحيل في سمه، ليصح فيه ما دلت عليه النجوم من موت ملك بالشام، فإنه يطلق عليه اسم الملك فعمل دعوة لشرب القمز حضرها الملك القاهر، وقد أعد السلطان سما من غير أن يشعر به أحد. وكان له ثلاث هنابات تختص به مع ثلاثة سقاة لا يشرب فيها غيره، أو من يكرمه فيناوله أحدها بيده، فلما قام الملك القاهر لقضاء حاجته، جعل السلطان السم الذي أعده في هناب وأمسكه بيده، فلما عاد الملك القاهر ناوله إياه، فقبل الأرض وشرب جميع ما فيه وقام السلطان لقضاء حاجة، وأخذ الساقي المناب من يد الملك القاهر، وملأه على العادة من غير أن يشعر بما عمله السلطان من السم فيه، وأمسكه بيده ووقف مع السقاة، فلما عاد السلطان من الخلاء تناول ذلك المناب بعينه، وشرب ما فيه وهو لا يعلم إنه المناب المسموم، فعندما شربه أحس بالتغير، وعلم إنه قد شرب بقايا السم الذي كان في المناب، فتقيا فلم يفد، وما زال به حتى مات.
وذكر ركن الدين بيبرس المنصوري المؤرخ أن القمر خسف جميع جرمه، ودل على موت رجل جليل القدر، فلما بلغ الملك الظاهر هذا خاف، وقصد صرف ذلك إلى غيره، فسم الملك القاهر في كأس قمز، وأحس الملك القاهر بالشر فقام، وغلظ الساقي فملأ الكأس وسقاه السلطان، فأحس بالنيران وأقام أياما يشكو ولا يعلم الأطباء، حتى تمكن منه ومات.
وكانت وفاته يوم الخميس سابع عشري المحرم بعد الزوال، فكانت مدة مرضه ثلاثة عشر يوما، وقد تجاوز الخمسين سنة ومدة ملكه سبع عشرة سنة وشهران واثنا عشر يوما.
وفي يوم الثلاثاء: أنعم السلطان على جميع الأمراء والمقدمين والقضاة والمتعممين بالتشاريف، ولبس السلطان تشريفا كاملا بشربوش، ثم أنعم به على الأمير سيف الدين قلاوون الألفي، ولعبوا على عادتهم. وحصل الاهتمام بأمر السماط، ونقل له من أصناف الحوائج ما لا يعد، وسيق من الأغنام ألوف كثيرة. ومدت الأسمطة، وحضر السلطان والناس في خدمته إلى أن أخذوا حاجتهم من الطعام والحلاوات، ثم نقل جميع ذلك وأخذ. وحضرت التقادم، فقبل السلطان منها اليسير مثل تقصيلة أو رمح أو شيء لطيف، وما قام من مجلسه حتى أنعم بذلك في وقته، ودخل الملك السعيد على ابنة الأمير قلاوون.
وشرع السلطان في السفر لأخذ بلاد الروم وبعث إلى الأمراء الروميين الخيول والخيام وكل ما يصلح من أمور السفر. وتقرر الأمير آقسنقر الفارقاني نائب الغيبة بقلعة الجبل، ومعه الصاحب بهاء الدين بن حنا، ليكونا في خدمة الملك السعيد. وتعين الصاحب زين الدين أحمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين لوزارة الصحبة.
وخرج السلطان من قلعة الجبل يوم الخميس العشرين من رمضان، ورحل في يوم السبت ثاني عشريه ومعه الأمراء والعساكر الإسلامية يريد البلاد الشامية، فدخل دمشق يوم الأربعاء سابع عشر شوال، وخرج منها إلى حلب في العشرين منه، فوصل إلى حلب مستهل ذي القعدة، وخرج منها يوم الخميس ثانيه إلى حيلان وجرد السلطان الأمير نور الدين على بن محلي نائب حلب ليقيم على الفرات بعسكر حلب ويحفظ معابر الفرات، لئلا يدخل أحد من التتار إلى بلاد الشام، ووصل إلى الأمير نور الدين الأمير شرف الدين عيسي بن مهنا.
