فصل: سنة سبع وثلاثين وثمانمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة سبع وثلاثين وثمانمائة:

أهلت هذه السنة وخليفة الوقت المعتضد بالله داود. وسلطان الإسلام بمصر والشام، والحجاز وقبرس الملك الأشرف برسباي. والأمير الكبير سودن من عبد الرحمن. وأمير سلاح أينال الجكمي. وأمير مجلس أقبغا التمرازي. ورأس نوبة الأمير تمراز القرمشي، وأمير أخور جقمق. والدوادار أركماس الظاهري. وحاجب الحجاب قرقماس. والوزير وأستادار كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ. وكاتب السر كمال الدين محمد بن ناصر الدين محمد بن البارزي. وناظر الجيش القاضي زين الدين عبد الباسط، وهو عظيم الدولة وصاحب تدبيرها. وناظر الخاص سعد الدين إبراهيم ابن كاتب حكم. وقضاة القضاة على حالهم. ونواب السلطنة وملوك الأطراف كما تقدم في السنة الخالية.
والنيل قد تأخر وفاءه، والناس لذلك في قلق وتخوف، وقد كثر تكالبهم على شراء الغلة، وبلغ القمح إلى مائة وأربعين درهماً الأردب. على أن الذهب بمائتين وخمسة وثمانين درهماً الدينار.
شهر الله المحرم، أوله الثلاثاء: فيه نودي على النيل برد ما نقص، وزيادة ثلاثة أصابع، فعظم سرور الناس بذلك، وباتوا على ترجي الوفاء، فنودي من الغد- يوم الأربعاء ثانيه، وسادس عشرين مسرى- بوفاء النيل ستة عشر ذراعاً، وزيادة إصبعين من سبعة عشر ذراعاً، فكاد معظم الناس يطير فرحاً. وغيظ من عنده غلال يتربص بها الغلاء، ففتح الخليج على العادة.
وفي ثالثه: قدم مبشرو الحاج.
وفي ثاني عشره: ورد الخبر بمسير السلطان من دمشق، بمن معه في أوله فنودي بالزينة، فزين الناس الحوانيت. ووافق هذا اليوم أول توت، وهو نوروز أهل القبط بمصر. وماء النيل على سبعة عشر ذراعاً وثمانية أصابع.
وفيه قدمت أثقال كثير من العسكر.
وفي رابع عشره: قدم الأمير أيتمش الخضري من القدس، وتتابع مجيء الأثقال من أمتعة العسكر وجمالهم، واستعد الناس للملاقاة.
وفيه خرج المقام الجمالى يوسف ابن السلطان، لملاقاة أبيه.
وفيه أمطرت السماء، ولم نعهد قبله مطراً في فصل الصيف، فأشفق أهل المعرفة على النيل أن ينقص، فإن العادة جرت بأن المطر إذا نزل في أيام الزيادة هبط ماء النيل، فكان كذلك، ونقص في يوم الجمعة ثامن عشره، وقد بلغت زيادته سبعة عشر ذراعاً، وثمانية عشر إصبعاً. وكان نقصه في هذا اليوم ستة وعشرين إصبعاً، فشرق من أجل هذا كثير من أراضي مصر، لفساد الجسور، وإهمال حفر الترع.
وفي يوم الأحد عشرينه: قدم السلطان بمن معه من سفره، ومر من باب النصر في القاهرة، وقد زينت لقدومه، فنزل بمدرسته، وصلى بها ركعتين، ثم ركب وخرج من باب زويلة إلى القلعة. وخلع على أرباب الدولة، فكان يوماً مشهوداً.
وفيه خلع على الأمير تاج الدين الشويكي، وأعيد إلى ولاية القاهرة على عادته، مع ما بيده من شد الدواوين وغيره.
وفي ثاني عشرينه: قدم سوابق الحاج. ونزل المحمل ببركة الحاج في غده، وقد مات من الحاج بطريق المدينة من شدة الحر عدة كثيرة.
شهر صفر: أهل بيوم الخميس، وقلق الناس متزايد، فإن النيل تراجع نقصه، حتى صار على سبعة عشر ذراعاً. ثم نقص تسعة أصابع، فشره الناس في ابتياع الغلال، وشح أربابها بها. فبلغ الأردب القمح مائة وثمانين درهماً، والشعير مائة وأربعين. وفقد الخبز من الأسواق عدة ليالي وفيه ألزم السلطان الوزير الصاحب كريم الدين أستادار بحمل ما توفر من العليق بالديوان المفرد في مدة السفر، وهو خمسون ألف أردب، وما توفر من العليق بديوان الوزارة، وهو عشرون ألف أردب، وبعث إلى النواحي من يتسلمها منه.
وفي ثاني عشرينه: عزل داود التركماني من كشف الوجه القبلي، وسلم إلى الأمير أقبغا الجمالي أستادار- كان- وقد أنعم عليه بإمرة طبلخاناه، عوضاً عن تنبك المصارع.
