فصل: ومات فيها من الأعيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة أربع وأربعين وسبعمائة:

يوم الإثنين مستهل المحرم: قدم مبشر الحاج، وأخبر بكثرة ما كان في هذه الحجة من المشقات. وذلك أنه لما كان يوم عرفة تنافر أشراف مكة مع الأجناد من مصر، فركبوا لحرابهم بكرة النهار، ووقفوا للحرب صفين. فمشى الشريف عجلان بينهم، فلم تطعه الأشراف، وحملوا على الأجناد وقاتلوهم، فقتل منهم ومن العامة جماعة. وأبلى الشريف عجلان بن عقيل وأبلى كذلك الأمير أيدمر بلاء عظيماً، فعاتبه بعض مماليك الأمير بشتاك، ورماه بسهم في صدره ألقاه عن فرسه، وقتل معه أيضاً جماعة، وآل الأمر. إلى نهب شيء كثير، ثم تراجع عنهم الأشراف.
وفيه قدم عيسى بن فضل بقود أخيه سيف بن فضل على عادته. وكان سليمان بن مهنا قد سافر إلى بلاده فأكرمه السلطان وأنعم عليه، وأنزله منزلة حسنة.
وفي يوم السبت سادسه: قدم من الكرك الطواشي صفي الدين جوهر ورفيقه مختار، فارين من الناصر أحمد.
وفي يوم الأحد سابعه: خرج المجردين إلى الكرك من القاهرة، صحبة الأمير أصلم والأمير بيبغا حارس الطير.
وفي يوم الأربعاء عاشره: قبض السلطان على أربعة أمراء، وهم الأمير أقسنقر السلاري نائب السلطنة، والأمير بيغرا أمير جاندار صهره، والأمير قراجا الحاجب، وأخيه أولاجا، وقيدوا ورسم بسجنهم في الإسكندرية.
وفيه خرج الأمير بلك على البريد إلى المجردين إلى الكرك، فأدركهم على السعيدية، فطيب خواطرهم، وأعلمهم بالقبض على الأمراء، وعاد سريعاً، فقدم قلعة الجبل طلوع الشمس من يوم الخميس حادي عشره، وبعد وصوله قبض السلطان على الأمير طيبغا الدوادار الصغير. وسبب قبض السلطان على هؤلاء الأمراء أن الأمير أقسنقر السلاري كان في نيابته لا يرد قصة ترفع إليه فقصده الناس من الأقطار، وسألوه الرزق والأراضي التي أنهوا أنها لم تكن بيد أحد، وكذلك نيابات القلاع وولايات الأعمال والرواتب وإقطاعات الحلقة. فلم يرد أحد سأله شيئاً من ذلك، سواء كان ما أنهاه صحيحاً أم باطلاً. فإذا قيل له هذا الذي أنهاه يحتاج إلى كشف تغير وجهه، وقال: ليش تقطع رزق الناس؟. فإذا كتب بالإقطاع لأحد، وحضر صاحبه من سفره أو تعافى من مرضه وسأله في إعادته، قال له: رح خذ إقطاعك، أو يقول له: نحن نعوضك. ففسدت الأحوال، ولاسيما بالمملكة الشامية، فكتب النواب بذلك للسلطان، فكلمه السلطان فلم يرجع، وقال: أنا أي من طلب مني شيئاً أعطيته، وما أرد قلمي عن أحد. بحيث أنه كانت تقدم له القصة وهو يأكل فيترك أكله ويكتب عليها من غير أن يعرف ما فيها، فأغلظ له بسبب ذلك آقسنقر الناصري أمير أخور. واتفق مع ذلك أنه وشى به أنه يباطن للناصر أحمد، ويواصل كتبه إليه، فقرر أرغون العلائي مع السلطان مسكه، فمسك هو وحاشيته.
وفي يوم الجمعة ثاني عشره: خلع السلطان علي الأمير الحاج آل ملك، واستقر في نيابة السلطنة، عوضاً عن آقسنقر السلاري. وكان العلائي قد قرر مع السلطان أن يعرض على الأمراء نيابة السلطنة، فأول من عرضت عليه الأمير بدر الدين جنكلي بن البابا فامتنع، فقالوا بعده للأمير الحاج آل ملك، فأظهر البشر وأجاب لها إن قبلت شروطه. فلما طلع الأمير الحاج آل ملك لصلاة الجمعة على العادة، اشترط على السلطان ألا يفعل شيئاً في المملكة إلا برأيه، وأنه يمنع الخمر من البيع، ويقيم منار الشرع، وأنه لا يعارض فيما يفعله. فقبل السلطان شروطه، ولبس الأمير الحاج آل ملك تشريف النيابة بجامع القلعة، بعد صلاة الجمعة. وأنعم عليه السلطان زيادة على إقطاع النيابة بناحيتي المطرية والخصوص، ومتحصلهما اربعمائة ألف وخمسين ألف درهم.
وفي يوم السبت ثالث عشره: خلع السلطان علي منكلي بغا الفخري، واستقر أمير جندار، عوضاً عن بيغرا.
وفيه فتح شباك النيابة، وجلس فيه الأمير الحاج آل ملك للمحاكمات. فأول ما بدأ به أن أمر والي القاهرة بأن ينزل إلى خزانة البنود بالقاهرة، ويحتاط على ما بها من الخمر والبغايا، ويخرج من فيها من النصارى الأسرى، ويريق ما هناك من الخمور، ويخربها حتى يجعلها دكاً وسبب ذلك أن خزانة البنود كانت يومئذ حانة، بعد ما كانت سجناً يسجن فيه الأمراء والجند والمماليك، كما أن خزانة شمائل سجن لآرباب الجرائم من اللصوص وقطاع الطريق. فلما كانت دولة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون بعد عوده من الكرك، وشغف بكثرة العمارات، اتخذ الأسرى وجلبهم إلى مصر من بلاد الأرمن وغيرها، وأنزل عدة كثيرة منهم بقلعة الجبل، وجماعة كثيرة بخزانة البنود. فملأ أولئك الأرمن خزانة البنود حتى بطل السجن بها، وعمرها السلطان الناصر مساكنا له، وتوالدوا بها، وعصروا الخمور بحيث أنهم عصروا في سنة واحدة اثنتين وثلاثين ألف جرة، باعوها جهاراً وكان لحم الخنزير يعلق عندهم على الوضم، ويباع من غير احتشام. واتخذوا عندهم أماكن لاجتماع الناس على المحرمات، فيأتيهم الفساق ويظلون عندهم الأيام على شرب الخمور ومعاشرة الفواجر والأحداث ففسدت حرم كثيرة من الناس وكثير من أولادهم وجماعة من مماليك الأمراء فساداً شنيعاً، حتى إن المرأة إذا تركت أهلها أو زوجها، أو الجارية إذا تركت مواليها، أو الشاب إذا ترك أباه، ودخل عند الأرمن بخزانه البنود لا يقدر أن يأخده منهم، ولو كان من كان.
