فصل: سنة سبع وسبعين وستمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة سبع وسبعين وستمائة:

في سابع عشري المحرم: عمل عزاء الملك الظاهر، عند تمام سنة من وفاته، بالأندلس من قرافة مصر، ومدت هناك الأسمطة في الخيام للقراء والفقهاء، وفرقت الأطعمة على أهل الزوايا، وكان من الأرقات العظيمة، لكثرة من اجتمع فيه من الناس على اختلاف طبقاتهم، وعمل مجمع آخر بجامع ابن طولون، وفي الجامع الظاهري، والمدرسة الظاهرية، والمدرسة الصالحية، ودار الحديث الكاملية، والخابقاه الصلاحية سعيد السعداء، والجامع الحاكي وعمل للنكارزة والفقراء خوان حضره كثير من أهل الخير.
وفي عاشر جمادى الأولى ولي قاضي القضاة صدر الدين سليمان بن أبي العز بن وهيب الحنفي قضاء الحنفية بدمشق، عوضاً عن مجد الدين عبد الرحمن بن عمر بن العديم بحكم وفاته. فلما مات صدر الدين بعد أربعة أشهر، ولي عوضاً عنه في تاسع عشري رمضان حسام الدين حسن بن أحمد بن حسن الرازي. قاضي الروم الواصل من قيسارية.
وفي، شوال خرج الملك السعيد من قلعة الجبل يريد التفرج في دمشق، ومعه أخوه نجم الدين خضر، وأمه وأمراؤه وعساكره، فدخل إلى دمشق في خامس ذي الحجة.
وفي سلخ ذي القعدة مات الصاحب بهاء الدين على بن محمد بن سليم بن حنا، فكتب من دمشق بالحوطة على وجوده. وقبض الملك السعيد على الصاحب زين الدين أحمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين، وأخذ خطه بمائة ألف دينار، وسيره على البريد إلى مصر، ليستخرج منه ومن أخيه تاج الدين محمد وابن عمه عز الدين محمد بن أحمد بن على تكملة ثلاثمائة ألف دينار واستقر في الوزارة عوضاً عن الصاحب بهاء الدين بن حنا قاضي القضاة وعز الدين الخضر بن الحسن السنجاري، وكان بينه وبين ابن حنا عداوة ظاهرة وجفون كامنة، فبلغ من التمكن في أولاده وأمواله ما كان يؤمله. وساعده على ذلك عدة من الأمراء: منهم عز الدين الأفرم، وبدر الدين بيسري، الحاقي تقومهم من بهاء الدين بن حنا. وولي وزراة الصحبة فخر الدين بن لقمان، عوضاً عن تاج الدين محمد بن حنا.
وفي سادس عشري ذي الحجة: جلس الملك السعيد بدار العدل في دمشق، وأسقط عن أهل الشام ما كان قد قرره الملك الظاهر عند سفره إلى بلاد الروم على البساتين في كل سنة، وفيه أشار خاصكية السلطان عليه بإبعاد الأمراء الأكابر عنه، فجهز الأمير قلاوون الألفي بعسكر، وجهز الأمير بيسري بعسكر، وأنفق فيهم الأموال، فساروا إلى جهة سيس، وفي نفوسهم من ذلك إحن.
وفيها ولي الأمير علاء الدين أيدغدي الكبكي نيابة حلب، عوضاً عن الأمير نور الدين على بن مجلي الهكاري. وفيها كثر الرخاء بمصر حتى أبيع ثلاثمائة أردب فولا بمبلغ تسعمائة درهم، انصرف منها حمولة ومكوس، بحيث لم يتأخر منها غير خمسة وثمانين درهما.
وفيها مات عز الدين كيكاوس ملك الروم، بعد ما جرت له خطوب فملك أبغا ابن هولاكو من بعده ابنه مسعود بن كيكاوس سبواس وأرزن الروم وأرزنكان وفيها حصلت زحمة عظيمة بباب العمرة من المسجد الحرام بين الحجاج عند خروجهم إلى العمرة بعد صلاة الصبح، فمات منهم ستة وثلاثون إنسانا، وذلك في ثالث عشر ذي الحجة.

.ومات في هذه السنة من الأعيان:

الأمير جمال الدين أقوش النجيبي الصالحي نائب الشام، في خامس ربيع الأول بالقاهرة، عن نحو سبعين سنة. ومات الأمير شمس الدين آقسبقر القارقاني الصالحي قائد السلطنة، عن نحو خمسين سنة. ومات الأمير علاء الدين أيدكين الشهابي نائب حلب، وهو مصروف، عن نحو خمسين سنة بدمشق.
وتوفي قاضي القضاة الحنفية بدمشق مجد الدين أبو محمد عبد الرحمن بن الصاحب كمال الدين عمر بن أحمد بن هبة الله بن هبة الله بن أحمد بن يحيي بن العديم، عن أربع وستين سنة. ومات قاضي القضاة الحنفية بدمشق صدر الدين أبو الفضل سليمان ابن أبي العز ابن وهيب الأذرعي، بعد ثلاثة أشهر من ولايته، عن ثلاث وثمانين سنة. ومات الوزير الصاحب بهاء الدين أبو الحسن على بن محمد بن سليم بن حنا، سلخ ذي القعدة. وتوفي مجد الدين أبو عبد الله وتوفي نجم الدين أبو المعالي محمد بن سوار بن إسرائيل بن الخضر بن إسرائيل الشيباني الدمشقي الصوفي الأديب، عن أربع وسبعين سنة بدمشق.
