فصل: سنة اثنتين وسبعمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة اثنتين وسبعمائة:

في أول المحرم: قدم الأمير بيبرس الجاشنكير من الحجاز، ومعه الشريفان حميضة ورميثة في الحديد، فسجنا.
وفي ثامنه: قدمت رسل غازان بكتابه، فأعيدوا بالجواب. وجهز الأمير حسام الدين ازدمر المجيري، شمس الدين محمد التيتي، وعماد الدين على بن عبد العزيز بن السكري، إلى غازان في عاشر ربيع الأول. فمضوا واجتمعوا به، فمنعهم من العود بسبب الوقعة الآتى ذكرها، ولازالوا مقيمين حتى هلك غازان، فعادوا في أيام خدا بندا.
وفي محرم: تنجزت عمارة الشواني، وجهزت بالمقاتلة والآلات مع الأمير جمال الدين أقوش القاري العلائي والي البهنسا. واجتمع الناس لمشاهدة لعبهم في البحر، فركب أقوش في الشينى الكبير وانحدر تجاه المقياس، فانقلب، ممن فيه يوم السبت ثاني عشره.
وكان قد نزل السلطان والأمراء لمشاهدة ذلك، واجتمع من العالم ما لا يحصيهم إلا الله تعالى، وبلغ كراء المركب الذي يحمل عشرة أنفس إلى مائة درهم، امتلأ البران من بولاق إلى الصناعة بالناس، حتى لم يوجد موضع قدم خال.
ووقف العسكر على بر بستان الخشاب، وركب الأمراء الحراريق إلى الروضة. وبرزت الشواني للعب كأنها في الحرب، فلعب الأول والثاني والثالث، واعجب الناس بذلك إعجاباً زائداً، لكثرة ما كان فيها من المقاتلة والنفوط وآلالات الحرب. ثم تقدم الرابع وفيه أقوش، فما هو إلا أن خرج من منية الصناعة. بمصر وتوسط النيل، إذا بالريح حركه، فمال به ميلة واحدة انقلب وصار أعلاه أسفله، فصرخ الناس صرخة واحدة كادت تسقط منها ذات الأحمال، وتكدر ما كانوا فيه من الصفو، وتلاحق الناس بالشيني وأخرجوا ما سقط منه في الماء، فلم يعدم منه سوى أقوش، وسلم الجميع، وعاد السلطان والأمراء إلى القلعة، وانفض الجمع.
وبعد ثلاثة أيام أخرج الشيني، فإذا امرأة الرئيس وابنها وهي ترضعه في قيد الحياة، فاشتد العجب من سلامتها طول هذه الأيام، ووقع العمل في إعادته حتى تنجز، وندب الأمير سيف الدين كهرداش الزراق المنصوري للسفر عوضاً عن أقوش القاري فسار إلى طرابلس بالشواني، واستجد منها ستين مقاتلا من المماليك سوى البحرية والمطوعة.
وتوجه كهرداش إلى جزيرة أرواد، وهى بقرب أنطرسوس، وصبحهم في غفلة وأحاط بهم وقاتلهم ساعة، فنصره الله عليهم وقتل منهم كثيراً، وسألوا الأمان فأخذوا أسرى في يوم الجمعة ثامن عشرى صفر. واستولى كهرداش على سائر ما عندهم، وعاد إلى طرابلس وأخرج الخمس من الغنائم لتحمل إلى السلطان، وقسم ما بقي فكانت عدة الأسرى مائتين وثمانين. فلما قدم البريد من طرابلس بذلك دقت البشائر بالقلعة، وفي يوم دق البشائر قدم الأمير بدر الدين بكتاش من غزاة سيس.
وفي هده السنة: توفي قاضي القضاة تقي الدين أبو محمد بن على بن وهب بن مطيع ابن أبي الطاعة القشيري المنفلوطي المالكي المصري بن دقيق العيد، وكان مولده في شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة.
ولما مات تقي الدين محمد بن دقيق العيد، خرج البريد إلى في دمشق بطلب قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، فقدمها في سابع عشر صفر، وخرج به منها في تاسع عشره. فوصل ابن جماعة إلى القاهرة وخلع عليه يوم السبت رابع ربيع الأول، واستقر في قضاء القضاة، وولي قضاء دمشق نجم الدين أبو العباس أحمد بن ابن صصري، واستقر بلبان الجوكندار نائب قلعة دمشق، عوضاً عن أرجواش، واستقر عوضه في شد الدواوين بدمشق الأمير بيبرس التلاوي.
وفي رابع جمادى الآخرة: ظهر في النيل دابة لونها كلون الجاموس بغير شعر، وأذناها كأذن الجمل، وعيناها وفرجها مثل الناقة، ويغطى فرجها ذنب طوله شبر ونصف طرفه كذنب السمك، ورقبتها مثل ثخن التليس المحشو تبناً، وفمها وشفتاها مثل الكربال، ولها أربعة أنياب، اثنان فوق اثنين، في طول نحو شبر وعرض أصبعين، وفي فمها ثمانية وأربعون ضرساً وسناً مثل بيادق الشطرنج، وطول يديها من باطنها شبران ونصف، ومن ركبتيها إلى حافرها مثل أظافر الجمل، وعرض ظهرها قدر ذراعين ونصف، ومن فمها إلى ذنبها خمسة عشر قدماً، وفي بطنها ثلاثة كروش، ولحمها أحمر له زفرة السمك، وطعمه مثل لحم الجمل، وثخانة جلدها أربعة أصابع لا تعمل فيه السيوف، وحمل جلدها على خمسة جمال في مقدار ساعة من ثقله، فكان ينقل من الجمل إلى جمل وقد حشي تبناً حتى وصل إلى قلعة الجبل.