فقام الأمير الحاج آل ملك في أمرهم، وفاوض السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون في فسادهم غير مرة، فلم يجبه إلى أن أكثر عليه فغضب السلطان عليه، وقال له: يا حاج! كم تشتكي من هؤلاء، إن كان ما يعجبك مجاورتهم انتقل عنهم فشق ذلك عليه، وركب إلى ظاهر الحسينية واختار مكاناً، وعمره داراً، وأنشأ بجانبها جامعاً، وحماماً وربعاً وحوانيت. وبقيت في نفسه حزازات حتى أمكنته القدرة منهم، وانبسطت يده فيهم بكونه نائب السلطان، فنزل والي القاهرة ومعه الحاجب وعدة من أصحاب النائب وهجموا خزانة البنود، وأخرجوا جميع سكانها، وكسروا أواني الخمر، فكانت شيئاً يجل وصفه كثرة، وهدموها واشترى أرضها الأمير قماري من بيت المال، وتقدم إلى الضياء المحتسب أن ينادي بتحكيرها، فرغب الناس في أرضها واحتكروها، وبنوها دوراً وطواحين وغيرها.
وقد ذكرنا أخبار خزانة البنود في كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ذكراً شافياً، فكان يوم هدم خزانة البنود يوماً مشهوداً من الأيام المشهورة المذكورة، عدل هدمها فتح طرابلس وعكا، لكثرة ما كان يعمل فيه بمعاصي الله.
ثم طلب النائب والي القلعة، وألزمه أن يفعل ذلك ببيوت الأسرى من القلعة، فمضى إليها وكسر جرار الخمر التي بها، وأنزلهم من القلعة، وجعلهم مع نصارى خزانة البنود في موضع بجوار الكوم. فيما بين جامع ابن طولون ومصر، فنزلوه واتخذوا به مساكنهم، واستمروا بها إلى اليوم.
وكانت الأسرى التي بالقلعة من خواص الأسرى، وعليهم كان يعتمد السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون في أمر عمائره، وكانوا في فساد كبير مع المماليك وحرم القلعة فأراح الله منهم.
ثم رسم الأمير الحاج آل ملك النائب بتتبع أهل الفساد، فمنع الناس من ضرب الخيم على شاطئ النيل بالجزيرة وغيرها للنزهة، وكانت محل فساد كبير لاختلاط الرجال فيها بالنساء، وتعاطيهم المنكرات.
واقترح الأمير الحاج آل ملك في نيابة اقتراحات كثرة، منها أنه منع من مكاتبة ولاة الأعمال إلا بعد أن يبعث الوالي أن كان للشاكي حق شرعي، وجعل عوض المكاتبة له كتابة الشكوى خلف قصة المشتكي، وكثيراً ما كان يرد الشكاة إلى الولاة والكشاف، وصار يكنب لجميع الولاة يعتمد.
ورسم الأمير الحاج آل ملك لأولي نيابته بإبطال جميع الملعوب، وهي جهة سلطانية كان يتحصل منها مال كثير، ولها ضامن يقال له كمجتي. له ضرائب مقررة على أرباب الملعوب، من المناطحين بالكباش والمناقرين بالديوك، وعلى المعالجين والمصارعين والمثاقفين والملاكمين والمشابكين، وعلى المقامرين على اختلاف أنواع القمار، وعلى القرادة والدبابة الذين يلعبون بالقرود والدب وغير ذلك من أنواع اللعب، فبطل ذلك كله.
وأبطل الأمير الحاج آل ملك أيضاً جهة ابن البطوني، وهي جهة سلطانية لها ضامن عليه مال مقرر يأخذه من كل من رد عليه عبده أو أمته، إذا أبقوا فكان يتعدى حتى يأخذ من يجده من العبيد والإماء قد مضى لمولاه في حاحة، ويحبسه عنده حتى يصالحه مولاه على مال يدفعه إليه، فبطل ذلك.
وأبطل الأمير الحاج آل ملك النزول عن الإقطاعات والمقايضات بهذه بعد أن فشى ذلك بين الأجناد، حتى إن جندياً قايض أخر بإقطاعه ومبلغ ألفين وخمسمائة درهم أقبضه منها ألفين، فألزمه الأمير الحاج آل ملك بحمل الألفين لبيت المال، فانكف الأجناد عن المقايضات.
ومقت الأمير الحاج آل ملك من يرفع إليه قصة بطلب زيادة، فرفع له علاء الدين بن القلنجقي أحد الأمراء العشرات قصة يسأل فيها زيادة على إقطاعه، فوقع له عليه بمائتي فدان من الجبل الأحمر، زيادة على ما بيده.
ومنع الأمير الحاج آل ملك من مكاتبة نواب الشام وكتابة التواقيع السلطانية لأهل الشام، وكتب مرسوم السلطان إلى الممالك الشامية بإبطال العمل بما كتب به من بعد وفاة السلطان الملك الناصر محمد، ولا يعتمد إلا على المراسيم المستقرة إلى حين وفاته، ليبطل بذلك ما كان في نيابة أقسنقر السلاري فبطلت جماعة كثيرة بأيديهم مراسيم سلطانية منصورية وأشرفية وصالحية تجددت بعد السلطان الناصر محمد، وأخذت منهم.
