فصل: سنة أربع في أربعين وثمانمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة أربع في أربعين وثمانمائة:

أهلت هذه السنة، والخليفة المعتضد باللّه أبو الفتح داود بن المتوكل، وسلطان الإسلام الملك الظاهر سيف الدين أبو سعيد جقمق، والأمير الكبير يشبك الظاهري ططر، وأمير سلاح الأمير تمراز القرمشي، وأمير مجلس الأمير حرباش الكريمي قاشق، والمقام الناصري محمد ابن السلطان أحد مقدمي الألوف، والدوادار الكبير الأمير تغرى بردى البكلمشي ويعرف بالمؤذى، وأمير أخور كبير الأمير قراجًا الحسني الناصري، وحاجب الحجاب الأمير تنبك بن تنبك، ورأس نوبة الأمير تمرباى الظاهري ططر، وبقية الأمراء المقدمين الأمير أينال العلاي الأجرود، والأمير شادي بك الظاهري ططر، والأمير ألطنبغا المرقبي، والأمير أسنبغا الطياري وهو نائب الإسكندرية، ونائب الشام الأمير جلبان المؤيدي، ونائب حلب الأمير قانباى الحمزاوي ونائب طرابلس الأمير برسباي والناصري، ونائب حماة الأمير برد بك العجمي، ونائب صفد الأمير قانبيه البهلولان، ونائب غزة الأمير طوخ المؤيد، ونائب القدس الأمير طوغان السيفي ألطبغا العثماني، ونائب الكرك الأمير مازي، ونائب الوجه القبلي من ديار مصر الأمير محمد الصغير ونائب البحيرة الأمير قشتمر المؤيدي، وكاتب السر القاضي كمال الدين محمد بن البارزي، وناظر الجيش شيخ الشيوخ محب الدين محمد بن الأشقر، والوزير الصاحب كريم الدين ابن كاتب المناخ، وناظر الخاص الصاحب جمال الدين يوسف ابن كاتب حكم، وأستادار الأمير ناصر الدين محمد بن أبي الفرج، وقضاة القضاة على حالهم، والمحتسب الأمير تنم المؤيدي، والوالي الأمير قراجا البواب، والأسعار رخية بحمد الله.
شهر الله المحرم الحرام، أهل بيوم الخميس: ففي يوم الخميس ثامنه: خلع على طوغان السيفي علان ويقال له رقز، أحد أمراء العشرات، ومن جملة أمراء أخورية، وإستقر أستادار السلطان عوضًا عن ابن أبي الفرج، وقبض على ابن أبي الفرج، وعوق بالقلعة إلى يوم الأحد حادي عشره، تسلمه الصاحب الوزير كريم الدين ابن كاتب المناخ، ونزل به إلى بيته.
وفي يوم الإثنين ثاني عشره: خلع على سراج الدين عمر الحمصي وأعيد إلى قضاء القضاة بدمشق، عوضًا عن ابن قاضي شهبة. وكان قد قدم إلى القاهرة، وعني به بعض أهل الدولة، حتى أعيد إلى وظيفة القضاء، وسار من القاهرة إلى محل ولايته بدمشق في عشرينه.
وفي يوم الثلاثاء عشرينه: نودي على النيل بزيادة ثلاثة أصابع، وجاءت القاعدة وهي الماء القديم ست أذرع وأربع أصابع.
وفي يوم الأربعاء حادي عشرينه: قدم الأمير جرباش الكريمي قاشق من الحج، ومعه إبنته زوجة السلطان في ركب من الحجاج، وحكيت عنه أمورًا، منها أنه رسم على قاضي المدينة النبوية ليحضر لخوند إبنته خمسين صاعًا من تمر، فبعد لأي أخذ منه ثلاثين صاع تمر وأشياء من هذا، مع المال الجم والشيخوخة. ثم قدم من الغد ركب ثان، وقدم محل الحاج بركب ثالث في يوم الجمعة ثالث عشرينه، تتمة أربع ركوب، وقد مات جماعة كثيرة في الطريق من حر بسموم محرق، وهلك معظم الجمال، بحيث مشي من لم يعتد بالمشي، ورمي الناس أمتعهم لعجزهم عن حملها، مع عسف أرماء الركب، فكانت رجعتهم مشقة لما نزل بهم من أنواع البلاء.
وفي يوم السبت رابع عشرينه: خلع على زين الدين يحيى الأشقر قريب بن أبى الفرج، وإستقر في نظر الديوان المفرد رفيقًا للأمير طوغان قز، عوضًا عن عبد العظيم بن صدقة وقد قبض عليه ونقل ابن أبي الفرج من تسليم الوزير، وسلم هو وعبد العظيم للأمير طوغان قز الأستادار، فعاقب ابن أبي الفرج، وأفحش في عقوبته من غير تجمل ولا إحتشام.
وفي يوم الإثنين سادس عشرينه: قبض على بهاء الدين أبي البركات الهيتمي، أحد نواب قاضي القضاة الشافعي، وسجن في البرج بالقلعة، بغير موجب يقتضي ذلك ثم أفرج عنه.
وفي يوم الجمعة سلخه: أمر شيخ الإسلام قاضي القضاة شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجو الشافعي أن يلزم بيته، واستدعي برهان الدين إبراهيم بن شهاب الدين أحمد بن إبراهيم بن الشيخ شهاب الدين أحمد بن ميلق أحد نواب القاضي الشافعي حتى خطب بجامع القلعة، وصلى السلطان صلاة الجمعة.
ونقل ابن أبي الفرج من بيت الأمير طوغان قز أستادار إلى تسليم الصاحب برهان الدين إبراهيم ابن كاتب جكم ناظر الخاص، بعدما حمل عشرة آلاف دينار وتأخر عليه أربعة آلاف دينار، مما ألزم به، وأسلم عبد العظيم إلى الوزير الصاحب كريم الدين ابن كاتب المناخ، ليحمل ألفي دينار.
وفي هذه الأيام: وقع الإهتمام بتجهيز تجريدة في البحر لغزو الفرنج. وفيها قدم القاضي زين الدين عبد الباسط بأهله وعتيقه الأمير جانبك أستادار من مكة إلى بيت المقدس، ليقيم به حسب ما رسم له به، فنزل بمدرسته التي أنشأها على مسجد بيت المقدس، فسكن جأشه، لأنه كان كثير القلق وهو بمكة.
شهر صفر، أوله يوم السبت: في يوم الإثنين ثالثه: خلع على الحافظ قاضي القضاة شهاب الدين أبي الفضل أحمد ابن على بن حجر الشافعي وإستمر على عادته، بعد أن عين شمس الدين محمد الونائي لولاية قضاء القضاة، فقام المقام الناصري محمد ابن السلطان في إستقرار الحافظ شهاب الدين حتى إستقر، وللّه الحمد، فو الله ما يبلغ أحدهم في العلم مده ولا نصيفه، وكان سبب هذه الحادثة أن رجلاً أسند وصيته بعد موته لإمرأتيه، وأقام عليهما ناظرًا سماه في وصيته. ومات الموصي، فأقام القاضي رجلاً يتحدث مع الناظر، فإختلفا وترافعا إلى السلطان فأنكر السلطان إقامة الرجل المتحدث مع الناظر، وسجن أبا البركات الهيتمي من أجل أنه أثبت أهلية المذكور، وأذن له في التحدث مع الناظر في تركة الموصي. وأمر بالرجل المتحدث مع الناظر، فعمل في الحديد، وسجن أيضًا فكثرت الشناعة على ابن حجر بلا موجب، إلى أن فوض السلطان أمر تركة الموصي إلى من يثق به من أمرائه، فجمع الناظر على التركة والرجل الذي أقامه القاضي يتحدث معه وحسابهما، فلم يجد في جهة المتحدث مع الناظر شيئًا من التركة، وظهر أن تلك الشناعات كلها كذب. فلما تبين للسلطان حقيقة الأمر سكنت حدة غضبه، وأفرج عن الهيتمي وعن الرجل المتحدث مع الناظر، وأقر قاضي القضاة على عادته.