ومدم البريد من حلب بأن غازان على عزم الحركة إلى الشام، فوقع الاتفاق على خروج العسكر، وعين من الأمراء بيبرس الجاشنكير وطغريل الإيغاني وكراي المنصوري وبيبرس الدوادار وسنقر شاه المنصوري وحسام الدين لاجين الرومي أستادار، بمضافيهم وثلاثة آلاف من الأجناد، فساروا في ثامن عشر رجب.
وتواترت الأخبار بنزول غازان على الفرات، ووصل عسكره الرحبة وأراد منازلتها بنفسه. وكان النائب بها الأمير علم الدين سنجر الغتمي، فلاطفه وخرج إليه بالإقامات، وقال له: هذا المكان قريب المأخذ، والملك يقصد المدن الكبائر، فإذا ملكت البلاد التي هي أمامك فنحن لا نمتنع عليك، حتى كف عنه ورجع عابراً الفرات، بعد أن أخذ ولده ومملوكه رهناً على الوفاء. وبعث غازان قطلوشاه من أصحابه على عساكر عظيمة إلى الشام تبلغ ثمانين ألفاً، وكتب إلى الأمير عز الدين أيبك الأفرم نائب دمشق يرغبه في طاعته.
وأما العسكر السلطاني ففد دخل الأمير بيبرس الجاشنكير إلى دمشق بمن معه في نصف شعبان، وكتب يستحث السلطان على الخروج. وأقبل الناس من حلب وحماة إلى دمشق خائفين من التتر، فاستعد أهل دمشق للفرار ولم يبق إلا خروجهم، فنودي بها من خرج حل ماله ودمه. وخرج الأمير بهادرآص والأمير قطوبك المنصوري وأنص الجمدار على عسكر إلى حماة، ولحق بهم عسكر طرابلس وحمص، فاجتمعوا على حماة عند العادل كتبغا.
وبلغ التتر ذلك، فبعثوا طائفة كبيرة إلى القريتين فأوقعوا بالتركمان، فتوجه إليهم أسندمر كرجي نائب طرابلس بهادر آص وكجكن وغرلوا العادلي وتمر الساقي وأنص الجمدار ومحمد بن قرا سنقر، في ألف وخمسائة فارس. فطرقوهم بمنزلة عرض في حادي عشر شعبان على غفلة، وافترقوا عليهم أربع فرق، وقاتلوهم قتالًا شديداً من نصف النهار إلى العصر حتى أفنوهم، وكانوا فيما يقال نحو أربعة آلاف. وأنقذوا التراكمين بحريمهم وأولادهم، وهم نحو ستة آلاف أسير، ولم يفقد من العسكر إلا الأمير أنص الجمدار المنصوري، ومحمد بن باشقرد الناصري، وستة وخمسين من الأجناد. وعاد من إنهزم إلى قطلوشاه، وقد أسر العسكر مائة وثمانين من التتر. وكتب إلى السلطان بذلك، ودقت البشائر بدمشق، وكان قد خرج السلطان من قلعة الجبل ثالث شعبان، ومعه الخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان في عسكر كثير، واستناب بديار مصر عز الدين أيبك البغدادي.
وكان التتر الذين عادوا منهزمين إلى قطلوشاه قد أخبروا أن السلطان لم يخرج من الديار المصرية، وأن ليس بالشام غير العسكر الشامي، فجد قطلوشاه في السير بجموع التتر حتى نزل على قرون حماة في ثالث عشريه، فاندفعت العساكر بين يديه إلى دمشق، وركب العادل كتبغا في محفة لضعفه، فاجتمع الكل بدمشق. واختلف رأيهم في الخروج إلى لقاء العدو أو انتظار قدوم السلطان، ثم خشوا من مفاجأة العدو، فنادوا بالرحيل وركبوا أول رمضان. فاضطربت دمشق بأهلها، وأخذوا في الرحيل منها على وجوههم، واشتروا الحمار بستمائة درهم والجمل بألف درهم، وترك كثير منهم حرمه وأولاده ونجا بنفسه إلى القلعة فلم يأت الليل إلا والنوادب في سائر نواحي المدينة. وسار العسكر مخفاً إلى لقاء العدو، وبات الناس بدمشق في الجامع يضجون بالدعاء إلى الله، فلما أصبحوا رحل التتر عن دمشق بعد أن نزلوا بالغوطة.
وبلغ الأمراء قدوم السلطان فتوجهوا إليه من مرج راهط، فلقوه على عقبة شجورا في يوم السبت ثاني رمضان، وقبلوا له الأرض. فورد عند لقائهم به الخبر بوصول التتر في خمسين الفاً مع قطلوشاه نائب غازان. فلبس العسكر بأجمعه السلاح، واتفقوا على المحاربة بشقحب تحت جبل غباغب، وكان قطلوشاه قد وقف على أعلى النهر. فوقف في القلب السلطان وبجانبه الخليفة والأمير سلار النائب والأمير بيبرس الجاشنكير، وعز الدين أيبك الخازندار وسيف الدين بكتمر أمير جاندار وجمال الدين أقوش الأفرم نائب الشام وبرلغي وايبك الحموي، وبكتمر البوبكري وقطلوبك ونوغاي السلاح دار وأغرلوا الزيني، وفي الميمنة الحسام لاجين أستادار ومبارز الدين سوار أمير شكار، ويعقوبا الشهرزوري ومبارز الدين أوليا بن قرمان، وفي الجناح الأيمن الأمير قبجق بعساكر حماة والعربان، وفي الميسرة الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير السلاح والامير قرا سنفر بعساكر حلب والأمير بدخاص نائب صفد، وطغريل الإيغاني وبكتمر السلاح دار وبيبرس الدوادار، بمضافيهم.