وفي يوم الخميس ثامن عشره: قدم محمل الحاج.
وفي يوم الأربعاء رابع عشريه: نودي بتحكير خزانة البنود، فشرع الناس في تحكيرها.
وفي يوم الخميس خامس عشريه: رسم السلطان أن يعاد على ناصر الدين المعروف بفأر السقوف ما أخذ له في نيابة الأمير طشتمر حمص أخضر، وخلع عليه بحسبة مصر، عوضاً عن ابن بنت الأعز، بشفاعة الأمير ملكتمر الحجازي، فأعيد له مبلغ أربعين ألف درهم من بيت المال.
وفيه قدم شهاب الدين أحمد بن فضل الله كاتب السر بدمشق بطلب، لكثرة شعاته فقام أخوه علاء الدين علي بن فضل الله في أمره حتى أعيد إلى دمشق معزولاً، من غير مصادرة، ورتب له ما يكفيه.
وفيه أنعم على عدة من المماليك السلطانية بإمريات، منهم شيخو العمري، وألطنبغا برناق.
وفي هذا الشهر: كثر تخوف الناس من منسر انعقد بالقاهرة، وذلك أن رجال هذا المنسر كبسوا عدة بيوت، وكتبوا أوراقاً يطلبون فيها مالاً من الأغنياء، ومتى لم يبعث لنا ذلك كنا ضيوفك وأعيا الوالي أمرهم فاتفق أنهم كبسوا بيتاً ببولاق، وكان أهله قد أنذروا بهم، فاستعدوا لهم وتركوا أبوابهم مفتوحة، فدخلوا نصف الليل، وإذا بالنشاب قد وقع في صدورهم، فأصاب منهم ثلاثة، ورجع باقيهم منهزمين. فخرج منهم أيضاً اثنان والطلب في أثرهما، فقتل منهما واحد وقبضوا منهم على ثلاثة، وأتوا بهم الوالي، فأقروا على جماعة بالجزيرة وغيرها، فتتبعوا إلى أن ظفر بجماعة سمروا وشهروا.
وفيه قدم الرجل الصالح أحمد الزرعي، فأكرمه الأمير جنكلي بن البابا، وجمع بينه وبين السلطان. فسأل الزرعي أن تعفى بلده زرع من المغارم والسحر، وأقام أياماً ثم عاد إلى الشام.
وفيه قدم الأمير سيف بن فضل، فأكرمه السلطان، وكتب له ببلدة زرع حسب سؤاله، وسافر فمات قبل أن يستغلها.
وفيه قدم أيضاً أحمد بن مهنا وسيف بن فضل، بقود.
وفيه وصلت رسل متملك الهند بهدية فيها فصان ياقوت، ومعهم كتاب يتضمن السلام والمودة، وأنهم لم يكونوا يعرفون الإسلام حتى أتاهم رجل عرفهم ذلك، وذكر لهم أن ولاية الملك لابد أن تكون من الخليفة. وسأل متملك الهند أن يكتب له تقليد من جهة الخليفة بولاية مملكة الهند ليكون نائباً عن السلطان بتلك البلاد، وأن يبعث السلطان إليهم رجلاً يعلمهم شرائع الإسلام من الصلاة والصيام ونحو ذلك. فأكرمت الرسل، وطلب من الخليفة أن يكتب تقليداً لمرسلهم بسلطنة الهند، فكتب له تقليد جليل، ورسم بسفر ركن الدين الملطي شيخ الخانكاه الناصرية بسرياقوس مع الرسل. وفيه قدم البريد من حلب بطلب ناصر الدين محمد بن صغير الطبيب، ليعاج الأمير ألطنبغا المارداني، فأخرج على البريد، وقدم حلب يوم الثلاثاء سلخه، وقد احتضر الأمير ألطنبغا، فمات من الغد، فعاد ابن صغير بعد يومين من حلب.
وفي تاسع عشريه: رسم بتجريد الأمير جنكلي بن البابا، والأمير آقسنقر الناصري، والأمير أبي بكر بن أرغون النائب، والأمير طيبغا المجدي إلى الكرك.
وفي ثاني عشر صفر: قدم الخبر بوفاة الأمير ألطنبغا المارداني نائب حلب، فصلي عليه صلاة الغائب بجامعه، وقرئت له ختمة شريفة.
وفيه عقد مشور عند السلطان فيمن يلي حلب، فأشار الأمير أرغون العلائي باستقرار الأمير يلبغا اليحياوي في نيابة حلب، وأن يستقر عوضه في نيابة حماة الأمير طقتمر الأحمدي، وأن يستقر بلك الجمدار في نيابة صفد، عوضاً عن طقتمر الأحمدي. وعين أرغون شاه للسفر بتقليد الأمير يلبغا، وأن يتوجه الأمير أحمد لإحضار حريم المارداني وأمواله من حلب.
وفي رابع عشريه: توجه الأمير ألطنبغا برناق، بتقليد طقتمر نائب حماة.
وفي يوم السبت خامس عشريه: قدم الأمير بيبرس الأحمدي والأمير كوكاي ومن معهما من المجردين التجريدة الثانية إلى الكرك، فركب الأمراء إلى لقائهم. وكان قبل ذلك بيومين ورد كتاب الأمير أصلم بأنه قدم إلى الكرك بمن معه، وخرج الأمير بيبرس الأحمد بمن معه، وطلب أن يقوى بعسكر. فكتب إلى ولاة الأقاليم للخروج إلى الكرك بطلبهم، ونزل النقباء إلى الأمراء المعينين للسفر بخروجهم.
وفي يوم الخميس سلخه: خرج الأمير بلك الجمدر من القاهرة، لنيابة صفد.
وفي يوم الإثنين رابع ربيع الأول: خرج الأمير جنكلي بن البابا والأمير أقسنقر الناصري وملكتمر السرجواني وأمير عمر بن أرغون النائب، في أربعة ألاف فارس، تقوية للأمير أصلم، وهي التجريدة الرابعة للكرك. وتوجه صحبتهم عدة حجارين ونقابين ونفطية، وتوجه السلطان بعد سفرهم إلى سرياقوس على العادة.