وفي يوم الأربعاء ثاني عشره: قدمت تقدمة القاضي زين الدين عبد الباسط من القدس، على يد دوادره أرغون أحد مماليكه، وهي فرسان، وعشرون جملاً، وشاشات، وأزر وصيني، وثياب حرير، وتخت يماني، وغير ذلك مما تبلغ قيمة الجميع نحو الألفي دينار، فقبل السلطان ذلك، وقرئ عليه كتابه، فشكره، وخلع على أرغون. وفيه أفرج عن ابن أبي الفرج، فلزم داره.
وفي يوم الإثنين خامس عشرينه وهو أول مسرى: نودي على النيل بزيادة ثلاثين إصبعًا، لتتمة أربع عشرة ذراعًا وإصبعين، وهذا القدر من الزيادة ومبلغ الأذرع مما يستكثر في أول مسرى ولله الحمد.
وفيه خلع على الأمير عيسى بن يوسف بن عمر الهواري أمير هوارة بالصعيد، وقد رضي السلطان عن بني عمر بن عبد العزيز أمراء هوارة ورسم بإحضار أخيه الأمير إسماعيل من سجنه بمدينة الكرك، ليستقر على عادته في إمرة هوارة، على أن يحمل سبعين ألف دينار، يعجل منها أربعين ألف دينار.
وفي يوم الأربعاء سادس عشرينه: رضي السلطان على الأمير أيتمش الخضري، وخلع عليه بشفاعة بعض الأمراء.
وفي يوم الخميس سابع عشرينه ورابع مسرى: نودي بوفاء النيل ست عشرة ذراعًا وإصبعين، من سبع عشره، فركب المقام الناصري محمد إلى المقياس حتى خلق العامود بين يديه على العادة، ثم فتح الخليج، وكان وفاء النيل في رابع مسرى من النوادر التي يجب الحمد للّه عليها.
شهر ربيع الأول، أوله يوم الأحد: وفي هذا الشهر والذي قبله: كثرت الفواكه والبطيخ، بزيادة في الطيب والخصب ورخص السعر، وللّه الحمد.
وفي يوم الإثنين تاسعه: إنحدر من ساحل بولاق ظاهر القاهرة خمسة عشر غرابًا لغزو الفرنج، بأحسن هيئة، وأكمل عدة، وأتم زاد، وفيها من الأجناد والمطوعة جماعة. فعلى الأجناد وعدتهم مائتان تغرى برمش الزردكاش من أمراء العشرات، ويونس المحمدي أمير أخور من العشرات أيضًا، وسبب هذه التجريدة كثرة عبث المتجرمة من الفرنج، وأخذها مراكب التجار بما فيها، فأنشأ السلطان هذه الأغربة وشحنها بما تحتاج إليه من العدد والأسلحة والمقاتلة، وسيرها، عسى اللّه أن يظفرهم، فانضم إليهم طوائف من أوغاد العامة، وأراذل المفسدين، ومن الزعر المجرمين، حتى بلغوا ألفًا أو يزيدون. ولم ينفق في المماليك مال.
وفي يوم الأربعاء حادي عشرينه: ضربت رقبة رجل من سقاط العجم وسفلتهم، وقد ثبت عليه بشهادة جماعة فوادح وعظائم أوجبت إراقة دمه شرعًا، وكان من جملة أشياع الأمير قرقماس المقتول، وتكلم في السلطان وفي الأنبياء وغيرهم تعجل به العقوبة {ومن ورائه عذاب غليظ}.
وفي يوم الخميس ثماني عشره: خلع على الأمير إسماعيل بن يوسف بن عمر بن عبد العزيز الهواري، وإستقر في إمرة هوارة على عادته، وكان قد عزل بيوسف بن محمد بن إسماعيل بن مازن، وسجن وأشيع أنه يقتل، وخرجت العساكر إلى بلاد الصعيد لقتال هوارة، ثم نفي إلى الكرك، وسجن بها، فلم تطع هوارة ابن مازن، وجرت مفاسد ببلاد الصعيد آلت إلى فرار ابن مازن وعوده خائبًا إلى السلطان، فقام عدة من الأمراء في عود بني عمر، حتى أجابهم السلطان بعد ما إختلت أحوال البلاد خللاً فاحشًا، وللّه عاقبة الأمور.
وفي هذه الأيام: رسم بتتبع من في القاهرة وظواهرها من العجم الذين يطوفون بالأسواق وفي الطرقات، يستجدون الناس تارة، ويظهرون الصلاح تارة، فقبض على عدة منهم، فضرب قوم نفي جماعة، وضرر هذه الطائفة كثير جدًا فإن كثيرًا منهم ينتحلون مذهب الإلحاد، ويصرحون بتعطل الصانع تعالى، وينكرون شرائع الأنبياء، ويجهرون بإباحة المحرمات، فاللّه يبيدهم، ويعجل بعقوبة من ينصرهم.
وفي يوم الأحد سادس عشره: عمل المولد النبوي بقلعة الجبل بين يدي السلطان على العادة في مثل ذلك.
وفي خامس عشرينه: جهزت كاملية حرير بفرو سمور للقاضي زين الدين عبد الباسط، على يد مملوكه أرغون، وكتب بشكره على تقدمته. وفيه تأخر المقر الكمالي محمد بن البارزي عن الركوب إلى الخدمة السلطانية، تبرمًا بثقل مقالبة الخدمة السلطانية، وطلبًا للإعفاء من المباشرة، فأتاه عظماء الدولة يتلافوا خاطره، وهو مصمم على ترك المباشرة، فما زالوا به حتى ركب من الغد يوم الأربعاء سادس عشرينه إلى الخدمة، فخلع عليه، ونزل في موكب جليل إلى داره، وأعيان الدولة وأماثلها بين يديه، فباشر الأمور، ونفذ أحوال الناس على عادته.
وفي يوم الأحد سلخه وهو آخر أيام النسيء: نودي على النيل بزيادة إصبع لتتمة عشرين ذراعًا إلا إصبعًا واحدًا، وهذا القدر من الزيادة في مثل هذا الوقت من الشهور القبطة كثير جدًا، وهو مما يندر وقوعه، وللّه الحمد. وفيه كتب بإستقرار صلاح الدين خليل بن محمد بن محمد بن محمد بن سابق الحموي في كتابة السر بدمشق، عوضًا عن شهاب الدين أحمد بن زين الدين عبد الرحمن العجلوني.
شهر ربيع الآخر، أوله يوم الثلاثاء: فيه وقع الشروع في الاهتمام بملاقاة رسل القان معين الدين شاه رخ بن تيمور كركان ملك المشرق.
وفي يوم الإثنين سابعه: خلع على قاضي القضاة بدر الدين محمود العيني الحنفي وأعيد إلى حسبة القاهرة، وكان منذ عزل عن قضاء القضاة الحنفية متوافرًا على مباشرة نظر الأحباس.
وفي يوم الثلاثاء ثامنه: وردت تقدمة ثانية من زين الدين عبد الباسط من القدس، وهي ثمانية أفراس، ومائة درهم مينًا فضة.
وفي يوم الخميس رابع عشرينه وخامس عشرين توت: إنتهت زيادة النيل إلى أحد وعشرين إصبعًا من أحد وعشرين ذراعًا، فشمل الري الأراضي وعم به النفع، وللّه الحمد.