وتوفي الأديب جمال الدين عمر بن إبراهيم بن أبي بكر الهذباني الإربلي، بالقاهرة.
وتوفي الأديب موفق الدين أبو محمد عبد الله بن عمر بن نصر الله الأنصاري البعلبكي، بالقاهرة.

.سنة ثمان وسبعين وستمائة:

في المحرم: قرر الخاصكية مع الملك السعيد القبض على الأمراء عند عودهم من سيس، وعينوا إقطاعتهم لأناس منهم، وكان الأمير كوندك النائب مطلع على ذلك. واستغرق السلطان في لذاته، وبسط يده بعطاء الأموال الكثيرة لخاصكيته، وخرج عن طريقة أبيه، وفي أثناء ذلك حدث بين الأمير كوندك النائب وبين الخاصكية منافرة، بسبب أن السلطان أطلق لبعض السكة ألف دينار فتوقف النائب في إطلاقها، فاجتمع الخاصكية عند النائب وقاضوه في أمر المبلغ، وأسمعوه ما يكره، وقاموا على حرد، وتكلموا مع السلطان في عزله عن النيابة، فامتنع، وأخذ الخاصكية في الإلحاح عليه بعزل كوندك، وعجز عن تلافي أمرهم معه.
وأما الأمراء فإنهم غزوا سيس وقتلوا وسبوا، وسار الأمير بيسري إلى قلعة الروم، وعاد هو والأمراء إلى دمشق ونزلوا بالمرج، فخرج الأمير كوندك إلى لقائهم على العادة، وأخبرهم. مما وقع من الخاصكية في حقهم وحقه، فحرك قوله ما عندهم من كوامن الغضب، وتحالفوا على الاتفاق والتعاون، وبعثوا من المرج إلى السلطان يعلمونه إنهم مقيمون بالمرج، وأن الأمير كوندك شكي إليهم من لاجين الزيني شكاوى كثيرة، ولا بد لنا من الكشف عنها، وسألوا السلطان أن يحضر إليهم حتى يسمعوا كلامه وكلام كوندك.
فلما بلغ بذلك السلطان ذلك لم يعبأ بقولهم، وكتب إلى من معهم من الأمراء الظاهرية يأمرهم. بمفارقة الصالحية ودخول دمشق. فوقع القاصد الذي معه الكتب في يد أصحاب كوندك، فأحضر إلى الأمراء ووقفوا على الكتب التي معه، فرحلوا من فورهم ونزلوا على الجورة من جهة داريا، وأظهروا الخلاف، ورموا الملك السعيد بأنه قد أسرف وأفرط في سوء الرأي وأفسد التدبير.
فخاف السلطان عند ذلك سوء العاقبة، وبعث إليهم الأمير سنقر الأشقر، والأمير سنقر التكريتي الأستادار، ليلطفا بهم ويعملا الحيلة في إحضارهم، فلم يوافقوا على ذلك. وعادا إلى السلطان فزاد قلقه، وترددت الرسل بينه وبين الأمراء، فاقترحوا عليه إبعاد الخاصكية، فلم يوافق، وبعث السلطان بوالدته مع الأمير سنقر الأشقر لتسترضيهم، فحدثتهم وخضعت لهم فما أفاد فيهم ذلك شيئا، وعادت بالخيبة.
فرحل الأمراء بمن معهم من العساكر إلى مصر وتبعهم الملك السعيد ليلحقهم ويتلافى أمرهم فلم يدركهم فقاد إلى دمشق وبات بها. وأصبح الملك السعيد فجهز أمه وخزائنه إلى الكرك وجمع من بقي من عساكر مصر والشام واستدعى العربان وأنفق فيهم. وسار من دمشق بالعساكر يريد مصر فنزل بلبيس في نصف ربيع الأول وكان قد سبقه الأمير قلاوون بمن معه إلى القاهرة ونزلوا تحت الجبل الأحمر.
فبلغ ذلك الأمراء الذين بقلعة الجبل وهم الأمير عز الدين أيبك أمير جانذار والأمير أفطوان الساقي والأمير بلبان الزربقي فامتنعوا بها وحصنوها وتقدموا إلى متولي القاهرة فسد أبوابها فراسلهم قلاوون والأمراء في فتح أبواب القاهرة ليدخل العسكر إلى بيوتهم ويبصروا أولادهم فإن عهدهم بعد بهم ونزل الأمير لاجين البركخاي وأيبك الأفرم وأقطون إلى الأمراء لمعرفة الخبر فقبضوا عليهم وبعثوا إلى القاهرة ففتحت أبوابها ودخل كل أحد إلى داره وسجن الثلاثة الأمراء في دار الأمير قلاوون بالقاهرة وزحفوا إلى القلعة وحاصروها وقد امتنع بها بلبان الزريقي.