وفيه اشتد الأمير الحاج آل ملك النائب على والي القاهرة ومصر في منع الخمر وغيره من المحرمات، وتتبع أهل الفساد وإحضارهم إليه. ونودي بالقاهرة ومصر من أحضر سكراناً أو أحداً معه جرة خمر خلع عليه. فقعد العامة لشربة الخمر بكل طريق، وأتوه مرة بجندي قد سكر، فضربه وقطع خبزه، وخلع على من أحضره. وقبض العامة أيضاً على بعض مماليك الأمراء، وقد أحضر جرة خمر في مركب، فضربه وقطع خبزه. وأخذ النائب كثيرا من شربة الخمر وباعته بناحية شبرا الخيم ومنية السيرج، ومن المراكب، ومن البيوت، فضربهم عرايا، وكشف رءوسهم، وصب عليهم الخمر وشهرهم. ونادى من اشترى عنباً بالقنطار قبض عليه، ويؤتي به إليه. فعرفه شاد الدواوين أن متحصل الديوان من معاملة العنب مائة ألف درهم، وقد بطلت، فلم يلتفت إليه، وتنجز مرسوم السلطان بالمساجة بذلك. وبعث النائب في خفية من اشترى له عنباً بدرهمين، فجاءه عشرة أرطال فطلب المحتسب، وأنكر عليه كيف يكون العنب بهذا السعر وقد منعنا من اعتصاره.
ومنع الأمير الحاج ملك النائب أن يحمل الفرنج إلى الإسكندرية خمراً، فقام في ذلك جمال الكفاة، وذكر أنه يتحصل من ذلك في السنة نحو الأربعين ألف دينار، ومتى منع الفرنج من حمل الخمر فسد حال الإسكندرية، ومازال بالسلطان حتى منع النائب من ذلك.
وأبطل الأمير الحاج آل ملك النوايح من القاهرة ومصر، فقامت الضامنة عند الأمير قماري الأستادار في إعادة النوايح، وخوفت أن جهته تبطل، وكان مرصده للحاشية، فمازال الأمير قماري يكلم الأمير الحاج آل ملك حتى أعادها.
وفي هذا الشهر: قام قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة على إمام الجامع الأزهر، وحبسه. وسبب ذلك أنه كان يلي نظر الجامع، فأخرجه عنه قاضي القضاة وولاه للقاضي الحنبلي، فتعصب جماعة للإمام حتى أعاده آقسنقر السلاري النائب إلى نظر الجامع. فشق ذلك على القضاة، وتنكروا له، فقام رجل وأنهى إليهم أن الإمام من خمس وعشرين سنة وقع في حق النبي صلى الله عليه وسلم بأن زعم أنه صلى الله عليه وسلم انهزم في بعض غزواته، وكتب بذلك محضراً وأثبته. وشنعوا بذلك عليه، وأخذوه من الجامع إلى الحبس، فقام الشيخ خليل المالكي والقوام الكرماني قياماً زايداً حتى وصل إلى السلطان والأمراء أن بين القضاة وبينه عداوة، بسبب نظر الجمع، من قديم. فطلب القضاة إلى القلعة بحضرة السلطان، وحدثهم السلطان في أمره، فوقعوا فيه وقيعة قبيحة، وأنه قد وجب قتله، وقد حكم بعزله من الإمامة. فمازال السلطان بهم حتى حكم الحنفي بتعزيره، فعزر واستمر على وظيفته. وكثرت القالة في ابن جماعة بسببه، فإنه كانت له سمعة عند الخدام، وتتردد إليه أم السلطان.
وفيه خلع علي نجم الدين أيوب، وأعيد لولاية القاهرة، عوضاً عن شجاع الدين غرلو، وأخرج غرلو إلى الشوبك، عوضاً عن ألطنقش.
وفي يوم الخميس عشر: قدم الخبر بوصول المنجنيق من صفد إلى الكرك، وأنه هرب من خدام أحمد ومماليكه نحو ستة وأربعين نفراً، ثم قدموا في حادي عشريه، فخلع عليهم.
وفي رابع عشر ربيع الآخر: قدم الخبر بوصول جنكلي بن البابا وأقسنقر الناصري إلى الكرك بمن معهما، في يوم السبت سابعه، فزحفوا من غدهم، وقاتلوا قتالاً شديداً جرح فيه بالغ وجماعة، وعدة قتلوا، وجرح كثير. فانكسر أهل الكرك كسرة قبيحة، فسر السلطان بذلك، وبعث إلى الأمراء المجردين خمسين حجاراً.
وفيه قدم رسول حسن بن دمرداش بن جوبان بهدية، وسأل أن يبعث إليه برمة أبيه، فاعتذر السلطان عن ذلك بأنه لم يعرف له قبراً.
واتفق في زيادة النيل أنه كان وفاؤه يوم الأحد سابع عشر ربيع الأول وهو سابع عشر مسرى فزاد زيادة كبيرة بعد الوفاء حتى فاض من جهة قرموط من الخليج، وطلع من الأسربة. فركب الوالي إلى بولاق، وركب النائب إلى جسر بركة الحبش في عدة من الأمراء، وأقام ثلاثة أيام حتى أتقن بعض الجسور.
وفاض النيل من جهة قناطر الأوز، فكتب لوالي الشرقية على أجنحة الحمام أن يقطع اللؤلؤة فكثر تقطع الجسور، وتعبت الولاة في سدها حتى تقطعت جميعها بالوجه القبلي والوجه البحري. وفسدت الأقصاب، والنيلة والقلقاس، وسائر الزراعات الصيفية، والمخازن.