ومشى السلطان والخليفة بجانبه، ومعهما القراء يتلون القرآن، ويحثون على الجهاد ويشوقون إلى الجنة، وصار السلطان يقف، ويقول الخليفة: يا مجاهدون لا تنظروا لسلطانكم، قاتلوا عن حريمكم وعلى دين نبيكم صلى اله عليه وسلم، والناس في بكاء شديد، ومنهم من سقط عن فرسه إلى الأرض، وتواصى بيبرس وسلار على الثبات في الجهاد. وعاد السلطان إلى موقفه، ووقف الغلمان والجمال وراء العسكر صفاً واحداً، وقيل لهم: من خرج من الأجناد عن المصاف فاقتلوه، ولكم سلاحه وفرسه.
فلما تم الترتيب زحفت كراديس التتار كقطع الليل، بعد الظهر من يوم السبت المذكور، وأقبل قطلوشاه بمن معه من التوامين وحملوا على الميمنة وقاتلوها، فثبتت لهم وقاتلتهم قتالاً شديداً، وقتل الحسام لاجين أستادار وأوليا بن قرمان وسنقر الكافري، وأيدمر الشمسي القشاش وأقوش الشمسي الحاجب والحسام على بن باخل، نحو الألف فارس. فأدركهم الأمراء من القلب ومن الميسرة، وصاح سلار: هلك والله أهل الإسلام، وصرخ في بيبرس والبرجية فأتوه وصدم بهم قطلوشاه، وأبلى ذلك اليوم هو وبيبرس بلاء عظيماً، إلى أن كشفا التتار عن المسلمين.
وكان جوبان بن تداون وقرمجي بن الناق، وهما من توامين التتار، قد ساقا تقوية لبولاي وهو خلف المسلمين، فلما عاينا الكسرة على قطلوشاه أتياه ووقفا في وجه سلار وبيبرس. فخرج من أمراء السلطان أسندمر وقطلوبك وقبجق والمماليك السلطانية إعانة لبيبرس وسلار، فتمكنوا من العدو وهزموه، فمال التتر على برلغي حتى مزقوه واستمرت الحرب بين سلار ومن معه وبين قطلوشاه، وكل منهما ثابت لقرنه.
وكانت الأمراء لما قتلت بالميمنة إنهزم من كان معهم، ومرت التتر خلفهم، فجفل الناس وظنوا إنها كسرة. وأقبل السواد الأعظم على الخزائن السلطانية فكسروها، ونهبوا ما بها من الأموال، وجفل النساء والأطفال، وكانوا قد خرجوا من دمشق عند خروج الأمراء منها وكشف النساء عن وجوههن وأسبلن الشعور، وضج ذاك الجمع العظيم بالدعاء، وقد كادت العقول أن تطيش وتذهب عند مشاهدة الهزيمة، فلم ير شيء أعظم منظراً من ذلك الوقت إلى أن وقف كل من الطائفتين عن القتال.
ومال قطلوشاه بمن معه إلى جبل قريب منه، وصعد عليه وفي نفسه إنه انتصر، وأن بولاي في أثر المنهزمين يطلبهم. فلما صعد الجبل نظر السهل والوعر كله عساكر، والميسرة السلطانية ثابتة واعلامها تخفق، فبهت وتحير واستمر بموضعه حتى كمل معه جمعه، وأتاه من كان خلف المنهزمين من الميمنة السلطانية، ومعهم عدة من المسلمين قد أسروهم، منهم الأمير عز الدين أيدمر نقيب المماليك السلطانية. فأحضره قطلوشاه وسأله: من أين أنت؟ فقال: من أمراء مصر، وأخبره بقدوم السلطان، ولم يعلم قطلوشاه بقدوم السلطان بعساكر مصر إلا منه. فجمع قطلوشاه أصحابه وشاورهم فيما يفعل، وإذا بكوسات السلطان والأمراء والبوقات قد رجفت بحسها الأرض وأزعجت القلوب، فلم يثبت بولاي أحد مقدمي التتر، وخرج من تجاه قطلوشاه في نحو العشرين ألفاً، ونزل من الجبل بعد المغرب وفر هارباً.
وبات السلطان وسائر العساكر على ظهور خيولها والطبول تضرب، وتلاحق به من إنهزم شيئاً بعد شيء، وهم يقصدون ضرب الطبول السلطانية والكوسات الحربية. وأحاط عسكر السلطان بالجبل الذي بات عليه التتار، وصار بيبرس وسلار وقبجق والأمراء الأكابر في طول الليل دائرين على الأمراء والأجناد يرصونهم ويرتبونهم، ويكثرون من التأكيد عليهم في التيقظ وأخذ الأهبة. فما طلع الفجر يوم الأحد إلا وقد اجتمع كل عساكر السلطان، ووقف كل أحد في مصافه مع أصحابه، والجفل والأثقال قد وقفوا على بعد، وكانت رؤيتهم تذهل، وثبتوا على ذلك حتى ارتفعت الشمس.
وشرع قطلوشاه في ترتيب من معه، ونزلوا مشاة وفرسان وقاتلوا العساكر. فبرزت المماليك السلطانية بمقدميها إلى قطلوشاه وجوبان، وعملوا فيهم عملاً عظيماً: تارة يرمونهم بالسهام، وتارة يهاجمونهم، واشتغل الأمراء بقتال من في جهتهم، وصاروا يتناولون القتال أميراً بعد أمير. وألحت المماليك السلطانية في القتال واستقتلوا، حتى أن فيهم من قتل تحته الثلاثة أرؤس من الخيل. ومازال الأمراء على ذلك حتى انتصف نهار يوم الأحد، وصعد قطلوشاه الجبل، وقد قتل منه نحو ثمانين رجلاً، وجرح الكثير واشتد عطشهم.