وأما السلطان فإنه لما نزل بلبيس وبلغه خبر الأمراء خامر عليه من كان معه من عسكر الشام وتركوه في بلبيس وعادوا إلى دمشق وبها الأمير عز الدين أيدمر نائب الشام فصاروا إليه ولم يبق مع السلطان إلا مماليكه ومنهم الأمير لاجين الزيني ومغلطاي الدمشقي ومغلطاي الجاكي وسنقر التكريتي وأيدغدي الحراني والبكي الساقي وبكتوت الحمصي وصلاح الدين يوسف بن بركة خان ومن يجري مجراهم ولم يبق معه من الأمراء الكبار إلا الأمير سنقر الأشقر فقط فسار السلطان من بلبيس ففارقه الأشقر من المطرية وأقام بموضعه.
وبلغ الأمراء أن السلطان جاء من خلف الجبل الأحمر فركبوا ليحولوا بينه وبين القلعة وكان الضباب كثيرا فنجا منهم واستتر عن رؤيتهم وطلع إلى المقدمة فلما انكشف الضباب بلغ الأمراء أن السلطان بالقلعة فعادوا إلى حصارها وعندما استقر السلطان بالقلعة تشاجر لاجين الزيني مع الزربقي فنزل الزربقي إلى الأمراء وصار معهم وتبعه المماليك شيئا بعد شيء. وصار السلطان يشرف من برج الرفرف المطل على الإسطبل ويصيح بهم: يا أمراء أرجع إلى رأيكم ولا أعمل إلا ما تقولونه فليجبه أحد منهم وأظهروا كتبا عنه يطلب فيها جماعة من الفداوية لقتلهم وأحاطوا بالقلعة وحصروه، وكان الأمير سنجر الحلبي معتقلا بالقلعة، فأخرجه السلطان وصار معه، فاستمر الحصار مدة أسبوع.
وكان الذي قام في خلع السلطان جماعة كثيرة من الأمراء، وهم الأمير بيسري، والأمير قلاوون، والأمير أيتمش السعدي، والأمير أيدكين البندقدار، والأمير بكتاش الفخري أمير سلاح، والأمير بيليك الأيدمري، والأمير سنقر البكتوتي، والأمير سنجر طردج، والأمير بلبان الحبيشي، والأمير بكتاش النجمي، والأمير كشتغدي الشمسي، والأمير بلبان الهاروني، والأمير بجكا العلائي، والأمير بيبرس الرشيدي، والأمير كندغدي الوزيري، والأمير يعقوبا الشمهرزوري، والأمير أيتمش بن أطلس خان، والأمير بيدغان الركني، والأمير بكتوت بن أتابك، والأمير كندغدي أمير مجلس، والأمير بكتوت جرمك، والأمير بيبرس طقصو، والأمير كوندك النائب، والأمير أيبك الحموي، والأمير سنقر الألفي، والأمير سنقر جاه الظاهري، والأمير قلنج الظاهري، والأمير ساطلمش، والأمير قجقار الحموي، ومن انضاف إليهم من الأمراء الصغار ومقدمي الحلقة، وأعيان المفاردة والبحرية ولما طال الحصار بعث السلطان الخليفة الحاكم بأمر الله أحمد، يقول: يا أمراء إيش غرضكم؟ فقالوا: يخلع الملك السعيد نفسه من الملك ونعطيه الكرك، فأذعن السعيد لذلك، وحلف له الأمراء، وحضر الخليفة والقضاة، الأعيان، وأنزل بالملك السعيد، وأشهد عليه أنه لا يصلح للملك.
وخلع السعيد نفسه، وحلف أنه لا يتطرق إلى غير الكرك، ولا يكاتب أحدا من النواب، ولا يستميل أحد من الجند، وسفر من وقته إلى الكرك مع الأمير بيدغان الركني، وذلك في سابع شهر ربيع الآخر، فكانت مدة ملكه من حين وفاة أبيه إلى يوم خلعه سنتين وشهرين وثمانية أيام، موصل إلى الكرك وسلمها في خامس عشري جمادى الآخرة، واحتوى على ما فيها من الأموال وكانت شيئا كثيرا.
ولم يقتل في هذه الحركة سيف الدين بكتوت الخمصي، فإنه كان بينه وبين سنقرجاه الظاهري مشاجرة، فلما طلع الملك السعيد إلى قلعة الجبل يوم وصوله من بلبيس صادفه سنقر جاه وهو من حزب الأمير قلاوون ومن معه، فطعنه في حلقه فحمل إلى قبة القلندرية فمات من يومه ودفن بها، وكانت أيامه رخية الأسعار.

.السلطان الملك العادل بدر الدين سلامش:

وهو ابن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري الصالحي النجمي. لما تم خلع الملك السعيد وسافر إلى الكرك، عرض الأمراء السلطنة على الأمير سيف الدين قلاوون الألفي فامتنع وقال: أنا ما خلعت الملك السعيد طمعا في السلطنة، والأولى ألا يخرج الأمر عن ذرية الملك الظاهر. فاستحسن ذلك منه، لأن الفتنة سكنت فإن الظاهريه كانوا معظم العسكر، وكانت القلاع بيد نواب الملك السعيد، وقصد قلاوون بهذا القول أن يتحكم حتى يغير النواب ويتمكن مما يريد، فمال الجميع إلى قوله وصوبوا رأيه، واستدعوا سلامش، واتفقوا أن يكون الأمير قلاوون أتابكه، وأن يكون إليه أمر العساكر وتدبير الممالك، فحضر سلامش وله من العمر سبع سنين وأشهر، وحلف العسكر جميعه على إقامته سلطانا، وإقامة الأمير قلاوون أتابك العساكر، ولقبوه الملك العادل بدر الدين، فاستقر الأمر على ذلك. وأقيم الأمير عز الدين أيبك الأفرم في نيابة السلطنة، واستقر قاضي القضاة برهان الدين خضر بن الحسن السنجاري في الوزارة.