وفيه قدم الخبر بكثرة الفساد والمجاهرة بالخمور وأنواع الفسوق بدمشق، وقلة حرمة نائبها الأمير طقزدمر الحموي، وتغلب مماليكه وتهكمهم عليه وسوء سيرتهم، فكتب بالإنكار عليه. واتفق بظاهر القاهرة أمر اعتني بضبطه، وهو أنه كان بناحية اللوق كوم يعرف بكوم الزل يأوي إليه أهل الفسوق من أوباش العامة، فأخذ بعضهم منه موضعاً ليبني له فيه بيتاً، فشرع في نقل التراب منه، فبينا هو يحفر إذ ظهر له إناء فخار فيه مكاتيب دار كانت في هذا البقعة، وتدل على أنه كان به أيضاً مسجد، ورأى أثار البنيان. فأشاع بعض شياطين العامة- وكان يقال له شعيب، أنه رأى في نومه أن هذا البنيان على قبر بعض الصحابة رضي الله عنهم، وأن من كراماته أنه يقيم المقعد ويرد بصر الأعمى، وصار يصيح ويهلل ويظهر اختلال عقله. فاجتمعت عليه الغوغاء، وأكثروا من الصياح، وتناولوا تلك الأرض بالحفر حتى نزلوا فيها نحو قامتين، فإذا مسجد له محراب. فزاد نشاطهم، وفرحوا فرحاً كبيراً، وباتوا في ذكر وتسبيح. وأصبحوا وجمعهم نحو الألف إنسان، فشالوا ذلك الكوم، وساعدهم النساء، حتى إن المرأة كانت تشيل التراب في مقنعها، وأتاهم الناس من كل أوب، ورفعوا معهم التراب في أقبيتهم وعمائمهم، وألقوه في الكيمان، بحيث تهيأ لهم في يوم واحد ما لا تفي مدة شهر بنقله.
وحفر شعيب حفرة كبيرة، وزعم أنها موضع الصحابي، فخرج إليه أهل القاهرة ومصر أفواجاً، وركب إليه نساء الأمراء والأعيان، فيأخذهن شعيب وينزلهن تلك الحفرة لزيارتها، وما منهن إلا من تدفع الدنانير والدراهم.
وأشاع شعيب أنه أقام الزمنى، وعافى المرضى، ورد أبصار العميان، في هذه الحفرة، وصار يأخذ جماعة ممن يظهر أنه من أهل هذه العاهات، وينزل بهم إلى الحفرة، ثم يخرجهم وهم يسبحون الله أكبر الله أكبر، ويزعمون أنهم قد زال ما كان بهم.
فافتتن الناس لتلك الحفرة، ونزلت أم السلطان لزيارتها، ولم تبق أمرأة مشهورة حتى أتتها وصار للناس هناك مجتمع عظيم، بحيث يسرج به كل ليلة نحو مائتي قنديل، ومن الشموع الموكبية شيء كثير. فقامت القضاة في ذلك مع الأمير أرغون العلائي والأمير الحاج آل ملك النائب، وقبحوا هذا الفعل، وخوفوا عاقبته، حتى رسم لوالي القاهرة أن يتوجه إلى مكان الحفرة ويكشف أمرها، فإن كان فيها مقبور يحمل إلى مقابر المسلمين ويدفن به سراً، ثم يعفى الموضع. فلما مضى إليه ثارت به العامة تريد رجمه، وصاحوا عليه بالإنكار الشنيع حتى رماهم الجند بالنشاب، فتفرفوا، وهرب شعيب ورفيقه العجوي، ومازال الحفارون يعملون في ذلك المكان إلى أن انتهوا فيه إلى سراب حمام، ولم يجدوا هناك قبراً ولا مقبوراً، فطموه بالتراب، وانصرفوا. وقد انحلت عزائم الناس عنه، بعدما فتنوا به، وضلوا ضلالاً بعيداً، وجمع شعيب ورفيقه كثيراً من المال والثياب شيئاً طائلاً.
وفيه توجه أيدمر الشمسي لكشف أحوال الكرك.
وفي يوم الأحد سابع عشرى جمادى الأولى: قدم الأمير أصلم، وأبو بكر بن أرغون النائب، وأروم بغا، من تجريدة الكرك بغير إذن، واعتذروا بضعف أبدانهم وكثرة الجراحات في أصحابهم وقلة الزاد عندهم. فقبل السلطان عذرهم، ورسم الأمير طقتمر الصلاحي وتمر الموساوي، في عشرين مقدماً من الحلقة وألفي فارس، فساروا خلقه، وهي التجريدة الخامسة.
وفيه قدم البريد من حلب أنه خرجت عساكر حلب وحماة وطرابلس صحبة سنقر وصلاح الدين الدوادار إلى جهة سيس لحرب أهلها من الأرمن، لمنعهم الخراج.
تركمان الطاعة، وأغاروا معهم، وأثروا في أهل سيس آثار قبيحة.
وفيه نودي من قبل الأمير الحاج آل ملك نائب السلطان بأن أهل الأسواق كلها إذ أذن الصلاة يصلون قدام دكاكينهم بإمام يصلي بهم، فعملوا أنخاخاً وحصروا برسم فرشها للصلاة في الأسواق.
وتوجه السلطان في هذه الأيام إلى سرياقوس على العادة، ورسم بلعب الرمح بين يديه. فاجتمع غواة لعب الرمح، وحضر طيدمر الملكي وابن الطرابلسي الرماح وقطز الشمسي، ومن ضاهاهم، وتكافحوا. فظهر ابن الطرابلسي يومئذ على سائرهم، وأنعم عليه.
وفيها ترك الأمير طقبغا الناصري إمريته، وتزيا بزي الفقراء، فلزمه بحكم الديوان أربعمائة ألف درهم، حمل منها مباشروه ثلاثمائة ألف.
وفيها رسم باستقرار الأمير سيف الدين بن فضل أمير الأمراء في الإمرية، عوضاً عن سليمان بن مهنا، بعد موته.
وفيها كتب بمنع أحمد بن مهنا من القدوم إلى مصر، فرده نائب الشام من دمشق وعاد إلى أهله. فاتفق أحمد بن مهنا مع فياض على إقامة فتنة.