واتفق أن بعض من أسروه نزل إلى السلطان وعرفه أن التتار قد أجمعوا على النزول في السحر ومصادمة الجيش، وأنهم في شدة من العطش. فاقتضى الرأي أن يفرج لهم عند نزولهم، ثم يركب الجيش أقفيتهم.
فلما باتوا على ذلك وأصبح نهار يوم الإثنين، ركب التتار في الرابعة ونزلوا من الجبل، فلم يتعرض لهم أحد. وساروا إلى النهر فاقتحموه، وعند ذلك ركبهم بلاء الله من المسلمين، وأيدهم بنصره حتى حصدوا رؤوس التتار عن أبدانهم، ومروا في أثرهم إلى وقت العصر وعادوا إلى السلطان. فسرحت الطيور بالنصر إلى غزة ومنع المنهزمون من التوجه إلى مصر، وتتبع من نهب الخزائن السلطانية والاحتفاظ به. وعين الأمير بدر الدين بكتوت الفتاح للمسير بالبشارة إلى مصر، وسار من وقته، وكتب إلى دمشق وسائر القلاع بالبشارة.
ثم ركب السلطان في يوم الإثنين من مكان الواقعة، وبات ليلته بالكسوة، وأصبح يوم الثلائاء خامس الشهر وقد خرج إليه أهل دمشق، فسار إليها- ومعه الخليفة- في عالم من الفرسان والعامة والأعيان والنساء والصبيان، لا يحصيهم إلا من خلقهم سبحانه، وهم يضجون بالدعاء والهناء. وتساقطت عبرات الناس، ودقت البشائر، وكان يوما لم يشاهد مثله، إلى أن نزل السلطان بالقصر الأبلق، ونزل الخليفة بالتربة الناصرية، وقد زينت المدينة.
واستمر الأمراء في أثر التتار إلى القريتين، وقد كلت خيول التتر وضعفت نفوسهم وألقوا أسلحتهم، واستسلموا للقتل والعساكر تقتلهم بغير مدافعة، حتى أن أراذل العامة والغلمان قتلوا منهم خلقاً كثيراً، وغنموا عدة غنائم، وقتل الواحد من العسكر العشرين من التتر فما فوقها. وأدركت عربان البلاد التتار وأخذوا في كيدهم: فيجىء منهم الاثنان والثلاثة إلى العدة الكثيرة من التتار كأنهم يسيرون بهم في البر من طريق قريبة إلى الليل، ثم يدعونهم وينصرفون، فتتحير التتر في البرية وتصبح فتموت عطشاً. وفيهم من فر إلى غوطة دمشق، فتتبعتهم الناس وقتلوا منهم خلقاً كثيراً.
وخرج وإلى البر حتى جمع من استشهد من المسلمين، ودفنهم في موضع واحد بغير غسل ولا كفن، وبنى عليهم قبة. وتتبع نائب غزة من إنهزم من العسكر وأخذهم وفتشهم، فظفر منهم بجماعة معهم الأكياس المال بختمها. ووقف الأمير علم الدين سنجر الجاولي بطريق دمشق ومعه الخزان وشهود الخزانة، وأخذ الغلمان فظفر منهم بشيء كثير مما نهبوه، وعوقب جماعة بسبب ذلك. ومازال الأمر يشتد في الطلب، حتى تحصل أكثر ما نهب من الخزائن، ولم يفقد منه إلا القليل.
وشمل السلطان الأمراء بالخلع والأنعام، وحضر الأمير سيف الدين برلغي- وقد إنهزم فيمن إنهزم- فلم يأذن له السلطان في الدخول عليه، وقال: بأي وجه يدخل على أو ينظر في وجهي؟ فمازال به الأمراء حتى رضي عنه وأذن في دخوله، فقبل الأرض. وقبض على رجل من أمراء حلب كان قد انتمى إلى التتار وصار يد لهم على الطرقات، فسمر على جمل وشهر بدمشق وضواحيها. واستمر الناس طول شهر رمضان في مسرات تتجدد، وصلى السلطان صلاة عيد الفطر، وخرج من دمشق في ثالث شوال يريد مصر.
وأما التتار فإنه قتل أكثرهم، حتى لم يعبر قطلوشاه الفرات إلا في قليل من أصحابه.
ووصل خبر كسرته إلى همذان فوقعت الصرخات في بلادهم، وخرج أهل توريز وغيرها إلى القدس، واستعلام خبر من فقد منهم، فأقامت النياحة في توريز شهرين على القتلى. وبلغ الخبر غازان فاغتم غماً عظيماً- وخرج من منخريه دم كثير حتى أشفى على الموت، واحتجب حتى عن الخواتين- فإنه لم يصل إليه من كل عشرة واحد، فارتج الأردوا بمن فيه. ثم جلس غازان وأوقف قطلوشاه وجوبان وسوتاي ومن كان معهم من الأمراء، وأنكر على قطلوشاه وأمر بقتله، فمازالوا به حتى عفي عنه من القتل، وأبعده من قدامه حتى صار على مسافة كبيرة بحيث يراه، وقام إليه- وقد مسكه الحجاب- سائر من حضر وهم خلق كثير جداً، وصار كل منهم في وجهه حتى بصق الجميع، ثم أبعده عنه إلى كيلان. وضرب غازان بولاي عدة عصي، وأهانه. وقد ذكر الشعراء وقعة التتر هده فأكثروا.