وكان السلطان منذ خرج من مصر إلى أن وصل إلى حلب، لم يمر بمملكة إلا أخذ معه عسكرها وخزائنها وأسلحتها، فترك بعض الثقل بحيلان، وصار منها يوم الجمعة ثالثه إلى عين تاب، وقطع الدربندربات في وطأة. وتوجهت العساكر جرائد على الأمر المعهود، وخففوا كل شيء وتقدم الأمير سنقر الأشقر جاليشا في عدة من العسكر، فوقع على ثلاثة آلاف فارس من التتار ومقدمهم يسمى كراي، فانهزموا قدامه وأسر منهم جماعة وكان ذلك يوم الخميس تاسع الشهر، وبلغ ذلك الملك أبغا، فجهز جماعة من عرب خفاجة لينازلوا عسكر حلب على غرة، فبلغ ذلك نائب حلب وهو على الفرات، فركب إليهم وقاتلهم وهزمهم، وأخذ منهم ألفا ومائتي جمل.
وورد الخبر على السلطان بأن عسكر التتار ومقدمهم تتاوون وعسكر الروم ومقدمهم معين الدين البرواناه، قد اتفقوا جميعا على لقائه، فرتب عساكره وتأهب للقاء، وطلع بعساكره على جبال تشرف على صحراء هوتي من بلد أبلستين. وترتب المغول أحد عشر طلبا، كل طلب يزيد على ألف فارس، وعزلوا عسكر الروم عنهم وجعلوه طلبا بمفرده لئلا يكون محاصرا عليهم، وأقبلوا فانصبت الخيول الإسلامية عليهم من جبل أبي المنجا، وهي أجل قناطر أرض مصر. وعمل قناطر السباع بين القاهرة ومصر على الخليج الكبير، وحفر خليج الإسكندرية وبحر طناح وبحر الصماصم بالقليوبية، وحفر خليج سردوس، وأصلح بحر دمياط وردم فمه بالصخور.
ومن غريب أمره إنه أول ما فتح من البلاد قيسارية من بلاد الساحل وآخر ما فتح مدينة قيسارية من بلاد الروم. وأول جلوسه على مرتبه الملك يوم الجمعة سابع عشري ذي القعدة، وآخر جلوسه على تخت الملك بسلطنة آل سلجوق في قيسارية الروم يوم الجمعة سابع عشري ذي القعدة، وأول من بني مدينة أنطاكية اسمه بالعربية الملك الظاهر، والذي أخربها الملك الظاهر. وأول من قام بدولة الترك السلجوقية ركن الدين طغرلبك، والملك الظاهر ركن الدين بيبرس هو القائم في الحقيقة بدولة الترك من يوم وقعة المنصورة. وركن الدين طغرلبك هو الذي رد الخلافة على بني العباس في نوبة البساسيري، وركن الدين بيبرس هو الذي رد الخلافة على بني العباس في نوبة هولاكو. والخطبة بديار مصر كانت بعد الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي للظاهر لإعزاز دين الله وكذا وقع له، فقد كانت الخطبة بعد الخليفة الحاكم بأمر الله العباسي للملك الظاهر بيبرس.
وكان راتب مخابزة وعليقة لخاصة نفسه ومماليكه، في كل سنة مائة ألف وعشرين ألف أردب، وكان يطعم في كل ليلة من ليالي شهر رمضان خمسة آلاف نفس، ويكسو في كل سنة ستمائة كسوة خارجا عما يطلقه من يده من الكساوي، وكان له من الخبز ألفا قنطار وخمسمائة في كل يوم. إلا إنه كان كثير المصادرات للدواوين، كثير الجباية للأموال من الرعية. وأحدث وزيره ابن حنا في أيامه حوادث جليلة، وقاس أملاك الناس بمصر والقاهرة، وصادر أرباب الأموال حتى هلك كثير منهم تحت العقوبة، وأخذ جوالي الذمة مضاعفة، وأمر بإحراقهم كلهم، وجمع لهم الأحطاب وحفر لهم حفرة عظيمة قدام دار النيابة بقلعة الجبل، ثم عفي عنهم وقرر عليهم أموالا أخذت منهم بالمقارع، ومات أكثرهم في العقوبة. ولما توجه السلطان بيبرس إلى بلاد الروم كلف أهل دمشق جباية مال لإقامة الخيل، وفرض عليهم ألف ألف درهم نقرة تجبي من المدينة ومن الضياع.