وفي هذا الشهر: ظهر في جهة المغرب بالعشايا كوكب الذؤابة وطوله في الرمحين، ورأسه في قدر نجم مضيء، ثم برق، حتى تبقى ذنبه كشعب برقة الشعر وذنبه مما يلي المشرق.
وفيه أيضاً توالت بروق ورعود وأمطار غزيرة متوالية بالوجه البحري، وفي بلاد غزة والقدس.
وفيه أيضاً أخذ الفرنج قريباً من طرابلس الغرب تسع مراكب، تحمل رجالاً وبضائع بآلاف دنانير، وتصرفوا في ذلك بما أحبوا.
شهر ربيع الأول، أوله الجمعة: في ليلة الجمعة ثامنه: عمل السلطان المولد النبوي على العادة. وفي هذه الأيام انحل سعر الغلال لقلة طالبها. وكان ظن الناس خلاف ذلك.
وفيها طلب السلطان بعض الكتاب، فهرب منه فرسم بهدم داره، فهدمت حتى سوى بها الأرض.
وفيها أمر بإحراق معصرة بعض المماليك، فأحرقت بالنار حتى ذهبت كلها.
وفي ثاني عشره: ركب السلطان في موكب ملوكي، وسار من قلعة الجبل، فعبر من باب زويلة، وخرج من باب القنطرة يريد الرماية بالجوارح لصيد الكراكي ثم عاد في آخر رابع عشره.
وفي خامس عشره: نصب المدفع الذي أعد لحصار آمد، وهو مكحلة من نحاس زنتها مائة وعشرون قنطاراً مصرياً. وكان نصبها فيما بين باب القرافة وباب الدرفيل، فرمت إلى جهة الجبل بعدة أحجار، منها ما زنته خمسمائة وسبعون رطلاً. وقد جلس السلطان بأعلا سور القلعة لمشاهدة ذلك، واجتمع الناس. واستمر الرمي بها عدة أيام.
وفي تاسع عشره: رسم أن يخرج الأمير الكبير سودن بن عبد الرحمن إلى القدس بطالاً، فاستعفى من سفره وسأل أن يقيم بداره بطالا، فأجيب إلى ذلك، ولزم داره، وأنعم بإقطاعه زيادة في الديوان المفرد. ولم يقرر أحد عوضه في الإمرة.
وفي هذا الشهر: ثارت رياح عاصفة بمدينة دمياط، فتقصفت نخيل كثيرة، وتلف كثير من قصب السكر المزروع، وهدمت عدة دور، وخرج الناس إلى ظاهر البلد لهول ما هم فيه. وسقطت صاعقة فأحرقت شيئاً كثيراً ونزل مطر مغرق. ولم يكن بالقاهرة شيء من هذا.
وفي سادس عشرينه: خلع على شمس الدين محمد بن شهاب الدين أحمد بن محمود ابن الكشك، واستقر في قضاء الحنفية بدمشق، عوضاً عن أبيه بعد وفاته، بمال وعد به. وفيه خلع على عبد العظيم بن صدقة الأسلمي، وأعيد إلى نظر ديوان المفرد، عوضاً عن تاج الدين الخطير. وكان قد ترك ذلك تنزهاً عنه من قبل سفر السلطان إلى الشام، ولم يباشر أحد عوضه.
شهر ربيع الآخر، أوله السبت: فيه خلع على دولات شاه المعزول من ولاية القاهرة، واستقر في ولاية المنوفية والقليوبية وفي ثالثه سرح السلطان للصيد وعاد في خامسه.
وفي عاشره: خلع السلطان على الأمير أينال الششماني، واستقر في نيابة مدينة صفد عوضاً عن الأمير مقبل بعد وفاته. واستقر خليل بن شاهين في نظر الإسكندرية، عوضاً عن فخر الدين بن الصغر. وخليل هذا أبوه من مماليك الأمير شيخ الصفوي، وسكن القدس، وبه ولد له خليل هذا ونشأ.
ثم قدم القاهرة من قريب، واستقر حاجب الإسكندرية. ثم عزل، فسعى في النظر بمال، حتى وليه مع الحجوبية.
وفي حادي عشره: خلع على الأمير أقبغا الجمالي، واستقر كاشف الوجه البحري، عوضاً عن حسن باك بن سقل سيز التركماني، وأضيف له كشف الجسور أيضاً.
وفي ثالث عشره: ركب السلطان بعد الخدمة، ومعه ناظر الجيش، وكاتب السر، والتاج الشويكي. ونزل إلى المارستان المنصوري للنظر في أحواله ليلى التحدث فيه بنفسه، فإنه لم يول نظره أحداً بعد الأمير سودن بن عبد الرحمن.
وأقام الطواشي صفي الدين جوهر الخازندار لما عساه يحدث من الأمور، فاستمر على ذلك.
شهر جمادى الأولى: أوله الاثنين.
في سادسه: خلع على نظام الدين بن مفلح وأعيد إلى قضاء الحنابلة بدمشق. عوضاً عن عز الدين عبد العزيز البغدادي.