وأما عسكر الشام فإنه لما سار من بلبيس ودخل إلى دمشق، وكان بحلب الأمير عز الدين إزدمر العلائي، والأمير قراسنقر المعزي، والأمير أقوش الشمسي، والأمير برلغو، في نحو ألفي فارس، فساروا إلى دمشق ولقوا العسكر القادم من بلبيس، فاتفقوا مع الأمراء الذين بدمشق على إقامة الأمير أقوش الشمسي مقدما على الجيوش، والقبض على الأمير عز الدين أيدمر نائب دمشق، لأنه ترك ابن أستاذه وخامر عليه ورجع من بلبيس، فأخذه الأمير أقوش إلى داره، فجاء الأمير أزدمر العلائي وركن الدين الجالق إلى دار أقوش، وأخذ الأمير أيدمر وصعدا به إلى قلعة؟ دمشق، وسلماه إلى الأمير علم الدين سنجر الدواداري نائب القلعة.
فلما تقرر الحال على إقامة الملك. العادل سلامش والأمير قلاوون كتب إلى الشام بذلك، وسار الأمير جمال الدين أقوش الباخلي وشمس الدين سنقرجاه الكنجي بنسخة الإيمان، فحلف الناس بدمشق كما وقع الحلف بمصر.
وفي النصف من جمادى الأولى: استقر قاضي القضاة صدر الدين عمر ابن قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز، في قضاء القضاة بديار مصر، عوضاً عن قاضي القضاة تقي الدين محمد بن رزين بحكم عزله. وصرف أيضاً قاضي القضاة معز الدين النعمان الحسن بن يوسف الخطبي الحنفي، وقاضي القضاة نفيس الدين أبو البركات محمد بن مخلص الدين هبة الله بن كمال الدين أبي السعادات أحمد بن شكر المالكي، ثم أعيدا، وولي عز الدين عمر بن عبد الله بن عمر بن عوض المقدس الحنبلي قاضي القضاة الحنابلة، واستقر الأمير شمس الدين سنقر الأشقر في نيابة السلطنة بدمشق، فدخلها في ثامن جمادى الآخرة ومعه جماعة من الأمراء والعسكر، فعامله الناس معاملة الملوك، وأنزل الأمير سنجر الدواداري من القلعة لمباشرة الشد، وقرئ تقليد النيابة يوم الجمعة بمقصورة الخطابة، ولم يحضر النائب قراءته.
وفي تاسع رجب: قبض على فتح الدين عبد الله بن محمد بن القيسراني، وزير دمشق. وفيه استقر الأمير جمال الدين أقوش الشمسي في نيابة السلطنة بحلب، عوضاً عن أيدغدي الكبكي.
وشرع الأمير قلاوون في القبض على الأمراء الظاهرية، فقبض على أعيانهم وبلغهم إلى الثغور فسحنوا بها، وأمسك أيضاً كثيرا من الظاهرية وملأ الحبوس بهم، وأعطي قلاوون ومنع وقطع، ووصل واستخدم وعزل، فكان صورة أتابك وتصرفه تصرف الملوك. واشتغل الأمير بيسري باللهو والشرب، فانفرد الأتابك قلاوون بالمملكة وأجد في تدير أحواله وفرق قلاوون على المماليك واستمالهم، وقرب الصالحية وأعطاهم الإقطاعات، وكبر منهم جماعة كانوا قد نسوا وأهملوا، وسير عدة منهم إلى البلاد الشامية واستنابهم في القلاع، وتتبع ذراريهم وأخذ كثيرا منهم كانوا قد تصنفوا بالصنائع والحرف، فرتب طائفة منهم في البحرية، وقرر لجماعة منهم جامكية، فعادت لهم السعادة، وقوي بهم جانبه وتمكنت أسبابه، ثم جمع قلاوون الأمراء في العشرين من رجب وتحدث معهم في صغر سن الملك العادل، وقال لهم: قد علمتم أن المملكة لا تقوم إلا برجل كامل، إلى أن اتفقوا على خلع سلامش فخلعوه، وبعثوا به إلى الكرك وكانت مدة ملكه مائة يوم، ولم يكن حظه من الملك سوي الاسم فقط، وجميع الأمور إلى الأتابك قلاوون.

.السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون:

الألفي الصالحي النجمي العلائي كان من جنس القبجاق، ومن قبيلة برج أغلي، فجلب إلى مصر وهو صغير، واشتراه الأمير علاء الدين آقسنقر الساقي العادلي أحد مماليك الملك العادل أبي بكر بن أيوب بألف دينار، فعرف من أحل ذلك بالألفي.
فلما مات أستاذه الأمير علاء الدين صار إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب في عدة من المماليك، فعرفوا بالعلائية، وذلك في سنة سبع وأربعين وستمائة وجعل الملك الصالح قلاوون من جملة المماليك البحرية، ومازال حتى كانت وفاة الملك الصالح، ثم إقامة شجر الدر بعد الملك توران شاه بن الصالح. فلما قام المعز أيبك في سلطنة مصر، وقتل الفارس أقطاي، خرج قلاوون من مصر فيمن خرج من البحرية. وتنقلت به الأحوال حتى صار أتابك العساكر بديار مصر في سلطنة الملك العادل سلامش بن الظاهر، في سابع شهر ربيع الآخر، وصار يذكر اسمه مع اسم العادل على المنابر وتصرف تصرف الملوك مدة ثلاثة أشهر، إلى أن وقع الاتفاق على خلع العادل وإقامة قلاوون.
فأجلس قلاوون على تخت الملك في يوم الأحد العشرين من رجب، وحلف له الأمراء وأرباب الدولة، وتلقب بالملك المنصور، وأمر أن يكتب في صدر المناشير والتواقيع والمكاتبات لفظ الصالحي، فكتب بذلك في كل ما يكتب عن السلطان، وجعل عن يمين البسملة تحتها بشيء لطيف جداً. وخرج البريد بالبشائر إلى الأعمال، وجهزت نسخة اليمين إلى دمشق وغيرها، وزينت القاهرة ومصر وظواهرهما وقلعة الجبل، وأقيمت له الخطبة بأعمال مصر.
وأول ما بدأ به السلطان قلاوون إبطال زكاة الدولبة، وكانت مما أجحفت بالرعية، وأبطل مقرر النصارى، وكان له منذ أحدث ثمان عشرة سنة، وانحطت الأسعار.
ووصل البريد إلى دمشق، وعليه لاجين الصغير والأمير ركن الدين بيبرس الجالق، في ثامن عشريه، بعد يومين وسبع ساعات من مفارقة قلعة الجبل، ولم يعهد مثل هذا. فحلفت عساكر دمشق، وأقيمت الخطبة بها في يوم الجمعة ثاني شعبان، وزينت المدينة سبعة أيام.
وأفرج السلطان عن الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحي، وأقامه في نيابة السلطة بديار مصر، وأقر الصاحب برهان الدين السنجاري على وزارته، ولازم الجلوس بدار العدل في يومي الإثنين والخميس.
وفي يوم السبت ثالث شعبان. ركب السلطان الملك المنصور قلاوون بشعار السلطنه وأبهة المملكة، وشق القاهرة وهي مزينة، فكان يوما مشهودا، لأنه أول ركوبه. وكتب السلطان إلى الأمير شمس الدين سنقر الأشقر كتابا، بخط القاضي عماد الدين إسماعيل بن تاج الدين أحمد بن سعيد بن الأثير، ويخبره فيه بركوبه، وخاطبه بالمملوك. وأعفي تقي الدين التكريتي مما عليه من البواقي، وفوض إليه نظر الخزانة بدمشق. وصام الناس شهر رمضان يوم الجمعة، على اختلاف شديد وشك كبير.
وفي ثالثه. استقر الأمير جمال الدين أقش الشريفي أمير جاندار، في نيابة السلطنة بالصلت والبقاء.
وفي ثامنه: أفرج عن فتح الدين عبد الله بن القيسراني وزير دمشق، بعد ما اعتقل بقلعة الجبل زيادة على ثلاثين يوما.
وفي عاشره: استقر الأمير فخر الدين الطنبا في نيابة السلطنة بالقصر الذي بالقرب من أنطاكية، واستقر الأمير علم الدين سنجر المنصوري في نيابة السلطنة ببلاطنس، واستقر الأمير فخر الدين أياز الملوحي في ولاية الأعمال الغربية، عوضاً عن الأمير ناصر الدين بيليك بن المحسني الجزري.
وفي رابع عشره: استقر الأمير حسام الدين طرنطاي المنصوري في نيابة السلطنة بديار مصر، عوضاً عن الأمير عز الدين أيبك الأفرم، بحكم رغبته عن ذلك وسعيه في استقرار حسام الدين طرنطاي. وذلك إنه تمارض، فلما عزم السلطان على عيادته صنع له طبيبه شيئا تهيج به وجهه واصفر، ودخل عليه السلطان فتألم له وسأله عن حوائجه، فأشار عليه أن يقدم مماليكه وأثني عليهم، ثم قال: وتعفيني من النيابة، وأظهر العجز عنها. فلم يوافقه السلطان على ذلك، فأخذ يلح عليه، فقال له السلطان: فأشر على بمن يصلح لها، فقال: طرنطاي، فوافق قوله غرض السلطان.
وفي سابع عشره: قبض على الأمير نور الدين على بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام، وعلى عدة من الناصرية.
وفي سادس عشريه: صرف الصاحب برهان الدين خضر السنجاري عن الوزارة، وقبض عليه وعلى ولده شمس الدين عيسي، وأخذت خيولهما وخيول أتباعهما. وسجنا بدار الأمير علم الدين سنجر الشجاعي، وأحيط بسائر أتباعهما، وألزموا بمائتي ألف وستة وثلاثين ألفا.
وفي ثاني شوال: استقر القاضي فخر الدين إبراهيم بن لقمان صاحب ديوان الإنشاء في الوزارة، بعد ما حمل إليه الأمير علاء الدين كندغدي الشمسي الأستادار خلع الوزارة إلى بيته بقلعه الجبل، وامتنع امتناعا شديدا فلم يسمع منه وألبسه الخلع، وباشر عوضاً عن الصاحب برهان الدين السنجاري وأفرج عن السنجاري، فلزم مدرسة أخيه بالقرافة.
وفيه استقر القاضي فتح الدين محمد بن محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر في قراءة البريد وتلقي الأجوبة، عوضاً عن ابن لقمان.
وفيه قبض على جماعة من الأمراء. منهم الأمير علاء الدين مغلطاي الدمشقي، وسيف الدين بكتمر الأمير آخوري قرطاي المنصوري، وصارم الدين الحاجب، واعتقلوا. وفوضت وزارة دمشق لتقي الدين توبه ناظر الخزانة، وخلع عليه الوزراء وتلقب بالصاحب.
وفي تاسعه: خرج الأمير بدر الدين بيليك الأيدمري على عسكر من القاهرة إلى جهة الشوبك وكان قد بعث إليها الملك السعيد بركة قان بن الظاهر وهو بالكرك الأمير حسام الدين لاجين رأس نوبة الجمدارية السعيدية، وتغلب عليها، وبعث السعيد إلى النواب أيضاً يدعوهم إلى القيام معه، فسار الأمير بدر الدين الأيدمري ونزل على الشوبك، وضايقها حتى تسلمها في عاشر ذي القعدة، بعد ما فر منها الملك نجم الدين خضر بن الظاهر، ولحق بأخيه السعيد في الكرك.
وقدمت رسل الفونش بكتب للملك السعيد وهدية، فقبض على هديتهم وكتبهم، وأعيدوا في خامس عشر شوال.
وفي حادي عشريه: قبض على الملك الأوحد وأخيه شهاب الدين محمد، ولدي الملك الناصر صلاح الدين داود صاحب الكرك، واعتقلا.
وفيه استقر الأمير بدر الدين بيليك الطياري في نيابة السلطنة بقلعة صفد، ونقل الأمير علم الدين سنجر الكرجي إلى الولاية، ونقل الأمير سيف الدين بلبان الجوادي إلى خزندارية القلعة.
وفي ثالث عشريه: استقر شرف الدين أبو طالب بن علاء الدين بن النابلسي ناظر النظار بديار مصر، عوضاً عن نجم الدين بن الأصفوني في الوجه القبلي، وعن تاج الدين بن السنهوري في الوجه البحري.
وفي رابع عشريه: صرف النصارى من ديوان الجيوش، وأقيم بدلهم كتاب مسلمون، فاستقر أمين الدين شاهد صندوق النفقات في كتابة الجيش، عوضاً عن الأسعد إبراهيم النصراني.
وفيه هدم دير الخندق خرج باب الفتوح من القاهرة، واجتمع لهدمه عالم كثير، وكان يوماً مشهوداً.
وفي خامس عشريه: وصل الملك المنصور ناصر الدين محمد بن محمود صاحب حماة إلى ظاهر القاهرة، فركب السلطان إلى لقائه، وأنزله بمناظر الكبش، واهتم به اهتماما زائداً. ورسم بتضمين الخمر، فظهر شرب الخمر، وكثرت السكاري وزال الاعتراض عليهم، فلم يقم ذلك غير أيام قلائل حتى رسم في سادس عشريه بإراقة الخمور وإبطال ضمانها، ومنع من التظاهر بشيء من المسكرات.
وفي يوم الجمعة سابع عشريه: كتبت تقاليد القضاة الأربعة، واستقر الحال على أن يكون قاضي القضاة صدر الدين عمر، ابن قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز الشافعي، هو الذي يولي في أعمال مصر قضاة ينوبون عنه في الأحكام، وأن قاضي القضاة معز الدين الحنفي، وقاضي القضاة المالكي، وقاضي القضاة عز الدين الحنبلي، يحكمون بالقاهرة ومصر خاصة، بغير نواب في الأعمال، فاستمر الأمر على ذلك إلى اليوم.
وأمر السلطان بإحضار الأمير عز الدين أيدمر الظاهري من دمشق تحت الحوطة، فلما وصل اعتقل بقلعة الجبل.
وفي ثاني ذي القعدة: ركب السلطان إلى الميدان ولعب بالكرة، وهو أول ما ركب إليه. وفرق السلطان فيه مائة وبضعاً وثلاثين فرسا بسروج مخلاة، وخلع على الأمراء خلعاً سنية.
وفي خامسه: حمل إلى المنصور صاحب حماة تقليد باستقراره بحماة، وسير السلطان له السناجق، وأربعة صناديق ذهبا وفضة، وأربعة صناديق ثياباً من الإسكندرية والعتابي، وعدة من الخيل، وخلع عليه وعلى من يلوذ به، وأذن له في العود فسافر في تاسعه. وخرج السلطان معه لوداعه، وأقام نهاره بناحية بهتيت، ثم عاد إلى القلعة.
وفي حادي عشره: مات الملك السعيد بركة قان بن الظاهر بيبرس بالكرك، وكان قد ركب في الميدان فتقنطر عن فرسه وهو يلعب بالكرة، فصدع وحم أياماً، ومات وعمره نيف وعشرون سنة، فاتهم أنه سم.
وورد الخبر بوفاته في العشرين منه، فعمل له السلطان عزاء بالإيوان من قلعة الجبل، وجلس كئيباً ببياض، وقد حصر العلماء والقضاة والأمراء والوعاظ والأعياد، فكان يوماً مشهوداً.