وسار السلطان من دمشق في يوم الثلاثاء من شوال، ووصل إلى القاهرة ودخلها في ثالث والعشرين منه. وكان قدم بكتوت الفتاح إلى القاهرة يوم الإثنين ثامن شهر رمضان، فرسم بزينة القاهرة من باب النصر إلى باب السلسة من القلعة، وكتب بإحصار سائر مغاني العرب من أعمال مصر كلها.
واستمرت الزينة من بعد وصول الأمير بكتوت الفتاح بكتاب البشارة إلى أن قدم السلطان، وبعد ذلك بأيام، وكان قبل قدوم بكتوت الفتاح قد وقعت بطاقة من قطيا بخبر البشارة، وتأخر الفتاح لوجع يده، فقلق الناس وغلقت الأسواق، وأبيع الخبز أربعة أرطال بدرهم، والراوية الماء بأربعة دراهم. فلما قدم خرج الناس إلى لقائه، وكان يوماً عظيماً وتفاخر الناس في الزينة ونصبوا القلاع، واقتسمت أستادارية الأمراء شارع القاهرة إلى القلعة، ورتبوا ما يخص كل واحد منهم وعملوا به قلعة، بحيث نودي من استعمل صانعاً في غير عمل القلاع كانت عليه جناية للسلطان، وتحسن سعر الخثسب والقصب وآلات النجارة.
وتفاخروا في تزيين القلاع، وأقبل أهل الريف إلى القاهرة للفرحة على قدوم السلطان وعلى الزينة، فإن الناس أخرجوا الحلي والجواهر واللآلى وأنواع الحرير فزينوا بذلك. ولم ينسلخ شهر رمضان حتى تهيأ أمر القلاع، وعمل ناصر الدين محمد بن الشيخي الوالي قلعة بباب النصر فيها سائر أنواع الجد والهزل، ونصب عدة أحواض ملأها بالسكر والليمون، وأوقف مماليكه بشربات حتى يسقوا العسكر.
فقدم السلطان في يوم الثلاثاء ثالث عشرى شوال، وقد خرج الناس إلى لقائه، وبلع كراء البيت الذي يمر عليه من خمسين درهماً إلى مائة درهم. فلما وصل السلطان باب النصر ترجل سائر الأمراء، وأول من ترجل منهم الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح، وأخذ سلاح السلطان. فأمره السلطان أن يركب لكبر سنه ويحمل السلاح خلفه، فامتنع ومشى، وحمل الأمير مبارز الدين سوار الرومي أمير شكار القبة والطير، وحمل الأمير بكتمر أمير جاندار العصي، والأمير سنجر الجمقدار الدبوس. ومشى كل أمير في منزلته، وفرش كل منهم الشقق من قلعته إلى قلعة غيره، فكان السلطان إذا تجاوز قلعة فرشت القلعة المجاورة لها الشقق حتى يمشي عليها بفرسه مشياً هيناً، لأجل مشى الأمراء بين يديه، وكلما رأى قلعة أمير أمسك عن المشي حتى يعاينها ويعرف ما اشتملت عليه هو والأمراء. هذا والأسرى من التتار بين يديه مقيدون، ورؤوس من قتل منهم معلقة في رقابهم، وألف رأس على ألف رمح، وعدة الأسرى ألف وستمائة في أعناقها ألف وستمائة رأس، وطبولهم قدامهم مخرقة.
وكانت القلاع التي نصبت قلعة الأمير ناصر الدين محمد بن الشيخي بجوار باب النصر، وتليها قلعة الأمير علاء الدين مغلطاي بن أمير مجلس، وبعده ابن أيتمش السعدي، ثم الأمير علم الدين سنجر الجاولي، وبعده الأمير طغريل الإيغاني، ثم بهادر اليوسفي، ثم سودى، ثم بيليك الخطيري، ثم برلغي، ثم مبارز الدين أمير شكار، ثم أيبك الخازندار، ثم سنقر الأعسر، ثم بيبرس الدوادار، ثم سنقر الكمالي، ثم موسى بن الملك الصالح، ثم سيف الدين آل ملك، ثم علم الدين الصوابي، ثم جمال الدين الطشلاقي، ثم سيف الدين أدم، ثم الأمير سلار النائب، ثم بيبرس الجاشنكير، ثم بكتاش أمير سلاح، ثم الطواشي مرشد الخازندار- وقلعته على باب المدرسة المنصورية- وبعده بكتمر أمير جندار، ثم أيبك البغدادي نائب الغيبة، ثم ابن أمير سلاح، ثم بكتوت الفتاحي، ثم تباكر التغريلي، ثم قلى السلحدار، ثم بكتمر السلاح دار، ثم لاجين زيرباج الجاشنكير، ثم طيبرس الخازنداري نقيب الجيش، ثم بلبان طرنا، وبعده سنقر العلائي، ثم بهاء الدين يعقوبا، ثم الأبو بكري، ثم بهادر العزي، وكوكاي بعده، ثم قرا لاجين، ثم كراي المنصوري، ثم جمال الدين أقوش قتال السبع- وقلعته على باب زويلة. واتصلت القلاع من باب زويلة إلى باب السلسلة، وإلى باب القلعة وباب القلة، فكانت عدتها سبعين قلعة.
وعندما وصل السلطان إلى باب المارستان نزل وصعد إلى قبر أبيه، وقرأ القراء قدامه. ثم ركب إلى باب زويلة، ووقف حتى أركب الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح خلفه وبيده السلاح. وسار على الشقق الحرير إلى داخل القلعة، والتهاني في دور السلطان والأمراء وغيرهم، وكان يوماً عظيماً إلى الغاية.