ولم يل الوزارة له سوي الصاحب بهاء الدين على بن محمد بن حنا، وقضاته بمصر قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب، بن بنت الأعز إلى أن أحدث القضاة الأربعة، واستمر ذلك من بعده. وروي السلطان بيبرس بعد موته في النوم، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: ما رأيت شيئا أشد على من ولاة قضاة أربعة،. وقيل لي فرقت الكلمة. وكان كل من ولاه بيبرس في مملكة أو عمل أبقاه، ولم يغير عليه ولا يعزله. وتزوج بيبرس من النساء وهو ببلاد غزة، قبل أن يلي الملك امرأة من طائفة الشهر زورية، ثم طلقها بالقاهرة. وتزوج ابنه حسام الدين بركة خان بن دولة خان التتري، وابنة الأمير سيف الدين نوكلي التتري، وابنة الأمير سيف الدين كراي بن تماجي التتري، وابنة الأمير سيف الدين، التتري. وولد له من الأولاد عشرة، الذكور منهم ثلاثة وهم الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة قان، وولد في صفر سنة ثمان وخمسين وستمائة بمنزلة العش، من بنت حسام الدين بركة خان الخوارزمي، والملك العادل بدر الدين سلامش، والملك المسعود نجم الدين خضر، والإناث سبع.
ولما مات السلطان بيبرس كتم الأمير بدر الدين بيليك الخازندار نائب السلطة موته عن العساكر، وحمله في محفة من القصر الأبلق خارج دمشق إلى القلعة في الليل، وجعله في تابوت وعلقه في بيت، وأشاع إنه مريض ورتب الأطباء على العادة، ثم أخذ العساكر والخزائن، ومعه محفة محمولة وأوهم أن السلطان فيها مريض، وخرج من دمشق يريد مصر، فلم يجسر أحد أن يتفوه بموت السلطان. واستمر الحال على ذلك حتى وصلت العساكر إلى القاهرة، وصعدت الخزائن والمحفة إلى قلعة الجبل، فأشيع حينئذ موته. والجملة فلقد كان من خير ملوك الإسلام.

.السلطان الملك السعيد ناصر الدين:

محمد بركة قان بن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري الصالحي النجمي. لما مات الملك الظاهر بدمشق، كتب الأمير بدر الدين بيليك الخازندار إلى الملك السعيد وهو بقلعة الجبل كتابا بموت أبيه، فأظهر الملك السعيد عند ورود الكتاب فرحا كبيرا، وأخلع على من أحضره، وأشاع أن الكتاب يتضمن البشارة بعود الملك الظاهر إلى ديار مصر، وأصبح فركب الأمراء على العادة تحت القلعة، من غير أن يظهر عليهم شيء من الحزن.
وسار الأمير بيليك بالمحنة والأطلاب، حتى قدم إلى القاهرة يوم الخميس سادس عشر صفر وهو تحت السناجق الظاهرية، وصعد قلعة الجبل. وجلس الملك السعيد بالإيوان، وسلم إليه الأمير بيليك الخزائن والعساكر ووقف بين يديه، فصاح الحجاب حينئذ. يا أمراء ترحموا على السلطان الملك الظاهر. فارتفع الضجيج والعويل، ووقع الأمراء إلى الأرض يقبلونها للملك السعيد، فجددت الأيمان، وحلف له سائر العسكر والقضاة والمدرسين والأعيان، وتولي تحليفهم الأمير بدر الدين بيليك الخازندار بحضرة القضاة. فأقر الملك السعيد الأمير بدر الدين بيليك على نيابة السلطنة، وأقر الصاحب بهاء الدين ابن حنا على وزارته، وخلع عليهما وعلى الأمراء والمقدمين والقضاة وأرباب الوظائف.
وفي يوم الجمعة سابع عشريه: دعا الخطباء على منابر الجوامع بمصر والقاهرة للملك السعيد، وصلي بها على الملك الظاهر صلاة الغائب. وخرج البريد إلى دمشق بموت الملك الظاهر، وتحليف العساكر للملك السعيد فحلفوا.
وفي يوم الأربعاء سادس عشر ربيع الأول: ركب الملك السعيد بالعصائب على عادة أبيه، ومعه الأمراء والأعيان وعليهم الخلع، وسير إلى تحت الجبل الأحمر، وعاد إلى القلعة من غير أن يشق القاهرة، وكان يوما مشهوداً.