وفيها تزوج السلطان ابنة الأمير طقزدمر الحموي نائب الشام، بعد ما جهز الأمير ملكتمر الحجازي بالمهر إلى دمشق، فقدمها في سادس عشر جمادى الآخرة، وقد تلقاه الأمير طقزدمر، فدفع إليه المهر وهو مائة ألف درهم. وعاد الأمير ملكتمر الحجازي من دمشق من غير أن يأخذ لأحد شيئاً هدية، فبعث له الأمير طقزدمر الحموي ألفي دينار، ومائة قطعة قماش، وأربعة أرؤس خيل. وأنعم عليه السلطان بألفي دينار، وخيول وغيرها. وفيه قدم الخبر بخروج فياض وآل مهنا عن الطاعة، وإغارتهم على عرب سيف بن فضل، وأخذهم قفلاً من بغداد إلى نواحي الرحبة، كان فيه لرجل واحد ما قيمته نحو مائتي ألف دينار، سوى ما لغيره من التجار.
وفيه قدم الخبر بأن سليمان شاه حاكم الأردو جرت بينه وبين أرتنا ملك الروم حرب انتصر فيها أرتنا، وقتل عدة من أصحاب سليمان شاه، وغنم ما معهم، وهزم باقيهم. وفي مستهل رجب: عاد الأمير جنكلي بن البابا والأمير آقسنقر الناصري من تجريدة الكرك إلى القاهرة، فأكرمهما السلطان لكثرة بلائهما في الكرك، وخلع عليهما.
وفيه قدم البري بمحضر ثابت على قضاة حلب يتضمن أنه لما كان يوم السبت سادس شعبان إذا برعد وبرق أعقبته زلزلة عظيمة، سمع حسها من نصف ميل عن حلب، وهو حس مزعج يرجف القلوب. فهدم من القلعة اثنا وثلاثون برجاً سوى البيوت، وهدم من قلعة البيرة أكثر من نصفها، وكذلك من قلعة عين تاب وقلعة الراوند وبهسنا وبلاد منبج وقلعة المسلمين. فخرج أهل حلب إلى ظاهرها، وضربوا الخيم، وغلقت سائر أسواقها، وفي كل ساعة يسمع دوي جديد. ثم إنهم تجمعوا عن أخرهم، وكشفوا رءوسهم ومعهم أطفالهم والمصاحف مرفوعة، وهم يضجون بالدعاء والابتهال إلى الله برفع هدا المقت. فأفاموا على ذلك أياماً إلى خامس عشريه حتى رفع الله ذلك عنهم، بعدما هلكت بتلك البلاد تحت الردم خلائق لا يحصيها إلا خالقها، فكتب بتجديد عمارة ما هدم من القلاع من الأموال الديوانية. وقدم الخبر من الكرك بأن العساكر أخذت على طرقها كلها بالاحتفاظ وأخدت أغناماً كثيرة لأهلها، وقتلت جماعة من الكركيين. فرسم بتجهيز الأمير علم الدين سنجر الجاولي، والأمير أرقطاي، والأمير قماري أستادار، وعشرين أمير طبلخاناه وعشرات، وثلاثين مقدم حلقة، وأنفق السلطان فيهم. فساروا يوم الثلاثاء خامس عشر شوال في ألفي فارس، وهي التجريدة السادسة، وتوجه معهم عدة حجارين ونفطية.
وفيه خلع على الأمير طرغاي الطباخي، واستقر في نيابة طرابلس بعد موت رسغاي السلاح دار، وكتبت أوراق ديوانية بما يلزم رسغاي بحكم الديوان، ويشتمل على ألفي ألف درهم.
وفيه استقر علاء الدين علي بن محمد بن الأطروش السقطي في حسبة دمشق، بعناية الأمير أرغون العلائي، فشنع الناس بسبب ولايته، لجهله بالأمور الشرعية.
وفي أول شعبان: ورد كتاب الناصر أحمد من الكرك وهو يترفق ويعتذر عن قتل الأمير قطلوبغا الفخري والأمير طشتمر حمص أخضر، وأنه إن رسم بحضوره حضر، وإن رسم بإقامته بالكرك أقام تحت الطاعة، وأنه لا رغبة له في الملك. وعقيب ذلك ورد كتاب نائب الشام وكتاب نائب حلب، وفي ضمنهما كتب الناصر أحمد إليهما بختمها، وهي تشتمل على معنى ما ذكر في كتابه. فتوجه إليه الأمير طشتمر طلليه بجواب يتضمن أنه إن أراد الإقامة بالكرك مطمئناً فليسير ما أخده من المال والخيل وغير ذلك، ويبعث يوسف بن البصارة أيضاً، وإلا هدمت عليه الكرك حجراً حجراً، وأسر إلى طلليه أن يتحيل في القبض على أحمد.
وفي مستهل رمضان: فرغت عمارة القاعة المعروفة بالدهيشة من القلعة، وفرشت بأنواع البسط والمقاعد الزركش، وجلس فيها السلطان وبين يديه جواريه. فأكثر من الإنعام والعطاء، وكان قد اختص بالمملوك بيبغا الصالحي، وأمره وخوله في نعم جليلة، وزوجه بابنة الأمير أرغون العلائي، وهي أخت السلطان لأمه، وعمر له حوانيت خارج باب القرافة. وكثر استيلاء الجواري والخدام على الدولة وعارضوا النائب، وأبطلوا ما أحبوا إبطاله مما يرسم به، حتى صار يقول لمن يطلب شيئاً: رح إلى الطواشية ينقضي شغلك، فإذا بلغهم ذلك أهدروا مكانته وردوا أفعاله.
وفي سابعه: توجه الأمير آقسنقر الناصري لنيابة طرابلس، بعد موت الأمير طوغاي الطباخي، وقد تنكر السلطان له وتغير عليه.
وفي عشريه: رحل محمل الحاج من البركة، وقد قدم من حجاج المغاربة زيادة على عشره ألاف إنسان، ومن حجاج بلاد التكرور نحو خمسة ألاف نفر، وحج الطواشي عنبر السحرتي لالا السلطان، في تجمل كثير.