فلما استقر السلطان بالقلعة أنعم على الأمير برلغي بثلاثين ألف درهم واستقر أمير الركب، وقدم له الأمراء شيثاً كثيراً وكتب على يده: إلى أبي الغيث وأخيه أميري مكة ألا يمكنوا من الأذان بحي على خير العمل، ولا يتقدم في الحرم إمام زيدي، وألا يربط الحاج حتى يقبضوا على ما كان في الكعبة مما سموه العروة الوثقي، ولا يمكن أحد من مس المسمار الذي كان في الكعبة. وكان يحصل من التعلق بالعروة الوثقي ومن التسلق إلى المسمار عدة مفاسد قبيحة، فترك ذلك كله بسفارة الأمير بيبرس، وترك الأذان بحي على خير العمل من مكة، ولم يتقدم من حينئذ إمام زيدي للصلاة بالحرم.
وفي هده السنة: بنابلس صام الحنابلة شهر رمضان على عادتهم بالاحتياط، واستكمل الشافعية وغيرهم شعبان وصاموا. فلما أتم الحنابلة ثلاثين يوماً أفطروا، وعيدوا وصلوا صلاة العيد ولم ير الهلال. فصام الشافعية والجمهور ذلك النهار، وأصبحوا فافطروا وعيدوا وصلوا صلاة العيد. فأنكر نائب الشام على متولي نابلس كيف لم يجتمع الناس على يوم واحد، ولم يسمع. بمثل هذه الواقعة.
واتفق أيضاً أن أهل مدينة غرناطة بالأندلس صاموا شهر رمضان ستة وعشرين يوماً، وذلك أن الغيوم تراكمت عندهم عدة أشهر قبل رمضان، فلما كانت ليلة السابع والعشرين طلعوا المأذنة ليقدوها على العادة، فإذا الغيوم قد أقلعت وظهر الهلال، فافطروا.
وفيها سخط الأمير بيبرس الجاشنكير على كاتبه المعلم المناوي من أجل فراره إلى غزة في وقت الواقعة، وطلب أبا الفضائل أكرم النصراني كاتب الحوائج خاناه وألزمه حتى أسلم، وخلع عليه وأقره في ديوانه، فزادت رتبته حتى صار إلى ما يأتي ذكره أن شاء الله، وعرف بكريم الدين الكبير.
وفيها قام الأمير بيبرس الجاشنكير في إبطال عيد الشهيد بمصر: وذلك أن النصارى كان عندهم تابوت فيه إصبع يزعمون إنه أصبع بعض شهدائهم، وأن النيل لا يزيد ما لم يرم فيه التابوت، فتجتمع نصارى أرض مصر من سائر الجهات إلى ناحية شبرا، ويخرج أهل القاهرة ومصر، وتركب النصارى الخيول للعب، ويمتلي البر بالخيم، والبحر بالمراكب المشحونة بالناس، ولا يبقى صاحب غناء ولا لهو حتى يحضر، وتتبرج زواني سائر البلاد. ويباع في ذلك اليوم من الخمر بنحو مائة ألف درهم، حتى إنه في سنة باع رجل نصراني بمائتين وعشرين ألف درهم خمراً، فكان أهل شبرا يوفون الخراج من ممن الخمر، وتثور في هذا اليوم الفتن ويقتل عدة قتلى، فأمر الأمير بيبرس بإبطال ذلك، وألا يرمى التابوت في النيل، وأخرج الحجاب والولي حتى منعوا الناس من الاجتماع، بعد أن كتب إلى جميع الولاة بالنداء إلا يحرج أحد إلى عمل عيد الشهيد. فشق ذلك على النصارى، واجتمعوا مع الأقباط الذين أظهروا الإسلام، وصاروا إلى التاج بن سعيد الدولة لتمكنه من الأمير بيبرس، فصار إليه وخيله من انكسار الخراج بإبطال العيد ومن عدم طلوع النيل، فلم يلتفت إليه وصمم على إبطاله، فبطل.
وفيها جهز صاحب سيس مراكب إلى نحو قبرص فيها بضائع قيمتها قريب من مائة ألف دينار، فألقاها الريح على مينة دمياط، فأخذت برمتها.
وفيها قدم الخبر بقحط بلاد تقطاي مدة ثلاث سنين، ثم أعقبه موتان في الخيل والغنم حتى فنيت ولم يبق عندهم ما يؤكل، فباعوا أولادهم وأقاربهم للتجار، فقدموا بهم إلى مصر وغيرها.
وفيها كانت الزلزلة العظيمة: وذلك إنه حصل بالقاهرة ومصر في مدة نصب القلاع والزينة من الفساد في الحريم وشرب الخمور ما لا يمكن وصفه، من خامس شهر رمضان إلى أن قلعت في أواخر شوال.
فلما كان يوم الخميس ثالث عشرى ذي الحجة: عند صلاة الصبح اهتزت الأرض كلها، وسمع للحيطان قعقة وللسقوف أصوات شديدة، وصار الماشي يميل والراكب يسقط حتى تخيل الناس أن السماء أطبقت على الأرض، فخرجوا في الطرقات رجالاً ونساء، قد أعجلهم الخوف والفزع عن ستر النساء وجوههن واشتد الصراخ وعظم الضجيج والعويل، وتساقطت الدور وتشققت الجدران، وتهدمت مأذن الجوامع والمدارس، ووضع كثير من النساء الحوامل ما في بطونهن، وخرحت رياح عاصفة، ففاض ماء النيل حتى ألقى المراكب التي كانت بالشاطئ قدر رمية سهم، وعاد الماء عنها فصارت على اليبس وتقطعت مراسيها، واقتلع الريح المراكب السائرة في وسط الماء، وحذفها إلى الشاطئ.