وفي سادس ربيع الآخر: مات الأمير بدر الدين بيليك النائب، واتهم أن الملك السعيد سمه وذلك أنه اختص بجماعة من المماليك الأحداث، فأوهموه من الأمير بيليك، وكانت جنازته حفلة، ومن بعده اضطربت أمور الملك السعيد. وأقام الملك السعيد بعده في نيابة السلطنة الأمير شمس الدين آقنسنقر الفارقاني، وكان حازما، فضم إليه جماعة منهم شمس الدين أقوش، وقطليجا الرومي، وسيف الدين قلج البغدادي، وسيف الدين بيجو البغدادي، وعز الدين ميغان أمير شكار، وسيف الدين بكتمر السلاح دار فثقل الأمير آقسنقر على خاصكية السلطان، وحدثوا السلطان في أمره، واستعانوا بالأمير سيف الدين كوندك الساقي. وكان الملك السعيد. قد قدمه وعظمه لأنه ربي معه في المكتب، فقبض على آقسنقر وهو جالس في باب القلة، وسجن وأهين ونتفت لحيته وضرب، ثم أخرج بعد أيام يسيرة ميت. فاستقر بعده في النيابة الأمير شمس الدين سنقر الألفي المظفري، فكرهه الخاصكية وقالوا. هذا ما هو من الظاهرية وخيلوا الملك السعيد منه أنه يريد أن يثور بخشداشيته مماليك الملك المظفر قطز، فعزله سريعا. وولي الأمير سيف الدين كوندك الساقي نيابة السلطة وهو شاب، فعضده الأمير سيف الدين قلاوود الألفي ومال إليه.
وكان من جملة المماليك السلطانية الخاصكية شخص يعرف بلاجين الزيني، وقد غلب على الملك السعيد في سائر أحواله، وضم إليه عدة من الخاصكية، وأخذ لاجين لهم الإقطاعات والأموال الجزيلة، وصار كلما انحل خبز أخذه لمن يختار، وتنافر النائب والمذكور، فتورغرت بينهما الصدور، ودبت بينهما عقارب الشرور، وأعمل كل منهما مكره في أذية الآخر، وضم النائب إليه جماعة من الأمراء الكبار، وصار العسكر حزبين، فآل الأمير إلى ما آل إليه من الفساد.
وتغير السلطان على الأمراء، وقبض في سابع عشره على الأمير جودي القيمري الكردي فنفرت منه قلوب الأمراء لا سيما الصالحية: مثل الأمير سيف الدين قلاوون، والأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير علم الدين سنجر الحلبي، والأمير بدر الدين، بيسري، وأقرانهم فإنهم كانوا يأنفون من تملك الملك الظاهر عليهم، ويرون أنهم أحق منه بالملك، فصار ابنه الملك السعيد يضع من أقدارهم، ويقدم عليهم مماليك الأصاغر، ويخلو بهم وكانوا صباح الوجوه، ويعطهم مع ذلك الأموال الكثيرة، ويسمع من رأيهم ويبعد الأمراء الكبار.
واستمر الحال على هذا إلى أن كان يوم الجمعة خامس عشريه، وفيه قبض السلطان على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير بدر الدين بيسري، وسجنهما بالقلعة ثلاثة وعشرين يوما، فزادت الوحشة بينه وبين الأمراء، ودخل خاله الأمير بدر الدين محمد بركة خان إلى أخته أم السلطان، وقال لها: قد أساء ابنك التدبير بقبضه على مثل هؤلاء الأمراء الأكابر، والمصلحة أن ترديه إلى الصواب، لئلا يفسد نظامه وتقصر أيامه. فلما بلغ الملك السعيد ذلك قبض عليه. واعتقله، فلم تزل به أمه تعنفه وتتلطف به، حتى أطلقهم وخلع عليهم وأعادهم إلى ما كانوا عليه، وقد تمسكت عداوته من قلوبهم.
وتوهم منه بقية الأمراء، وخشوا أن يعاملهم كما عامل الأمير بيليك الخازندار، مع حفظة له الملك وتسليم الخزائن والعساكر إليه، فلم يكافئه إلا بأن قتله بالسم. فاجتمع الأمراء وهموا أن يخرجوا عنه إلى بلاد الشام، ثم اتفقوا وصعدوا إلى قلعة الجبل، ومعهم مماليكهم وألزامهم وأجنادهم وأتباعهم، ومن انضم إليهم من العساكر، فامتلأ منهم الإيوان ورحبة القصر، وبعثوا إلى الملك السعيد: بأنك قد أفسدت الخواطر، وتعرضت إلى أكابر الأمراء، فإما أن ترجع عما أنت عليه: وإلا كان لنا ولك شان. فلاطفهم في الجواب، وتنصل مما كان منه، وبعث إليهم التشاريف فلم يلبسوها، وترددت الأجوبة بينهم وبينه إلى أن تقرر الصلح، وحلف لهم إنه لا يريد بهم سوءا، وتولي تحليفه الأمير بدر الدين الأيدمري وفرضوا وانصرفوا.