وفي يوم السبت سادس عشرينه: قدم رسل شاه رخ إلى القاهرة، وقد زينت الشوارع لقدومهم، وخرج المقام الناصري ولد السلطان وعدة أمراء إلى لقائهم. وأجتمع الناس لرؤيتهم، فكان يومًا مشهودًا، لم نعهد مثله لقدوم الرسل في الدول المتقدمة، ثم أنزلوا في دار أعدت لهم، ثم توجهوا من دارهم بخط بين القصرين إلى القلعة في يوم الإثنين ثامن عشرينه، والمدينة مزينة بأحسن زينة، والشموع وغيرها تشعل، وقد اجتمع عالم عظيم لرؤيتهم، وأوقفت العساكر من تحت القلعة إلى باب القصر في وقت الخدمة، فلما مثل الرسل بين يدي السلطان بالقصر، قرئ كتاب القان، فإذا هو يتضمن السلام والتهنئة بجلوس السلطان على تخت الملك وسرير السلطنة، ثم قدمت الهدية، وهى مائة فص فيروزج، وإحدى وثمانون قطعة من الحرير، وعدة ثياب، وفرو، ومسك، وثلاثون بختيًا من الجمال، وغير ذلك، مما تبلغ قيمته خمسة آلاف دينار، ثم قدمت هدية جوكى بن القان وكتابه وأعيد الرسل إلى منزلهم، وأجري لهم من المأكل والحلوى والفاكهة والمال ما عمهم، ثم قلعت الزينة في يوم الثلاثاء سلخه، وكان الناس قد تفننوا في أمور بديعة، أبدوها من أعمالهم في الزينة، ونصبوا قلاع وفي ظنهم أنها تتمادى أيام، فانقضى أمرها بخير.
شهر جمادى الأولى، أهل بيوم الأربعاء: وماء النيل أخذ في النقص، والناس قد شرعوا في زراعة الأراضي.
وفي يوم الإثنين سادسه: نودي بمنع النساء من الخروج إلى الشوارع والأسواق إلا العجائز والجواري، فإمتنعن، ثم نودي لهن بالخروج إلى الأسواق والشوارع من غير تبرج بزينة.
وفي يوم الخميس تاسعه: خلع علي شمس الدين أبي المنصور كاتب اللالا، وأعيد إلى نظر الاصطبل، عوضًا عن ابن القلانسي.
وفي يوم الجمعة عاشره: ورد الخبر بنصرة الغزاة المجردين على الفرنج.
وفي يوم الأحد ثاني عشره: جمع السلطان الرسل الواردين من القان بين يديه على وليمة عملها لهم، ثم خلع عليهم، ونزلوا في تجمل زائد.
وفي يوم الإثنين عشرينه: خلع على القاضي بدر الدين أبى المحاسن محمد بن ناصر الدين محمد بن الشيخ شرف الدين عبد المنعم البغدادي، أحد نواب الحنابلة، وإستقر قاضي القضاة الحنابلة، عوضًا عن محب الدين أحمد بن نصر اللّه بعد موته.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشرينه: قدم الغزاة في البحر، وكان من خبرهم أنهم إنحدروا في النيل من ساحل بولاق إلى دمياط، ثم ركبوا بحر الملح من دمياط وساروا في جزيرة قبرس فقام لهم متملكها بزوادتهم، ومروا إلي العلايا فأمدهم صاحبها بطائفة في غرابين. ومضوا إلي رودس، وقد إستعد أهلها لقتالهم، فكانت بينهم محاربة طول يومهم، لم يكن فيها نصفه. وقتل من المسلمين إثنا عشر من المماليك، وجرح كثير، وقتل وجرح من الفرنج كثير فلما خلص المسلمون بعد جهد، مروا بقرية من قرى رودس، فقتلوا وأسروا ونهبوا ما فيها، وقدموا دمياط، ثم ركبوا النيل الى القاهرة، وأسفر وجه الأمراء أنهم لم يكن لهم طاقة بأهل رودس.
وفي ليلة الخميس ثالث عشرينه: سقطت قنطرة باب البحر خارج القاهرة، وهلك طائفة ممن كان عليها.
وفي يوم السبت خامس عشرينه: ورد جواب السيد الشريف بركات بن حسن بن عجلان أمير مكة المشرفة، الذي جهز إليه بحضوره، يتضمن أنه تجهز للقدوم، ودخل المسجد الحرام ليطوف طواف الوداع، فتعلق به التجار، وجماعة المجاورين، وأهل مكة، يسألونه ويرغبون إليه في أن يقيم ولا يسافر، فإنه حتى سافر لا يأمنون على أنفسهم، وأنه بعرض ذلك على الآراء الشريفة فإن إقتضت أن يحضر حضر، وإن إقتضت أن يقيم أقام، وورد قرين مطالعته مطالعة الأمير سودون المحمدي المقيم بمكة، يشير بأن المصلحة في إقامة الشريف وعدم سفره، فبعد اللتيا واللتي أذن له في الإقامة، وأعفي من الحضور، على أن يحمل عشرة آلاف دينار، وجهز له تشريف.
وقي يوم الثلاثاء ثامن عشرينه: خلع على خواجا كلال رسول القان شاه رخ خلعة السفر، وقد إعتني بها عناية لم تتقدم مثلها لرسول، وهي حرير مخمل بوجهين، وطراز زركش فيه خمس مائة مثقال من الذهب، وأركب فرسًا بسرج ذهب وكنفوش ذهب فيها ألف دينار ذهبًا، وجهزت صحبته هدية، ما بين ثياب حرير سكندري، وسرج وكنفوش ذهب وسيوف مغلفة بذهب وغير ذلك مما تبلغ قميته سبعة آلاف دينار، سوى الهدية المذكورة.
وفي هذا الشهر: ادعي على يهودي متزوج أنه زنى ليهودية، فعني به بعض خواص السلطان حتى حكم له بعض نواب القضاء الحنفية برفع الرجم عنه. ونفذ حكمه من عداه من القضاة الذين مذهبهم رجمه، فكان هذا من شنيع ما حكم به زمنًا. وهو وإن كان مذهب الحنفية أن الكتابي المتزوج لا يرجم، فإنه لم يحكم به قاض فيما أدركناه، لكن حكم بعض نواب القضاة الحنفية في الأيام الأشرفية برسباى بشنعاء، وقد ضرب العفيف النصراني بحضرة السلطان حتى أظهر الإسلام. وكان له أولاد بالغون، فكره إسلامهم، وخاف أن يكرهوا عليه، فرغب إلى من حكم له ببقائهم على النصرانية، وأن لا يدخلوا في دين الإسلام، فجاء من حكمه بطامة لم يعص الله بأقبح منها، وعدت مع ذلك أنها حكم شرعي، فيا للّه، ما أخوفني من سوء عاقبة هذه الأحكام، ولله در القائل:
إذا جار الأمير وصاحباه ** وقاض الحكم داهن في القضاء

فويل ثم ويل ثم ويل ** لقاضي الأرض من قاضي السماء

شهر جمادي الآخرة، أهل بيوم الجمعة: وأهل النواحي مشغولون بزراعة الأراضي.
وفي يوم السبت ثانيه: ضرب شهاب الدين أحمد بن إسماعيل بن عثمان الكوراني الشافعي، ورسم بنفيه. وكان من خبره أنه قدم إلى القاهرة قبيل سنة أربعين وثمانمائة وهو في فاقة، فاستدناه المقر الكمالي محمد بن البارزي كاتب السر، ووالي إحسانه عليه، فتعرف بالناس، وتردد إلى الأمراء، وإختص بالقاضي زين الدين عبد الباسط، وصارت له وظائف ومرتبات، وتردد إلى السلطان، وعرف بالفضيلة، فصار له أعداء، وإتفق أن كانت بينه وبين شخص من الحنفية تعصب بسببها على الكوراني جماعة، وكأنه طاش في رياسته، ونقم السلطان وغيره عليه أشياء، ساعدهم فيها سوء المقدور عليه، حتى أهين في مجلس السلطان بحضرة القضاة، وأخرجت وظائف لغيره، ونفي إلى دمشق ثم أخرج منها، وقد عزم على الحج إلى جهة حلب، فلم يشعروا به إلا وقد وصل إلى الطور، فرسم عليه، وأخرج من الطور إلى الشام، ورسم أن يعدى به من الفرات، وكثر ذامه لسوء حظه، ولا قوة إلا باللّه.
وفي ثالثه: إستقلت رسل شاه رخ بالمسير إلى بلادهم، بجواب كتابه، والهدية المذكورة.
