فصل: سنة تسع وتسعين وستمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة تسع وتسعين وستمائة:

أهلت والسلطان متوجه بعساكر مصر إلى الشام، والإرجاف يقوى بمسير غازان إلى الشام. فرحل السلطان بالعساكر من الريدانية أول يوم من المحرم، والأمراء قد كثر تحاسدهم وتنافسوا بكثرة سعادتهم، فلما وصلوا غزة أقبلوا على الصيد والاجتماع والنزه. فاشتد حنق الطائفة الأويراتية الذين قدموا في أيام العادل كتبغا، من أجل قتلى من قتل من أمرائهم في أيام المنصور لاجين، ومن خلع كتبغا وإخراجه إلى صرخد، ومن استبداد البرجية بالأمور. وعزموا على إثارة الفتنة، وصاروا إلى الأمير علاء الدين قطلو برس العادلي وأقاموه كبيراً لهم، واتفقوا على أن برنطاي أحد المماليك السلطانية وألوص أحد كبراء الأويراتية يهجم كل منهما على الأميرين بيبرس وسلار ويقتله، ويعيدون دولة كتبغا.
فلما رحل السلطان بالعسكر من غزة ونزل تل العجول، ركب الأمراء للخدمة على العادة، وكان بيبرس يتأدب مع سلار ويركب بين يديه، فعندما ترجل الأمراء ولم يبق على فرسه سوى بيبرس وسلار، شهر برنطاى سيفه- وكان ماشيًا في ركاب بيبرس- وضربه، فوقعت الضربة على كفل الفرس فحلت ظهره، وضرب برنطاي ثانيًا، فوقعت الضربة على الكلفة فقطعتها وجرحت الوجه، فتبادرته السيوف حتى قتل.
ووقعت الصرخة في العسكر فركب الجميع، وقصد الأويراتية الدهليز السلطاني يريدون الهجمة على السلطان حتى صاروا في داخله، وقد ركب الأمراء في طلبهم، فركب الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار والمماليك السلطانية وفي ظنهم أن القصد قتل السلطان، ونشروا العصائب ووقفوا. وعاد بيبرس وسلار إلى مخيمهما، وأمرا الحجاب والنقباء بجمع العسكر إلى مخيم الأمير سلار النائب، فكان العسكر إذا أتوا ورأوا سنجق السلطان وعصائبه منشورة مضوا إليه وتركوا سلار، فيردهم الحجاب فلا يلتفت منهم أحد، ولا يعود حتى يقف تحت السنجق السلطاني.
فبعث سلار إلى أمير جاندار يقول: ما هذه الفتنة التي تريدون إثارتها في هذا الوقت ونحن على لقاء العدو وقد بلغنا أن الأويراتية قد وافقت المماليك السلطانية على قتلنا، وكان هذا برأيك ورأى السلطان، وقد دفع الله عنا. فإن كان الأمراء كذلك فنحن مماليك السلطان ومماليك أبيه الشهيد، ونحن نكون فداء المسلمين، وان لم يكن الأمر كذلك فابعثوا الينا غرماءنا.
فلما سمع السلطان هذا بكى، وحلف إنه لم يكن عنده علم. مما ذكر، وحلف أمير جاندار أيضاً وقال: ولكن لما وقع ما وقع ظنوا إنهم يريدون قتل السلطان وإقامة غيره ثم قال أمير جاندار: إنما يريد الأمراء بهذا الفول أن تقبض على مماليك السلطان طائفة بعد أخرى حتى تتمكن من مرادها، وان كان السلطان ومماليكه قد شوشوا على الأمراء فأنا أخذ السلطان ومماليكه وأسير إلى الكرك.
فلما بلغ الأمراء ذلك عزموا أن يركبوا على أمير جاندار، ثم توقفوا حتى بعثوا إلى الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح الأتابك. وكان على الجاليش وبينهما مرحلة، فلم يدخل في شيء من ذلك، وأوصى ألا يتعرض للسلطان بسوء. فرجع سلار إلى المداراة، وركب حتى أصلح بين أمير جندار والأمراء البرجية، وقبلوا جميعهم الأرض للسلطان وقبضوا على الأويراتية وعاقبوهم، فاقروا. مما عزموا عليه من قتل بيبرس وسلار وإعادة دولة العادل كتبغا، فزال ما كان في أنفس البرجية من موافقة السلطان وأمير جاندار للأويراتية.
وشنق من الغد نحو الخمسين من الأويراتية بثيابهم وكلفاتهم، ونودي عليهم: هذا جزاء من يقصد إقامة الفتن بين المسلمين ويتجاسر على الملوك. وطلب الأمير قطلوبرس فلم يوجد، وكان قد فر إلى غزة واختفي بها، فنهبت أثقاله كلها، وأنزل بالمصلوبين في اليوم الرابع فأخذت البرجية تغرى بيبرس، وتوحش بينه وبين سلار بأنه متفق عليه مع مماليك السلطان. فلما بلغ ذلك سلار تلطف مع بيبرس، واتفقا على إرسال طائفة من المماليك السلطانية إلى الكرك فلم يخالفهما السلطان، فأخذا منهم عدة ممن اتهماهم. بموافقة الأويراتية وحبساهم بالكرك.
ثم رحل السلطان بعد عدة أيام إلى قرتية، ورسم بالإقامة عليها حتى يعود الرسل بأخبار العدو، وبعثوا القصاد للكشف عن ذلك، وفي هذه المنزلة سالت الأودية، واتلف السيل كثيراً من أثقال العسكر، وافتقر عدة منهم لذهاب جمالهم وأثقالهم، وتشاءموا به وتطيروا منه، فكان الأمر كذلك. وعقب هذا السيل خرج جراد سد الأفق بحيث حجز الأبصار عن السماء فزاد تطير العسكر، وخشوا أن يكون منذراً بقدوم العدو وكسرة العسكر، وتحدث بذلك كل أحد حتى السوقة. ثم وقع الرحيل في أول ربيع الأول إلى جهة دمشق، فدخلها السلطان يوم الجمعة ثامنه.