وكتب السلطان الملك السعيد إلى دمشق أن يدفن الملك الظاهر داخل المدينة فاشتري الأمير عز الدين أيدمر نائب الشام دار العقيقي داخل باب الفرج تجاه المدرسة العادلية بستين ألف درهم، وجعلها مدرسة وبني بها قبة، وابتدأ بالعمارة في يوم الأربعاء خامس جمادى الأولى، وفرغ منها في آخر جمادى الآخرة. وخرج من القاهرة الأمير علم الدين سنجر المعروف بأبي خرص، والطواشي صفي الدين جوهر الهندي، وسار إلى دمشق فدخلاها في ثالث رجب فلما كان في ليلة الجمعة خامسه، حمل الملك الظاهر من قلعة دمشق ليلا على أعناق الرجال، ووضع في جامع بني أمية وصلي عليه، وحمل حتى دفن بالقبة من المدرسة التي بنيت له، بحضور نائب الشام، وألحده قاضي القضاة عز الدين محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلد أبو المفاخر المعروف باب الصائغ، وترتب القراء من ثاني يوم، ثم وقف عز الدين بن شداد وكيل الملك السعيد هذه المدرسة، ووقف عليها قرية من شعرا بانياس، وغير ذلك.
وفي ثامن عشر ذي القعدة: صرف قاضي القضاة محيي الدين عبد الله بن عين الدولة عن قضاء مصر والوجه القبلي، وأضيف إلى قاضي القضاة تقي الدين محمد بن الحسين بن رزين، فكمل له قضاء القضاة بديار مصر، وأعيد قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان إلى قضاء دمشق في سابع عشر ذي الحجة، فكانت مدة عزله سبع سنين.
وفيها ولي شهاب الدين أبو عبد الله محمد بن شمس الدين أبي المعالي أحمد بن الخليل ابن سعادة الخوي قضاء القضاة الشافعية بحلب، بعد وفاة تقي الدين محمد بن حياة الرقي.
وفي هذه السنة عم ماء النيل أرض مصر كلها، ورخص سعر الغلة حتى أبيع الأردب القمح بخمسة دراهم، والأردب الشعير بثلاثة دراهم، والأردب من بقية الحبوب بدرهمين.
وفيها قتل الملك أبغا البرواناه في صفر، واسمه معين الدين سليمان بن على بن محمد بن حسن، ومعني البرواناه الحاجب، وكان شجاعا حازما كريما عارفا، فيه دهاء ومكر.
وفيها عزل نفسه قاضي القضاة صدر الدين سليمان بن أبي العز الحنفي من القضاء في سلخ المحرم، فشغر منصب قضاء الحنفية بعده.

.ومات في هذه السنة من الأعيان:

الأمير بدر الدين بيليك الخازندار نائب السلطة، في سادس شهر ربيع الآخر، وكان جوادا عارفا بالتاريخ جيد الكتابة.
وتوفي قاضي القضاة شمس الدين أبو بكر محمد بن عماد الدين أبي إسحاق إبراهيم ابن عبد الواحد بن على بن سرور المقدسي الحنبلي وهو مصروف، في يوم السبت ثاني عشري المحرم، ودفن بالقرافة، وله من العمر ثلاث وسبعون سنة.
وتوفي قاضي القضاة بحلب تقي الدين أبو عبد الله محمد بن حياة بن يحيي بن محمد الرقي الشافعي بتبوك، وهو عائد من الحج.
وتوفي الشيخ محمي الدين أبو زكريا يحيي بن شرف بن محمد بن الحسن بن الحسين بن جمعة بن حرام النووي الشافعي، عن نيف وأربعين سنة، بقرية نوي.
وتوفي الواعظ نجم الدين أبو الحسن على بن على بن أسفنديار البغدادي بدمشق، عن ستين سنة.
وتوفي الشريف شهاب الدين أحمد بن أبي محمد الحسيني الواسطي الغرافي، بالإسكندرية.
وتوفي الشيخ نظام الدين أبو عمرو عثمان بن أبي القاسم عبد الرحمن بن رشيق المالكي.
وتوفي أبو الحسن على بن عدلان بن حماد بن على الربعي الموصلي النحوي المترجم، بالقاهرة.