وفيه نودي من كانت له مظلمة فعليه بالوقوف للسلطان في يومي الثلاثاء والسبت.
وفي يوم الإثنين رابعه: خلع على الأمير تمرباى رأس نوبة النوب، وإستقر أمير الحاج.
وفي يوم الثلاثاء خامسه: إبتدأ السلطان بالجلوس للحكم بين الناس.
وفي يوم الخميس سابعه: خلع على الشريف بدر الدين حسين بن أبي بكر الفراء الحسيني وإستقر نقيب الأشراف، عوضًا عن الشريف حسن بن علي بن أحمد بن علي بن حسين الحسني المعروف بإبن قاضي العسكر الأرموي.
وفي يوم الخميس رابع عشره: قدم الأمير سيف الدين جلبان المؤيدي نائب الشام، فركب السلطان من القلعة إلى لقائه، ومنذ تسلطن لم ينزل من القلعة إلا هذا اليوم، فلقيه بمطعم الطور طرف الريدانية خارج القاهرة، وعاد والنائب في خدمته، حتى أنزل في بيت أعد له.
وفي يوم السبت سادس عشره: أحضر نائب الشام تقدمته، وهي ثمانون فرسًا بغير سروج، وثلاثون بختيًا، وعدة بغال، وقماش ما بين ثياب حرير وثياب بعلبكي وثياب صوف مربع، وفرو ما بين وشق وسمور وقاقم وسنجاب، وغير ذلك مما قيمة الجميع نحو عشرة آلاف دينار، وجلبان هذا من جملة مماليك الأمير تنبك أمير أخور الظاهري برقوق، رباه صغيرًا، ثم صار من بعد موته في خدمة الأمير جركس المصارع، وإنتقل من بعده إلى خدمة الأمير شيخ المحمودي، وتقلب معه في أطوار تلك الفتن حتى تسلطن شيخ وتلقب بالملك المؤيد، فأنعم عليه بإمرة، ثم عمله أمير آخور، وولى نيابة حماة في الأيام الأشرفية برسباى عدة سنين، كثر فيها شكاته، ثم نقل بعد موت الأشرف إلى نيابة حلب، ثم إلى نيابة الشام.
وفي ليلة الإثنين ثامن عشره: قدم قاضي القضاة الحنفية بدمشق، شمس الدين محمد ابن علي بن عمر الصفدي في الترسيم، فسلم إلى المقر الكمالي محمد بن البارزي كاتب السر، وقد رسم للذي أحضره من دمشق أن يأخذ تسفيره ألف دينار، توزعها وناظر الجيش وكاتب السر بدمشق، وسبب ذلك أن رجلاً بغداديًا من فقهاء الحنفية يذكر أنه من ولد الإمام أبي حنيفة رحمه اللّه قدم من دمشق، وتردد إلى مجلس السلطان، فكانت محنة أحمد الكوراني بسببه كما هو مذكور في ترجمته من كتاب درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة ثم أفرغ سمه ثانيًا في شمس الدين الصفدي، ووشي به إلى السلطان أنه سئل عن الحكمة في كثرة جماع النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، فقال: ليحصنهن من الزنا وأن هذا كفر يوجب إراقه دمه، وشنع، وأبدى وأعاد وأعانه عليه قوم آخرون فرسم بإحضاره، وفي الذهن أنه يقتل.
وفي هذه الأيام: مرت سحابة، فأصبح كثير من المزروعات وقد صقع وأسود، كالخيار والفول والجزر، فلم ينتفع به، وأفسدت الدودة كثيرًا من البرسيم المزورع بالوجه البحري، فأعيد بذره.
وفيه أيضًا غلا سعر اللبن والجبن واللحم، وقل وجود ذلك بالأسواق.
وفي يوم الإثنين خامس عشرينه: خلع علي تقي الدين عبد الرحمن بن تاج الدين عبد الوهاب بن نصر اللّه، أحد موقعي الدست، وناظر دار الضرب، وإستقر في نظر جده، عوضًا عن تاج الدين بن حتى السمسار، وخلع على شاهين أحد المماليك وإستقر شاد جده، وخلع على الأمير جلبان نائب الشام خلعة السفر، وتوجه من الغد يوم الثلاثاء سادس عشرينه إلى محل كفالته.
وفيه أنعم بإقطاع الأمير ممجق بعد موته على تغرى برمش بن جركس. ثم خلع في يوم الإثنين ثالثه، وإستقر نائب القلعة، عوضًا عن ممجق وتغرى برمش من محاسن هذه الدولة، لمعرفته الحديث ورجاله المعرفة الجيدة إلى غير ذلك من الفضائل.
شهر رجب أوله يوم السبت: في يوم الإثنين ثالثه: ركب السلطان بثياب جلوسه، ومضي من القلعة، فمر من صليبة جامع ابن طولون إلى الميدان الكبير بخط موردة الحبس وقد خرب فكشف ما يحتاج إليه من العمارة، ورسم بمرمته، وعاد سريعًا وهذه ثاني ركبة ركبها في سلطته.
وفي يوم الإثنين عاشره: أنعم بإقطاع الأمير ألطنبغا المرقبي بعد موته على الأمير طوخ الجمكي رأس نوبة ثانيًا، وأنعم بإقطاع الأمير طوخ على الأمير قانبيه الجركسي شاد الشراب خاناه، وأنعم بإقطاع قانبيه على ثلاثه نفر: الأمير تغري برمش وإستقر نائب القلة عوضًا عن الأمير ممجق، وعلى الأمير يوسف بن محمد بن الأمير إسماعيل بن مازن وإستقر شيخ لهانة بالبهنساوية، وعلى تغرى بردي دوادار قراسنقر وهو كاشف الجيزة.
وفي هذه الأيام: أيضًا برزت التجريدة المتوجهة إلى المدينة النبوية، حتى أناخت بالريدانية خارج القاهرة، وعدتها خمسون مملوكًا، عليهم الأمير جانبك المعروف بنائب بعلبك، أحد أمراء العشرات، وإستقلت بالمسير في يوم الجمعة رابع عشره وتوجه صحبتهم ناظر جدة وشادها، وعدة ممن يريد الحج والعمرة، وتوجه أيضًا أحد خاصكيه السلطان لإحضار ولي الدين محمد بن قاسم مضحك السلطان الملك الأشرف برسباى وكان قد رسم بإحضاره غير مرة آخرها أن كتب للأمير سودون المحمدي بتجهيزه من مكة في البحر إلى القاهرة، فأخرجه من مكة وأركبه البحر من جدة، فنزل ينبع، ومضي إلى المدينة النبوية. ثم عاد إلى ينبع، وإعتذر عن الحضور، فلم يقبل عذره، وجهز له الخاصكي، ورسم به أن يأخذه تسفيره من ابن قاسم ألف دينار.
وفي يوم الأحد سادس عشره: عقد مجلس بن يدي السلطان، حضرة قضاة القضاة الأربع، وجيء بشمس الدين محمد الصفدي قاضي الحنفية بدمشق من منزله بجوار كاتب السر، فأوقف، وأدعي عليه غريمه حميد الدين بن أبي حنيفة عند قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر بأنه قال: أنا أتخير في الحكم، فتارة أحكم بقول أبي حنيفة، وتارة بمذهب الشافعي أو مالك فأجاب: بأني إنما قلت أتخير من قول أبي حنيفة وأصحابه أبي يوسف ومحمد وزفر، وأحكم. بما أختاره من ذلك، فأجاب القضاة الأربع بأنه لا شيء عليه في ذلك، ودفعوا خصمه بحجاج وجدال طويل، وهو يأبى إلا أن يعزر، حتى قال الشافعي للسلطان: وأي تعزير حمله من دمشق إلى مصر، وغرمه للمسفر ما غرم، ثم ها هو قائم على رجليه يدعي عليه فإنفضوا على ذلك، وجلس بين يدي السلطان وقبل يده، وإنصرف منصورًا بعناية القاضي الشافعي وكاتب السر به، وإلا فما كان ظن المتعصبين مع حميد الدين إلا أنه ينكل بالصفدي، ويحكم بفسقه، وتخرج وظائفه، إلى غير ذلك، وكان قد كتب إلى دمشق بالكشف عما نسب إليه من قوله في أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحصنهن من الزنا فكتب جماعة من قضاتها وأعيان فقهائها بأنهم فحصوا عن ذلك فلم يجدوا له أصلاً، وأبدوا مخاصمة وقعت بينهما، فلما سكن غضب السلطان عند قراءة ذلك عليه، علم حميد الدين وعصبته أنه قد نجا غريمهم من القتل برغمهم، فعدلوا إلى ما يوجب بزعمهم النكال به فكان ما كان، ورد الله حاسده بغيظه، لم ينل بسعيه عرضًا.
وفي يوم الإثنين سابع عشره: عزل سراج الدين عمر الحمصي عن قضاء القضاة بدمشق وقد وشي به شخص إلى السلطان من خواصه أنه أخذ على حكمه في قضية ذكرها مبلغًا من المال، وكان السلطان لما ولي الحمصي لم يكلفه لمال، وشرط عليه أن لا يرتشي في أحكامه. وعين السلطان شمس الدين محمد بن الونائى لقضاء دمشق.
وفيه خلع على الأمير يوسف بن محمد بن إسماعيل بن مازن، وإستقر أمير هوارة البحرية، عوضًا عن علي بن غريب، وذلك أنه كانت في هذه الأيام فتن بين فزارة ومحارب، وبين هوارة البحرية بناحية البهنساوية، فقبض الكاشف على ابن غريب، فولي السلطان عوضه ابن مازن، وعين معه تجريدة.
وفي يوم الخميس عشرينه: خلع علي شمس الدين محمد بن علي بن عمر الصفدي، وإستقر على عادته في قضاء الحنفية بدمشق.
وفي يوم الإثنين رابع عشرينه: ورد كتاب الغالب باللّه عبد اللّه بن محمد بن الأمير أبي الجيوش نصر بن أمير المسلمين أبى عبد اللّه بن أمير المسلمين أبي الحجاج بن أبي الوليد إسماعيل بن نصر، متملك أغرناطة من الأندلس، يتضمن ما فيه المسلمون بغرناطة من الشدة مع النصارى أهل قرطبة وأشبيلية، ويسأل النجدة.
شهر شعبان، وأوله يوم الإثنين: فيه ركب السلطان إلى الرصد المطل على بركة الجيش، خارج مدينة مصر الفسطاط، ومعه الأمراء ومباشرو الدولة، وعمل لهم مدة، فأكلوا وعادوا في أثناء نهارهم. وفيه توجه الأمير سيف الدين طوغا قز السيفي أستادار إلى ناحيتي الشرقية والغربية، لأخذ ضيافات أهلها التي أحدثوها على أهل النواحي، فيحل بالناس من ذلك بلاء لا يوصف. وفيه أضيف نظر دار الضرب إلى نظر الخاص كما هي العادة القديمة، عوضًا عن جوهر الخازندار والزمام بعد موته.
وفي يوم الأربعاء ثالثه: سارت التجريدة مع ابن مازن إلى بلاد البهنساوية، وعدتها ثلاثمائة مملوك وعليهم بايزيد، أحد أمراء العشرات.
وفي يوم السبت سادسه: خلع على الطواشي زين الدين هلال شاد الحوش ونائب الزمام، وهو أحد خواص خدام السلطان الملك الظاهر برقوق، ربي في داره بين حرمه، وإستقر زمام الدار، عوضًا عن جوهر السيفي قناق باى بعد موته.
وفي يوم الأحد سابعه: خلع على الأمير زين الدين عبد الرحمن ابن القاضي علم الدين داود بن زين الدين عبد الرحمن بن الكويز، وإستقر أستادار الذخيرة عوضًا عن الجوهر المذكور وخلع على الطواشي جوهر التمرازي الحبشي، وإستقر خازندارا عوضًا عن جوهر السيفي المتوفي وفي تاسعه: هبت ريح شرقية بطرابلس الشام وأعمالها، وإشتدت، فهدمت الدور والموادن وصعقت أقصاب السكر بإجمعها.
وفي هذه الأيام: إشتد البرد بالقاهرة، حتى جمدت المياه بعدة مواضع، وأبيع الجليد بالأسواق في يوم الخميس حادي عشره، وجمدت بركة من مستنقع ماء النيل في بعض الضواحي بحيث صارت قطعة واحده، ومشي فوقها الأوز، وأصبحت زروع كثيرة من الفول وقد إسودت وحفت، فحملت وأوقدت في الأفران، وإسود ورق كثير من شجر الجميز وغيره.
وفي يوم الأربعاء سابع عشره: ولي شمس الدين محمد الونائي قضاء القضاة بدمشق، عوضًا عن الحمصي، ولم يخلع عليه، وحملت له الخلعة ليلبسها إذا قدم دمشق بسؤاله ذلك، وأمهل بالسفر إلى أثناء شوال، وأضيف إليه عدة وظائف، منهما خطابة الجامع الأموي، عوضًا عن البرهان إبراهيم بن الباعوني، ونظر الأسوار، ونظر الأسرى، وأخرج له من الاصطبل السلطاني بغلة بقماش كامل وزناري، وهذا شيء قد بطل منذ سنين، فجدده عناية من السلطان يه.
وفي يوم السبت عشرينه: ركب السلطان من القلعة ونزل بخليج الزعفران، كعادة المؤيد شيخ والأشرف برسباى، ومدت للأمراء أسمطة جليله بحسب الوقت، وحمل جماعة من المباشرين أنواعًا من الحلوى والفواكه وغيرها، ثم ركب بعد صلاة الظهر، ودخل من باب القصر، فشق شارع القاهرة، وخرج من باب زويلة إلى القلعة، وهذه أول مرة شق فيها القاهرة بعد سلطنته، وكان هذا وهو بثياب جلوسه، ولم يكن هذا في القديم، وأول من ترخص فيه الناصر فرج، فإنه ركب بثياب جلوسه، ثم إقتدي به في ذلك الملك المؤيد شيخ، ومن بعده، وعد هذا مما ضيع من قوانين المملكة، وبطل من رسومها.
وفي هذا الشهر: هم السلطان بإخراج الرزق الأحباسية عمن هي بيده. ثم إستقر الحال على أن جبي من الرزق الأحباسية التي بأراضي الجيزة التي ببلاد الملك من ضواحي القاهرة، عن كل فدان مائة درهم من الفلوس، فجبيت، وأنعم بما يجبي من الجيزة على الوزير إعانة له، وما يجبي من الضواحي يصرف في عمل الجسور. وفيه أيضًا رسم بفك قيد الأمير جانم أَمير أخور الأشرفي، بفك وبقي في سجنه بالمرقب بغير قيد.
وفي ثامن عشره: قبض بمكة على أمين الدين محمد بن قاسم، فألزمه المتسفر لإحضاره ألف دينار، فأورد له منها، ونزلا في البحر يريدان القاهرة.
شهر رمضان، أوله يوم الثلاثاء: فيه ورد الخبر بأنه قبض على الأمير قانصوه بدمشق، فرسم بسجنه في القلعة.
وفي يوم الخميس عاشره: خلع علي شمس الدين محمد بن عامر أحد نواب الحكم المالكية، وإستقر في قضاء الإسكندرية، عوضًا عن جمال الدين عبد اللّه الدماميني.
وفي يوم السبت ثاني عشره: خلع على القاضي معين الدين عبد اللطف بن شرف الدين أبي بكر الأشقر، وإستقر في نيابة كتابة السر وغيرها من وظائف أبيه بعد موته.
وفي هذه الأيام: ألزم القاضي زين الدين عبد الباسط بحمل خمسة آلاف دينار. وذلك أنه وجد في تركة جوهر الخازندار الزمام أنه حمل إلى عبد الباسط في أيام مصادرته خمسة آلاف دينار، فتوجه القاصد إليه بحملها فعوض عنها قماشًا، وأذن أن يباع من عقاره بالقاهرة ما يكمل تتمة ذلك، فسامحه السلطان بألف دينار، فأورد إلى الخزانه أربعة آلاف دينار.
وفيها أيضًا فوض السلطان نظر الجامع الحاكمي بالقاهرة إلى الأمير دولت بيه الدوادار. وأنعم برسم عمارته بألف دينار، وحملت إليه من الخزانة السلطانية فركب وكشف أحواله، فوجد سقوفه قد سقط منها مواضع، وفيها مواضع ساقطة، وبلاطه قد تلف منه كثير، ومقاصيره الخشب قد تلف كثير منها، وميضات الجامع متهدمة، وأحوال الجامع بمرور النساء والصبيان وغيرهم ملعبة فمنع دخول النساء الجامع وألزم بوابيه أن لا يمكنوا إمرأة ولا صغيرًا من الجلوس فيه، ولا المرور منه، وكان هذا الجامع قد فسدت أحواله، فأصلحه اللّه على يد هذا الأمير، وغلقت أبوابه عدة أيام، سوى بابين، ثم فتحت أبوابه كلها، وامتنع الناس كافة من المرور في صحن الجامع بنعالهم، وشرع في عمارة السقوف والمقاصير والبلاط، وهدم الميضأة بأسرها، وأنشأها إنشاء جديدًا وتشدد في جباية ريعه، واستولى على جميع ما هو موقوف عليه، وهو ثلاث جهات: إحدها الوقف القديم، وهو ما بين مساكن وأحكار، وكان من القديم إلى آخر وقت بيد قضاة القضاة الشافعية، ومنه تصرف معاليم المؤذنين، والإمام والخطب، والقومة ونحو ذلك، وهو وقف ضعيف متهدم، والجهة الثانية: وقف المظفر بيبرس الجاشنكير على أرباب وظائف سماها في كتاب وقفة ما بين دروس فقه وحديث وقراء وملء صهريج بالجامع، ونظره أيضًا للقاضي الشافعي، والجهة الثالثة: رزقة وقفها الناصر حسن، على الرماس وذريته، وأن يشترى منها حصر وزيت للجامع، ونظرها لهم، فاستوى دولت بيه على جمع ذلك.
وفي هذا الشهر: أيضًا رسم بنفل الطواشي خشقدم المقدم من المدينة النبوية إلى القدس، وإقامته هناك بطالاً.
وفي سلخه: قدم الأمير طوغان قز أستادار من الوجه البحري، وقد جبي من أموال أهله الضيافات التي أحدثوها، وحمل تقدمته ما بين خيل وجمال وغير ذلك مما تبلغ قيمته زيادة على عشرة آلاف دينار.
شهر شوال، أوله يوم الخميس: فيه صلى السلطان صلاة العيد بجامع القلعة على العادة، وعندما سلم الإمام في آخر الصلاة، وثب كثير من المماليك يدًا واحدة يريدون المبادرة لدخول القصر حتى تلبس أرباب الخلع خلعهم، وقام بقيامهم جماعة، فاشتد زحام الناس بحيث مات والي باب القلة، وسقط جماعة أشفوا على الموت مغمي عليهم، فأفاق أكثرهم، ومات بعضهم.
وفي يوم الجمعة ثانيه: كتب بعزل ابن عامر عن قضاء الإسكندرية، وطلب ابن الدماميني.
وفي ثالثه: قدم الأمير بايزيد ومن معه من المجردين بالبهنساوية، وقد قرروا على هوارة ما لا يقومون به.
وفي يوم الثلاثاء ثالث عشره: قدم قود الشريف بركات أمير مكة، وأخبر قاصده بوصول ما رسم به وهو فلفل بعشرة آلاف دينار إلى الطور، فبطل الأرجاف بعزله وولاية أخيه، وقدم أيضًا القاضي جمال الدين عبد اللّه بن الدماميني من الإسكندرية، فخلع عليه في يوم الخميس نصفه، وإستقر في قضاء الإسكندرية على عادته، وعاد بن عامر إلى منزله، فلزمه بطالاً، لا حاجتك قضيت ولا صديقك أبقيت.
وفي يوم الإثنين تاسع عشره: خرج محمل الحاج مع الأمير تمرباى رأس نوبة النوب. وخرج في هذه السنة للحج ثلاثة من أمراء الألوف: تمرباى هذا، وطوخ، وتمراز أمير سلاح، وسبعة أمراء ما بين عشرات وطبلخاناه، منهم والي القاهرة، ومنهم سودون قرقاش النوروزي أحد رؤوس النوب، وأمير عشرة وهو أمير الركب الأول، فرحل من بركة الحجاج الأمير تمراز في حادي عشرينه، وتبعه كثير من الحجاج، ورحل سودون قرقاش في ركب كبير من الغد، ورحل الأمير تمرباى بمحمل الحاج في ثالث عشرينه، وكتب إلى الشريف بركات، وإلى أمير المدينة النبوية، وإلى أمير ينبع بإعفائهم مما كانوا يقومون به من المال لأمير الركب في كل سنة، وأكد السلطان على الأمراء عندما وادعوه أن لا يأخذوا من المذكورين شيئًا، فما أجمل هذا وأحسنه إن عمل به.
وفي حادي عشرينه: قدم بن قاسم من مكة، فسلم إلى الأمير دولت بيه الدوادار.
وفي هذا للشهر: خربت مدينة الفيوم، وجلا أهلها عنها، لغلبة ماء بحر يوسف.
شهر ذي القعدة أوله يوم الجمعة: في ثالثه: ركب مولانا السلطان لهدم ميضأتين ودور في زيادة الجامع الطولوني، كما هدم دار ابن النقاش، فصرف اللّه قلبه عن ذلك، ومضي من الجامع، بعدما كشف أحواله إلى الميدان الكبير، فنظر ما عمر في سورة، وعاد سريعًا.
وفي يوم السبت تاسعه: قدم الأمير قانباى الحمزاوي نائب حلب بإستدعاء، فركب السلطان إلى مطعم الطيور ونزل به، وتقدم الأمير الكبير الأتابك في عدة من الأمراء حتى قدموا به، فخلع عليه، وعاد السلطان وهو في الخدمة، فصعد السلطان إلى القلعة، ومضي النائب إلى دار أعدت له، فنزلها، وقدم من الغد تقدمته، وهي مماليك، وخيول، وجمال، وقماش، وفرو، وغير ذلك مما قيمته نحو عشرة آلاف دينار.
وفي يوم الإثنين حادي عشره: توجه الأمير أينال الأجرود مجرداً في جماعه من المماليك نحو بلاد الصيد، لقتال محارب.
وفي هذه الأيام: أفرج عن ولي الدين محمد بن قاسم من عاقته ببيت الأمير دولت بيه، على أن يحمل خمسة عشر ألف دينار، ضمنه فيها جماعة. وفيها زاد النيل نحو ذراعين ونصف، حتى صار في إثني عشر ذراعًا ونصف، والوقت زمن الربيع، والشمس في برج الحمل، ويوافق من شهور القبط برمودة، وجرت العادة أن في مثل هذا الزمان يأخذ النيل في النقصان، ويسمى الإحتراق، وهذا من النوادر، إلا أنه وقع مثل ذلك في سنة تسع وثلاثين وثمانمائة. وكثر في هذا الزمان تخاصم الناس، وتعدي بعضهم على بعض، وتزايد وقوع الشر فيما بينهم، وشنع جهرهم بالسوء، وتناجيهم بالإثم والعدوان، فاللّه تعالى يكفي شر ذلك. وقدم الخبر بأن صاحب قشتيلة من بلاد الفرنج عمر أربعين بيوني وعشرة أغربة يريد رودس، ليأخذ بثأرهم من المسلمين. وفيها منع الأمير أيتمش الخضري من الإجتماع بالسلطان، وأمر بلزوم بيته، وهذا ثاني مرة منع فيها.