ففي يوم السبت تاسعه: قدم الجفل من حلب وغيرها إلى دمشق، وقدم البريد من حلب وغيرها بنزول غازان على الفرات، وإنه في عسكر عظيم إلى الغاية، فأنفق في العساكر لكل ما بين ديناراً وأربعين ديناراً وقد كثر الإرجاف وتتابع وصول الناس في الجفلة، وشحت أنفس الجند بإخراج النفقة في شراء ما يحتاجون إليه لغلاء كل ما يباع من ذلك، ولكثرة ما أحرى الله على الألسنة بكسرة العسكر، ولتمكن بعض الجند في الأمراء البرجية.
وقدم البريد من حلب. بمسير جاليش غازان من الفرات وعبوره، وأن أهل الضياع قد جفلوا عن آخرهم، وقدم الأمير أسندمر كرجي متولي فتوحات سيس بعدما أخذ حاصل تل حمدون، وأحضر معه صاحب سيس. فخرج عسكر دمشق، وخرج السلطان بعده بعساكر مصر وقت الزوال من يوم الأحد سابع عشره، وسار إلى حمص فنزل عليها، وبعث العربان لكشف الأخبار. وقد نزل التتر بالقرب من سلمية، ولهج كل أحد بأن العسكر مسكور، وأقام العسكر لابس السلاح ثلاثة أيام، وقد غلت الأسعار.
فلما كان سحر يوم الأربعاء ثامن عشريه: ركب السلطان بالعساكر، وجد في السير إلى الرابعة من النهار، فظهرت طوالع التتر، فنودي عند ذلك في العساكر: أن ارموا الرماح واعتمدوا على ضرب السيف والدبوس، فألقوا رماحهم كلهم على الأرض. ومشوا ساعة، ورتبوا العساكر بمجمع المروج- ويعرف اليوم بوادي الخزندار- وعدتهم بضعة وعشرون ألف فارس، والتتار في نحو مائة ألف. فوقف الأمير عيسى بن مهنا وسائر العربان رأس الميمنة، ويليهم الأمير بلبان الطباخي نائب حلب بعساكر حلب وحماة، ووقف في الميسرة الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح والأمير أقش قتال السبع وعلم الدين سنجر وطغريل الإيغاني والحاج كرت نائب طرابلس، في عدة من الأمراء، وكان في القلب بيبرس وسلار وبرلغي وقطلوبك الحاجب وأيبك الخازندار، في عدة من الأمراء، وقد جعلوا جناحهم المماليك السلطانية، ووقف حسام الدين لاجين الأستادار مع السلطان على بعد من اللقاء حتى لا يعرف فيقصد، وقدموا خمسمائة مملوك من الزراقين في مقدمة العساكر.
وفي وقت الترتيب عرض للأمير بيبرس الجاشنكير حدة وإسهال مفرط لم يتمكن منه أن يثبت على الفرس، فركب المحفة واعتزل القتال، وأخذ الأمير سلار النائب معه الحجاب والأمراء والفقهاء، ودار على العساكر كلها والفقهاء تعظ الناس وتقوى عزائمهم على الثبات حتى كثر البكاء.
هذا وغازان ثابت لم يتحرك، وقد تقدم إلى أصحابه كلهم ألا يتحرك أحد منهم حتى يحمل هو بنفسه، فيتحركون عند ذلك يداً واحدة، فبادر عساكر المسلمين للحركة، وأشعل الزراقون النفط، وحملوا على غازان فلم يتحرك، وكان في الظن أن غازان أيضاً يتحرك إلى لقائهم. فمرت خيول العساكر بقوة شوطها في العدو، ثم لما طال المدى قصرت في عدوها، وخمد نار النفط. فحمل عند ذك غازان. بمن معه حملة واحدة حتى اختلط بالعساكر، بعدما قدم عشرة آلاف مشاة يرمون بالنشاب حتى أصابت سهامهم خيولاً كثيرة، وألقى الفرسان عنها. وكثرت نكاية العرب بالسهام، فولى العرب أولاً وتبعهم جيش حلب وحماة، فتمت هزيمة الميمنة من ميسرة غازان. وصدمت الميسرة ميمنة غازان صدمة فرقت جمعها وهزمتها عن آخرها، وقتلت منها نحو الخمسة آلاف، وكتب بذلك للسلطان- وهو معتزل في طائفة مع حسام الأستادار- فسر بذلك.
وكاد غازان أن يولي الإدبار، واستدعى قبجق نائب دمشق فشجعه قبجق وثبته حتى تلاحق به من انهزم وعاد له أمره، فحمل حملة واحدة على القلب فلم يثبت له، وولى سلار وبكتمر الجوكندار وبرلغى وسائر الأمراء البرجية، وركب غازان أقفيتهم حتى كانت سهامه تصيب خوذة الفارس فتقدح ناراً.
هذا والسلطان معتزل ومعه الحسام، وهو يبكى ويبتهل ويقول: يا رب لا تجعلني كعباً نحساً على المسلمين، ويهم أن يفر مع القوم، فيمنعه الحسام ويقول: ما هي كسرة، لكن المسلمين قد تأخروا، ولم يبق معه من المماليك غير اثنى عشر مملوكاً.
وعادت الميسرة الإسلامية بعد كسرة ميمنة غازان إلى حمص بعد العصر ومعهم الغنائم، فإذا الأمراء البرجية أهل القلب قد انكسروا والمغل في أعقابهم فبهتوا. وخشى غازان من الكمناء فكف عن اتباع العساكر، وكان ذلك من لطف الله بهم، فلو قد مر في طلبهم لهلكوا من عند آخرهم.
ووصل المنهزمون إلى حمص وقت الغروب، وقد غنم التتر سائر ما كان معهم مما لا يدخل تحت الحصر، وألقوا عن أنفسهم السلاح طلبا للنجاة، فاشتد صراخ أهل حمص، وصاحوا بالعسكر: الله الله في المسلمين وقد كلت الخيول، فمروا إلى بعلبك ونزلوا عليها بكرة يوم الجمعة وقد غلقت أبوابها، فامتاروا منها ومروا في سيرهم إلى دمشق فدخلوها يوم السبت أول ربيع الآخر، وقد توجه أكثرهم على الساحل إلى مصر. فما هو إلا أن دخلوا دمشق حتى وقع الصارخ بمجيء غازان، فخرجوا بعد نحو ساعة من قدومهم وتركوا سائر ما لهم، وجعل أهل دمشق فتشتتوا في سائر الجهات، ومر بالعسكر من العشير والعربان أهوال، وأخذوا أكثر ما معهم نهباً وسرقة.