وفيه أعاد الناصر أحمد الأمير طشتمر طلليه بجواب غير طائل، ومن غير أن يجتمع به. وقدم معه وبعده من الكركيين عدة أشخاص، فمرروا مع السلطان مخامرتهم على الناصر أحمد، وطلبوا إقطاعات عديدة لهم ولأصحابهم. فكتب لهم السلطان بها، وأعيدوا بإنعامات جليلة. فقدم الخبر بأن يوسف بن البصارة بعثه الناصر أحمد من الكرك ليحضر إلى مصر، فوجد قتيلاً في أثناء طريقه، واتهم الناصر أحمد أنه بعث من قتله خوفاً منه أن ينم عليه لأخيه، وأحاط الناصر أحمد بموجوده، فوجد له أربعة وعشرين ألف دينار، وثلاثين حياصة ذهب، وثلاثين كلفتاه زركش، سوى لؤلؤ وقماش وغير ذلك. فوقع الاتفاق على أن يجرد السلطان إلى الكرك عدة عساكر من مصر والشام.
وفي يوم الإثنين ثامن ذي القعدة: قدم بالغ ومشايخ الكرك طائعين، فأنعم السلطان عليهم وعادوا في حادي عشره، ومعهم عدة من المماليك السلطانية ليسلموهم قلعة الكرك.
وفيه رسم بتجريدة سابعة فيها الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي، والأمير كوكاي، وعشرون أمير طبلخاناة، وسته عشر أميراً. وكتب بخروج عسكر من دمشق، ومعهم منجنيق وزحافات. وحمل السلطان إلى الأمير بيبرس الأحمدي ألفي دينار، وإلى كوكاي ألف دينار، ولكل أمير طبلخاناة أربعمائة دينار، ولكل أمير عشره مائتا دينار. وأرسل السلطان أيضاً مع الآمير بيبرس الأحمدي أربعة ألاف دينار لأجل من عساه ينزل من الكرك، وجهزت تشاريف كثيرة. وأقام الأمراء في طريقهم نحو شهرين، وخرج معهم ستة ألاف رأس من البقر والغنم، ومائتا رأس جاموس ونحو ألفي راجل. فاستعد لهم الناصر أحمد، وجمع الرجال، وأنفق فيهم مالاً كثيراً وجمع الأسلحة المرصدة بقلعة الكرك، وركب المنجنيق الذي كان بها.
وفيه قدم سليمان ابن مهنا بقوده، فخلع عليه.
وفي مستهل ذي الحجة: عرض السلطان الخيل ليختار فرساً يركبه يوم العيد، وأحضر عشرة من النقاراتية، فدقوا كوساتهم عند العرض. فظن العسكر أنها حربية، فركبوا تحت القلعة، وتجمعت العامة على عادتهم، وغلقت الأسواق. فركب إليهم نقيب الجيش ولامهم على ركوبهم، وردهم.
وأخذت القالة تكثر حتى تنكرت قلوب الأمراء، وادخروا الأقوات خوفاً من الفتنة. ولهجت العامة بقولهم: يا ولد خرا للعيد وغنوا به في الأسواق. فتوهم السلطان من فتنة تكون يوم العيد، وهم ألا يصلي يوم العيد خوفاً من طائفة تهجم عليه في الصلاة من جهة أخيه رمضان واستعد لذلك. ثم بعث السلطان إلى أخيه رمضان، فقتله ليلة العيد، وصلى العيد وهو متحرز.
وفي هذه الأيام: أعيد ضمان الملعوب من العلاج والصراع واللكلم والسعاة، ونحو ذلك. وأعيد ضمان ابن البطوني، وضمن بزيادة عشرة ألاف درهم.
وفيها قبض بدمشق على الأمير آقبغا عبد الواحد في عدة من الأمراء وسجنوا، لميلهم إلى الناصر أحمد.
وفيها اختلت مراكز البريد، فجمع لها ثمانمائة فرس، بعث السلطان منها مائتي فرس، وأخذ من كل أمير مائة أربعة أرؤس، ومن كل أمير طبلخاناة فرسين، ومن كل أمير عشرة فرساً واحداً، وأخذ من الموقعين عدة أفراس.
وفيها نهبت منية السيرج، وذلك أن جماعة من الفقراء المتعبدين بها أنكروا على النصارى بيعهم الخمر، وهم معظم أهل المنية، وبالغوا في الإنكار حتى ضرب أحد الفقراء نصرانياً أسال دمه، ودخل إلى صلاة الجمعة بالجامع. فتجمع النصارى، وأتوا الفقراء بالجامع بعد الصلاة، وضربوهم، فثار المسلمون بهم، فأثخنهم ضرباً، ومالوا على بيوتهم فنهبوها. وتعدى النهب إلى بيوت المسلمين حتى بلغ الخبر إلى الأمير الحاج آل ملك النائب، فبعث الحجاب والوالي، فقبضوا على جماعة كثيرة، وردوا كثيراً مما نهب، وحملوا الذين قبض عليهم، وفيهم عدة من الأجناد، فضربوا وسجنوا وقطعت أخبازهم. وأقامت المنية خراباً وبيوتها مهدمة نحو الشهرين، حتى عاد أهلها إليها.
وفي هذه السنة: نافق عربان الصعيد، واقتتلوا وقطعوا الطريق، فقتل بينهم نحو الألفي رجل. فركب الأمير علاء الدين علي بن الكوراني، وقد استمال معه طائفة من أعدائهم يريد حربهم، فلم يثبتوا له وفروا منه، فأخذ لهم عدة جمال وخيول وسلاح. وفيها احتربت الدعاجية والسعديون، فقتل بينهم خلق كثير جداً، فركب إليهم الأمير أزدمر كاشف الوجه البحري، وقتل منهم أعداداً كثيرة.
وفيها كثر فساد فياض وقطعه الطرقات، فلم يطق الأمير سيف بن فضل رده ومنعه، لعجزه عن آل مهنا.
وفيها اشتد الحصار على الكرك، وضاقت على الناصر أحمد ومن معه لقلة القوت عندهم وتخلى عنه أهل الكرك، ووعدوا الأمراء بالمساعدة عليه، فحملت إليهم الخلع ومبلغ ثمانين ألف درهم.
وفيها اشتد الغلاء ببغداد وعامة بلاد العراق، وبلغ الرغيف ببغداد ديناراً عراقياً، عنه ستة دراهم، والرطل اللحم بدينار ونصف.
وفيها استقر بيبغا ططر في نيابة غزة، عوضاً عن طرنطاي البشمقدار.