وفقد للناس من الأموال شيىء كثير: فإنهم لما خرجوا من دورهم فزعين تركوها من غير أن يعوا على شيىء مما فيها، فدخلها أهل الدعارة وأخذوا ما أحبوا. وصار الناس إلى خارج القاهرة، وبات أكثرهم خارج باب البحر، ونصبوا الخيم من بولاق إلى الروضة.
ولم تكد دار بالقاهرة ومصر تسلم من الهدم، أو تشعث بعضها، وسقطت الزروب التي بأعلى الدور، ولم تبق دار إلا وعلى بابها التراب والطوب ونحوه.
وبات الناس ليلة الجمعة بالجوامع والمساجد، يدعون الله إلى وقت صلاة الجمعة.
وتواترت الأخبار من الغربية بسقوط جميع دور مدينة سخا، حتى لم يبق بها جدار قائم وصارت كوماً، وأن ضيعتين بالشرقية خربتا حتى صارتا كوماً.
وقدم الخبر من الإسكندرية بأن المنار انشق وسقط من أعلاه نحو الأربعين شرفة، وأن البحر هاج وألقى الريح العاصف موجه حتى وصل باب البحر وصعد بالمراكب الإفرنجية على البر، وسقط جانب كبير من السور، وهلك خلق كثير.
وقدم الخبر من الوجه القبلي بأن في اليوم المذكور هبت ريح سوداء مظلمة حتى لم ير أحد أحدا قدر ساعة، ثم ماجت الأرض وتشققت وظهر من تحتها رمل أبيض، وفي بعض المواضع رمل أحمر، وكشطت الريح مواضع من الأرض فظهرت عمائر قد ركبها السافي، وخربت مدينة قوص، وأن رجلاً كان يحلب بقرة فارتفع في وقت الزلزلة وبيده المحلب، وارتفعت البقرة حتى سكنت الزلزلة، ثم انحط إلى مكنه من غير أن يتبدد شيىء من اللبن الذي في المحلب.
وقدم الخبر من البحيرة أن دمنهور لوحش لم يبق بها بيت عامر.
وخرب من المواضع المشهورة جامع عمرو بن العاص بمصر، فالتزم الأمير سلار النائب بعمارته. وخربت أكثر سواري الجامع الحاكمي بالقاهرة وسقطت مأذنتاه، فالتزم الأمير بيبرس الجاشنكير بعمارته وخرب الجامع الأزهر، فالتزم الأمير سلار بعمارته أيضاً، وشاركه فيه الأمير سنقر الأعسر. وخرب جامع الصالح خارج باب زويلة فعمر من الخاص السلطاني، وتولى عمارته الأمير علم الدين سنجر. وخربت مأذنة المنصورية، فعمرت من الوقف على يد الأمير سيف الدين كهرداش الزراق. وسقطت مأذنة جامع الفكاهين. وكتب بعمارة ما تهدم بالإسكندرية، فوجد قد إنهدم من السور ست وأربعون بدنة، وسبعة عشر برجاً فعمرت.
وقدم البريد من صفد أنه في يوم الزلزلة سقط جانب كبير من قلعة صفد، وأن البحر من جهة عكا انحسر قدر فرسخين وانتقل عن موضعه إلى البر، فظهر في موضع الماء اشياء كثيرة في قعر البحر من أصناف التجارة، وتشققت جدر جامع بنى أمية بدمشق.
واستمرت الزلزلة خمس درج، إلا أن الأرض أقامت عشرين يوماً ترجف، وهلك تحت الردم خلائق لا تحصى. وكان الزمان صيفاً، فتولى بعد ذلك سموم شديدة الحر عدة أيام. واشتغل الناس بالقاهرة ومصر مدة في رم ما تشعث وبني ما هدم، وغلت أصناف العمارة لكثرة طلبها، فإن القاهرة ومصر صارت بحيث إذا رآها الإنسان يتخيل أن العدو أغار عليها وخربها، فكان في ذلك لطف من الله بعباده، فإنهم رجعوا عن بعض ما كانوا عليه من اللهو والفساد أيام الزينة، وفيهم من أقلع عن ذلك لكثرة توارد الأخبار من بلاد الفرنج وسائر الأقطار. مما كان من هذه الزلزلة.
واتفق فيها من الأمر العجيب أن الأمير بيبرس الجاشنكير لما رم ما تشعت من الزلزلة بالجامع الحاكمي، وجد في ركن من المأذنة كف إنسان بزنده قد لف في قطن وعليه أسطر مكتوبة لم يدر ما هي، والكف طرى. ونبشت دكان لبان مما سقط في الزلزلة، فإذا أخشابها قد تصلبت على اللبان وهو حي، وعنده جرة لبن يتقوت منها مدة أيام، فأخرج حيا لم يمسه سوء.
وفي هده السنة: استقر في نيابة صفد الأمير سنقر شاه المنصوري، عوضاً عن بدخاص، وأنعم على بدخاص بإمرة بديار مصر. ونقل قبجق من نيابة الشوبك إلى نيابة حماة، عوضاً عن العادل كتبغا بعد موته. واستقر بلبان الجوكندار في نيابة حمص، بعد موت سيف الدين البكي. ثم استعفي بلبان، فولى عز الدين أيبك الحموي نائب قلعة دمشق عوضه، واستقر عوضه في نيابة قلعة دمشق بيبرس التلاوي.
وبلغ النيل ثمانية عشر ذراعاً.

