فصل: سنة أربع وثلاثين وسبعمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة أربع وثلاثين وسبعمائة:

في أول المحرم: أحيط بحواصل الأمير ألماس الحاحب، وكان قبض عليه وعلى أخيه الأمير قرا وسبب التغير على ألماس أنه كان نائب الغيبة مدة سفر السلطان بالحجاز، وسكن في دار النيابة بالقلعة، وسكن الأمير أقبغا عبد الواحد داخل باب القلة من القلعة، فحفظ أقبغا عليه أشياء غير بها قلب السلطان لوجدة كانت بينه وبين ألماس: منها أنه كان يتراسل هو والأمير جمال الدين آقوش المعروف بنائب الكرك، لميل كل منهما إلى الآخر، ومنها كثرة أفعال ألماس للأمور القبيحة، من انهماكه في الميل إلى الأحداث وإسرافه في ذلك، حتى إنه كان بجوار دار النيابة مسجد ففتح منه باباً وصار يعبر بالأحداث من ذلك إليه، واشتد شغفه بغلام يدعى عمير من أولاد الحسينية، وأكثر من النزول من القلعة وجمع الأويراتية مع المذكور للشرب، هذا مع ما حفظ عليه من الكلام السيء في وقت الإرجاف بالسلطان وهو مسافر، وكثرة ماله وتنميته من وجوه منكرة، فإنه غرس بساتين بناحيتي بهواش والنعناعية من المنوفية، وجلب عدداً كثيراً من الخنازير وسمنهم بها، وباعهم على الفرنج ببضائع، وحمل سلاحاً كثيراً إلى بلاد الشرق تعوض به أصنافاً للمتجر، فاتسعت أمواله وتكثر بها، وقال غير مرة للأمراء: عندي الذهب والدراهم ومن فيكم مثلي، وزاد في هدا المعنى وأقبغا عبد الواحد يضبط عليه مساوئه، ويسعى به إلى السلطان حتى غيره عليه. ويقال أن السلطان وجد فيما خلفه الأمير بكتمر الساقي جزدان فيه كتب من جملتها كتاب ألماس إليه يتضمن أنني أحفظ لك القلعة حتى يرد على لك ما أعتمده فلم يصبر له السلطان على هذا.
ولما قبضه السلطان، وقبض على أخيه قرا وكان ظالماً غشوماً خماراً نزل النشو وابن هلال الدولة وشاهد الخزانة لضبط موجوده، فوجد له ستمائة ألف درهم فضة، ومائة ألف درهم فلوس، وأربعة ألاف دينار مصرية، وثلاثون حياصة ذهب كاملة بكلفتاتها الذهب وخلعها الحرير، وبعض جوهر، وعدة أشياء ثمينة، وقبض على عبد له رباه صغيراً، فعاقبه السلطان حتى اعترف على كل من كان يحضر إليه من الأحداث وغيرهم.
وفيه قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بقتل ياسور أحد ملوك المغل وقت رمي الجمرات. وكان من خبره أن ملك الشرق أبا سعيد بن خربندا لما قتل جوبان أراد إقامة ياسور لأنه من عظماء القان، فخوف من شجاعته، وأن جوبان كان يريد إقامته في الملك، فنفر منه أبو سعيد، ثم إنه استأذنه في الحج فأذن له، وقام له بما يليق به. ثم طلب أبو سعيد المجد السلامي وكتب إلى السلطان يعرفه بأمر ياسور، ويخوفه منه أن يجتمع عليه المغل، ويسأله قتله. فدفع السلامي كتاب أبي سعيد إلى مملوكه قطلوبك السلامي فقدم على السلطان أول ذي القعدة من السنة الماضية، فأركبه السلطان النجيب في عاشره إلى مكة، ومعه كتاب إلى الأمير برسبغا الحاجب وقد حج من مصر بطلب الشريف رميثه وموافقته سراً على قتل ياسور فقدم قطلوبك مكة أول ذي الحجة، فلم يوافق رميثة على ذلك، واعتذر بالخوف. فأعد برسبغا بعض نجابته من العربان لذلك، ووعده بما ملأ عينه. فلما قضى الحاج النسك من الوقوف والنحر، وركب ياسور في ثاني يوم النحر لرمي الجمار، ركب برسبغا أيضاً فعندما قارب ياسور الجمرة وثب عليه النجاب، وضربه فألقاه إلى الأرض، وهرب نحو الجبل، فتبعه مماليك برسبغا وقتلوه أيضاً، خشية من أن يعترف عليه. فاضطرب حجاج العراق وركبت فرسانهم وأخذوا ياسور قتيل في دمائه، وساروا إلى برسبغا منكرين ما حل بصاحبهم، فتبرأ برسبغا من ذلك وأظهر الترغم له، وقرر عندهم. أن هذا الذي قتل هو من له عليه ثأر أو أحد غرمائه، وإنكم كفيتم أمره، فإني أخذت لكم بثأره وقتل قاتله. فانصرفوا عنه وفي نفوسهم منه شيء، ومازالو له بالمرصاد وهو منهم محترز منهم حتى افترق ركب الحاج العراقيين من المصريين بالمدينة النبوية، فأمن برسبغا على نفسه، وتقدم الحاج إلى السلطان مع المبشرين.
وفي يوم الأربعاء سابع عشرى ربيع الآخر: خلع على الأمير سيف الدين جاريك المهندار، واستقر حاجباً وترتب عوضه مهمندارا الأمير سيف الدين طقتمر الأحمدي شاد الشراب خاناه.
وفي عشرى رجب: خلع على الأمير سيف الدين محمود بن خطير أخو الأمير بدر الدين مسعود الحاجب واستقر حاجباً، وكان قد قدم من دمشق في سابع عشرى ربيع الآخر.
وفي يوم الخميس ثامن عشرى جمادى الآخرة: قدم الأمير تنكز نائب الشام إلى غزة، وقدم مملوكه يستأذن في دخوله كما هي عادته، فرسم له بسرعة الحضور، وألا يتحدث في شيء من أمر ابن هلال الدولة، فإن السلطان قد تغير عليه، فقدم.
وفي هذه الأيام: شفع الأمير قوصون في عود جمال الدين عبدالله ابن قاضي القضاة جلال الدين من دمشق، بدخلة أبيه عليه في ذلك، فأجابه السلطان. وقدم جمال الدين إلى القاهرة على البريد، فأقبل على عادته من اللهو، وعثر داراً على النيل بجوار دار أبيه، وتجاهر بما لا يليق. فتقدم أمر السلطان إلى ابن المحسني والي القاهرة أن يتحيل في كبسه وإشهاره، وأحس عبدالله بذلك، فكف عما كان يعانيه من اللعب.
وفي يوم السبت نصف رجب: قدم بدر الدين لؤلؤ الحلبي مملوك فندش بفاء مفتوحة ونون ساكنة، ثم دال مهملة مفتوحة بعدها شين معجمة وسيف الدين الأكز من الشام. فأحضرهما السلطان، وطلب مباشري حلب وهم النقيب بدر الدين محمد بن زهرة الحسين والقاضي جمال الدين بن ريان ناظر الجيش وناصر الدين محمد بن قرناص عامل الجيش، وعمه المحبي عبد القادر عامل المحلولات، والحاج إسماعيل بن عبد الرحمن العزازي، والحاج علي بن السقا، وغيرهم. فحاققهم لؤلؤ والي في رميهم بأخذ الأموال السلطانية، وجاهرهم بالسوء من القول بين يدي السلطان، والتزم بأنه إن مكن منهم استخلص منهم مائة ألف دينار. فطلب النشو بعد إخراجه، ووقع الكلام بينه وبين السلطان في ذلك وأمثاله من تحصيل الأموال، فأخذ النشو يقرر معه أن الأمراء قد أخذوا مساميح بمتاجرهم، ويتحصل من هذا إذا ضبطت عليها في كل سنة للديوان زيادة على مائتي ألف دينار، وأنه لا يتمكن مع قيام الأمير قوصون والأمير بشتاك أن يجمع للسلطان شيئاً من ذلك المال، فإنهما وأمثالهما قد اعتادوا من المباشر للسلطان أن ينفق المباشرون عليهم نصف متحصل الديوان برطيلاً وأنه فقير ليس له مال يبرطل به له ولا هو ممن يبرطل بمال السلطان، وأنه لو سلم منهم لملأ خزانة السلطان وحواصله أموالاً، لكنه يخشاهم أن يغيروا السلطان عليه. ورمى النشو المباشرين مع ذلك بعظائم من كثرة أموالهم ونعمهم، مما أخذوه في مباشراتهم من مال السلطان. فأذن له السلطان في عمل ما يختاره، وأن يتصرف في الدولة ولا يبالي بأحد، ووعده بتقوية يده وتمكينه ومنع من يعارضه.
ثم استدعى السلطان بالمخلص أخي النشو، ورتبه مباشراً عند الأمير سيف الدين ألناق، واستخدم أخاه رزق الله عند الأمير ملكتمر الحجاز واستخدم صهره ولي الدولة عند الأمير أرغون شاه وخلع عليهم.
وانبسطت يد النشو، واشتدت وطأته، وأخذ في التدبير على ابن هلال الدولة، ورتب عليه أنه أخذ من مال السلطان جملة، وأنه أهمل في المحافظة على أمور السلطان، وأن ما ضاع بسببه من مال السلطان كثير، وأنه تواطأ مع أولاد التاج إسحاق على مال السلطان. وندب النشو لتحقق ذلك أمين الدولة بن قرموط المستوفي والشمى بن الأزرق ناظر الجهات، وقرر مع السلطان إقامة لؤلؤ لاستخلاص الأموال، وطلب المباشرين للمحاققة، فجمعهم السلطان. فبرز قرموط وواجهه ابن هلال الدولة بأنه أهمل الأمور، وبرطل بالأموال، ونحو هذا من القول، فأثر كلامه في نفس السلطان، وصرف المباشرين، وبعث إلى ابن هلال الدولة يأمره بأن يلزم بيته. وخلع على الأكز واستقر شاد الدواوين عوضاً عن ابن هلال الدولة، وخلع على بدر الدين لؤلؤ الحلبي ليكون مستخلص الأموال، وخرجا إلى دار الوزارة بالقلعة، وطلبا الضمان والكتاب والمعاملين وأرباب الوظائف. ورتبت على ابن هلال الدولة أوراق. مما أهمله وفرط فيه، وطلب وصودر هو وجميع ألزامه، وقبص على مقدم الدولة خالد بن الزراد ومن يلوذ به، فحملوا الأموال. وخلع على ابن صابر واستقر مقدم الدولة. واشتد لؤلؤ على أهل حلب وأهل مصر، وعسفهم وتجاوز المقدار في عقوبة المصادرين خصوصاً أولاد التاج إسحاق.
وفي يوم الخميس ثالث رجب: سافر الأمير تنكز نائب الشام، بعدما أنعم عليه السلطان بمائة ألف درهم، وتوجه صحبته الأمير آقول الحاجب، ليستقر حاجب الحجاب بدمشق.
وفي يوم الأحد خامس المحرم: استقر الأمير تجماس الجوكندار المنصوري الملقب بشاش في نيابة حمص، عوضاً عن بهادر السنجري بحكم وفاته.
وفي يوم الأحد أول المحرم: أفرج عن الأمير بهاء الدين أصلم، وعن أخيه الأمير قرمجي.
وفيه أيضاً أفرج عن الأمير بكتوت القرماني. وكانت مدة اعتقال أصلم وقرمجي سته سنين وثمانية أشهر، ومدة اعتقال القرماني سبع سنين وسبعة شهور.
وفي سادس المحرم: رسم للأمير جمال الدين آقوش الأشرفي المعروف بنائب الكرك بنيابة طرابلس، بعد موت قرطاي وخلع عليه في تاسعه، وسافر في تاسع عشره. وكان ذلك لأمور: منها صحبته مع الأمير ألماس الحاجب، ومنها ثقله على السلطان، فإن السلطان كان يجله ويحترمه ويقوم له كلما دخل إلى الخدمة، ومنها معارضته للسلطان في أغراضه، لاسيما في أمر النشو، فإنه كان يبلغ السلطان كثرة ظلمه وقبح سيرته في الناس. فأراد السلطان أن يستريح منه، فخلع عليه وبعث له بألف دينار، وأخرج برسبغا مسفراً له على العادة. فلما وصل برسبغا به إلى طرابلس وعاد، خلع السلطان عليه واستقر حاجباً صغيراً. وفيه خلع على الأمير مسعود بن خطير، واستقر حاجباً كبيراً عوضاً عن الأمير ألماس.