وقتل في هذه الواقعة الأمير كرت نائب طرابلس، والأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير أيدمر الحلبي، وبلبان التقوى من أمراء طرابلس، وبيبرس الغتمي نائب قلعة المرقب، وأزبك نائب بلاطنس، وبيليك الطيار من أمراء دمشق، ونوكاي التتري، وأقش كرجي الحاجب، وأقش الطروحي حاجب دمشق، ونحو الألف من الأجناد والمماليك وعدم قاضي القضاة حسام الدين بن أحمد الرومي الحنفي قاضي الحنفية بدمشق، وعماد الدين إسماعيل بن احمد بن سعيد بن محمد بن سعيد بن الأثير الموقع. وقتل من التتار نحو أربعة عشر ألفا.
وأما غازان فإنه نزل بعد هزيمة العسكر إلى حمص- وقت عشاء الآخرة- وبها الخزائن السلطانية وأثقال العسكر، فأخذها من الأمير ناصر الدين محمد بن الصارم، وسار إلى دمشق بعدما امتلأت أيدي أصحابه بأموال جليلة القدر.
هذا وأهل دمشق قد وقع بينهم في وقت الظهر من يوم السبت أول ربيع الآخر ضجة عظيمة، فخرجت النساء باديات الوجوه، وترك الناس حوانيتهم وأموالهم، وخرجوا من المدينة. فمات من الزحام في الأبواب خلق كثير، وانتش الناس برءوس الجبال وفي القرى، وتوجه كثير منهم إلى جهة مصر.
وفي ليلة الأحد: خرج أرباب السجون، وامتدت الأيدي لعدم من يحمى البلد.
وأصبح من بقى بالمدينة وقد اجتمعوا بمشهد على من الجامع الأموي وبعثوا إلى غازان يسألون الأمان لأهل البلد، فتوجه قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة وشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية والشريف زين الدين بن عدنان والصاحب فخر الدين، بن الشيرجي وعز الدين حمزة بن القلانسي في جمع كبير من الأعيان والفقهاء والقراء إلى غازان في يوم الإثنين ثالثه بعد الظهر، فلقوه بالنبك وهو سائر، فنزلوا عن دوابهم ومنهم من قبل له الأرض. فوقف غازان بفرسه لهم، ونزل جماعة من التتار عن خيولهم، ووقف الترجمان وتكلم بينهم وبين غازان، فسألوا الأمان لأهل دمشق، وقدموا له مأكل كانت معهم فلم يلتفت إليها، وقال: قد بعثت إليكم الأمان، وصرفهم، فعادوا إلى المدينة بعد العصر من الجمعة سابع الشهر، ولم يخطب بها في هذه الجمعة لأحد من الملوك.
وكان قد وصل إلى دمشق في يوم الخميس سادس الشهر أربعة من التتار من جهة غازان، ومعهم الشريف القمي، وكان قد توجه قبل توجه الجماعة هو وثلاثة من أهل دمشق إلى غازان، فعاد وبيده أمان لأهل دمشق. ثم قدم في يوم الجمعة سابعه بعد صلاة الجمعة الأمير إسماعيل التتري بجماعة من التتر، ودخل المدينة يوم السبت ليقرأ الفرمان بالجامع فاجتمع الناس، وقرأ بعض العجم الواصلين مع الأمير إسماعيل الفرمان بتأمين الكافة، وعاد إسماعيل إلى منزله بعدما صلى العصر.
وفي يوم الأحد: أخذ أهل دمشق في جمع الخيل والبغال والأموال، فنزل غازان على دمشق يوم الإثنين عاشره، وعاثت عساكره في الغوطة وظاهر المدينة تهب وتفسد، ونزل قبجق وبكتمر السلاح دار. بمن معهما في الميدان الأخضر، وامتدت التتر إلى القدس والكرك تنهب وتأسر.
وامتنع الأمير علم الدين سنجر المنصوري المعروف باسم أرجواش بقلعة دمشق، وسب قبجق وبكتمر سباً قبيحاً، وكانا قد تقدما إليه وأشارا عليه بالتسليم.
وفي بكرة يوم الثلاثاء حادي عشره: تقدم الأمير إسماعيل التتري إلى القضاة والأعيان بالحديث مع أرجواش في تسليم القلعة، وإنه إن امتنع نهب المدينة ووضع السيف في الكافة. فاجتمع عالم كبير وبعثوا إلى أرجواش في ذلك فلم يجب، وتكررت الرسل بينهم وبينه إلى أن سبهم وجبههم، وقال: قد وقعت إلى بطاقة بأن السلطان قد جمع الجيوش بغزة، وهو واصل عن قريب، فانصرفوا عنه.
وفي ثاني عشره: دخل الأمير قبجق إلى المدينة، وبعث إلى أرجواش في التسليم فلم يجب.
وفيه كتبت عدة فرمانات إلى أرجواش من قبجق، ومن مقدم من مقدمي التتار ذكر إنه رضيع الملك غازان، ومن شيخ الشيوخ نظام الدين محمود بن على الشيباني وغيره، فلم يجب، وأخذ الناس في تحصين الدروب وقد اشتد خوفهم.
وفي يوم الجمعة رابع عشره: خطب لغازان على منبر دمشق بألقابه، وهي: السلطان الأعظم سلطان الإسلام والمسلمين مظفر الدنيا والدين محمود غازان، وصلى جماعة من المغل الجمعة. فلما انقضت الجمعة صعد الأمير قبجق والأمير إسماعيل سدة المؤذنين وقرئ على الناس تقليد قبجق بلاد الشام كلها وهى مدينة دمشق وحلب وحماة وحمص وسائر الأعمال، وجعل إليه ولاية القضاة والخطباء وغيرهم. فنثرت على الناس الدنانير والدراهم، وفرحوا بذلك فرحا كثيراً وجلس شيخ الشيوخ نظام الدين بالمدرسة العادية، وعتب الناس لعدم ترددهم إليه، ووعد بالدخول في صلح أمورهم مع غازان، وطلب الأموال وتعاظم إلى الغاية، واستخف بقبجق وقال: خمسمائة من قبجق ما يكونون في خاتمي. وصار نظام الدين يضع من قلعة دمشق ويستهين بها، ويقول: لو أردنا أخذها أخذناها من أول يوم، وكان لا يزال الدبوس على كتفه، ولم يكن فيه من أخلاق المشايخ ما يمدح به، بل أخذ نحو الثلاثين ألف دينار برطيلاً، حتى قال فيه علاء الدين بن مظفر بن الكندي الوداعي:
شيخ غازان ما خلا ** أحد من تجرده

وغدا الكل لابسي ** خرقة الفقر من يده

وفي خامس عشره: بدأ التتر في نهب الصالحية، حتى أخذوا ما بالجامع والمدارس والتراب من البسط والقناديل، ونبشوا على الخبايا، فظهر لهم منها شيء كثير حتى كأنهم كانوا يعلمون أماكنها فمضى ابن تيمية في جمع كبير إلى شيخ الشيوخ وشكوا ذلك، فخرج معهم إلى حي الصالحية في ثامن عشره ليتبين حقيقة الأمر ففر التتر لما رأوه، والتجأ أهل الصالحية إلى دمشق في أسوأ حال.
وكان سبب نهب الصالحية أن متملك سيس بذل فيها مالاً عظيماً، وكان قد قصد خراب دمشق عوضاً عن بلاده، فتعصب الأمير قبجق ولم يمكنه من المدينة ورسم له بالصالحية، فتسلمها متملك سيس وأحرق المساجد والمدارس، وسبى وقتل وأخرب الصالحية، فبلغت عدة من قتل وأسر منها تسعة ألاف وتسعمائة نفس.
ولما فرغوا من الصالحية صار التتر إلى المزة وداريا، ونهبوهما وقتلوا جماعة من أهلهما فخرج ابن تيمية في يوم الخميس عشريه إلى غازان بتل راهط ليشكو له ما جرى من التتار بعد أمانه، فلم يمكنه الاجتماع به لشغله بالسكر، فاجتمع بالوزيرين سعد الدين ورشيد الدين، فقالا: لابد من المال، فانصرف. واشتد الطلب للمال على أهل دمشق، واستمر الحصار، وتعين نصب المنجنيق على القلعة بالجامع، وهيموا أخشابه ولم يبق إلا نصبه.
فبلغ ذلك أرجواش، فبعث طائفة هجمت على الجامع على حمية وأفسدت ما تهيأ فيه، فأقام التتر منجنيقاً آخر بالجامع واحترزوا عليه. واتخذوا الجامع حانة يزنون ويلوطون ويشربون الخمر فيه، ولم تقم به صلاة العشاء في بعض الليالي، ونهب التتر ما حول الجامع من السوق. فانتدب رجل من أهل القلعة لقتل المنجنيقي، ودخل الجامع والمنجنيقي في ترتيب المنجنيق والمغل حوله، فهجم عليه وضربه بسكين فقتله. وكان معه جماعة تفرقوا في المغل يريدون قتلهم ففروا، وخلص الرجل بمن معه إلى القلعة سالماً. وأخذ أرجواش في هدم ما حول القلعة من العمائر والبيوت، وصيروها دكا لئلا يستتر العدو في المنازلة بجدرانها، فأحرق ذلك كله وهدمه من باب النصر إلى باب الفرج، وشمل الحرق دار الحديث الأشرفية وعدة مدارس إلى العادلية، وأحرق أيضاً بظاهر البلد شيء كثير، وأحرق جامع التوبة بالعقيبة وعدة قصور وجواسق وبساتين.
واشتد الأمر في طلب المال، وغلت الأسعار حتى أبيع القمح بثلاثمائة وستين درهماً الغرارة، والشعير. بمائة وثمانين درهماً، والرطل الخبز بدرهمين، والرطل اللحم باثني عشر درهماً، والرطل الجبن باثني عشر درهماً، والرطل الزيت بستة دراهم، وكل أربع بيضات بدرهم، ووزعت الأموال، فقرر على سوق الخواصين مائة وثلاثون ألف درهم، وعلى سوق الرماحين مائة ألف درهم، وعلى سوق على مائة ألف درهم، وعلى سوق النحاسين ستون ألف درهم، وعلى قيسارية الشرب مائة ألف درهم، وعلى سوف الذهبيين ألف وخمسمائة دينار وقرر على أعيان البلد تكملة ثلاثمائة ألف دينار، جبيت من حساب أربعمائة ألف، ورسم على كل طائفة جماعة من المغل، فضربوا الناس وعصروهم، وأذاقوهم الخزي والذل. وكثر مع ذلك القتل والنهب في ضواحي دمشق، حتى يقال إنه قتل من الجند والفلاحين والعامة نحو المائة ألف إنسان، فقال في ذلك كمال الدين ابن قاضي شهبة:
رمتنا صروف الدهر منها بسبع ** فما أحد منا من السبع سالم

غلاء، وغازان، وغزوى غارة ** وغدر، وإغبان، وغم ملازم

وقال الشيخ كمال الدين محمد بن على الزملكاني أيضاً:
لهفي على جلق يا سوء ما لقيت ** من كل علج له في كفره فن

بالطم والرم جاءوا لا عديد لهم ** فالجن بعضهم والحن والبن

وكان ما حمل لخزانة غازان وحده على يد وجيه الدين بن المنجا مبلغ ثلاثة آلاف وستمائة ألف درهم، سوى السلاح والثياب والدواب والغلال، وسوى ما نهبته التتار، فإنه كان يخرج إليهم من باب شرقي كل يوم أربعمائة غرارة. ورسم غازان بأخذ الخيول والجمال، فأخرج من المدينة زيادة على عشرين ألف حيوان، وأخذ الأصيل بن النصير الطوسي، منجم غازان وناظر أوقاف التتار، عن أجرة النظر بدمشق مائتي ألف درهم، وأخذ الصفي السنجاري، الذي تولى الاستخراج لنفسه، مائة ألف درهم، وهذا سوى ما استخرج للأمير قبجق والأمراء المغل، وسوى المرتب لغازان في كل يوم.
فلما انتهت الجباية أقر غازان في نيابة دمشق الأمير قبجق، وفي نيابة حلب وحماة وحمص الأمير بكتمر السلاح دار، وفي نيابة صفد وطرابلس والساحل الأمير الألبكي. وجعل مع كل واحد عدة من المغل، وأقام مقدماً عليهم لحماية الشام قطلوشاه، وجرد عشرين ألفاً من عسكره مع أربعة من المغل بالأغوار.
ورحل غازان في يوم الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى، وترك على دمشق نائبه قطلوشاه نازلاً بالقصر، وأخذ وزيره من أعيان دمشق بدر الدين محمد بن فضل الله، وعلاء الدين على بن شرف الدين محمد بن القلانسي، وشرف الدين محمد بن شمس الدين سعيد بن محمد سعيد بن الأثير.
فلما كان يوم السبت ثالث عشره: بعد رحيل غازان، أمر التتر الذين بدمشق أن يخرج من كان في المدرسة العادلية، فكان إذا خرج أحد أخذوا منه ما يقع اختيارهم عليه بعد التفتيش، ثم دخلوا فكسروا أبواب البيوت ونهبوا ما فيها، ووقع النهب في المدينة فأخذوا نحوا مما استخرج من الأموال أولاً، وأحرقوا كثيراً من الدور والمدارس: فاحترقت دار الحديث الأشرفية وما حولها، ودار الحديث النورية، والعادلية الصغرى وما جاورها والقيمرية وما جاورها إلى دار السعادة وإلى المارستان النوري، ومن المدرسة الدماغية إلى باب الفرج. وأخذوا ما حول القلعة، وركبوا الأسطحة ليرموا بالنشاب على القلعة، فأحرق عند ذلك أرجواش ما حول القلعة وخربه كما تقدم، واستمر قطلوشاه مقدم التتار يحاصر القلعة.
وفي تاسع عشره: قرئ بالجامع كتاب تولية قبجق نيابة الشام، وكتاب بتولية الأمير ناصر الدين يحيى بن جلال الدين الختني الوزارة.
وفي حادي عشريه: احترقت المدرسة العادلية.
فلما عدى غازان الفرات أشار قبجق وبكتمر السلاح دار على قطلوشاه أن يتحول عن دمشق إلى حلب بمن معه من التتار، وجمع قبجق له مالاً من الناس، وسار قطلوشاه في يوم الإثنين ثاني عشرى جمادى الأولى، وترك طائفة من التتر بدمشق، وخرج قبجق لوداعه، وعاد في خامس عشريه ونزل بالقصر.
الأبلق ونودي في سادس عشريه ألا يخرج أحد إلى الجبل والغوطة ولا يغرر بنفسه، ثم نودي بخروج أهل الضياع إلى ضياعهم.
وفي تاسع عشريه: تحول الأمير قبجق إلى المدينة وأقام بها.
وفي يوم الثلاثاء أول جمادى الآخرة: نودي بخروج الناس إلى الصالحية وغيرها، فخرجوا إلى أماكنهم وفتحت الأسواق وأبواب المدينة.
وفي يوم الجمعة رابعه: دقت البشائر بالقلعة.
وفي سابعه: أمر قبجق جماعة من أصحابه، وأمر بإدارة الخمارة بدار ابن جرادة، فظهرت الخمور والفواحش، وضمنت في كل يوم بألف درهم.
هذا وقد نهبت التتار الأغوار حتى بلغوا إلى القدس، وعبروا غزة وقتلوا بجامعها خمسة عشر رجلاً وعادوا إلى دمشق وقد أسروا خلقاً كثيراً، فخرج إليهم ابن تيمية، ومازال يحدثهم حتى أفرجوا عن الأسرى، ورحلوا عن دمشق يريدون بلادهم في ثاني رجب.
وأما السلطان الملك الناصر، فإن العساكر تفرقت عنه وقت الهزيمة، ولم يبق معه إلا بعض خواصه والأميرين زين الدين قراجا وسيف الدين بكتمر الحسامي أمير أخور في نفر يسير. وبالغ بكتمر مدة السفر إلى مصر في خدمة السلطان بنفسه وماله، فكان يركبه وينزله، ويشد خيله ويشتري لها العليق ويسقيها، إلى غير ذلك من أنواع الخدمة، حتى قدم إلى قلعة الجبل يوم الأربعاء ثاني عشر ربيع الآخر.
ثم ترادفت العساكر إلى الديار المصرية شيئاً بعد شيء في أسوأ حال، وكان ممن قدم معهم الملك العادل كتبغا، وصار يمشي في خدمة الأمير سلار نائب السلطة، ويجلس بين يديه ويرمل عليه إذا علم على المناشير وغيرها. واتفق مع ذلك إنه لما كان كتبغا سلطاناً نودي على جوسن للبيع، فبلغ ثمنه على بيبرس الجاشنكير أربعة آلاف درهم، ثم عرض على كتبغا وقيل له إنه على بيبرس بكذا، فقال: وهذا يصلح لذاك الخرياطي وأخذ الجوسن بثمنه. فلما زالت أيامه صار الجوسن لبيبرس بعد لاجين، فأراد نكاية كتبغا وأحضر الجوسن وكتبغا عنده، ولبسه وقال له: يا أمير إيش تقول؟ يصلح هذ لي؟ فلم يفطن كتبغا لما أراد، وقال له: والله يا أمير هذا كأنه فصل لك فنظر بيبرس إلى الأمراء يشير إليهم، فاشتد عجبهم من تغير الأحوال، فلم يشاهد أعجب من ذلك. وأقيم العزاء في الناس لمن فقد وكانوا خلقاً كثيراً.
ثم أخذ السلطان الناصر في التجهيز للمسير إلى الشام ثانياً، وشرع الأمراء في الاهتمام بأمر السفر، وجمعوا صناع السلاح للعمل. وأخذ الوزير في جمع الأموال للنفقة، وكتب إلى أعمال مصر بطلب الخيل والرماح والسيوف من سائر الوجهين القبلي والبحري، فبلغ القوس الذي كان يساوي ثلاثمائة درهم إلى ألف درهم، وأخذت خيول الطواحين وبغالها بالأثمان الغالية، وطلبت الجمال والهجن والسلاح ونحو ذلك. فأبيع ما كان. بمائة بسبعمائة وبألف، ونودي بحضور الأجناد البطالين، فحضر خلق كثير من الصنائعية، ونزلوا أسماءهم في البطالين. وفرقت أخباز المفقودين، ورسم لكل من أمراء الألوف بعشرة من البطالين يقوم بأمرهم، ولكل من الطبلخاناه بخمسة، ولكل من العشراوات برجلين. واستخدم جماعة من الأمراء الغزاة المطوعة احتساباً.
واستدعى مجدي الدين عيسى بن الخشاب نائب الحسبة ليأخذ فتوى الفقهاء بأخذ المال من الرعية للنفقة على العساكر، فأحضر فتوى الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام للملك المظفر قطز، بأن يؤخذ من كل إنسان دينار، فرسم له سلار بأخذ خط الشيخ تقي الدين محمد بن دقيق العيد، فأبي أن يكتب بذلك، فشق هذا على سلار واستدعاه وقد حضر عنده الأمراء، وشكا إليه قلة المال وأن الضرورة دعت إلى أخذ مال الرعية لأجل دفع العدو، وأراد منه أن يكتب على الفتوى بجواز ذلك فامتنع، فاحتج عليه ابن الخشاب بفتوى ابن عبد السلام، فقال: لم يكتب ابن عبد السلام للملك المظفر قطز حتى أحضر سائر الأمراء ما في ملكهم من ذهب وفضة وحلي نسائهم وأولادهم هم ورأه، وحلف كلاً منهم إنه لا يملك سوى هذا، كان ذلك غير كاف، فعند ذلك كتب بأخذ الدينار من كل واحد. وأما الآن فيبلغني أن كلاً من الأمراء له مال جزيل، وفيهم من يجهز بناته بالجواهر واللآلئ، ويعمل الإناء الذي يستنجي منه في الخلاء من فضة، ويرصع مداس زوجته بأصناف الجواهر، وقام عنهم فطلب ناصر الدين محمد بن الشيخي متولي القاهرة، ورسم له بالنظر في أموال التجار ومياسير الناس، وأخذ ما يقدر عليه من كل منهم بحسب حاله.
فما أهل جمادى الأولى حتى استجد عسكر كبير، وغصت القاهرة ومصر وما بينهما بكثرة من ورد من البلاد الشامية حتى ضاقت بهم المساكن، ونزلوا بالقرافة الخمور وشق ظروفها على يد ابن تيمية.
وعندما تكملت النفقة على العساكر نودي بالقاهرة ومصر بالسفر، ومن تأخر شنق، ورسم أن يكون سعر الدينار عشرين درهماً. وخرج السلطان في تاسع رجب فسار إلى الصالحية، وقدمت إليه كتب الأمير قبجق وبكتمر السلاح دار والألبكي بقدومهم صحبة عز الدين حمزة بن القلانسي والشريف ابن عدنان، فأقام السلطان بالصالحية.
وسار الأميران سلار نائب السلطنة وبيبرس الجاشنكير الأستادار بالعساكر إلى دمشق في ثاني عشرى رجب، فلقوا الأمير قبجق ومن معه بين غزة وعقلان، فترجل كل منهم لصاحبه وتباركوا وأنزلوا، ورتب لهم ما يليق بهم، وأمروا بالتوجه إلى السلطان، وسار الأمراء بالعساكر إلى دمشق. فقدم قبجق بمن معه إلى الصالحية في عاشر شعبان، فركب السلطان إلى لقائهم، وبالغ في إكرامهم والإحسان إليهم، وأنزلهم، ثم سار بهم إلى قلعة الجبل فقدمها في رابع عشره.
ودخل الأمير جمال الدين أقش الأفرم إلى دمشق في يوم السبت عاشر شعبان.
وفي حادي عشره: قدم إليها الأمير قرا سنقر المنصوري نائب حلب بعساكرها، وقد استقر عوضاً عن بلبان الطباخي، واستقر الطباخي من أمراء مصر بالخدمة السلطانية على إقطاع أقسنقر كرتاي بعد موته. ودخل الأمير أسندمر كرجي نائب الفتوحات الطرابلسية بعساكرها، وقد استقر عوضاً عن الأمير قطلوبك.
وفي ثاني عشره: قدمت ميسرة العساكر المصرية، ومقدمها الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح.
وفي ثالث عشره: قدمت ميمنة العساكر المصرية، مع الأمير حسام الدين لاجين أستادار.
وفي رابع عشره: قدم الأمير سلار النائب والمماليك السلطانية، والملك العادل كتبغا- وقد استقر في نيابة حماة عوضاً عن قرا سنقر المنتقل لنيابة حلب- والأمير كراي المنصوري المستقر في نيابة صفد.
ونزل الأمير سلار بالميدان، وجلس في دار العدل بحضور الأمراء والقضاة، وخلع على الصاحب عز الدين حمزة بن القلانسي.
وفي خامس عشره: ولى سلار قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة قضاء دمشق، عوضاً عن إمام الدين عمر بن سعد الدين الكرجي القزويني القونوي بعد وفاته.
وفي حادي عشريه: ولى قاضي القضاة شمس الدين محمد بن صفي الدين الحريري قضاء الحنفية، وولى الأمير سيف الدين أقبجا المنصوري شد الدواوين، وولي عز الدين أيبك النجيبي بر دمشق، وولي أمين الدين يوسف الرومي، إمام المنصور لاجين، حسبة دمشق، وولي تاج الدين، بن الشيرازي نظر الدواوين.
وسير سلار عسكراً إلى حلب، فطرقها على غفلة، وأوقع. بمن فيها من أصحاب غازان وقتلهم، فلم يفلت منهم إلا القليل، ولحقوا بغازان وعرفوه غدر قبجق بهم.
وتوجه الملك العادل كتبغا إلى حماة، بعدما كان يركب في دمشق بخدمة الأمير سلار، ويجلس بين يديه كما كان يفعل بالقاهرة، فشاهد الناس من ذلك ما فيه أعظم عبرة، وقدم كتبغا حماة في رابع عشرى شعبان، واستقر كل نائب في مملكته.
وكان السعر بدمشق غالياً فانحطت الغرارة القمح من ثلاثمائة درهم إلى مائة وخمسين، وأبيع اللحم الضأن بدرهمين الرطل الدمشقي. وتتبع الأمير جمال الدين أقش الأفرم نائب السلطنة بالشام من كان بدمشق من المفسدين، الذين تولوا استخراج المال في أيام غازان من الناس، والذين دلوا على عورات الناس. فسمر بعضهم، وشنق بعضهم وقطع أيدي جماعة وأرجلهم، ومن المفسدين من قطع لسانه وكحل فمات من يومه.
وخلع سلار على الأمير أرجواش نائب القلعة، وأنعم عليه بعشرة آلاف درهم وطلبت مشايخ قيس ويمن من العشير والعربان، وألزموا بإحضار ما أخذ من العسكر وأهل البلاد في توجههم إلى مصر وقت الجفلة.
وكان غازان لما أخذ البلاد وعاد إلى الشرق طمع الأرمن في البلاد التي افتتحها المسلمون، وأخذوا تل حمدون وغيرها.
فلما استقرت الأحوال ببلاد الشام خرج الأميران بيبرس وسلار بعسكر مصر من دمشق يوم السبت ثامن شهر رمضان يريدان مصر، فوصلا قلعة الجبل في يوم الثلاثاء ثالث شوال بعدما ركب السلطان إلى لقائهم، وكان يوما مشهودًا.
وعندما استقر الأمراء، سأل الأمير قبجق أن ينعم عليه بنيابة الشوبك، فأجيب إلى ذلك وخلع عليه. وأنعم على الأمير بكتمر السلاح دار بإمرة مائة بديار مصر، وعلى الأمير فارس الدين ألبكي الساقي بإمرة مائة بدمشق.
وفي عشرى شوال: توجه الأمير أقش الأفرم من دمشق لغزو الدرزية أهل جبال كسروان، فإن ضررهم اشتد، ونال العسكر عند إنهزامها من غازان إلى مصر منهم شدائد ولقيه نائب صفد بعسكره، ونائب حماة ونائب حمص ونائب طرابلس بعساكرهم. فاستعدوا لقتالهم، وامتنعوا بجبلهم وهو صعب المرتقى، وصاروا في نحو اثني عشر آلف رام. فزحفت العساكر السلطانية عليهم، فلم تطقهم وجرح كثير منهم، فافترقت العساكر عليهم من عدة جهات، وقاتلوهم ستة أيام قتالًا شديداً إلى الغاية، فلم يثبت أهل الجبال وانهزموا. وصعد العسكر الجبل بعدما قتل منهم وأسر خلقا كثيراً، ووضع السيف فيهم، فالقوا السلاح ونادوا الأمان، فكفوا عن قتالهم. واستدعوا مشايخهم وألزموهم بإحضار جميع ما أخذ من العسكر وقت الهزيمة، فأحضروا من السلاح والقماش شيئاً كثيراً، وحلفوا إنهم لم يخفوا شيئاً فقرر عليهم الأمير أقش الأفرم مبلغ مائة ألف درهم جبوها، وأخذ عدة من مشايخهم وأكابرهم، وعاد إلى دمشق يوم الأحد ثالث ذي القعدة، وبعث البريد بالخبر إلى السلطان.
وألزم الأمير أقش الأفرم أهل دمشق بتعليق السلاح في الحوانيت وملازمة الرمي بالنشاب، ونودي بذلك. وألزم قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة فقهاء دمشق بذلك، وجلس لعرض الناس في حادي عشريه، وعرض الكافة طائفة بعد طائفة من الأشراف والفقهاء وأهل الأسواق، وقدم على أهل الأسواق رجالاً يلي كل رجل سوقاً. وتتبع الناس بديار بكر التتر، فقتلوا منهم خلقا كثيراً.
ولم تخرج هذه السنة إلا وأهل دمشق في فقر مدقع، وفي ذلك يقول علاء الدين على ابن مظفر الوداعي:
أما دمشق فأهلها قد أصب ** بكرية جعلوا التسنن مذهبا