وفي ثامن عشرينه: استقر حسين الكردي في كشف الوجه البحري عوضاً عن أقبغا الجمالي، بعد قتله في خامس عشرينه، في حرب كانت بينه وبين عرب البحيرة. وقتل معه جماعة من مماليكه ومن العربان وخلع على الوزير أستادار كريم الدين جبه بفرو سمور؛ ليتوجه إلى البحيرة- ومعه حسين الكردي- لعمل مصالحها، واسترجاع ما نهبه أهلها من متاع أقبغا الجمالي. وكتب إليهم بالعفو عنهم، وأن أقبغا تعدى عليهم في تحريق بيوتهم، وأخذ أولادهم، ونحو ذلك مما يطمئنهم، عسى أن يؤخذوا بغير فتنة ولا حرب.
وفي ليلة الجمعة سادس عشرينه: وقع بمكة المشرفة مطر غزير، سالت منه الأودية، وحصل منه أمر مهول على مكة، بحيث صار الماء في المسجد الحرام مرتفعاً أربعة أذرع. فلما أصبح الناس يوم الجمعة ورأوا المسجد الحرام بحر ماء، أزالوا عتبة باب إبراهيم، حتى خرج الماء من المسفلة، وبقي بالمسجد طين في سائر أرضه قدر نصف ذراع في ارتفاعه فانتدب عدة من التجار لإزالته.
وتهدم في الليلة المذكورة دور كثيرة، يقول المكثر زيادة على ألف دار. ومات تحت الردم اثنا عشر إنساناً، وغرق ثمانية أنفس. ودلف سقف الكعبة، فابتلت الكسوة التي بداخلها، وامتلأت القناديل التي بها ماء. وحدث عقيب ذلك السيل بمكة وأوديتها، وبأطرق من اليمن.
شهر جمادى الآخرة: أوله الثلاثاء.
فيه أحصي ما بالإسكندرية من القزازين، وهم الحياك، فبلغت ثمانمائة نول، بعد ما بلغت عدتها في أيام محمود أستادار- أعوام بضع وتسعين وسبعمائة- أربعة عشر ألف نول ونيف، شتت أهلها ظلم ولاة الأمور وسوء سيرتهم.
وفي ثالثه: سار الوزير إلى البحيرة.
وفي ثاني عشره: رسم بإعادة أبي السعادات جلال الدين محمد بن أبي البركات ابن أبي السعود بن زهيرة إلى قضاء الشافعية بمكة، عوضاً عن جمال الدين محمد بن علي بن الشيبي بعد موته.
وفي سابع عشره: رجم مماليك الطباق بالقلعة المباشرين عند خروجهم من الخدمة السلطانية؛ لتأخر جوامكهم بالديوان المفرد عن وقت إنفاقها.
وفي يوم السبت سادس عشرينه: أصبح السلطان ملازماً للفراش من آلام حدثت في باطنه من ليلة الخميس، وهو يتجلد لها إلى عصر يوم الجمعة، فاشتد به الألم، وطلب رئيس الأطباء، فحقنه في الليل مراراً. وأصبح لما به، فلم يدخل إليه أحد من المباشرين. وبعث بمال فرقه في الفقراء. وما زال محجوباً عن كل أحد، وعنده نديماه ولي الدين محمد بن قاسم، والتاج الشويكي فقط.
ثم دخل في يوم الثلاثاء تاسع عشرينه الأمراء لعيادته وقد تزايد ألمه. ثم خرجوا سريعاً، فأبل تلك الليلة من مرضه.
شهر رجب الفرد، أوله الخميس: فيه عملت الخدمة السلطانية بالبيسرية، وقد زال عن السلطان ما كان به من الألم. وشهد الجمعة من الغد بالجامع على العادة. وخلع على الأطباء في يوم السبت ثالثه. ثم ركب في يوم الخميس ثامنه، وشق القاهرة من باب زويلة، ومضى إلى خليج الزعفران بالريدانية، وعاد إلى القلعة.
وفي ثاني عشره: أدير محمل الحاج على العادة.
وفي خامس عشره: نودي في القاهرة بسفر الناس إلى مكة صحبة الأمير أرنبغا وقد عين أن يسافر بطائفة من المماليك، فأخذ طائفة من الناس في التأهب للسفر.
وفي سابع عشرينه: قدم الأمير بربغا التنمي الحاجب بسيف الأمير شار قطلوا نائب الشام، وقد مات بعد ما مرض خمسة وأربعين يوماً، في تاسع عشره.
وفيه قدم الوزير من البحيرة، وقد مهد أمورها على ما يجب.