وفي يوم الخميس ثاني شعبان: استقر أيدكين الأزكشي البريدي في ولاية القاهرة، عوضاً عن ناصر الدين محمد بن المحسني بسفارة النشو. فعظمت مهابته، وكبس عدة بيوت من بيوت الناس، صار يتنكر في الليل ويمشي في أزقة القاهرة، فإذا سمع صوت غناء أو ريح خمر في بيت كبسه وأخذ من أهله مالاً كثيراً بحسب حالهم. واعتنى به النشو، ومكنه من عمل أغراضه، فنال به مقاصد كثيرة. منها أن بعض تجار قيسارية جهاركس بالقاهرة تأخر له في الخزانة السلطانية عن ثمن مبيع نحو تسعين ألف درهم. وألح على النشو في المطالبة بها مع كثرة انهماكه في اللهو، فقبضه أيدكين وهو غير حاضر الذهن، وسجنه في دار الولاية، واستدعى بالعدول ليكتب عليه مشروحاً بأنه سكران ويشهره، فافتدى منه بأن أشهد عليه أنه أبر بيت المال مما له عليه، موقع هذا الإبراء من النشو ومن السلطان بمكان ولما شنع أمر أيدكين شكاه الأمير قوصون إلى السلطان، فتغير السلطان على قوصون وقال له: أنتم كلما وليت أحداً ينفعني أردتم إخراجه ولو أنه من جهتكم لشكرتم منه كل وقت، وأسمعه مع ذلك ما يكره. ثم أضيفت إليه ولاية مصر في تاسع شعبان، ولم يجمع الولايتين أحد قبله.
وفي يوم الأحد عشرى ذي الحجة: قدم الأمير مهنا بن عيسى وسبب قدومه أن السلطان كان يحرص على قدومه إليه، ويبذل لأولاده الأموال العظيمة، فيرغبونه في القدوم على السلطان، وهو يأتي ذلك عليهم. فكان إذا أعيا السلطان أمره طرده من البلاد، حتى طرده أربع مرات، وكانت تجرد له العساكر فتخرجه، ثم تحضر أولاده وتصلح أمره، فيعود إلى البلاد، ثم يأخذ السلطان في استجلابه فلا يأتي له. فيعود إلى إخراجه، وكان السلطان يبعث في طلب الخيول منه، فيرسلها إلى السلطان، فتحمل إليه أثمانها بزيادة كثيرة وما زال أمره على هذا الحال إلى أن قدم موسى وأحمد وفياض أولاده إلى القاهرة، وبالغ السلطان في الإنعام عليهم، فحلفوا له على إحضار أبيهم إليه. فلما أتوا أباهم اجتمعوا عليه مع عمومتهم، وأرادوه على الحضور إلى السلطان بجهدهم فلم يوافقهم، فكاتبوا السلطان بأمرهم معه، فكتب السلطان إلى نائب حلب بإخراجه من البلاد فسار مهنا إلى أبي سعيد بالعراق، فأكرمه وأجله عند قدومه، فتعمد وزيره مع المجد السلامي عليه حتى فارق بلادهم رعاية لخاطر السلطان، وكتبا بذلك إلى السلطان، فسره ذلك ولما عاد مهنا من العراق تلقاه ابنه موسى فوجد أنه قد أزمع أمره على القدوم على السلطان، فلم يشعر الأمير تنكز نائب الشام إلا ومهنا قد قدم عليه هو والملك الأفضل محمد صاحب حماة، فركب إلى لقائه وأنزله بالقصر الأبلق. وقدم البريدي إلى السلطان بخبر قدومه فكاد يطير فرحاً به. ثم أركبه الأمير تنكز والملك الأفضل خيل البريد، وسيرهما إلى السلطان. فحملت للأمير مهنا الإقامات، وجنبت له الخيول، وضربت له الخيم، وخرج أمير: اندار والمهمندار إلى لقائه، وركب الأمير بشتاك له إلى قبة النصر خارج القاهرة، وسار به إلى باب السر من القلعة، فإذا الأمير قوصون قد وقف به في انتظاره، فأخذ بيده حتى عبر إلى السلطان فرحب به السلطان وأكرمه، وعتبه على فراره منه، فاعتذر مهنا وذكر أن قدومه بسبب رؤياه النبي صلى الله عليه وسلم في منامه وأمره له بالقدوم. فسر السلطان بذلك وخلع عليه وعلى من معه مائة خلعة، ورد إليه أمرته، وزاد في إقطاعه. وأنزله السلطان بالميدان وأمر له بسماط جليل فسم له فيه، فلم يأكل منه شيئاً، واعتذر بأن عادته أكل لبن الجمال وقرص الملة لا غير. ثم طلع مهنا إلى السلطان في خامس يوم من قدومه، فأنعم عليه بقرية دومة من عمل دمشق، لتكون له ولأولاده من بعده واتفق موت أسندمر العمري فوجد له تسعة ألاف دينار مصرية، وطلع بها النشو فسلمها لحاجب منها إنعاماً على مهنا برسم زوادته. وكتب له القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله منشوراً بدومة، ثم سافر.
وفي ذي الحجة: ركب أيدكن والي القاهرة إلى النجيلة خارج القاهرة وهي يومئذ متنزه العامة، وبدايرها أخصاص للفرجة وكبسها وقت المغرب، فما قبض على أحد إلا وسلبة ثيابه وتركه عارياً، فجمع من ذلك شيئاً كثيراً وجمع الباعة من الغد بثمنه، فبلغ خمسة عشر ألف درهم.
وفي هذه السنة: جاء بالمدينة النبوية سيل عظيم أخذ جمالاً كثيرة وعشرين فرساً، وخربت عدة دور.
وفيها استقر جمال الدين عبدالله بن كمال الدين محمد بن العماد إسماعيل بن أحمد ابن سعيد بن محمد بن سعيد بن الأثير في كتابة السر بدمشق، عوضاً عن شرف الدين أبي بكر بن محمد بن الشهاب محمود.
وفي يوم عرفة: استقر نجم الدين بن أبي الطيب في الوكالة بدمشق، واستقر عز الدين، بن منجا في نظر جامع بني أمية، واستقر في حسبة دمشق عماد الدين بن الشيراز وخلع عليهم جميعاً.
وفيها ورد الخبر من بغداد بان صاحبها ألزم النصارى ببغداد أن يلبسوا العمائم الزرق، واليهود أن يلبسوا العمائم الصفر اقتداء بالسلطان الملك الناصر بهذه السنة الحسنة.
وفيها ولى تدريس الشافعي بالقرافة شمس الدين محمد بن القماح بعد وفاة المجد حرمي، واستقر عوضه في وكالة بيت المال النجم الأسعردي المحتسب، وفي تدريس المدرسة القطبية بهاء الدين بن عقيل.
وفيه استقر علاء الدين مغلطاي في تدريس الحديث بالمدرسة الظاهرية، بعد موت فتح الدين محمد بن سيد الناس، بعناية قاضي القضاة جلال الدين محمد بن القزويني فاستعظم الناس ذلك، وقالوا: ويه ويه تولى درس الحديث مغلطية.
وفيه انتهت زيادة ماء النيل إلى ستة عشر ذراعاً.

.ومات فيها من الأعيان:

الأمير ألماس الحاجب الناصري، كان جاشنكيرا، وتنقل حتى صار حاجب الحجاب في محل النائب، لشغور منصب النيابة بعد الأمير أرغون، وكان أكابر الأمراء يركبون معه في خدمته، ويجلس في باب القلة، ويقف الحجاب بين يديه، فلما قبض عليه وحبس، قطع عنه الطعام ثلاثة أيام، ثم خنق في ليلة الثاني عشر من صفر، حمل من الغد حتى دفن بجامعه، وكان أغتم لا يعرف بالعربية شيئاً.
وتوفي وكيل بيت المال ومدرس الشافعي مجد الدين حرمي بن هاشم بن يوسف العامري الفاقوسي الفقيه الشافعي عن محو سبعين سنة، في يوم الثلاثاء ثاني ذي الحجة، ولي وكالة بيت المال ونيابة الحكم، وبرع في الفقه والأصول، ودرس بالشافعي.
وتوفي قاضي القضاة جمال الدين سليمان بن الخطيب مجد الدين عمر بن سالم بن عمر عثمان الأذرعي المعروف بالزرعي في سادس صفر بالقاهرة، عن مرض السكتة، وهو يومئذ قاضي العسكر، مولده بأذرعات سنة خمس وأربعين وستمائة. ومات الأمير علم الدين سليمان بن مهنا بن عيسى أمير آل فضل، في خامس عشرى ربيع الأول، فرسم بعده بالإمرة لسيف بن فضل.
ومات الملك الظاهر أسد الدين عبدالله بن المنصور نجم الدين أيوب بن المظفر يوسف ابن عمر بن علي بن رسول متملك اليمن، بعدما قبض عليه الملك المجاهد بقلعة دملوه، وصار يركب في خدمته، ثم سجنه مدة شهرين، ثم خنقه بقلعة تعز.
وتوفي قاضي الحنفية بحماة نجم الدين عمر بن محمد بن عمر بن أحمد بن هبة الله ابن أحمد بن يحيى المعروف بابن العديم، عن خمسة وأربعين سنة.
ومات الأمير طغاي تمر العمري زوج ابنة السلطان، ليلة الثلاثاء ثامن عشرى ربيع الأول.
ومات الأمير صوصون أخو الأمير قوصون أحد الألوف، في ليلة الجمعة رابع جمادى الأولى.
وتوفي الحافظ فتح الدين أبو الفتح محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس اليعمري الأشبيلي العلامة المتقن المصنف الأديب البارع، في يوم السبت الحادي عشر من شعبان.
ومات الأمير قرطاي الأشرفي نائب طرابلس، وقد جاوز ستين سنة، بها في ثامن عشرى صفر.
ومات أمير طبر جمال الذين يوسف بن علم الدين، في ليلة السبت ثالث عشر جمادى الآخرة، وكان من أمراء العشراوات.
ومات الأمير بدر الدين بيليك أبو غدة وكان أحد أستادارية السلطان، ومن أمراء الطبلخاناه، في ليلة الأربعاء سابع عشر جمادى الآخرة.
ومات الأمير يوسف الدين خاص ترك الناصري أحمد مقدمي الألوف، في عاشر وجب بدمشق.
ومات الأمير عز الدين أيدمر دقماق العلائي نقيب الجيش، وكان أحد المماليك الأشرفية، ليلة الأحد سادس رجب، واستقر عوضه في نقابة الجيش الأمير صار وجانقيب المماليك، واستقر المماليك عوضاً عن صاروجا محمد بن لاجين المحمدي.
ومات الأمير قجماس الجوكندار المعروف بشاش نائب حمص أحد أمراء البرجية.
ومات الأمير بلبان طرنا أمير جاندار وكان نائب صفد، في حادي عشرين الأول، وهو من أمراء الألوف بدمشق. ومات القاضي صدر الدين سليمان بن إبراهيم ابن سليمان بن دواد بن عتيق بن عبد الجبار المالك قاضي الشرقية والغربية، في حادي عشرى شعبان، وبعثه السلطان رسولاً إلى بغداد.

.سنة خمس وثلاثين وسبعمائة:

في يوم الأحد رابع المحرم: قبض على الطواشي شجاع الدين عنبر السحرتي مقدم المماليك، بسعاية النشو، وأنعم بطبلخاناته علي الطواشي سنبل قلي واستقر نائب المقدم. وخلع على الأمير آقبغا عبد الواحد باستقراره في تقدمة المماليك، مضافاً إلى الأستادارية. فعرض آقبغا الطباق، وأخرج من كان من الأتباع الأويراتية في خدمة المماليك، وضرب جماعة من المماليك السلاح دارية والجمدارية لامتناعهم من إخراج أتباعهم، ونفوا إلى صفد.
وفي يوم الأربعاء حادي عشرى جمادى الأولى: عزل أيدكين والي القاهرة، لتغير الأمير قوصون عليه، وأخرج إلى الشام منفياً.
وفيه طلب بلبان الحسامي البريدي أحد مماليك طرنطاي النائب إلى حضرة السلطان، فلم يجد فرساً يركبه، فركب حماراً إلى القلعة، فخلع عليه واستقر والي القاهرة عوضاً عن أيدكن، وأخرج له فرس.
وفيه أفرج عن الأمراء المعتقلين، فركب على البريد الأمير بيبرس السلاح دار إلى الإسكندرية، وقدم بهم في يوم الإثنين ثاني عشرين رجب: وهم الأمير بيبرس الحاجب، وله في السجن من سنة خمس وعشرين، والأمير طغلق التتري أحد الأمراء الأشرفية، وله في السجن ثلاث وعشرون سنة، من سنة اثنتي عشرة، فمات بعد أسبوع من قدومه، والأمير غانم بن أطلس خان، وله في السجن من سنة عشر، مدة خمس وعشرون سنة، والأمير برلغي الصغير، وله في السجن من سنة اثنتى عشره، والأمير بلاط الجوكندار، والأمير أيدمر اليونسي أحد الأمراء البرجية المظفرية، والأمير لاجين العمري والأمير طشتمر أخو بتخاص، والأمير بيبرس العلمي من أكابر الأمراء البرجية، وقطلوبك الأوجاقي والشيخ علي مملوك الأمير سلار، والأمير تمر الساقي نائب طرابلس، أحد المنصوريه، وكان قد قبض عليه سنة أربع عشرة، فكانت مدة سجنه إحدى وعشرين سنة. فأنعم على تمر الساقي بطبلخاناه في الشام، وأنعم على بيبرس الحاجب بأمرة في حلب، عوضاً عن أقسنقر شاد العمائر، فسافر في سابع شعبان وكان قد رسم بالقبض على آقسنقر، فقبض عليه وسجن بقلعة حلب، وأحيط بموجوده ورسم للأمير غانم أن يقيم بالقاهرة.
وفي هذه السنة: قدمت رسل أزبك بكتابه يعتب فيه بسبب طلاق خاتون طولبية بنت تقطاي أخي أزبك، التي قدمت من جهته، وتزويجها من بعض المماليك، وطلب أزبك عودها إليه فأجيب بأنها قد ماتت، وسير إليه بهدية. وكانت قد مات زوجها الأمير صوصون، فزوجها السلطان للأمير عمر بن أرغون النائب، في يوم الإثنين تاسع عشر المحرم، ودخل عليها ليلة الجمعة حادي عشرى صفر. وقد كانت تحت السلطان ثم طلقها، فتزوجها الأمير منكلي بغا، ثم الأمير صوصون، ثم تزوجت بعمر هذا.
وفي ثاني عشر ربيع الآخر: خلع على الأمير سيف الدين جركتمر رأس نوبة الجمدارية بنيابة غزة، عوضاً عن الأمير طينال، وسافر في عشريه.
وفيه نقل طينال لنيابة طرابلس، عوضاً عن الأمير آقوش نائب الكرك، وهي ولايته الثانية.
وفي سادس عشره: توجه الأفضل صاحب حماة إلى محل ولايته، بعدما خلع عليه، وكان قد قدم صحبة مهنا، وتأخر بسبب الصيد مع السلطان.
وفي يوم الخميس رابع ربيع الأول: أنعم السلطان على ولده أبي بكر بإمرة، فركب بالشربوش من إصطبل الأمير قوصون، وسار في الرملية إلى باب القرافة، وطلع إلى القلعة من الباب المعروف بباب القرافة، والأمراء والخاصكية بخدمته، وعمل الأمير قوصون يومئذ لهم مهما عظيماً في إصطبله.
وفي يوم الخميس نصف جمادى الآخره: قبض على الأمير جمال الدين آقوش الأشرفي المعروف بنائب الكرك، وهو يومئذ نائب طرابلس وسجن بقلعة صرخد، ثم نقل في مستهل شوال إلى الإسكندرية فسجن بها، ونزل النشو إلى بيته بالقاهرة، وأخذ موجوده كله وموجود حريمه، وعاقب أستادراه.
واستقر عوضه في نيابة طرابلس الأمير طينال على عادته، ونقل بكتمر العلائي إلى نيابة حمص، عوضاً عن بشاش المتوفي.
وسبب ذلك أنه تراءى بطرابلس مركب للفرنج في البحر، فركب العسكر إلى الميناء، فدفعت الريح المركب عن الميناء ثم أخذ الأمير آقوش في تجديد عمارة مركب هناك، وأنفق فيه من ماله أربعين ألف درهم، فقدمت مركب الفرنج، فركب العسكر في المركب المستجد، وقاتلوا الفرنج، فقتلوا منهم جماعة وغنموا مركبهم بما فيها. فادعى صاحبها أنه تاجر قدم بتجارته. فنهبت أمواله وقتلت رجاله، وذكر عنه بعض التجار أنه متحرم لا تاجر، وأنه قدم في السنة الماضية إلى ميناء طرابلس وأخذ منها مركباً. فكتب آقوش بذلك إلى السلطان، فأجيب بالشكر وحمل الفرنجي إلى السلطان، فحمله آقوش مقيداً على البريد. فأكثر الفرنجي من التظلم، وتبرأ من التحرم في البحر، وأنه قدم بتجارة وهدية للسلطان، فظلمه نائب طرابلس وأخذ ما كان معه من التحف وغيرها، فصدقه السلطان، وكتب بإعادة مركبه إليه وجميع ما أخد له، فأجاب النائب بأن المذكور حرامي يقطع الطريق على المسلمين، فلا يسمع السلطان قوله، وكتب إليه بالتأكيد في رد المركب عليه، فردها النائب عليه، وشق ذلك عليه. ثم طلب آقوش الإعفاء من نيابة طرابلس فأجيب بتخييره بين نيابة صرخد وبعلبك، وبعث السلطان إليه الأمير برسبعا الحاجب، فسار به إلى دمشق، فقبص عليه تنكز بدار السعادة، وحمله إلى صرخد.
وفي صفر: هدم السلطان الجامع بقلعة الجبل، وهدم المطبخ أيضاً. وجدد السلطان عمارة الجامع، وصار يقف بنفسه كل يوم، وندب لذلك الأمير آقبغا عبد الواحد. فحمل إليه العمد العظيمة من الأشمونين ووسع موضعه، فأدخل فيه قطعة من حارة مختص والطشتخاناه، ورخمه جميعه، وظل العمل جارياً في هذا الجامع حتى كمل في أخر شعبان على أكمل هندام وأبدع ترتيب. ووقف عليه السلطان حوانيت القلعة وغيرها، ورتب فيه القراء والمؤذنين والقومة، وانتخبهم بنفسه بعدما عرض طوائفهم، فصلى فيه أول شهر رمضان.
وفيه جدد السلطان عمارة المطبخ بالحجر، وزاد في سعته.
وفيها خرج البريد بطلب بدر الدين محمد بن التركماني من طرابلس، ليباشر مع النشو، فأفرج عنه يوم السبت رابع عشر رجب، وكان له سنة وتسعة أيام موسم عليه بالقلعة، وهو يحمل المال.
وسبب ذلك أن الأمير تنكز نائب الشام لما قدم على عادته في عاشر رجب، وعرفه السلطان همة النشو ولؤلؤ في تحصيل الأموال التي كانت مهملة ضائعة ورطل بها، ذكر له تنكز نائب الشام ما تجدد من المظالم، وحسن له طلب ابن التركماني لضبط ما عساه يخفي عن السلطان من الأموال التي تؤخذ، ووضع من لؤلؤ بأنه مملوك ضامن وكان الأكز ولؤلؤ تسلما الولاة والمباشرين والكتاب وأولاد التاج إسحاق وابن هلال الدولة وأقاربه كما تقدم، وأخرقا بهم: فحمل قشتمر والي الغربية ثمانين ألف درهم، وأفرج عنه بعناية سنجر الخازن، فإنه صهره، وضرب قنغلي والي البهنسا عدة مرار حتى حمل خمسة وسبعين ألف درهم، وضرب فخر الدين أياس الدويداري بالمقارع، فحمل ثلاثمائة ألف درهم، وهلك تحت العقوبة أيضاً شاد سوق الغنم، بعدما أخد منه نحو مائتي ألف درهم، وأخذ من خالد المقدم مبلغ ثلاثمائة وثلانين ألف درهم، بعدما ضرب بالمقارع ضرباً مبرحاً، ثم أفرج عنه على أن يحمل كل يوم عشرة ألاف درهم، فحمل في مدة شهر مائة ألف درهم، وأخذ من بكتوت الصائغ مائة ألف درهم، ومن عبد الرزاق وولده نحو مائة ألف درهم، وأخذ من ألزام ابن هلال الدولة نحو مائة وخمسين ألف درهم. وحمل ابن خلال الدولة ثلاثماثة ألف وعشرة ألاف درهم من غير أن يضرب، واتهمه النشو بأنه أخذ من الأهراء أربعة ألاف أردب فولا، وأخذ من مخلف الأمير ألماس الحاجب حياصة، فظهرت براءته من ذلك. وشق على النشو سلامته من الضرب، وبذل جهده في ضربه، والله يدفع عنه بما كان فيه من كثرة الصدقة. فرماه النشو بعد ذلك بأنه كان يتحدث مع الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك بأنه يتسلطن، ويجتمع معه على ذلك، ومعه منجم قدم به من دمشق، واستخدمه في بيت السلطان، فطلب المنجم وقتل في السجن، ومنع متولي القاعة جميع الذين يجلسون بالطرقات ويضربون بالرمل من التكسب بذلك. ورسم بضرب ابن هلال الدولة حتى يقر على نائب الكرك بما قيل عنه، فرفق به الأكز وضربه مقرعه واحدة، ثم ضربه بالعصا قليلاً وهو يحلف بالطلاق الثلاث أنه ليس عنده علم بما رمي به.
ثم إن النشو تنكر على مستوفي الدولة أمين الدين قرموط، وعلى رفيقه ابن أبي الزين، من أجل أن قرموط أكثر من الاجتماع بالسلطان، فخاف عاقبته. وأغرى النشو به السلطان وقرر في دهنه أنه جمع كثيراً من مال السلطان لنفسه، وأن خالداً المقدم يحاققه ورفيقه على أنه أخذ مائة ألف دينار. فقبض عليهما في رابع ربيع الأول، وقبض معهما على الشمس ابن قزوينة، والعلم المستوفي والنشو كاتب الرواتب، والبرهان ابن البرلسي ورفيقه ابني الأقفاصي ناظر الدولة. وقام خالد المقدم بمحاققتهم، والتزم أنه يستخلص من قرموط أربعين ألف دينار، فعوقب وضرب بالمقارع. فقال خالد للأكز ولؤلؤ: هذا جلد ما يقر، اضربوا ولده قدامه حتى يزن المال، فإنه ما يهون به ضرب ولده. فلما ضرب قرموط أمر الأكز بإحضار ولده وضربه، فضرب وهو يتحسر عليه جزاء بما تقدم منه. فلما اشتد به البلاء ضرب نفسه بسكين في حلقومه ليهلك، فبادر الأعوان وأخذوها منه وقد جرحت حلقه، فأسرف الأكز في عقوبته وعقوبة رفقائه، وضرب القصب في أظفار ابن أبي الزين. ثم خرج النشو إلى الإسكندرية.
فقدم الأمير تنكز نائب الشام يوم الأربعاء حادي عشر رجب، وهو مقدمه العاشر، فقام في خلاص ابن هلال الدولة، وساعده الأمير قوصون حتى أفرج عنه. ثم قدم النشو من الإسكندرية، فشق عليه أن ابن هلال الدولة قد أفرج عنه، وأغرى به السلطان حتى أمر الوالي بإحضاره إلى القلعة، وخرج إليه الأكز وأخرق به، وبلغه عن السلطان أنه متى اجتمع به أحد شنقه، فنزل وأقام بالقرافة منجمعاً بها عن الناس. وأفرج عن أقاربه وألزمه وعن تجار الشرابشيين، بعدما كتب النشو عليهم إشهادات بأنهم لا حق لهم في جهة بيت المال، وكان قد تجمع لهم عن ثمن تشاريف مبلغ بخمسمائة ألف درهم على الخزانة، فذهب عليهم وصودروا مع ذلك واحتج عليهم النشو بأنهم ربحوا على السلطان فيما تقدم أموالاً جمة، وضرب منهم جماعة بالمقارع، واستأصل أموال كثير منهم.
وفيه كتب إلى نائب الشام بعد سفره في يوم السبت حادي عشر رجب بحمل علاء الدين علي بن حسن المرواني والي بر دمشق، لستقر في كشف الشرقية بتعيين الأمير مسعود بن خطير. فقدم المرواني وخلع عليه بكشف الوجه البحري، فكبس البلاد، وجمع ستين رجلاً من المفسدين، ووسطهم بمدينة بلبيس. وعلقهم على الخشب وأحدث عقوبات مشنعة: منها أنه كان ينعل الرجل في قدميه كما ينعل الفرس، ويمشيه حتى يشهره، ومنها أنه كان يعلق الرجل في خطاف من حديد يحتكه حتى يموت فأرهب الناس بالشرقية والغربية والبحيرة والمنوفية وأشوم بكثرة أثاره المهولة فيها.
وفيها صرف شرف الدين أبو بكر بن محمد بن الشهاب محمود كاتب السر بدمشق، وكتب نائب الشام يطلب غيره، فعين السلطان لكتابة السر بدمشق جمال الدين عبد الله بن كمال الدين محمد بن العماد إسماعيل بن أحمد بن سعيد بن الأثير، من حملة الموقعين بعد عرضهم، وخلع عليه ووصاه وصايا كثيرة.
وفي خامس رمضان: قدم الأمير بدر الدين محمد بن التركماني فلم يقبل عليه السلطان، وذلك بسعاية النشو عليه أنه جمع من المباشرات أموالاً جمة، وأن متاجره الآن بطرابلس تنيف على مائة ألف دينار، وأن عنده من الكتاب من يحقق في جهته مبلغ مائتي ألف وستين ألف دينار أخذها من مال السلطان، فنزل ابن التركماني ولزم بيته. وفي تاسع عشر شوال. خلع علي بالشريف عطيفة بن أبي نمي الحسني وكان قد قدم وشكا من أخيه رميثة أمير مكة، فأشرف بينهما في الإمرة.
وفيها اشتدت العقوبة على أولاد التاج إسحاق، وعلى قرموط ورفيقه، حتى أظهروا مالاً كثيراً. وأنعم على لؤلؤ بإمرة طبلخاناه، وكثرت الخلع عليه من السلطان، وعظم البلاء به.
وفيها أقام النشو رجلاً لمرافعة الأمير شهاب الدين أحمد بن المحسني والي دمياط، بأنه أخرب أساساً قديماً في البحر بين البرجين، كانت عليه طلسمات تمنع بحر الملح عن النيل، حتى تلفت طلسمات وغلب البحر على النيل، فتلفت البساتين، وأنه نال من ثمن حجارة هذا الأساس مالاً كثيراً. فأحضر وتسلمه لؤلؤ، فضرب بالمقارع واستخرج منه جملة مال.
وفيها قبض النشو على زوجة موسى بن التاج إسحاق، وعوقبت وهي حامل عقوبة شديدة على إحضار المال، حتى طرحت ما في بطنها ولداً ذكراً، وقبض أيضاً على أولاد ابن الجيعان كتاب الإسطبل. وذلك أن النشو كانت له عجائز يتجسسن في بيوت الكبار، فبلغنه عن أولاد ابن الجيعان أن نساءه يذكرن كثرة ظلمه وعسفه، وأنهن يدعون عليه، وبلغنه أيضاً أن أحد أولاد ابن الجيعان يسعى في نظر الجيش، والآخر يسعى في نظر الخاص. فطلب النشو كاتب الإسطبل منهم، وألزمه بكتابة حساب الإسطبل، فامتنع عليه وخاشنة في القول. فسعى به النشو إلى السلطان حتى قال له مشافهة من شباك القصر: لم لا تعمل حساب الإسطل، وتعطيه الناظر؟ يعني النشو، فقال: يا خوند بدل ما تطلب حساب العبي والمقاود، اطلب حساب الذهب الذي يدخل في خزائنك، وأغلظ في حق النشو حتى قال له: ونعمة مولانا السلطان أظهر في جهتك مائتي ألف دينار، فقامت قيامة النشو، وانفض المجلس على ذلك. فمازال النشو بأولاد ابن الجيعان حتى سلمهم إلى لؤلؤ، فعاقبهم حتى هلكوا وأخذ موجودهم، فلم يكتف بذلك، فقبض على أقاربهم وألزامهم، وصودر جماعة بسببهم.
وفيه خلع علي علاء الدين علي بن حسن المرواني الكاشف، واستقر في ولاية القاهرة عوضاً عن بلبان المحسني. وتولى المرواني هدم قناطر السباع التي عمرها الظاهر بيبرس على الخليح بين القاهرة ومصر وزيدت في سعتها عشرة أذرع، وأعيدت أحسن ما كانت، وركبت السباع التي كانت عليها من عهد الظاهر على حالها.
وفيها كثر شغف السلطان بمملوكه ألطنبغا المارديني شغفاً زائداً وقاه، فأحب أن ينشئ له جامعاً تجاه ربع الأمير سيف الدين طغي خارج باب زويلة، واشترى عدة دور من ملاكها برضاهم. فانتدب السلطان لذلك النشو، فطلب أرباب الأملاك وقال لهم: الأرض للسلطان ولكم قيمة البناء ومازال بهم حتى ابتاعها منهم بنصف ما في مكاتيبهم من الثمن، وكانوا قد أنفقوا في عمارتها بعد مشتراها جملة، فلم يعتد لهم منها بشيء. وقام المارديني في عمارة الجامع حتى تم في أحسن هندام، فجاء مصرفه ثلاثمائة ألف درهم ونيف، سوى ما أنعم به عليه السلطان من الخشب والرخام وغيره. وخطب به الشيخ ركن الدين عمر بن إبراهيم الجعبري من غير أن يتناول له معلوماً. وفيها عمرت قلعة جعبر المعروفة قديماً بدوسر وكانت قد تلاشت بعد أخذ المغل لها، فلما كملت رتب في نيابتها الأمير صارم الدين بكتوت السنجري نائب الرحبة وفيها وقعت قصة بدار العدل تتضمن الوقيعة في النشو، وتذكر ظلمه وتسلط أقاربه على الناس وكثرة أموالهم، وتعشق صهره ولي الدولة لشاب تركي. وكان قبل ذلك قد ذكر الأمير قوصون للسلطان أن عميراً الذي شغف به الأمير ألماس قد ولع به أقارب النشو، وأنفقوا عليه الأموال الكثيرة، فلم يقبل السلطان فيه قول قوصون أو غيره من الأمراء لمعرفته بكراهتهم له. فلما قرئت عليه القصة قال: أنا أعرف من كتبها وأستدعي النشو ودفعها إليه، وأعاد له ما رماه به الأمير قوصون. فحلف النشو على براءة أقاربه من هذا الشاب، وإنما هذا ومثله مما ينقله حواشي الأمير قوصون إليه، ليبلغه قوصون إلى السلطان حتى يتغير خاطره، ويوقع به وبأقاربه، وبكى وانصرف. فطلب السلطان الأمير قوصون وأنكر عليه إصغاءه لما يقال في النشو، ونقله للسلطان حتى يتغير عليه مع منفعته به، وأخبره بحلف النشو. فحلف قوصون أن النشو يكذب في حلفه، ولئن قبض على هذا الشاب وعوقب ليصدقن السلطان في تعيينه من يعاشره من أقارب النشو.