وأقام القراء شهراً يقرأون القرآن، وكتب إلى أعمال مصر والشام بأن يصلي عليه صلاة الغائب. وعندما ماد السعيد أقام الأمير علاء الدين أيدغدي الحراني نائب الكرك نجم الدين خضر بن الظاهر ملكا مكان أخيه بالكرك، ولقبه الملك المسعود فتحكم عليه مماليكه وأساءوا التدبير، وفوقوا الأموال ليستجلبوا الناس، فصار إليهم من قطع رزقه، وحضر إليهم طائفة من البطالين فساروا إلى الصلت واستولوا عليها، وبعثوا إلى صرخد فلم يتمكنوا منها، وأتتهم العربان وتقربوا إليهم بالنصيحة، وأخذوا مالا كثيرا من المسعود ثم تسللوا عنه.
ولم يزل المسعود في إنفاق المال حتى فنيت ذخائر الكرك التي كان الملك الظاهر قد أعدها لوقت الشدة، وبعث المسعود إلى الأمير سنقر الأشقر نائب دمشق يستدعيه، فجرد السلطان الأمير عز الدين أيبك الأفرم إلى الكرك.
وفيه استقر شهاب الدين غازي بن الواسطي في نظر حلب، وقرر له في الشهر أربعمائه درهم وستة مكاكي قمح ومكوكان شعير، وأضيف معه جلال الدين بن الخطير في الاستيفاء.
واستقر الطواشي افتخار الدين في خزندارية حلب، وبدر الدين بكتوت القطزي شاد الدواوين بها، واستقر جمال الدين إبراهيم بن صصرى في نظر دمشق، بعد وفاة علم الدين محمد بن العادلي. واستقر الأمير سيف الدين بلبان الطباخي في نيابة حصن الأكراد.
وفي رابع ذي الحجة: استقر الأمير عماد الدين داود بن أبي القاسم في ولاية نابلس.
وفي سابعه: سار الأمير عز الدين أيبك الأفرم بالعساكر من القاهرة إلى جهة الكرك.
وفي تاسعه: أفرج عن الأمير غرس بن شاور من الاعتقال، واستقر في ولاية الرملة.
وثامن عشره: تسلم الأمير بدر الدين بيليك الأيدمري قلعة الشوبك من نواب الملك السعيد بالأمان، ووردت كتبه بذلك في ثالث عشريه، فسيرت الخلع لمن بها، ودقت البشائر بقلعة الجبل، وكتب بالبشارة إلى الأقطار.
وفيه استقر مجد الدين عيسي بن الخشاب محتسباً بالقاهرة.
وفيه استقر الأمير حسام الدين لاجين السلاح دار المنصوري، المعروف بلاجين الصغير، في نيابة قلعة دمشق. فلما وصل إليها كما تقدم، وحلف سنقر الأشقر وخلع عليه، تحيل منه الأمير سنقر الأشقر نائب الشام، وجمع الأمراء وأوهمهم أن السلطان قد قتل وهو يشرب القمز، ودعاهم إلى طاعته وحلفهم على موافقته. وتلقب بالملك الكامل، وركب بشعار السلطنة في يوم الجمعة رابع عشريه.
وقبض على الأمير ركن الدين بيبرس العجمي المعروف بالجالق المنصوري لامتناعه من الحلف، وقبض على الأمير حسام الدين لاجين نائب القلعة، وعلى الصاحب تقي الدين توبة التكريتي. وبعث الأمير سيف الدين بلبان الحبيشي إلى المماليك، ليحلف أهلها ويقيم في القلاع من يختاره. وكتب إلى مهنا وإلى أحمد بن حجي يعلمهما، فقدما عليه واستوزر مجد الدين إسماعيل بن كسيرات الموصلي، وأقر في وزارة الصحبة عز الدين أحمد بن ميسر المصري.
وانتقل بأهله من دار السعادة التي يسكنها النواب إلى القلعة، وأمر بغلق باب النصر، وفتح باب سر القلعة المقابل لدار السعادة بجوار باب النصر. فتطير الناس من ذلك، وقالوا: أغلق باب النصر، وانتقل من دار السعادة، واستوزر ابن كسيرات؟ فهذا أمر لا يتم، وكان كذلك.
وكان وفاء النيل بمصر ستة عشر ذراعاً، في ثالث ربيع الآخر. وحج بالناس من مصر الأمير جمال الدين أقش الباخلي، وسار الركب في سابع عشر شوال، وقاضيه فخر الدين عثمان ابن بنت أبي سعيد.
وفيها ولي نجم الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن يحيي بن هبة الله بن الحسن بن يحيي ابن سني الدولة قضاء حلب، عوضاً عن شهاب الدين محمد بن أحمد الخوي.
وفيها أنعم السلطان على أربعين من مماليكه بإمريات: منهم كتبغا، وسنجر الشجاعي، وأيبك الخازندار، وقبجق، ولاجين، وبلبان الطباخي، وكراي، وسنفر جركس، وأقوش الموصلي، وطقصوا، وأزدمر العلائي، وبهادر أص رأس نوبة، وبكتوت بكجا، وتغريل السلحدار، وسنقر السلحدار. وأنعم على جماعة من عدته أيضاً بإمريات: منهم كشكل، وأيدمر الجناحي، وقيران الشهابي، ومحمد الكوراني، وإبراهيم الجاكي وإخواته. وأنعم على عدة من المماليك الظاهرية بإمريات: منهم الحاج بهادر، وسنجر المسروري.
وفيها ترك السلطان ركوبه مدة، وسبب ذلك تغير قلوب الصالحية والظاهرية ومكاتبتهم سنقر الأشقر. فلما بلغ السلطان هذا عنهم خشي من اغتيالهم إياه، وأخذ في التدبير عليهم، فكثرت قالة العامة، وجهروا بقولهم في الليل تحت القلعة بأصوات عالية يا بو عيشه اركب وكن طيب، يا بو عيشه وصاروا يلطخون رنك السلطان في الليل بالقذر، فيتغافل عنهم، وهو يسمع صياحهم في الليل ويبلغه فعلهم برنكه. وزادوا حتى شافهوا أمراءه بالسب، وهم يعرضون عنهم.
وفيها ظهر بالقاهرة ومصر رجلان من بزدارية الأمير جمال الدين أقوش الملقب بهيطلية، عرف أحدهما بالجاموس لسواد لونه، وعرف الآخر بالمحوجب. وأفسدا فسادا كثيرا، وشغفا بشرب الخمر، وصارا يكتبان الأوراق للأعيان بطلب شيء من إحسانهم ويوصلونها إليهم، فإن لم يبعث لهم المكتوب إليه بشيء، وإلا أتوه ليلا. وشنع أمرهما، حتى إنهما ليمشيان في مواضع النزه وسيوفهما على أكتافهما فلا يجسر أحد عليهما. ورتب لهما الأمير علم الدين سنجر الخياط وإلى القاهرة جماعة لتقبض عليهما، فكانا يحملان في مائة رجل، ويحوط عنهم. وهجما القاهرة في الليل، وأخذا وإلى الطوف وعلقاه بذراعه، وقطعا أنف المقدم وأذنيه، وتتبعا كل من أرصدة الوالي لأخذهما.
فذعر الناس منهما، إلى أن كانا ليلة ببستان في المطرية وخرجا منه يريدان القاهرة، فصدفهما مملوك الوالي وهو سائر إلى بلبيس ومعه غلامه، وقد عرفهما. فضرب بسهمه وأصاب رجلي أحدهما فسقط، وهم الآخر بصعود حائط البساتين فوقع وانكسرت رجله، ووقع الصوت في البستان. فنزل غلام المملوك وكتف الجاموس، وأخرج الناس المحوجب من البستان، وساروا بهما مربوطين إلى القاهرة. فطلع بهما الوالي إلى السلطان ومعه مملوكه، وكان زريا قصيراً لا يؤبه إليه، فعجب السلطان من ذلك، وسألهما على لسان الحاجب: كيف مسككما هذا. بمفرده وأنتما لا تهابان رجالا كثيرة؟ فقالا: إذا نزل القضاء قلت الحيلة، والله لقد كنا إذا رأينا عشرين فارساً، ومائة راجل خرجنا عنهم سالمين بعدما ننال منهم، فلما فرغ الأجل عندما وقع نظرنا على هذا ارتعدت فرائصنا حتى ما قدرنا على الحركة فرسم بتسميرهما فسمرا عند باب زويلة، وشهرا عدة أيام، وخلع على المملوك وأنعم عليه بألف درهم وإقطاع في الحلقة، وهو أول من أخذ من مماليك الأمراء إقطاعا في الحلقة.
وفيها خلع متملك تونس الأمير أبو زكريا يحيي الواثق بن أبي عبد الله محمد المستنصر بن السعيد أبي زكريا يحيي بن عبد الواحد بن أبي حفص في غرة ربيع الآخر، فكانت مدته سنتين وثلاثة أشهر وثلاثة وعشرين يوما، وقام بعده عمه أبو إسحاق إبراهيم بن يحيي بن عبد الواحد.

.ومات في هذه السنة:

الأمير أقش الشهابي أحد أمراء الطبلخاناه.
ومات الأمير الطنبا فخر الدين الحمصي، في سادس عشر رمضان.
ومات علم الدين إسحاق بن العادلي ناظر دمشق، في خامس عشري شوال. ومات الأمير عز الدين أيبك الشيخ، في ذي الحجة.
ومات الأمير ناصر الدين بلبان النوفلي أحد الطلخاناه.
ومات الأمير علم الدين بلبان المشرفي أحد الطلخاناه.
ومات الأمير سيف الدين جمق أحد الطلخاناه.
ومات شرف الدين أبو بكر عبد الله بن تاج الدين أبي محمد عبد السلام ابن شيخ الشيوخ عماد الدين عمر بن على بن محمد بن حمويه الحموي الجويني، شيخ الشيوخ بدمشق، في ثامن شوال، دفن بقاسيون.
ومات الأمير بدر الدين محمد بن الأمير حسام الدين بركة خان الخوارزمي، خال الملك السعيد بن الظاهر، في تاسع ربيع الأول بدمشق.
ومات الأمير نور الدين على ابن الأمير عز الدين مجلي الهكاري نائب حلب بها، عن سبع وتسعين سنة.
وتوفي قاضي القضاة محيي الدين أبو الصلاح عبد الله بن شرف الدين أبي المكارم محمد بن عين الدولة الشافعي، في خامس رجب وهو مصروف، وقد أناف على ثمانين سنة.