وفي تاسع عشرينه: كتب بانتقال الأمير قصروه من نيابة حلب إلى نيابة دمشق، عوضاً عن شارقطلوا، وأن يتوجه له بالتشريف وتقليد النيابة الأمير خجا سودن، نوبة من أمراء الطبلخاناه. وخلع على الأمير قرقماس الشعباني حاجب الحجاب واستقر في نيابة حلب، عوضاً عن الأمير قصروه، وأن يتوجه متسفره الأمير شادي بك رأس نوبة من الطبلخاناه. وخلع على الأمير يشبك المشد الظاهري ططر، واستقر حاجب الحجاب عوضاً عن قرقماس. وأنعم بإقطاع قرقماس على الأمير أقبغا التمرازي أمير مجلس، وبإقطاع أقبغا على الأمير يشبك المذكور. وخلع على الأمير أينال الجمكي أمير سلاح، واستقر أميراً كبيراً أتابك العساكر، وكانت شاغرة منذ لزم سودن بن عبد الرحمن داره.
وخلع على الأمير جقمق أمير أخور، واستقر أمير سلاح، عوضاً عن الأمير أينال الجمكي. وخلع على الأمير تغري برمش، واستقر أمير أخور عوضاً عن جقمق. وأخرج سودن بن عبد الرحمن إلى دمياط. وسار الأمير بربغا التنمي؛ ليبشر الأمير قصروه بنيابة الشام.
شهر شعبان، أوله الجمعة:
فيه نودي ألا يتعامل الناس بالدراهم القرمانيِة ونحوها بما يجلب من البلاد، وأن تكون المعاملة بالدراهم الأشرفية فقط، وأن يكون الذهب والفلوس على ما هما عليه. وذلك أنه كان قد عزم السلطان على تجديد ذهب ودراهم وفلوس، وإبطال المعاملة. مما بأيدي الناس من ذلك، فكثر اختلاف أهل الدولة عليه بحسب أغراضهم. ولم يعزم على أمر، فأقر النقود على حالها، وجمع الصيارفة، وضرب عدة منهم وشهرهم من أجل الدراهم القرمانية وإخراجها في المعاملة، وقد نهوا عن ذلك مراراً فلم ينتهوا.
وفي سابعه: خلع على الأمير الكبير أينال الجكمي، واستقر في نظر المارستان المنصوري على عادة من تقدمه.
وفى تاسعه: رزت المماليك المتوجهة إلى مكة صحبة الأمير أرنبغا، ورافقهم عدة كبيرة من الرجال والنساء يريدون الحج والعمرة.
وفي هذا الشهر:- والذي قبله- فرض السلطان على جميع بلاد الشرقية والغربية والمنوفية والبحيرة وسائر الوجه البحري خيولاً تؤخذ من أهل النواحي.
وكان يؤخذ من كل قرية خمسة آلاف درهم فلوساً عن ثمن فرس، ويؤخذ من بعض النواح عشرة آلاف عن ثمن فرسين. ويحتاج أهل الناحية مع ذلك إلى مغرم لمن يتولى أخذ ذلك منهم. وأحصي كُتاب ديوان الجيش قرى أرض مصر كلها- قبليها وبحريها- فكانت ألفين ومائة وسبعين قرية. وقد ذكر المسَّبحي أنها عشرة آلاف قرية فانظر تفاوت ما بين الزمنين.
وفي رابع عشره: برز الأمير قرقماس نائب حلب، في تجمل حسن بالنسبة إلى الوقت؛ ليسير إلى محل كفالته. وخلع عليه خلعة السفر ططري بفرو سمور ومن فوقه قباء نخ بفرو قاقم.
وفي تاسع عشره: ختن السلطان ولده، المقام الجمالي يوسف، وأمه أم ولد اسمها جلبان، جركسية وختن معه نحو الأربعين صبياً، بعد ما كساهم. وقدم له المباشرون ذهباً وحلاوات، فعمل مهما للرجال وللنساء، أكلوا فيه وشربوا.
وكتبتُ عند ذلك كتاباً سميته الأخبار عن الأعذار، وما جاء فيه من الأخبار والآثار، وما لأئمة الإسلام فيه من الأحكام، وما فعله الخلفاء والملوك. وفيه من المآثر الجسام، والأمور العظام، لم أُسبق بمثله فيما علمت.
وفي يوم السبت ثالث عشرينه: فُقد الوزير كريم الدين ابن كاتب المناخ، فخلع على أمين الدين إبراهيم بن مجد الدين عبد الغني بن الهيصم ناظر الدولة، واستقر في الوزارة.
وفي يوم الأربعاء سابع عشرينه: ظهر الوزير كريم الدين، وصعد إلى القلعة، فخلع عليه قباء من أقبية السلطان. ونزل على أنه أستادار. ثم خلع عليه من الغد، فكان موكبه جليلاً إلى الغاية. وقد ألزم السلطان في غيبة الوزير عظيم الدولة، القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش بإقامة دواداره جانبك أستادار، فلم يرض بذلك خوف العاقبة، وأخذ يسعى في دفع ذلك عنه حتى أعفي، فعين سعد الدين إبراهيم بن كاتب حكم ناظر الخاص أستادار، فما زال يسعى في الإعفاء، حتى ظهر الوزير كريم الدين، فتنفس خناق الجميع. وفيه قدم الحمل من قبرس على العادة في البحر في كل سنة.