وفيها استقر طرنطاي حاجباً بالقاهرة.
وفيها جرد الأمير يلبغا اليحياوي نائب حلب عسكره لقتال ابن دلغادر، فلقيهم ابن دلغادر وكسرهم كسرة قبيحة. فركب يلبغا بعساكر حلب وسار إليه، ففر منه ابن دلغادر إلى جبل، وترك أثقاله فنهبها العسكر، وقتلوا كثيراً من تركمانه، وظفروا ببعض حرمه، وتبعوه إلى الجبل، وصعدوه. فقاتلهم ابن دلغادر، وجرح أكثرهم. وأصيب فرس الأمير يلبغا بسهم قتله، وتقنطر عنه يلبغا وأخذ صنجقه ومن أسروه من حريم ابن دلغادر وما نهبوه له، وتمت الكسرة على العسكر فكتب السلطان بالإنكار على نائب حلب، وتعنيفه على ما فعله.
وفيها استقر المكين إبراهيم بن مزونية في نظر دمشق، عوضاً عن التاج ابن الصاحب أمين الملك. واستقر موسى بن التاج إسحاق في نظر حلب، وأستقر زين الدين محمد ابن محمد بن محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلة بن جابر المعروف بابن الصائغ الأنصاري الدمشقي، في قضاء الشافعية بحلب، عوضاً عن بدر الدين بن الخشاب، وعاد ابن الخشاب إلى القاهرة.
وكانت هذه السنة من أنكد السنين وأشدها، لكثرة الفتن وسفك الدماء ببلاد الصعيد ونواحي الشرقية وبلاد عرب الشام وبلاد الروم والكرك، وغلاء الأسعار بالعراق وكثرة الموتى عندهم، وزيادة النيل التي فسد بها الأقصاب والزراعات الصيفية. فلما أدرك الشعير هاف من السموم، وهاف كثير من الفول أيضاً وبعض القمح، وتحسن السعر حتى بلغ الأردب درهماً، بعد ما كان بعشرة دراهم.
وفيها بلغت زيادة النيل عشرين ذراعاً وخمسة عشر أصبعاً.

.ومات فيها من الأعيان:

زين الدين إبراهيم بن عرفات بن صالح بن أبي المنا القناوي الشافعي، وقاضي قنا، وكان يتصدق في السنة بألف دينار في يوم واحد.
وتوفي برهان الدين إبراهيم بن علي بن أحمد بن علي بن عبد الحق، قاضي القضاة الحنفية بديار مصر، وهو مقيم بدمشق.
ومات إبراهيم بن صابر المقدم.
وتوفي المحدث شهاب الدين أحمد بن علي بن أيوب بن علوي المستولي، وقد جاوز الثمانين، حدث عن الأبرقوهي، وكان ورعاً خيراً.
وتوفي شهاب الدين أحمد بن أبي الفرج الحلبي، بالقاهرة، حدث عن النجيب، والأبرقوهي، والرشيد بن علان وغيره، ومولده في رمضان سنة خمس وستين وستمائة. وتوفي المسند شهاب الدين أحمد بن كشتغدي المعزي.
ومات الأمير أقسنقر السلاري قتلاً بحبس الإسكندرية، تنقل في الخدم إلى أن ولي نيابة صفد ونيابة غزة، ثم نيابة السلطنة بديار مصر.
ومات الأمير ألطنبغا المارداني وهو في نيابة حلب، وهو الذي أنشأ جامع المارداني خارج باب زويلة.
ومات الأمير ألطنبغا العلمي الجاولي، الفقيه الشافعي، الأديب الشاعر، أصله مملوك ابن باخل، ثم صار إلى الأمير علم الدين سنجر الجاولي، فعرف به، وعمله دواداره وهو نائب غزة، ثم تقلبت به الأحوال حتى مات بدمشق في ربيع الأول، وشعره جيد.
وتوفي شرف الدين أبو بكر بن محمد بن الشهاب محمود كاتب السر بدمشق ومصر، في ربيع الأول.
وتوفي علم الدين سليمان بن إبراهيم بن سليمان المعروف بابن المستوفي المصري ناظر الخاص بدمشق، سابع عشرى جمادى الآخرة، عن سبعين سنة بها، وكان كاتب قراسنقر، وله شعر.
ومات الأمير طوغاي الطباخي نائب حلب وطرابلس، في شهر رمضان.
وتوفي شهاب الدين عبد اللطيف بن عز الدين عبد العزيز بن يوسف بن أبي العز، المعروف بابن المرحل، الحراني الأصل، النحوي، بالقاهرة، وقد جاوز الستين.
وتوفي الشيخ المعتقد عبد الكريم في ربيع الأول، ودفن بالقرافة.
وتوفي المسند المحدث علاء الدين علي بن قيران السكري، ومولده في سنة ثمان وخمسين وستمائة.
ومات الأمير عيسى بن فضل الله بن أخي مهنا، ولي إمرة العرب بعد موسى بن مهنا، ثم عزل بسليمان بن مهنا، ومات بالقريتين، ودفن بحمص.
وتوفي تقي الدين محمد بن القطب عبد اللطيف بن الصدر يحيى بن أبي الحسن علي ابن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام السبكي، وهو أحد الفقهاء النحاة للقراء.
وتوفي الإمام شمس الدين محمد بن العماد أحمد بن عبد الهادي بن عبد المجيد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي، في جمادى الأولى بدمشق، عن تسع وثلاثين سنة.
ومات طغاي بن سوناي بالمشرق، قتلاً.
ومات الأمير أقبغا عبد الواحد الأستادار، في محبسه بالإسكندرية، وإليه تنسب المدرسة الآقبغاوية بجوار الجامع الأزهر.
وقتل الشيخ حسن بن دمرداش بن جوبان بن بلك، بتوريز في رجب، وكان داهية صاحب حيل ومكر، وأفتى عدة كثيرة من المغل.
ومات طغاي بن سوناي. ومن أخباره أنه لما مات أبوه، ووثب بعده علي باشا خان بوسعيد، حاربه طغاي حتى قتله، فقتله إبراهيم شاه بن بارنباي، يوم عاشوراء.