سراً وجهراً أنفقوا أموالهم ** حتى تجلل كل شخص بالعبا

ما لبست الصوف من عبث ** لا ولا الخلقان مجانا

إنه زي لمن هو من ** فقراء الشيخ غازنا

وذهب لأهل مصر مال كثير في حركة غازان، إلا إنهم لسعة أحوالهم لم يبالوا بذلك.

.ومات في هذه السنة ممن له ذكر:

علاء الدين أحمد بن تاج الدين عبد الوهاب بن خلف بن محمود بن بدر العلامي المعروف بابن بنت الأعز الشافعي، درس بالكهارية والقطبية من القاهرة، وولي الحسبة، وكان أديباً فصيحاً جميلا فيه مكارم ومروءة، لطيف المزاج بساما شهمًا جزلا، حج ودخل اليمن مراراً، ومن شعره في مليح سبح في النيل وتلطخ بالتراب:
ومترب لولا التراب بجسمه ** لم تبصر الأبصار منه منظرا

فكأنه بدر عليه سحابة ** والتراب ليل من سناه أقمرا

وقال:
في السمر معان لاترى في البيض ** تالله لقد نصحت في تعريض

ما الشهد إذا أطعمته كاللبن ** يكفي فطنا محاسن التعريض

ومات شهاب الدين احمد بن الفرج بن أحمد اللخمي الإشبيلي، ولد سنة خمس وعشرين وستمائة. وتفقه على ابن عبد السلام بدمشق، وكان شافعياً، وله قصيدة في علم الحديث.
ومات الأمير صارم الدين أزبك نائب قلعة بلاطنس، واستشهد في نوبة غازان على حمص، في ثامن عشرى ربيع الأول.
ومات الأمير أقش كرجي المطروحي الحاجب.
ومات أقسنقر كرتاي أحد أمراء الألوف.
ومات الأمير بلبان التقوى، أحد أمراء طرابلس.
وتوفي كاتب السر عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن التاج أحمد بن سعيد بن محمد ابن الأثير الحلبي، بعدما صرف.
ومات الفقير المعتقد بدر الدين أبو على الحسن بن عضد الدولة أبي الحسن على أخي المتوكل على الله أبي عبد الله محمد بن يوسف بن هود في شعبان، ومولده بمرسية سنة ثلاث وثلاثين وستمائة. كان أبوه نائب السلطنة بها عن المتوكل، فتزهد هو وحج وسكن دمشق، وكانت له أحوال عجيبة.
ومات بيبرس الغتمي، نائب حصن المرقب.
ومات بكتاش المنصوري الطيار، أحد أمراء دمشق.
ومات ناصر الدين محمد بن أيدمر الحلبي، أحد أمراء مصر.
ومات نوكاي بن بيان التتري أبو خوند منكبك امرأة الصالح على بن قلاوون، وأبو خوند أردكين امرأة الأشرف خليل.
ومات علاء الدين على ابن الشيخ إبراهيم بن معضاد الجعبري.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن الحلي. وهؤلاء استشهدوا بوقعة حمص، ما بين قتيل في المعركة ومجروح مات من جراحته بعد ذلك.
ومات الطواشي حسام الدين بلال المغيثي الجلالي،. بمنزلة السوادة في تاسع ربيع الآخر، فدفن بقطيا، ثم نقل إلى تربته بالقرافة، وكان خيراً ديناً.
ومات الأمير سيف الدين جاغان الحسامي، بأرض البلقان.
ومات الأمير علم الدين سنجر الدواداري بحصن الأكراد، في ثالث رجب.
وتوفي قاضي القضاة إمام الدين عمر بن سعد الدين عبد الرحمن بن عمر بن أحمد بن محمد القزويني الشافعي، قاضي قضاة دمشق، بالقاهرة في يوم الثلاثاء خامس عشرى ربيع الآخر.
ومات تاج الدين أبو محمد عبد الوهاب بن أبي عبد الله محمد بن عبد الدائم بن منجا بن على البكري التيمي القرشي النويري، في يوم الخميس ثاني عشرى ذي الحجة، وهو والد الشهاب أحمد النويري المؤرخ الكاتب.
ومات شمس الدين محمد بن صدر الدين سليمان بن أبي العز وهيب الدمشقي الحنفي، بدمشق في.
ومات حسام الدين أبو الفضائل حسن بن تاج الدين أبي المفاخر أحمد بن حسن بن أبو شر وان الرومي، قاضي القضاة الحنفية بالقاهرة ومصر ودمشق، فقد من الصف على حمص يوم الأربعاء سابع عشرى ربيع الأول، فلم يعرف له خبر، وعمره نحو السبعين سنة.
ومات الأمير علاء الدين قطلوبرس العادلي مشنوقاً بدمشق، ظفر به بعد هروبه.
ومات شرف الدين أبو محمد الحسن بن على بن عيسى بن الحسن اللخمي، عرف بابن الصيرفي، في خامس عشرى ذي الحجة، وهو في عشر التسعين.