وفي هذا الشهر: اشتد الوباء بمكة وأوديتها، حتى بلغ بمكة في اليوم عدة من يموت خمسين، ما بين رجل وامرأة.
شهر رمضان، أوله السبت: في ثامنه: ورد الخبر من دمياط بأخذ الكيتلان من الفرنج خمس مراكب من ساحل بيروت، فيها بضائع كثيرة ورجال عديدة. وبعث ملكهم إلى والي دمياط كتاباً ليوصله إلى السلطان، يتضمن جفاء ومخاشنة في المخاطبة؛ بسبب إلزام الفرنج أن يشتروا الفلفل المعد للمتجر السلطاني، فغضب السلطان لما قرئ عليه، ومزقه.
وفي هذه الأيام: قطع عدة مرتبات للناس على الديوان المفرد، وعلى الاصطبل السلطاني، وعلى ديوان الوزارة. وذلك ما بين نقد في كل شهر، ولحم في كل يوم، وقمح في كل سنة. واغتنم لذلك كثير من الناس وكانت العادة أن تكثر الصدقات والهبات في شهر رمضان، فاقتضى الحال قطع الأرزاق لضيق حال الدولة.
وفيها عينت تجريدة في النيل لتركب بحر الملح من دمياط، وتجول فيما هنالك، عسى تنكف عادية الفرنج ويقل عبثهم وفسادهم.
وفي ثاني عشرينه: دخل الأمير قرقماس إلى حلب. فما كاد أن يستقر بها حتى ورد الخير بوقعة كانت بين الأمير أينال الأجرود نائب الرها وبين أصحاب قرا يلك، انهزم فيها. فأخذ في أهبة السفر إلى الرها.
وفي هذا الشهر: تناقص الوباء بمكة.
شهر شوال، أوله الاثنين:
وأتفق في الهلال ما لم يذكر مثله، وهو أن أرباب تقويم الكواكب، اقتضى حسابهم أن هلال شهر رمضان في ليلة السبت يكون مع جرم الشمس، فلا يمكن رؤيته. فلما غربت الشمس تراءى السلطان بمماليكه من فوق القلعة الهلال، وتراءاه الناس من أعلى الموادن والأسطحة بالقاهرة ومصر وما بينهما وما خرج عنهما، وهم ميون ألوف، فلم ير أحد منهم الهلال، فانفضوا وقد أظلم الليل.
وإذا برجل ممن يتكسب في حوانيت الشهود بتحمل الشهادة جاء إلى قاضي القضاة الشافعي، وشهد بأنه رأى الهلال، فأمر أن يرفع للسلطان. فلما مثل بين يديه ثبت وصمم على رؤيته الهلال. وكان حنبلياً، وهو من أقارب نديم السلطان ولي الدين بن قاسم، فبالغ في الثناء عليه عند السلطان، فأمر بإثبات الهلال، فأثبت بعض نواب قاضي القضاة الحنبلي بشاهدة هذا الشاهد أول رمضان، ونودي في الليل بصوم الناس من الغد بأنه من رمضان. فاصبح الناس صائمين، وألسنتهم تلهج بالوقيعة في القضاة والشهود، وتمادوا على ذلك، فتوالت الكتب من جميع أرض مصر، قبليها وبحريها، ومن البلاد الشامية وغيرها. بأنهم تراءوا الهلال ليلة السبت، فلم يروه، وأنهم صاموا يوم الأحد. فلما كان ليلة الاثنين التي يزعم الناس أنها أول ليلة من شوال، تراءى الناس الهلال من القلعة، وبالقاهرة ومصر وما بينهما وحولهما، فلم يزوره، فجاء بعض نواب القضاة، وزعم أنه رآه، وأنه شهد عنده برؤيته من أَثبت بشهادته أن هلال شوال غدا يوم الاثنين، فكانت حادثة لم ندرك قبلها مثلها، وهي أن الهلال بعد الكمال عدة ثلاثين يوماً لا يراه الجم الغفير الذي لا يحصى عددهم إلا خالقهم، مع توفر دواعيهم على أن يروه، وقد خلت السماء من الغيم. وجرت العادة باًن يتساوى الناس في رؤيته، وأوجب ذلك تزايد الوقيعة في القضاء بل وفي سائر الفقهاء، حتى لقد أنشدني بعضهم لمحمود الوراق:
كنا نَفِر من الولاة ** الجائرين إلى القضاة

فالآن نحن نفر من ** جور القضاة إلى الولاة

وفي ثامنه: سارت التجريدة في النيل، وهي مائتا مملوك من المماليك السلطانية، ومائة من مماليك الأمراء. وعليهم ثلاثة أمراء من أمراء العشرات، بعد ما أنفق في كل مملوك ألف وخمسمائة درهم فلوساً، عنها خمسة دنانير وكسر. وفيه برز الأمير قرقماس نائب حلب إلى الرها.
وفي يوم الأربعاء ثالثه: وسط الأمير علم الدين حذيفة بن الأمير نور الدين علي بن نصير الدين، شيخ لواته، خارج القاهرة.
وفي ثامن عشره: قدم الخبر بوقعة أينال الأجرود المذكورة، وهي أن بعض من معه من أمراء حلب صادف بين بساتين الرها طائفة من التركمان، وهو يسير خيله، فقاتلهم وهزمهم. فلما بلغ ذلك أينال خرج من مدينة الرها نجدة له، فخرجت عليه ثلاث كمائن، فكانت بينه وبينهم وقعة، قتل فيها من الفريقين عدة. ولحق أينال بالمدينة، فوقع العزم على سفر السلطان. وكتب إلى بلاد الشام بتعبئة الإقامات من الشعير ونحوه.
وفي عشرينه: خرج محمل الحاج صحبة الأمير قرا سنقر إلى بركة الحاج، وصحبته كسوة الكعبة على العادة. وقد قدم من بلاد المغرب، ومن التكرور، ومن الإسكندرية وأعمال مصر حاج كثير، فتلاحقوا بالمحمل شيئاً بعد شيء.
ثم استقل الركب الأول بالمسير من البركة في ثاني عشرينه. ورحل الأمير قرا سنقر بالمحمل وبقية الحاج في ثالث عشرينه.
وكتب إلى البلاد الشامية بخروج نواب المماليك للحاق بالأمير قرقماس نائب حلب. ثم أبطل ذلك: وكتب بمنعهم من المسير، حتى يصح لهم نزول قرا يلك على الرها بجمائعه وبيوته. فإذا صح لهم ذلك ساروا لقتاله.
وفيه أيضاً كتب باستقرار خليل بن شاهين ناظر الإسكندرية وحاجبها في نيابة الثغر، مع النظر والحجوبية. وكان قد بعث بثلاثة آلاف دينار، ووعد بحمل مثلها، وسأل في ذلك فأجيب إليه.
ولم ندرك مثل ذلك، وهو أن يكون النائب حاجباً، فإن موضع الحاجب الوقوف بين يدي النائب والتصرف بأمره، هي الأيام كلها قد صرن عجائب حتى ليس فيها عجائب وقدم قلصد من بغداد كان قد توجه لكشف الأخبار، فأخبر أن أصبهان بن قرا يوسف لما أخذ بغداد من أخيه شاه محمد بن قرا يوسف أساء السيرة، بحيث أنه أخرج جميع من ببغداد من الناس بعيالاتهم وأخذ كل مالهم من جليل وحقير، فتشتتوا بنسائهم وأولادهم في نواحي الدنيا، وصارت بغداد وليس بها سوى ألف رجل من جند أصبهان، لا غير. وليس بها إلا ثلاثة أفران تخبز الخبز فقط، ولم يبق بها سكان ولا أسواق. وأنه أخرب الموصل حتى صارت يبابا، فإنه سلب نعم أهلها وأمر بهم فأخرجوا وتمزقوا في البلاد. واستولت عليها العربان، فصارت الموصل منازل العرب بعد التمدن الذي بلغ الغاية في الترف. وأنه أخذ أموال أهل المشهد، وأزال نعمهم، فتشتتوا بعيالهم. وصار من أهل هذه البلاد إلى الشام ومصر خلائق لا تعد ولا تحصى.
وفيه قدم جنيد- أحد أمراء أخورية- وقد توجه إلى أبي فارس عبد العزيز ملك المغرب، وعلى يده كتاب السلطان بمنع التجار من حمل الثياب المغربية المحشاة بالحرير من ملابس النساء، وأن يلزمهم بقود الخيول بدل ذلك. فوجده متوجها من بجاية إلى فاس، فأكرمه ونادى بذلك في عمله، وأجاب عن الكتاب. وبعث بهدية، هي ثلاثون فرساً، منها خمسة مسرجة ملجمة، ونحو مائتين وخمسين بعيراً وقدم صحبة جنيد ركب في نحو ألف بعير يريدون الحج.
وفي يوم الاثنين تاسع عشرينه: كسفت الشمس في آخر الساعة الرابعة، فتغير لونها تغيراً يسيراً، ولم يشعر بها أكثر الناس ولا اجتمعوا للصلاة بالجوامع على العادة؛ لقلة الشعور بذلك. ثم انجلى الكسوف سريعاً. وكان بعض من يزعم علم النجوم لقلة درايته وكثرة جرأته قد أرجف قبل ذلك بأيام، وشنع بأمر الكسوف، وما يدل عليه، حتى اشتهر إرجافه وتشنيعه، وداخل بعض الناس الوهم. فلما لم يكن من أمر الكسوف كبير شيء، طلب السلطان طائفة ممن يتحل هذا الفن من أهل التقويم، وأنكر عليهم وهددهم.
وفي هذه الأيام: قطعت أيضاً عدة مرتبات للناس من ديوان السلطان، ما بين عليق لخيولهم، ومبلغ دراهم في كل شهر.
وفيها ارتفع سعر الغلال قليلاً، فكان القمح من مائة وخمسين درهماً الأردب إلى ما دونها، فبلغ مائة وسبعين مع كثرته لزكاة الغلال وقت الدراس، ورخاء بلاد الشام والحجاز.
وفيها ظفر المجردون في البحر على بيروت بغراب للبنادقة، فيه صناديق مرجان ونقد وغير ذلك. وظفروا بمركب آخر للجنويين على طرابلس فيه بضائع، فأًحرقوه بما فيه، وأسروا سوى من غرق بضعاً وعشرين رجلاً.
وقتل من المماليك المجردين سبعة، فلم يحمد هذا من فعلهم، وذلك أن البنادقة والجنوية مسالمون المسلمين.
شهر ذي القعدة، أوله الأربعاء: فيه توجه الأمير جقمق أمير سلاح إلى مكة حاجاً، وسار معه كثير ممن قدم من المغاربة وغيرهم.
وفي ثالث عشره: ابتدئ بالنداء على النيل بزيادته، وقد أخذت القاعدة فكانت خمسة أذرع واثنين وعشرين إصبعاً، والنداء بزيادة ثلاثة أصابع.
شهر ذي الحجة: أهل بيوم الخميس، وسعر القمح قد ارتفع إلى مائتي درهم، والفول إلى مائتي درهم أيضاً. والشعير إلى مائة وسبعين لتكالب الناس على شرائه، مع استمرار زيادة النيل من غير توقف. لكنها عوائد سوء قد ألفوها منذ هذه الحوادث والمحن، أن يكثر إرجاف المرجفين بتوقف النيل، رغبة في بيع الغلال بأغلى الأثمان، فيأخذ كل أحد في شرائها، ويمسك أربابها ما بأيديهم منها، لا سيما أهل الدولة، يرتفع لذلك سعرها.
وفي يوم الأحد ثامن عشره: نودي بزيادة ماء النيل اثني عشر إصبعاً، لتتمة ثلاثة عشر ذراعاً، واثنتين وعشرين إصبعاً. ووافق هذا اليوم أول مسرى. وهذا القدر مما يستكثر من الزيادة في هذا الوقت، ويؤذن بعلو النيل وكثرة زيادته إن شاء الله تعالى.
وفي يوم السبت رابع عشرينه- وسابع مسرى-: نودي بزيادة عشر أصابع لتتمة ستة عشرة ذراعاً، وهي التي يقال لها أذرع الوفاء، وزيادة أربعة أصابع من سبعة عشر ذراعاً ويعد هذا من الأنيال الكبار، وفيه نادرتان، إحداهما زيادة عشر أصابع في يوم الوفاء، وقل ما يقع ذلك والنادرة الثانية وفاء النيل في هذا العام مرتين، إحداهما في ثاني المحرم كما تقدم، والأخرى هذا.
اليوم من ذي الحجة: ولا أذكر أني أدركت مثل ذلك. ونادرة ثالثة أدركنا مثلها مراراً، وهي الوفاء في سابع مسرى، بل أدركنا وفاه قبل ذلك من أيام مسرى، إلا أن ذلك قل ما وجد في الأنيال القديمة.
وفيه ركب المقام الجمالي يوسف ابن السلطان حتى خلق عمود المقياس بين يديه، ثم فتح الخليج على العادة، فكان يوماً مشهوداً.
وفي غده نودي على النيل بزيادة ثمانية أصابع لتتمة ستة عشر ذراعاً ونصف ذراع. ثم نودي من الغد بزيادة خمسة عشر إصبعاً لتتمة سبعة عشر ذراعا وثلاثة أصابع، وهذه الزيادة بعد الوفاء من النوادر أيضاً. فالله يحسن العاقبة.
وفي سادس عشرينه: قدم مبشرو الحاج، وأخروا بسلامتهم. وهذا أيضاً مما يندر وقوعه.
وفي هذه السنة: أخذ أفرنج ثماني عشرة مركباً من سواحل الشام، فيها من البضائع ما يجل وصفه، وقتلوا عدة ممن كان بها من المسلمين، وأسروا باقيهم.
وفيها طلق رجل من بني مهدي بأرض البلقاء امرأته وهي حامل، فنكحها رجل غيره، ثم فارقها، فنكحها رجل ثالث، فولدت عنده ضفدعاً في قدر الطفل، فأخذوه ودفنوه خوف العار.

.ومات في هذه السنة ممن له ذكر:

أحمد بن محمود بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن أبي العز قاضي القضاة، شهاب الدين أحمد بن قاضي القضاة محيي الدين المعروف بابن الكشك الحنفي، بدمشق في ليلة الخميس، سابع شهر ربيع الأول، وقد ولي قضاء القضاة الحنفية بدمشق مراراً. وجمع بينها وبين نظر الجيش. وكثر ماله، وصار عين دمشق، وعين لكتابة السر بديار مصر، فامتنع.
ومات الأمير مقبل نائب صفد بها، في يوم الجمعة تاسع عشرين ربيع الأول، وكان مشهوراً بالشجاعة. وهو أحد المماليك المؤيدية شيخ.
ومات قاضي مكة جمال الدين محمد بن علي أبي بكر الشيبي الشافعي بها، في ليلة الجمعة ثامن عشرين ربيع الأول، عن نحو سبعين سنة. وكان خيراً، ساكناً، سمحاً، مشكور السيرة، متواضعاً، ليناً؛ رحمه الله.
ومات الأمير أقبغا الجمالي الأستادار مقتولاً بالبحيرة، في حادي عشرين شهر ربيع الآخر، ومستراح منه.
ومات الشيخ أبو الحسن علي بن حسين بن عروة بن زكنون الحنبلي، الزاهد الورع، في ثاني عشر جمادى الآخرة، خارج دمشق، وقد أناف على الستين. وشرح مسند الإمام أحمد وكان في غاية الزهد والورع، منقطع القرين.
ومات الأمير شار قطلوا نائب الشام بها، في ليلة الاثنين تاسع عشر شهر رجب. وهو أحد المماليك الظاهرية. ومستراح منه.
ومات الشريف رميثة بن محمد بن عجلان مقتولاً خارج مكة، في خامس شهر رجب. وقد ولي إمارة مكة قبل ذلك ثم عزل. ولم يكن مشكوراً.
ومات تقي أبو بكر بن علي بن حجة- بكسر الحاء- الحموي، الأديب، الشاعر، في خامس عشرين شعبان، بحماة. ومولده سنة سبع وستين وسبعمائة. وقدم إلى القاهرة في الأيام المؤيدية، وصار من أعيانها.
ثم عاد بعد ذلك إلى حماة. وكان فيه زهو وإعجاب، وعلمه الأدب، فنظم كثيراً، وصنف شرحاً على بديعية نظمها بديع في بابه.
ومات ملك المغرب أبو فارس عبد العزيز بن أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر ابن يحيى بن إبراهيم بن يحيى بن عبد الواحد بن عمر بن ونودين الهنتاتي الحفصي، عن ست وسبعين سنة، منها مدة ملكه إحدى وأربعين سنة وأربعة أشهر وأيام. في رابع عشر ذي الحجة، بعد ما خطب له بتلمسان وفاس وكان خير ملوك زمانه صيانة، وديانة، وجوداً، وأفضالا، وعزماً، وحزماً، وحسن سياسة، وجميل طريقة. وقام من بعده حفيده المنتصر أبو عبد الله محمد ابن الأمير أبي عبد الله محمد ابن السلطان أبي فارس.
ومات ملك بغداد شاه محمد بن قرا يوسف بن قرا محمد، في ذي الحجة، مقتولاً على حصن من بلاد شاه رخ بن تيمور، ويقال شنكان، فأقيم بدله أمير زاه علي ابن أخي قرا يوسف وكان شر ملوك زمانه لفسقه وجوره وعتوه، إبطاله شرائع الإسلام، فإنه ربي بمدينة إربد، وصحب نصاراها، فلقن منهم عقائد سوء. فلما أقامه أبوه في بغداد بعد قتل أحمد بن أويس أظهر فيها سيرة جميلة، وعفة عن القاذورات المحرمة مدة سنين. وكان الغالب على دولته نصراني يعرف بعبد المسيح، فأظهر بعد ذلك تعظيم المسيح وفضله على من عداه، وصرح باعتقاده النصرانية: وأخرج عساكره من بغداد. وبقي في طائفة، فكثر في الأعمال قطاع الطريق حتى فسدت السابلة، وجلت الناس عن بغداد، وانقطع ركب الحاج منها، إلى أن غلبه أخوه أصبهان، وأخرجه من بغداد، فقتل، وأراح الله الناس منه. والله يلحق به من بقي من أخوته، فإنهم شر عصابة، سلطت على الناس بذنوبهم.
ومات سلطان بنجالة من بلاد الهند، جلال الدين أبو المظفر محمد بن فندو ويعرف بكاس. كان كاس كافراً، فثار على شهاب الدين مملوك سيف الدين حمزة ابن غياث الدين أعظم شاه بن اسكندر شاه بن شمس الدين، وملك منه بنجالة وأعمالها، وأسره. فثار عليه ابنه وقد أسلم، وتسمى محمداً، وتكنى بأبي المظفر، وتلقب جلال الدين، وجدد مأثر جليلة، منها عمارة ما أخربه أبوه من المساجد، وإقامة شعائر الإسلام. وبعث بمال إلى مكة وهدية للسلطان بمصر في سنة اثنتين وثلاثين، على يد شميل ومرغوب وعلى يدهما كتابه بأن يفوض إليه الخليفة سلطة الهند، فجهز له التقليد عن الخليفة مع تشريف، فبعث عند وصول ذلك إليه هدية ثانية، في سنة أربع وثلاثين، فجهزت إليه هدية أخرى، فوصلت إليه. ومات في شهر ربيع الآخر من هذه السنة وأقيم بعده ابنه المظفر أحمد شاه، وعمره أربع عشرة سنة.