وفي حادي عشرينه: إستقل نائب حلب بالمسير عائدًا إلى محل كفالته على عادته، بعد أن خلع عليه.
وفي رابع عشرينه: قدم الخبر أيضًا من طرابلس بأن أهل رودس قد إستعدوا للحرب، وهم في إنتظار عمارة الفنش صاحب قشتيلة، وأن كثيرًا من المسلمين سكان الساحل قد أخلوا ضياعهم، وصعدوا إلى الجبال.
وفي يوم الأربعاء سابع عشرينه: ورد الخبر بأن عشرة أغربة من عمارة الفنش وصلت إلى ساحل بيروت، فأخذت مركبًا مشحونًا بالبضائع، وأنهم باعوا ممن أسروا منه من المسلمين أربعين رجلاً، وأقلعوا من غير أن يقاتلهم أحد، فأمر بعرض أجناد ليخرجوا إلى السواحل، فبدأ الأمير تغري بردي الدوادار.
في يوم السبت سلخه: بعرضهم، على أيخرج منهم مائة جندي إلى رشيد والطينة.
شهر ذي الحجة، أوله يوم الأحد: في يوم الأربعاء رابعه: عرض الأمير تغري بردي الدوادار أجناد الحلقة المجردين، ولم يعين إلا من كان سجل إقطاعه بثلاثين ألف درهم فما فوقها، ثم عفوا من التجريدة لما جرت به عادتهم من تداول كلمة ألقاها الشيطان بينهم، أن من تعرض لأجناد الحلقة زالت دولته.
وفي يوم الأربعاء خامس عشرينه: قدم مبشرو الحاج وأخبرت كتبهم بكثرة المراعى ورخاء الأسعار وأمن الحجاج وسلامتهم، وأن الشريف بركات أمير مكة قابل الأمراء ولبس التشريف السلطاني على العادي، إلا أنه كانت وقعة قريب خليص بين أمير ركب الكركيين وبين حجاج ينبع، قتل فيها من الينابعة زيادة على عشرين رجلاً، ونهبت أموالهم، وبلغت نفقات السلطان في نفقات المماليك وصلات الأمراء والتراكمين وغيرهم وفي أثمان مماليك إشتراهم ونفقات تجاريد جردها وغير ذلك، في مدة أولها موت الأشرف برسباى وأخرها سلخ هذه السنة، وذلك مدة ثلاث سنين، مبلغ ثلاثة آلاف ألف دينار ذهبًا، وهي ما خلفه الأشرف برسباى من الذهب والدراهم والبهار، والجمال، والخيل، وثياب الحرير، والبعلبكي، وأنواع الفرو، ومن الغلال والقنود، والأعسال، والسلاح، وغير ذلك، مع ما دخل إلى الخزانة في أيام سلطنته وهو نحو خمسمائة ألف دينار، نفذ ذلك كله، وعلى الله العوض.
وفي هذا الشهر: زاد النيل بعد نقصه حتى تجاوز إثني عشر ذراعان وذلك في بشنس.
وفيه وردت تقدمة أربعة من القاضي زين الدين عبد الباسط، بعد ما وصلت له كاملية بفرو سمور، وحجرة بقماش كامل، فكانت تقدمته هذه خيلاً وفرواً وثياب وحرير.
وفي هذه السنة: تجددت عمارة مواضع عديدة، منها مشهد السيدة رقية قريبًا من المشهد النفيسي كان قد إتخذه بعض الناس سكنًا، وتعطلت زيارته مدة سنين، فجدد عمارته السيد بدر الدين حسين بن الفراء نقيب الأشراف، في أول شعبان.
وفي هذا الشهر: أيضًا جددت عمارة جامع الصالح طلائع بن رزيك خارج باب زويلة، وقام بذلك رجل من الباعة وجدد أيضًا جامع الفاكهيين بالقاهرة، وجامع الفخر بخط سويقة الموفق قريب من بولاق وجدد أيضًا عمارة جامع الصارم قريب من بولاق.
وفي يوم الجمعة رابع شهر رمضان: أقيمت الجمعة بالجامع الذي أنشأه في هذه السنة الطواشي جوهر نائب مقدم المماليك بالرميلة تحت القلعة.
وفي أول شوال: أقيمت الجمعة بالجامع الذي أنشأه الأمير تغري بردي البكلمشي الدوادار المعروف بالمؤذي، بخط الصليبة. وأما اليمن فقد خرج عن متملكها ضياع تعز، وحسبه أنه يحفظها، فإن البلاد خرجت عنه من زبيد إلى بيت حسين، وصارت العرب المعازبة تركب في نحو ألف فارس.

.ومات في هذه السنة مما له ذكر:

موفق الدين علي بن أبي بكر الناشري، قاضي القضاة ببلاد اليمن، في خامس عشرين صفر بمدينة تعز عن تسعين سنة. ومات الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير صارم الدين إبراهيم بن الأمير منجك اليوسفي، في يوم الأحد خامس عشر شهر ربيع الأول، عن نحو سبعين سنة بدمشق، وكان يوصف بدين وعفة، وحظي في الدولة المؤيدية شيخ، والدولة الأشرفية برسباي، وكان يقدم في كل سنة إلى السلطان بهدية، ويشاور في الأمور، وكان له غنى وثراء، وأفضال على قوم يعتقدهم بدمشق.
ومات سعد الدين إبراهيم بن المرة في يوم الخميس عاشر شهر ربيع الآخر بالقاهرة، وقد أناف على الستين سنة بعد ما تعطل من المباشرة، ولزمه دين كبير، حبس من أجله مدة، إحتاج فيها إلى سؤال الناس، وكان له بر وأفضال، وكان حشمًا، يحب الفخر ويكثر من إتلاف المال، فاللّه يعفو عنه.
ومات مبارك شاه رسول القان شاه رخ مات بغزة في يوم الأحد ثالث عشر ربيع الآخر، وكان يوصف بمعرفة وفضيلة وعقل. ومات الخواجا كلان بن مبارك شاه المذكور، قام بعد موت أبيه، وقدم بالهدية والكتاب إلى السلطان وهو متمرض، فمثل بين يدي السلطان حتى ثقل مرضه، ومات في يوم الثلاثاء تاسع جمادي الأولى، فدفن خارج باب النصر من القاهرة ثم نقل هو وأَبوه إلى القدس، فدفنا هناك ومات القاضي شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن رسلان البلقيني، المعروف بالعجمي الشافعي قاضي المحلة، في يوم الثلاثاء رابع عشر جمادي الأولى، وكان من فضلاء الشافعية.
ومات قاضي القضاة محب الدين أبو الفضل أحمد ابن شيخنا جلال الدين نصر اللّه ابن أحمد بن محمد بن عمر الششتري الأصل، البغدادي المولد والمنشأ، الحنبلي، في يوم الأربعاء خامس عشر جمادي الأولى، ومولده ببغداد في شهر رجب سنة خمس وستين وسبعمائة، وقدم القاهرة في سنة ثمان وثمانين، ولزم شيخنا صلاح الدين محمد بن الأعمى الحنبلي، وتفقه به، وواظب شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني وشيخنا سراج الدين عمر بن الملقن، وبرع في الفقه والأصول والحديث والعربية، وقرأ بنفسه وسمع على شيوخنا عدة كتب، وناب في الحكم عن ابن المغلي، ثم ولي القضاء مستقلاً عدة سنين حتى مات، ودرس في عدة مواضع، ولم يخلف في الحنابلة بعده مثله، ولا أعلم فيه ما يعاب به، لكثرة نسكه ومتابعته للسنة، إلا أنه ولي القضاء، فاللّه تعالى يرضى عنه أخصامه.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن بوالي بدمشق في سابع عشره، وقد ولي أستاداراً في الأيام المؤيدية شيخ، ثم إستمر أستادارًا بدمشق، وهو معدود من الظلمة.