.ومات في هذه السنة ممن له ذكر:

برهان الدين إبراهيم بن فلاح بن محمد بن حاتم السكندري الشافعي، في رابع عشرى شوال بدمشق، ومولده بالإسكندرية سنة ست وثلاثين وستمائة، وكان مشهوراً بالعلم والديانة، ناب في خطابة جامع بنى أمية، وباشر الحكم مدة بدمشق ودرس بها، وأفاد زماناً.
ومات كمال الدين أحمد بن أبي الفتح بن محمود بن أبي الوحش أسد بن سلامة ببن سلمان بن فتيان المعروف بابن العطار، أحد كتاب الدرج بدمشق، في رابع عشرى ذي القعدة، ومولده سنة ست وعشرين وستمائة، وكان كثير التلاوة للقرآن محباً لسماع الحديث وحدث، وكان صدراً كبيراً فاضلا له نظم ونثر، وأقام يكتب الدرج أربعين.
ومات الشيخ شهاب الدين أحمد بن برهان الدين إبراهيم بن معضاد الجعبري، بالقاهرة في.
ومات الأمير فارس الدين البكي الساقي، أحد ممالك الظاهر بيبرس، تنقل في الخدم حتى صار من أمراء مصر، ثم اعتقل إلى أن أفرج عنه المنصور قلاوون وأنعم عليه بإمرة، ثم ولاه نيابة صفد فأقام بها عشر سنين، وفر مع قبجق إلى غازان وتزوج أخته، ثم قدم مع غازان ولحق بالسلطان، فولاه نيابة حمص حتى مات بها يوم الثلاثاء ثامن ذي القعدة. وكان مليح الشكل، ما جلس قط بغير خف، وإذا ركب ونزل حل جمداره شاشه، فإذا أراد الركوب لفه مرة واحدة كيف جاءت ويركب ولا يعيد لفة الشاش مرتين أبداً.
واستشهد بوقعة شقحب عز الدين أيدمر العزي نقيب المماليك السلطانية، وهو من مماليك عز الدين أيدمر نائب دمشق، وكان كثير الهزل، وإليه تنسب سويقة العزي خارج القاهرة.
ومات الأمير أيدمر الشمسي القشاش، وكان قد ولى الغربية والشرقية جميعاً، واشتدت مهابته، وكان يعذب أهل الفساد بأنواع قبيحة من العذاب منها أنه كان يغرس خازوقاً ويجعل محدده قائماً، وبجانبه صار كبير يعلق فيه الرحل، ثم يرسله فيسقط على الخازوق فيدخل فيه ويخرج من بدنه، ولم يجرؤ أحد من الفلاحين بالغربية والشرقية في أيامه أن بلبس مئزراً أسود، ولا يركب فرساً ولا يتقلد سيفاً، ولا يحمل عصا محلية بحديد، وعمل بها الجسور والترع وأتقنها، وأنشأ جسراً بين ملقة صندفا وأرض سمنود عرف بالشقفي، فرآه بعد أن استشهد بمدة قاضي المحلة في النوم، فقال له: سامحني الله وغفر لي بعمارة حسر الشقفي، وكان قد فلج واستعفي من الولاية ولزم بيته، وخرج لغزوة شقحب في محفة إلى وقت القتال، فلبس سلاحه وركب وهو في غابة الألم، فقيل له: إنك لا تقدر، فقال: والله لمثل هذا اليوم أنتظر، وإلا إيش بتخلص القشاش من ربه بغير هذا وحمل على العدو وقاتل فقتل، ورأى فيه ست جراحات.
ومات الأمير حسام الدين أوليا بن قرمان، أحد الأمراء الظاهرية، وهر ابن أخت قرمان- وعروف بابن قرمان- وكان شجاعاً.
ومات الأمير عز الدين أيبك أستادار.
ومات الأمير عز الدين أيدمر الرفا المنصوري.
ومات الأمير جمال الدين أقوش الشمسي الحاجب.
ومات الأمير سيف الدين بهادر الدكاجكي، أحد الأمراء بحماة.
ومات صلاح الدين بن الكامل.
ومات علاء الدين بن الجاكي.
ومات الشيخ نجم الدين أيوب الكردي، وكان قد قدم إلى دمشق سنة سبع وثمانين وستمائة في طائفة من الأكراد، واعتقده الأمراء وحملوا إليه المال فكان يتصدق به، ثم قدم إلى القاهرة، وخرج مع السلطان وقاتل بشقحب حتى قتل.
ومات الأميرشمس الدين سنقر الشمسي الحاجب.
ومات سنقرالكافري، أحد الأمراء.
ومات سنقرشاه أستادارالجانق.
ومات حسام الدين على بن باخل، أحد أمراء العشراوات.
ومات لاجين الرومي المنصوري أستادار المنصور قلاوون، ويعرف بالحسام أستادار، وكان دينا خيراً حشماً، سمع الحديث.
ومات الأمير شمس الدين سنقر العنتابي بدمشق، ليلة الجمعة ثاني عشر ذي القعدة.
ومات العادل كتبغا بحماة ليلة الجمعة يوم عيد الأضحى وهو في سن الكهولة، وكان دينا خيراً، أسمر اللون قصيراً دقيق الصوت قصير العنق، شجاعاً سليم الباطن متواضعاً، وهو من جنس المغل، وكان قد طال مرضه واسترخى حتى لم يقدر على حركة يديه ورجليه، وترك اولاداً. فولى نيابة حماة بعده الأمير سيف الدين قبجاق المنصوري، وقد نقل إليه من نيابة الشوبك.
ومات الشيخ تقي الدين محمد بن مجد الدين على بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري المعروف بابن دقيق العيد في يوم الجمعة حادي عشر صفر، عن سبع وسبعين سنة، وهو على قضاء القضاة، ومولده في خامس عشرى شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة.