فصل: سنة تسع وثلاثين وستمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة تسع وثلاثين وستمائة:

فيها شرع الملك الصالح في عمارة المدارس الصالحية بين القصرين. وفيها غلت الأسعار بمصر، وأبيع القمح كل أردب بدينارين ونصف، وقدم جمال الدين بن مطروح من طرابلس- في البحر- إلى القاهرة، وكثرت قصاد المظفر صاحب حماة إلى مصر.
وفي يوم الأحد تاسع عشري ربيع الأول: كسف جميع جرم الشمس، وأظلم الجو، وظهرت الكواكب، وشغل الناس السرح بالنهار.
وفيها قدم الشيخ عز الدين بن عبد السلام إلى مصر، وقد أخرجه الصالح إسماعيل من دمشق، فأكرمه الملك الصالح نجم الدين، وولاه خطابة جامع عمرو بن العاص بمصر، وقلده قضاء مصر والوجه القبلي يوم عرف عوضاً عن قاضي القضاة شرف الدين ابن عين الدولة، عندما كتب السلطان بخطه إلى ابن عين الدولة، في يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر ما نصه: إن القاهرة لما كانت دار المملكة، وأمراء الدولة وأجنادها مقيمون بها، وحاكمها مختص بحضور دار العدل، تقدمنا أن يتوفر القاضي على القاهرة وعملها لا غير. وفوض السلطان قضاء القضاة بمصر وعملها- وهو الوجه القبل- لبدر الدين أبي المحاسن يوسف السنجاري: المعروف بقاضي سنجار. فلما مات ابن عين الدولة استقر البدر السنجاري في قضاء القاهرة، وفوض قضاء مصر والوجع القبلي لابن عبد السلام.
وفيها كثر تردد الناس إلى فخر الدين يوسف ابن شيخ الشيوخ، بعدما أطلقه السلطان في السجن فكره السلطان ذلك، وأمره أن يلازم داره.
وفيها بلغ السلطان أن الناصر داود صاحب الكرك قد وافق الصالح إسماعيل صاحب دمشق، والمنصور إبراهيم صاحب حمص، وأهل حلب، على محاربته، فسير السلطان كمال الدين بن شيخ الشيوخ على عسكر إلى الشام، فخرج إليه الناصر وقاتله ببلاد القدس، وأسره في عدة من أصحابه، ثم أطلقهم، وعادوا إلى القاهرة. وكان من خبر ذلك أنه في يوم الأربعاء ثاني عشر صفر، وقع عسكر الناصر داود على الأمير عز الدين أيبك صاحب صرخد، وقد نزل على الغوار، فكسره وأخذ الأثقال، وكان معه الأمير شمس الدين شرف- المعروف بالسبع مجانين- وشمس الدين أبو العلاء الكرديان، وشرف الدين بن الصارم صاحب بنين، وكان مقدم عسكر الناصر سيف الدين بن قلج، وجماعة من الأيوبية من عسكر مصر.
وفيها سار الخوارزمية إلى الموصل، فسالمهم صاحبها بحر الدين لؤلؤ نصيبين، ووافقهم المظفر شهاب الدين غازي بن العادل، صاحب ميافارقين، ثم ساروا إلى آمد فخرج إليهم عسكر حلب، عليه المعظم فخر الدين توران شاه بن صلاح الدين، فدفعوهم عنها، ونهبوا بلاد ميافارقين، وجرت بينهم وبين الخوارزمية وقائع ثم عاد العسكر إلى حلب، فغار الخوارزمية على رساتيق الموصل.
وفيها فلج المظفر صاحب حماة في شعبان وهو جالس بغتة، فأقام أياماً ملقي لا يتحرك ولا يتكلم، ثم أفاق وبطل شقه الأيمن فسير إليه الملك الصالح نجم الدين أيوب من مصر بطبيب يعرف بالنفيس بن طليب النصراني، فلم ينجح فيه دواء، واستمر كذلك سنين وشهوراً حتى مات.
وفي خامس عشر ذي القعدة: قدم الأمير ركن الدين ألطونبا الهيجاري من القاهرة إلى دمشق، وكان الملك الصالح نجم الدين قد بعثه في شهر رمضان إلى الناصر داود، ليصلح بينه وبين الملك الجواد، حتى بقى على طاعة الصالح نجم الدين، فلما وصل إلى غزة هرب إلى دمشق، وأخذ معه جماعة من العسكر ولحق الجواد بالفرنج، وأقام عندهم.
وفيها وصل الملك المنصور نور الدين عمر بن علي رسول من اليمن في عسكر غير إلى مكة، في شهر رمضان، ففر المصريون بعدما أحرقوا دار الإمارة بمكة، حتى تلف ما كان بها من سلاح وغيره.

.سنة أربعين وستمائة:

في ربيع الأول: أبطلت خطة ملك الروم من دمشق، وخطب للملك الصالح نجم الدين أيوب.
وفي يوم الجمعة رابع جمادى الأولى: دخل الفرنج من عكا إلى نابلس، ونهبوا وقتلوا وأسروا، وأخذوا منبر الخطيب، وخرجوا يوم الأحد بعد ما أفسدوا أموالاً كثيرة.
وفي يوم السبت ثامن عشر المحرم: وصل إلى القاهرة الشريف علاء الدين عالم بن الأمير السيد علي.
وفيها وصل التتار إلى أرزن الروم، وأوقع الملك المظفر غازي، صاحب ميلادقين بالخوارزمية. وفيها ماتت ضيفة خاتون ابنة العادل أبي بكر بن أيوب، ليلة الجمعة لإحدى عشرة خلت من جمادى الأولى فاستبد ابن ابنها الناصر يوسف بن الظاهر غازي بمملكة حلب بعدها، وقام بتدبيره بعد جدله الأمير شمس الدين لؤلؤ الأتابك، والأمير جمال الدين العادل الأسود الحسن، الخاتون، والوزير الأكرم جمال الدين بن النفطي، وخرج إقبال من حلب بعسكر، وحارب الخوارزمية، ثم عاد.
وفيها مات الخليفة المستنصر بالله جعفر المنصور بن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد ابن الناصر لدين الله أحمد العباس أمير المؤمنين بكرة يوم الجمعة لعشر خلون من جمادى الآخرة، وكاد سبب موته أنه فصد بمبضع مسموم. فكانت خلافته سبع عشرة سنة وشهر، وقيل مات في ثاني عشريه، وكانت مدته خمس عشرة سنة وأحد عشر شهراً وخمسة أيام، وله من العمر إحدى وخمسون سنة وأربعة أشهر وسبعة أيام. وكان حازماً عادلاً، وفي أيامه عمرت بغداد عمارة عظيمة، وبني بها المحرسة المستنصرية، وفي أيامه قصد التتر بغداد، فاستخدم العساكر حتى قيل إنها زادت عدتها على مائة ألف إنسان. فقام من بعده في الخلافة ابنه المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله، وقام بأمره أهل الدولة، وحسنوا له جمع الأموال، وإسقاط أكثر الأجناد، فقطع كثيراً من العساكر، وسالم التتر، وحمل إليهم المال.
وفيها بني بعض غلمان الصاحب معين الدين ابن شيخ الشيوخ، وزير الملك الصالح نجم الدين أيوب، بناء بأمر مخدومه على سطح مسجد بمصر، وجعل فيه طبلخاناه عماد الدين ابن شيخ الشيوخ، فأنكر ذلك قاضي القضاة عز الدين بن عبد السلام، ومضى بنفسه وأولاده، حتى هدم البناء، ونقل ما على السطح، ثم أشهد قاضي القضاة على نفسه أنه قد أسقط شهادة الوزير معين الدين، وأنه قد عزل نفسه من القضاء فلما فعل ذلك ولي الملك الصالح عوضه قضاء مصر صدر الدين أبا منصور موهوب ابن عمر بن موهوب بن إبراهيم الجزري الفقيه الشافعي، وكان ينوب عن ابن عبد السلام في الحكم، في ثالث عشري ذي القعدة.
وفيها قدم مكة الحاج من بغداد، بعدما انقطع ركب العراق سبع سنين عن مكة وكان من خبر مكة- شرفها الله تعالى- أن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بعث ألف فارس عليهم الشريف شيحة بن قاسم أمير المدينة، في سنة سبع وثلاثين، فبعث الملك المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول من اليمن بابن النصيري، ومعه الشريف راجح، إلى مكة في عسكر كبير، ففر الشريف شيحة بمن معه، وقدم القاهرة، فجهز السلطان الملك الصالح معه عسكراً قدم بهم مكة، في سنة ثمان وثلاثين، وحجوا بالناس، فبعث ابن رسول من اليمن عسكراً كبيراً، فطلب عسكر مصر من السلطان الملك الصالح نجدة، فبعث إليهم بالأمير بارز الدين علي بن الحسين برطاس، والأمير مجد الدين أحمد بن التركماني، في مائة وخمسين فارساً، فلما بلغ ذلك عسكر اليمن أقاموا على السرين، وكتبوا إلى ابن رسول بذلك، فخرج بنفسه في جمع كبير يريد مكة، ففر المصريون على وجوههم، وأحرقوا ما في دار السلطان بمكة من سلاح وغيره، فقدم الملك المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول مكة، وصام بها شهر رمضان، سنة تسع وثلاثين، واستناب بمكة مملوكه فخر الدين الشلاح.

.سنة إحدى وأربعين وستمائة:

فيها قدم التتر بلاد الروم، وأوقعوا بالسلطان غياث الدين كيخسرو بن كيقباد بن يخسرو بن قلج أرسلان، وهزموه وملكوا بلاد الروم وخلاط وآمد، فدخل غياث الدين في طاعتهم، على مال يحمله إليهم، وملكوا أيضاً سيواس وقيسارية بالسيف وقرروا على صاحبهما في كل سنة أربعمائة ألف دينار ففر غياث الدين منهم إلى القسطنطينية، وقام من بعده ركن الدين ابنه- وهو صغير- إلى أن قتل.
وفيها تكررت المراسلة بين الصالح نجم الدين أيوب، وبين عمه الصالح إسماعيل صاحب دمشق، وبين المنصور صاحب حمص، على أن تكون دمشق وأعمالها للصالح إسماعيل، ومصر للصالح أيوب، وكل من صاحب حمص وحماة وحلب على ما هو عليه، وأن تكون الخطة والسكة في جميع هذه البلاد للملك الصالح نجم الدين أيوب وأن يطلق الصالح إسماعيل الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك الصالح نجم الدين من الاعتقال، وأن يخرج الأمير حسام الدين أبو علي بن محمد بن أبي علي باشاك الهذباني، المعروف بابن أبي علي من اعتقاله ببعلبك، وأن ينتزع الصالح إسماعيل الكرك من الملك الناصر داود، فلما تقرر هذا خرج من القاهرة الخطب أصيل الدين الإسعردي- إمام السلطان- في جماعة، وسار إلى دمشق، فخطب للسلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بجامع دمشق وبحمص، وأفرج عن المغيث ابن السلطان، وأركب ثم أعيد إلى القلعة، حتى يتم بينهما الحلف، وأفرج عن الأمير حسام الدين، وكان قد ضيق عليه وجعل في جب مظلم فلما وصل حسام الدين إلى دمشق خلع عليه الصالح إسماعيل، وسار إلى مصر، ومعه رسول الصالح إسماعيل، ورسول صاحب حمص- وهو القاضي عماد الدين بن القطب قاضي حماة- ورسول صاحب حلب، فقدموا على الملك الصالح نجم الدين، ولم يقع اتفاق، وعادت الفتنة بين الملوك، فاتفق الناصر داود صاحب الكرك، مع الصالح إسماعيل صاحب دمشق، على محاربة الملك الصالح نجم الدين وعاد رسول حلب، وتأخر ابن القطب بالقاهرة، فبعث الناصر داود والصالح إسماعيل، ووافقا الفرنج على أنهم يكونون عوناً لهم على الملك الصالح نجم الدين، ووعداهم أن يسلما إليهم القدس وسلماهم طبرية وعسقلان أيضاً فعمر الفرنج قلعتيهما وحصونهما، وتمكن الفرنج من الصخرة بالقدس، وجلسوا فوقها بالخمر، وعلقوا الجرس على المسجد الأقصى.
فبرز الملك الصالح نجم الدين أيوب من القاهرة، ونزل بركة الجب وأقام عليها، وكتب إلى الخوارزمية يستدعيهم إلى ديار مصرة لمحاربة أهل الشام، فخرجوا من بلاد الشرق.
وفي يوم عيد النحر: صرف الملك الصالح نجم الدين قاضي القضاة صدر الدين موهوب الجزري، وقلد الأفضل الخونجي قضاء مصر والوجه القبلي.
وفيها هرب الصارم المسعودي من قلعة الجبل، وقد صبغ نفسه حتى صار أسوداً، على صورة عبد كان يدخل إليه بالطعام، فأخذ من بلبيس، وأعيد إلى معتقله. وفيها أنشأ شهاب الدين ريحان- خادم الخليفة- رباط الشرابي بمكة، وعمر بعرفة أيضاً.

.سنة اثنتين وأربعين وستمائة:

فيها ورد إلى دمشق كتاب بدر الدين لؤلؤ، صاحب الموصل، وفيه يقول: إني قررت على أهل الشام قطيعة التتر في كل سنة، من الغني عشرة دراهم، ومن المتوسط خمسة دراهم، ومن الفقير درهم فقرأ القاضي محيي الدين بن زكي الدين الكتاب على الناس، ووقع الشروع في جباية المال.
وفيها قطع الخوارزمية الفرات، ومقدموهم: الأمير حسام الدين بركة خان، وخان بردى، وصاروخان، وكشلوخان، وهم زيادة على عشرة آلاف مقاتل، فسارت منهم فرقة على بقاع بعلبك، وفرقة على غوطة دمشق، وهم ينهبون ويقتلون ويسبون، فانجفل الناس من بين أيديهم، وتحصن الصالح إسماعيل بدمشق، وضم عساكره إليه، بعدما كانت قد وصلت غزة وهجم الخوارزمية على القدس، وبذلوا السيف في من كان به من النصارى، حتى أفنوا الرجال، وسبوا النساء والأولاد، وهدموا المباني التي في قمامة، ونبشوا قبور النصارى، وأحرقوا رممهم، وساروا إلى غزة فنزلوها، وسيروا إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب- في صفر- يخبرونه بقدومهم، فأمرهم بالإقامة في غزة، ووعدهم ببلاد الشام، بعدما خلع على رسلهم، وسير إليهم الخلع والخيل والأموال، وتوجه في الرسالة إليهم جمال الدين أقوش النجيبي، وجمال الدين بن مطروح، وجهز الملك الصالح نجم الدين أيوب عسكراً من القاهرة عليه الأمير ركن الدين بيبرس، أحد مماليكه الأخصاء الذين كانوا معه وهو محبوس بالكرك، فسار إلى غزة، وانضم إلى الخوارزمية جماعة من القميرية، كانوا قد قدموا معهم من الشرق، ثم خرج الأمير حسام الدين أبو علي- بن محمد بن أبي علي الهذباني بعسكر، ليقيم على نابلس.
وجهز الصالح إسماعيل عسكراً من دمشق، عليه الملك المنصور صاحب حمص، فسار المنصور جريدة إلى عكا، وأخذ الفرنج ليحاربوا معه عساكر مصر، وساروا إلى نحو غزة، وأتتهم نجدة الناصر داود صاحب الكرك مع الظهير بن سنقر الحلبي والوزيري، فالتقى القوم مع الخوارزمية بظاهر غزة، وقد رفع الفرنج الصلبان على عسكر دمشق، وفوق رأس المنصور صاحب حمص، والأقسة تصلب، وبأيديهم أواني الخمر تسقي الفرسان وكان في الميمنة الفرنج، وفي الميسرة عسكر الكرك، وفي القلب المنصور صاحب حماة، فساق الخوارزمية وعساكر مصر، ودارت بين الفريقين حرب شديدة، فانكسر الملك المنصور، وفر الوزيري، وقبض على الظهير وجرح. وأحاط الخوارزمية بالفرنج، ووضعوا فيهم السيف حتى أتوا عليهم قتلاً وأسراً، ولم يفلت منهم إلا من شرد، فكان عدة من أسر منهم ثمانمائة رجل، وقتل منهم ومن أهل الشام زيادة على ثلاثين ألفاً، وحاز الخوارزمية من الأموال ما يجل وصفه، ولحق المنصور بدمشق في نفر يسير.
وقدمت البشارة إلى الملك الصالح نجم الدين بذلك في خامس عشر جمادى الأولى، فأمر بزينة القاهرة ومصر وظواهرهما، وقلعتي الجبل والروضة، فبالغ الناس في الزينة، وضربت البشائر عدة أيام.
وقدمت أسرى الفرنج ورءوس القتلى، ومعهم الظهير بن سنقر وعدة من الأمراء والأعيان، وقد أركب الفرنج الجمال، ومن معهم من المقدمين على الخيول، وشقوا القاهرة، فكان دخولهم يوما مشهوداً، وعلقت الرءوس على أبواب القاهرة وملئت الحبوس بالأسرى، وسار الأمير بيبرس، والأمير ابن أبي علي بعساكرهما إلى عسقلان، ونازلاها فامتنعت عليهم لحصانتها فسار ابن أبي علي إلى نابلس، وأقام بيبرس على عسقلان، واستولت نواب الملك الصالح نجم الدين على غزة والسواحل، والقدس والخليل، وبيت جبريل والأغوار، ولم يبق بيد الناصر داود سوى الكرك والملقاء، والصلت وعجلون.
فورد الخير بموت الملك المظفر تقي الدين محمود بن المنصور بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب صاحب حماة، في يوم السبت ثامن جمادى الأول، فاشتد حزن الملك الصالح نجم الدين أيوب عليه، ثم ورد الخبر بموت ابنه الملك المغيث عمر بقلعة دمشق، فزاد حزنه، وقوي غضبه على عمه الصالح إسماعيل، وقدم إلى القاهرة الخطيب زين الدين أبو البركات عبد الرحمن بن موهوب من حماة، بسيف الملك المظفر، ومعه تقدمة من عند ابن الملك المنصور ناصر الدين محمد، لتسع مضين من شوال.
وخرج الصاحب معين الدين الحسن بن شيخ الشيوخ على العساكر من القاهرة، ومعه الدهليز السلطاني والخزائن، وأقامه السلطان مقام نفسه، وأذن له أن يجلس على رأس السماط ويركب كما هي عادة الملوك وأن يقف الطواشي شهاب الدين رشيد أستادار السلطان في خدمته على السماط، ويقف أمير جاندار والحجاب بين يديه، كعادتهم في خدمة السلطان، وكتب إلى الخوارزمية أن يسيروا في خدمته. فسار الصاحب معين الدين من القاهرة بالعساكر إلى غزة، وانضاف إليه الخوارزمية والعسكر إلى غزة، وانضاف إليه الخوارزمية والعسكر، وسار إلى بيسان، فأقام بها مدة، ثم سار إلى دمشق فنازلها، وقد امتنع بها الصالح إسماعيل والمنصور إبراهيم صاحب حمص، وعاثت الخوارزمية في أعمال دمشق، فبعث الصالح إسماعيل إلى ابن شيخ الشيوخ بسجادة وإبريق وعكاز، وقال له: اشتغالك بهذا أولى من اشتغالك بقتال الملوك.
فلما وصل ذلك إليه جهز إلى الصالح إسماعيل جنكا وزمراً وغلالة حرير، وقال: السجادة والإبريق والعكاز يليقون بي، وأنت أولى بالجنك والزمر والغلالة، واستمر الصاحب معين الدين على محاصرة دمشق، فبعث الخليفة بمحيي الدين بن الجوزي إلى الملك الصالح نجم الدين ومعه خلعة، وهي عمامة سوداء، وفرجية مذهبة، وثوبان ذهب، وسيف بذهب، وطوق ذهب، وعلمان حرير، وحصان وترس ذهب، فلبس الملك الصالح نجم الدين الخلعة على العادة وكانت الأقاويل بمصر قد كثرت لمجيئه، وتأخر قدومه، فقال الصلاح بن شعبان الإربلي:
قالوا الرسول أتي قالوا إنه ** ما رام يوماً عن دمشق نزوحا

ذهب الزمان وما ظفرت بمسلم ** يروي الحديث عن الرسول صحيحا

وفيها قتل أمير بني مرين محمد بن عبد الحق محيو بن أبي بكر بن حمامة، في حربه مع عسكر الموحدين وولي بعده أخوه أبوه يحيي بن عبد الحق.
وفيها ورد كتاب بدر الدين لؤلؤ من الموصل بجباية قطعة التتر من دمشق، فقرأ كتاب القاضي محيي الدين من الزكي على العادة.
وفيها استوزر الخليفة أستاداره مؤيد الدين محمد بن العلقمي، في ثامن ربيع الأول، عوضاً عن نصير الدين أبي الأزهر أحمد بن محمد بن علي بن العاقد.
وفيها استولي التتر على شهر زور.
وفيها بلغ الأردب القمح بمصر أربعمائة درهم نقرة.

.سنة ثالث وأربعين وستمائة:

فيها كثرت محاربة ابن شيخ الشيوخ لأهل دمشق ومضايقته للبلد إلى أن أحرق قصر حجاج في ثاني محرم، ورمي بالمجانيق وألح بالقتال.
فأحرق الصالح إسماعيل في ثالثه عدة مواضع، ونهبت أموال الناس، وجرت شدائد إلى أن أهل شهر ربيع الأول، ففيه خرج المنصور صاحب حمص من دمشق، وتحدث معه بركة خان مقدم الخوارزمية في الصفح، وعاد إلى دمشق فأرسل الوزير أمين الدولة كمال الدين أبو الحسن بن غزال المعروف بالسامري إلى الصاحب معين الدين بن شيخ الشيوخ، يسأله الأمان ليجتمع به، فبعث إليه بقميص وفرجية وعمامة ومنديل، فلبس ذلك وخرج ليلاً، لأيام مضت من جمادى الأولى، فتحادثا ورجع إلى دمشق، ثم خرج في ليلة أخرى، وقرر أن الصالح إسماعيل يسلم دمشق، على أن يخرج منها هو والمنصور بأموالهم، ولا يعرض لأحد من أصحابهم ولا لشيء مما معهم، وأن يعوض الصالح عن دمشق ببعلبك وبصرى وأعمالها، وجميع بلاد السواد، وأن يكون للمنصور حمص وتدمر والرحبة، فأجاب أمين الدولة إلى ذلك، وحلف الصاحب معين الدين لهم، فخرج الصالح إسماعيل والمنصور من دمشق.
ودخل الصاحب معين الدين في يوم الاثنين ثامن جمادى الأولى، ومنع الخوارزمية من دخول دمشق ودبر الأمير أحسن تدبير، وأقطع الخوارزمية الساحل بمناشير كتبها لهم، ونزل في البلد، وتسلم الطواشي شهاب الدين رشيد القلعة، وخطب بها وبجامع دمشق وعامة أعمالها للملك الصالح نجم الدين، وسلم أيضاً الأمير سيف الدين علي بن قلج قلعة عجلون لأصحاب الملك الصالح، وقدم إلى دمشق، فلما وردت الأخبار بذلك على السلطان أنكر على الطواشي شهاب الدين والأمراء كيف مكنوا الصالح إسماعيل من بعلبك، وقال: إن معين الدين حلف له، وأما أنتم فما خلفتم، وأمر الملك الصالح نجم الدين أن يسير ركن الهيجاوي، والوزير أمين الدولة السامري، تحت الحوطة إلى قلعة الروضة، فسيرا من دمشق إلى مصر، واعتقلا بقلعة الجبل فاتفق مرض الصاحب معين الدين ووفاته بدمشق، في ثاني عشري شهر رمضان، فكتب السلطان إلى الأمير حسام بن أبي علي الهذباني، وهو بنابلس، أن يسير إلى دمشق ويتسلمها، فسار إليها وصار نائباً بدمشق، والطواشي رشيد بالقلعة، وأفرج السلطان عن الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ- وكان قد لزم بيته- وخلع عليه وأمره وقدمه، وبالغ في الإحسان إليه، وكان لم يبق من أولاد شيخ الشيوخ غيره.
وأما الخوارزمية، فإنهم ظنوا أن السلطان إذا انتصر على عمه الملك الصالح إسماعيل يقاسمهم البلاد، فلما منعوا من دمشق، وصاروا في الساحل وغيره من برد الشام، تغيرت نياتهم، واتفقوا على الخروج عن طاعة السلطان، وساروا إلى داريا وانتهبوها، وكاتبوا الأمير ركن الدين بيبرس وهو على غزة بعسكر جيد من عساكر مصر، وحسنوا له أن يكون معهم يداً واحدة ويزوجوه منهم، فمال إليهم، وكاتبوا الناصر داود صاحب الكرك، فوافقهم ونزل إليهم واجتمع بهم وتزوج منهم، وعاد إلى الكرك واستولى على ما كان بيد الأمير حسام الدين بن أبي علي، من نابلس والقدس والخليل، وبيت جبريل والأغوار.
وخاف الصالح إسماعيل، فكاتب الخوارزمية وقدم إليهم، فحلفوا له على القيام بنصرته، ونازلوا دمشق، فقام الأمير حسام الدين بن أبي علي بحفظ البلد أحسن قيام، وألح الخوارزمية- ومعهم الصالح إسماعيل- في القتال ونهب الأعمال، وضايقوا دمشق، وقطعوا عنها الميرة، فاشتد الغلاء بها، وبلغت الغرارة القمح إلى ألف وثمانمائة درهم فضة، ومات كثير من الناس جوعاً، وباع شخص داراً قيمتها عشرة آلاف درهم، بألف وخمسمائة درهم اشتري بها غرارة قمح، فقامت عليه في الحقيقة بعشرة آلاف درهم، وأبيع الخبز كل أوقية وربع بدرهم، واللحم كل رطل بسبعة دراهم، ثم عدمت الأقوات بالجملة، وأكل الناس القطط والكلاب والميتات، ومات شخص بالسجن، فأكله أهل السجن، وهلك عالم عظيم من الجوع والوباء، واستمر هذا البلاء ثلاثة أشهر، وصار من يمر من الجبل يشتم ريح نتن الموتى، لعجز الناس عن مواراة موتاهم، ولم تنقطع مع هذا الخمور والفسوق من بين الناس.
وأخذ الملك الصالح نجم الدين مع ذلك في أعمال الحيل والتدبير، وما زال بالمنصور إبراهيم صاحب حمص حتى مال إليه، واتفق أيضاً مع الحلبيين على محاربة الخوارزمية، فخرج الملك الصالح نجم الدين من القاهرة بعساكر مصر، ونزل العباسة، فوافاه بها رسل الخليفة، وهما الملك محمد ابن وجه السبع، وجمال الدين عبد الرحمن بن محيي الدين أبي محمد يوسف بن الجوزي في آخر شوال، ومعهما التقليد والتشريف الأسود: وهو عمامة سوداء وجبة وطوق ذهب، وفرس بمركوب بحلية ذهب، فنصب المنبر، وصعد عليه جمال الدين عبد الرحمن محيي الدين بن الجوزي الرسول، وقرأ التقليد بالدهليز السلطاني، والسلطان قائم على قدميه، حتى فرغ من القراءة، ثم ركب السلطان بالتشريف الخليفتي، فكان يوماً مشهوداً. وكان قد حضر أيضاً من عند الخليفة تشريف باسم الصاحب معين الدين بن شيخ الشيوخ، فوجد أنه قد مات، فأمر السلطان أن يفاض على أخيه الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ، فلبسه.
فلما بلغ الخوارزمية مسير السلطان من مصر، ومسير الملك المنصور إبراهيم صاحب حمص بعساكر حلب، رحلوا عن دمشق يريدون لقاء المنصور. فوجد أهل دمشق برحيلهم فرجاً، ووصلت إليهم الميرة، وانحل السعر.

.سنة أربع وأربعين وستمائة:

فيها أرسل الملك الصالح نجم الدين أيوب القاضي نجم الدين محمد بن سالم النابلسي، المعروف بابن قاضي نابلس- وكان متقدماً عنده- إلى مملوكه الأمير ركن الدين بييرس، فما زال يخدعه ويمنيه، حتى فارق الخوارزمية، وقدم معه إلى ديار مصر، فاعتقل بقلعة الجبل، وكان آخر العهد به.
وفيها عظمت مضرة الخوارزمية ببلاد الشام، وكثر نهبهم للبلاد، وسفكهم للدماء وانتهاكهم للحرمات، والتقوا مع الملك المنصور إبراهيم صاحب حمص وعساكر حلب، وقد انضم إليهم عرب كثير وتركمان، نصرة للملك الصالح نجم الدين، وذلك بظاهر حمص أول يوم من المحرم، وقيل ثانيه فكانت بينهم وقعة عظيمة انهزم فيها الخوارزمية هزيمة قبيحة، تبدد منها شملهم، ولم يقم لهم بعدها قائمة وقتل مقدمهم بركة خان وهو سكران، وأسر كثير منهم واتصل من فر منهم بالتتار، وفيهم من مضى إلى البلقاي وخدم الملك الناصر داود صاحب الكرك، فتزوج الناصر منهم، واختص بهم، وقويت شوكته وسار بعضهم إلى نابلس، فاستولوا عليها، ووصل بعض من كان معهم ممن انهزم إلى حران، ولحق أيبك المعظمي بقلعة صرخد وامتنع بها، وسار الصالح إسماعيل إلى حلب في عدة من الخوارزمية، فأنزله الملك الناصر صاحب حلب وأكرمه، وقبض على من قدم معه من الخوارزمية ووردت البشرى بهذه الهزيمة إلى السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب في المحرم، فزينت القاهرة ومصر والقلعتان.
وسار الأمير حسام الدين بن أبي علي الهذباني من دمشق، واستولى على بعلبك بغير حرب في رجب، وحمل منها الملك المنصور نور الدين محمود بن الملك الصالح إسماعيل، وأخذه الملك السعيد عبد الملك إلى الديار المصرية تحت الاحتياط، فاعتقلوا وزينت القاهرة لفتح بعلبك زينة عظيمة، هي ومصر، وكان أخذ بعلبك عند السلطان أحسن موقعاً من أخذه لدمشق، حنقا منه على عمه الصالح إسماعيل، وانصلحت الحال بين السلطان وبين المنصور صاحب حمص والناصر صاحب حلب، واتفقت الكلمة وبعث السلطان إلى حلب يطلب تسليم الصالح إسماعيل، فلم يجب إلى تسليمه وأخرج السلطان عسكراً كبيراً، قدم عليه الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ وسيره لمحاربة الكرك، فسار إلى غزة، وأوقع بالخوارزمية، ومعهم الناصر داود صاحب الكرك في ناحية الصلت، وكسرهم وبدد شمالهم، وفر الناصر إلى الكرك في عدة.
وكانت الكسرة على الصلت في سابع عشري ربيع الآخر، وسار فخر الدين عنها بعد ما حرقها واحتاط على سائر بلاد الناصر، وولي عليها النواب ونازل فخر الدين الكرك، وخرب ما حولها، واستولى على البلقاء، وأضعف الناصر حتى سأله الأمان، فبعث فخر الدين يطلب منه من عنده من الخوارزمية، فسيرهم الناصر إليه، فسار عن الكرك وهم في خدمته ثم نازل فخر الدين بصرى، حتى أشرد على أخذها، فنزل به مرض أشفى منه على الموت وحمل في محفة إلى القاهرة، وبقي العسكر حتى استولوا عليها، وقدم المنصور إبراهيم صاحب حمص إلى دمشق منتمياً إلى السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب فنزل به مرض مات به في صفر، فخزن عليه السلطان حزناً كثيراً، لأنه كان يتوقع وصوله إليه فقام من بعده بحمص ابنه الأشرف مظفر الدين موسى.
وفيها تسلم الملك الصالح نجم الدين عجلون، بوصية صاحبها سيف الدين بن قلج عند موته. وفيها سير الصاحب جمال الدين أبو الحسن يحيى بن عيسى بن إبراهيم بن مطروح إلى دمشق وزيراً وأميراً، وأنعم عليه بسبعين فارساً بدمشق، وصرف الأمير حسام الدين بن أبي علي الهذباني عن نيابة دمشق، وولى مكانه الأمير مجاهد الدين إبراهيم، وأقر الطواشي شهاب الدين بالقلعة على حاله، فلما دخل ابن مطروح إلى دمشق خرج منها الأمير حسام الدين، وسار إلى القاهرة، فلما قدم على السلطان، وهو بقلعة الجبل، أقره في نيابة السلطنة بديار مصر، وأنزله بدار الوزارة من القاهرة.
وخرج السلطان بالعساكر في شوال يريد دمشق من قلعة الجبل، واستناب بديار مصر الأمير حسام الدين بن أبي علي، فدخل إلى دمشق في سابع عشر ذي القعدة، وكان دخوله يوماً مشهوداً، فأحسن إلى الناس، وخلع على الأعيان، وتصدق على أهل المدارس والربط وأرباب البيوت بأربعين ألف درهم، وسار بعد خمسة عشر يوماً إلى بعلبك، فرتب أحوالها، وأعطى لأهل المدارس والربط وأرباب البيوت عشرين ألف درهم، وسار إلى بصرى، وقد تسلمها نواب السلطان من الأمير شهاب الدين غازي، تائب الملك الصالح إسماعيل، فتصدق على مدارس بصرى وربطها وأرباب البيوت بعشرين ألف درهم وجهز السلطان الأمير ناصر الدين القيمري، والصاحب الدين بن مطروح، إلى صلخد وبها الأمير عز الدين أيبك المعظمي، فمازالا به حتى سلم صلخد، وسار إلى مصر، وتصدق السلطان في القدس بألفي دينار مصرية، وأمر بذرع سور القدس، فكاد ذراعه ستة آلاف ذراع بالهاشمي، فأمر بصرف مغل القدس في عمارته، وإن احتاج إلى زيادة حملت من مصر. وفيها سار الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ بعسكر إلى طبرية، فنازلها حتى أخذها من يد الفرنج، وهدم الحصون.
وفيها مات الملك العادل أبو بكر بن الكامل محمد خنقا، بقلعة الجبل. وقيل كان خنقه قبل هذه السنة، وقيل بل كان في ستة خمس وأربعين، والقول الثاني أثبت. وسبب قتله أنه كان معتقلاً في برج العافية من قلعة الجبل، فلما عزم السلطان على المسير إلى الشام، بعث يأمره أن يتوجه إلى قلعة الشوبك ليعتقل بها، فامتنع من ذلك، فبعث السلطان إليه من خنقه، وأشاع أنه مات، ثم ظهر أمره وأخرج ابنه المغيث عمر إلى الشوبك، فاعتقل بها، ولما مات العادل دفن خارج باب النصر، ولم يجسر أحد يبكي عليه ولا يذكره، وترك العادل ولداً يقال له الملك المغيث عمر، أنزل إلى القاهرة عند عماته، ثم أخرج إلى الشوبك. وكان عمر العادل يوم مات نحو ثلاثين سنة، وأقام مسجوناً نحو ثماني سنين. وفيها وقع الاختلاف بين الفرنج.