فغضب السلطان، وطلب الأمير بدر الدين مسعود بن خطير الحاجب، وأمره بطلب الشاب وضربه بالمقارع حتى يعترف بجميع من يصحبه وكتابة أسمائهم، وألزمه ألا يكتم عنه شيئاً منهم، فطلبه ابن خطير وأحضر إليه المعاصير، فأملى عليه عدة كثيرة من الأعيان، منهم ولي الدولة، فخشي مسعود على الناس من الفضيحة، وقال للسلطان: هذا الكذاب ما ترك أحد في المدينة حتى أعترف عليه، وإنني أعتقد أنه يكذب عليهم. وكان السلطان حشم النفس يكره الفحش فقال: يا بدر الدين من ذكر من الدوارين؟ فقال: والله يا خوند! ما خلى من خوفه أحداً حتى ذكره. فرسم السلطان بإخراج عمير وأبيه إلى غزة وكتب إلى نائبهما أن يقطعهما خبزاً هناك.
واتفق أيضاً أن طيبغا القاسمي من المماليك الناصرية كان يسكن بجوار النشو، وله مملوك جميل الصورة، فاعتشر به ولي الدوله من إخوة النشو، فترصده أستاذه حتى هجم يوماً عليهم وهو معهم، فأخد منهم وخرج فبلغوا النشو ذلك، فبادر بالشكوى إلى السلطان بأن طيبغا القاسمي يعشق مملوكه، ويتلف عليه ماله ثم إنه هجم وهو سكران على بيتي وحريمي وقد شهر سيفه، وبالغ في السب.
وكان السلطان يمقت على السكر، فأمر في الحال باخراج طيبغا ومملوكه إلى الشام منفياً.
وفيها قدم إبراهيم ابن السلطان من الكرك، يوم الإثنين ثالث ذي الحجة.
وفيها أمر السلطان بإنشاء قناطر بناحية شيبين القصر على بحر أبي المنجا، فأنشئت تسع قناطر في شعبان، وتقدم السلطان إلى الأمراء بحمل الحجارة إليها، فحمل كل من الأمراء ما وظف عليه من ذلك وفيها وقع بالمدينة النبوية وباء، فكان يموت في كل يوم خمسه عشر بمرض الخوانيق، ولم يعهد مثل هذا بالمدينة الشريفة.
وفيها بلغت زيادة النيل ثمانية عشر ذراعاً وإحدى عشر أصبعاً، فعم نفعه عامة الأراضي، وكان الوفاء يوم الأربعاء تاسع عشر ذي الحجة، وهو سادس عشر مسرى.

.ومات فيها من الأعيان:

بهاء الدين أبو بكر بن محمد بن سليمان بن حمايل المعروف بابن غانم كاتب السر بطرابلس، في ثامن صفر بها.
وتوفي الواعظ شمس الدين حسين بن أسد بن مبارك بن الأثير بمصر يوم الخميس سادس جمادى الآخرة، عن أربع وثمانين سنة، حدث عن الحافظ عبد العظيم وغيره. ومات الأمير علم الدين سنجر الخازن والي القاهرة، وهو معزول، يوم السبت ثامن جمادى الآخرة، عن نحو تسعين سنة، أصله من الممالك المنصورية قلاوون، وترقى حتى صار خازناً ثم شاد الدواوين ثم والي، ثم استقر والي القاهرة وشاد الجهات، فأقام عدة سنين، وإليه ينسب حكر الخازن خارج القاهرة على بركة الفيل، وكان حسن السيرة، ومات عن نحو تسعين سنة، وتربته بالقرب من قبة الشافعي بالقرافة.
ومات الأمير صلاح الدين طرخان ابن الأمير بدر الدين بيسري بسجنه في الإسكندرية في جمادى الأولى بعد ما أقام به أربع عشرة سنة.
وتوفي الحافظ قطب الدين عبد الكريم بن عبد النور بن منير بن عبد الكريم الحنفي، وله تاريخ مصر مقفى وشرح البخاري وشرح السيرة النبوية للحافظ عبد الغني ومشيخة في عدة أجزاء اشتملت على ألف شيخ.
وتوفي زين الدين عبد الكافي بن الضياء علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام الأنصاري الخزرجي السبكي بالمحلة الكبرى وهو على قضائها، وهو والد التقي السبكي.
ومات الملك العزيز عثمان بن المغيث عمر ابن العادل أبي بكر ابن الكامل محمد ابن العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي بالقاهرة ومولده سنة اثنين وخمسين وستمائة.
ومات الأمير طغلق الأشرفي السلاح دار، بالقاهرة، بعد الإفراج عنه بأسبوع.
ومات الصاحب شمس الدين عبد الله واسمه غبريال أبي سعيد بن أبي السرور الأسلمي ناظر الشام، بعدما صودر اتضع حاله حتى استجدى من الأمراء ونحوهم، و كان النشو يغري به السلطان بأنه يكذب، وأن تسلمه أظهر له مالاً كبيراً، فاشتملت تركته على ألف درهم، وبسببها استطال النشو على السلطان، وصار قوله عنده لا ينقض.
وتوفي المسند أمين الدين محمد بن إبراهيم بن محمد الخلاطي الوان المؤذن بالجامع الآموي في حادي عشرى ربيع الأول بدمشق، سمع بمصر والشام والحجاز، وحدث عن جماعة.
ومات محمد بن بكتوت الظاهري القلندري بطرابلس في خامس عشر ربيع الأول، كان كاتباً مجوداً ويذكر أنه كتب على ابن الوحيد، وكان يضع المحبرة في يده اليسرى والمجلد من كتاب الكشاف للزمخشري على زنده، ويكتب منه ما شاء الله وهو يغني ولا يغلط، وكان عند المؤيد بحماة مده، ثم طرده.
وتوفي شيخ الكتابة بهاء الدين محمود بن الخطيب محيي الدين محمد بن عبد الرحيم ابن عبد الوهاب بن علي بن أحمد بن عقيل السلمي المعروف بابن خطيب بعلبك الدمشقي بها في سلخ ربيع الأول، عن سبع وأربعين سنة.
ومات الأمير مهنا بن عيسى بن مهنا، في يوم الإثنين ثامن عشر ذي القعدة بسلمية ودفن بها، عن ثمانين سنة، وترك ستة عشر ولداً وكان عفيفاً مشكور السيرة.
وتوفيت ناصرية إبنة إبراهيم بن الحسين السبكي والدة التقي بعد زوجها زين الدين عبد الكافي السبكي بأربعين يوماً، حدثت عن علي بن الصواف، ودفنت بالقرافة.
وتوفيت زينب بنت الخطيب يحيى ابن الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، عن سبع وثمانين سنة، وقد تفردت بالرواية عن جماعة وقتل ترمشين بن دوار المغل صاحب بلخ وبخارا وسمرقند ومرو وكان قد أسلم وحسن إسلامه، وأبطل المكوس وعدل في رعيته، وملك بعده بزان.