ومات القاضي شهاب الدين أحمد بن عيسى الحنبلي، أحد نواب الحكم بالقاهرة، في يوم الخميس ثالث عشر جمادي الأولى، وقد رأس، وشكرت سيرته، وإشتهر بالعفة.
ومات أمين الدين عبد اللّه بن سعد الدين أبي الفرج بن تاج الدين موسى، في يوم الأحد ثالث جمادي الآخرة وكانت له رياسة ضخمة في أيام أبيه سعد الدين ناظر الخاص، وتولى بعده نظر الإصطبل، ثم إنحط قدره، وتكسح، وعرف بصحبة جماعة من أهل الدول، فإذا دخل إليهم خدمه حتى يجلس ثم يحملوه إذا ركب، وحج غير مرة، وشاهدته وهو محمول يطوف بالبيت، وبلوت منه مروءة وخفة روح، عفي اللّه عنه.
ومات الأمير سيف الدين الطنبغا المرقبي في يوم الإثنين عاشر شهر رجب، وهو من جملة المؤيدية، عمله المؤيد شيخ في أيام تلك الفتن بقلعة المرقب من عمل طرابلس، فأقام بها مدة فعرف بينهم بالمرقبي، فلما تسلطن، رقاه حتى صار أمير مائة مقدم ألف حاجب الحجاب، ثم حمل بعد موت المؤيد طول الأيام الأشرفية، وتلاشت أحواله. فلما كانت أيام السلطان الملك الظاهر جقمق، إنتعش وصار من جملة الأمراء الألوف حتى مات بها.
ومات زين الدين قاسم بن البشتكي، في يوم السبت ثامن رجب، بناحية يبنا من عمل فلسطين، ولم يدفن إلا في يوم الإثنين عاشره، وكان حشمًا سريًا فخوراً، له ثراء واسع ومال جم، ورثه، وأفضال كثير، وفضيلة، ثم تردد إلى مجلس السلطان الملك المؤيد، واختص به مدة، إلى أن تنكر له وضربه وشهره، فاتضع جانبه، وصار يكثر من الترداد إلى يبنا، حتى مات بها، فاللّه يرحمه، فلقد شاهدنا منه كرمًا جمًا، وإفضالاً زائدًا، ومروءة غزيرة، ونعمة ضخمة.
ومات الأمير ممجق نائب قلعة الجبل في أول يوم من رجب، وهو ممن إنتشأ في الأيام الظاهرية جقمق.
ومات الأمير الطواشي صفي الدين جوهر السيفي قنقباي اللالا زمام الدور خازندار السلطان في ليلة الإثنين أول شعبان عن نحو سبعين سنة، وصلى عليه السلطان، ودفن بمدرسته، بجوار الجامع الأزهر. وكان من جملة هدية الحطي داود بن سيف أرعد ملك بلاد الحبشة إلى السلطان الملك الظاهر برقوق، فأنعم به على الأمير قنقباى اللالا، لالا المقام الناصري محمد ولد السلطان، فرباه وهو صغير، وأقرأه القرآن العظيم، ثم خدم من بعد قنقباي جماعة من الأمراء، زمامًا لدورهم، وعارك خطوب الدهر ألوانًا، حتى إستدعاه الأشرف برسباى، وعمله خازندارَا، فتمكن منه ممكنًا زائدًا، وإنبسطت يده في تحصيل الأموال للذخيرة بقوة وشهامة وضبط، فلما مات الأشرف أضيفت إليه أزمة الدور، فباشر ذلك حتى مات، ولم يخلف في أبناء جنسه بعده مثله، وكان عفيفًا، له بر وأفضال مع رصانة عقل، وجد من غير هزل، وكان مهابًا يتلو القرآن بالسبع، إلا أنه فتن بصحبة السلطان، فحرص على رضاه، وإقتحم المهالك، بحيث أنه لم يكن في الدولة الأشرفية أحد أخص منه بالسلطان ولا أقوى تمكنًا، فاللّه يعفو عنه. بمنه.
ومات القاضي شرف الدين الأشقر، وإسمه أبو بكر بن سليمان، المعروف بابن العجمي الحلبي، نائب كاتب السر، في يوم الأربعاء تاسع رمضان، وقد أناف على الستين، قدم من حلب في أيام الأمير جمال الدين يوسف أستادار، وعنده يومئذ بنت أخي جمال الدين، فنوه به، وأقره في توقيع الدوادار الكبير، فيعد من رؤساء القاهرة، حتى زالت دولة جمال الدين، فنكب في جملة من نكب من ألزامه نكبة نجاه الله منها، بعدما أشفى على الهلاك، فلما كانت الأيام المؤيدية شيخ عاد إلى ما كان عليه من مباشرة الترقيع عند الأستادارية مدة سنين ثم رغب عن ذلك، وباشر في ديوان الإنشاء مع ابن مزهر كاتب السر ومن بعده، وصار نائب كاتب السر، به حل الديون وعقده، ثم ولي كتاب السر بحلب مدة، وتركها لولده معين الدين، وعاد إلى نيابة كتابة السر حتى مات، وكان ماهرًا بصناعة الإنشاء، جميل المحاضرة، بشوشًا، متوددًا، حشمًا، فخورًا، له فضيلة، وسيرته مشكورة.
ومات العبد الصالح شهاب الدين أحمد بن حسين بن حسن بن رسلان الفقيه الشافعي المحدث المفسر بمدينة القدس، في يوم الإثنين عشرين شهر رمضان عن إحدى وسبعين سنة، ولم يخلف بتلك الديار بعده مثله علمًا ونسكًا.
ومات القاضي شمس الدين محمد بن شعبان في حادي عشرين شوال عن نيف وستين سنة وولي حسبة القاهرة مرارًا عديدة، ولا فضل ولا فضيلة.
ومات الشيخ نور الدين على بن عمر بن حسن بن حسين التلواني، في يوم الإثنين ثالث عشرين ذي القعدة، وقد أناف على الثمانين، وأصل آبائه من بلاد المغرب، وسكن أبوه ناحية جروان، وأقرأ الأطفال القرآن. ثم تحول إلى تلوانه وولد له بها علي وغيره، ثم قدم على القاهرة وتفقه على مذهب الإمام الشافعي رحمه اللّه حتى درس وأفتى، وولي مشيخة الخانقاه الركنية بيبرس ثم عزل عنها وولي تدريس المدرسة الناصرية بجوار قبة الإمام الشافعي من القرافة مدة سنين. وكان دينًا خيرًا، له مروءة وفيه قوة، وله أفضال، رحمه اللّه.
ومات الشيخ شمس الدين محمد بن عمار محمد المالكي في يوم السبت رابع عشر شهر ذي الحجة عن نيف وثمانين سنة، وقد كتب على الفتوى ودرس، وصار ممن يعتقد فيه الخبر.
ومات الرئيس إبراهيم بن فرج اللّه بن عبد الكافي الإسرائيلي اليهودي الداودي العافاني، في يوم الجمعة عشرين ذي الحجة، وقد أناف على السبعين ولم يخلف بعده من يهود مصر مثله في كثرة حفظ نصوص التوارة، وكتب الأنبياء، وفي تنسكه في دينه، مع حسن علاجه لمعرفته بالطب وتكسبه به. وكان يقر بنبوة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ويجهر بأنه رسول إلى العرب، ويقول في المسيح عيسى بن مريم عليه السلام إنه صدق، وهذا خلاف ما يقوله اليهود لعنهم اللّه وخزاهم فما أكثر طعنهم في أنبياء اللّه ورسله، على ما وقفت عليه من أقوالهم من كتبهم.
ومات شهاب الدين أبى العباس أحمد بن صالح بن تاج الدين المحلي الشافعي، في يوم الأربعاء ثامن عشر ذي الحجة، وكان فاضلاً في الفقه والفرائض والنحو وله سلوك ونسك، وللناس فيه إعتقاد، ودرس وخطب مدة، رحمه اللّه تعالى.